قراءة في كتاب "ترانيم روح وأشجان قلب"
الإبحار في النفس، والاستغراق في تأمل الأحداث والأشياء، والتقلبات في إطار الزمن وإطار التعلق بخالق الأرض والسماء، هو المعراج الحقيقي لعوالم أوسع وأرحب، يمسك فيها الإنسان بالحكمة المجردة عن الهوي والغرض والنقية من أدران الدنيا وضعة المادة؛ فإذا ما سطرها صاحبها كلاماً في أوراق جاءت على مستوى روعة التحليق وجماله.
والشيخ محمد فتح الله كولن الداعية الإسلامي العالمي واحد من هؤلاء العلماء الذين تعاملوا مع رسالتهم الدعوية بصوفية سامية فجاءت آثارها التي وصل نورها من مركزها في تركيا إلى أنحاء العالم في صورة مراكز تعليمية كبيرة وكثيرة. ومؤلفات ترجمت إلى لغات كثيرة حية. من ذلك كتابه "ترانيم روح وأشجان قلب"، وهو كتاب يترك فيه مؤلفه الشيخ كولن قلبه ينساب على الأوراق، فجاءت الموضوعات التي كثيرًا ما قرأنا عنها بلغة متشابهة وحقائق متطابقة في شكل جديد ومعان لا علاقة لها بالملموسات، وإنما تتعامل مع الروحانيات.. من ذلك حديثه عن سحر الإسلام، وأفق القرآن، والدعاء، والكعبة، والروضة المطهَّرة، والمسجد الأقصى، وأياصوفيا، والحج، والصلاة، والميلاد السعيد، والهجرة النبوية، ومن فيض العيد، والرحلة المباركة، والإثم... وغيرها من الموضوعات التي ملأت 208 صفحات في مقالات منفصلة قد لا يتجاوز أحدها 5 صفحات.
في حديثه عن التوبة يقول: "التوبة هي تجديد المرء لنفسه، ونوع من التعمير والإصلاح الداخلي، أي إعادة للتوازن القلبي الذي اختل نتيجة الأفكار والتصرفات المنحرفة، أو بالأصح هي فرار من الحق تعالى إلى الحق تعالى، أو هي انتقال من غضبه إلى لطفه، ولجوء من حسابه ومؤاخذته إلى رحمته وعنايته".
ويقول: "إذا كان الإثم تدحْرُج غير متوازن في حفرة، فالتوبة -حسب مقتضياتها- قفزة آنية للخروج منها.. لذا فإن التوبة تقوم بعكس الإثم الذي يؤدّي إلى تآكل الروح وتعريتها بتزيين القلب، وفرش الزهور فيها بالكلمة الطيبة التي هي أجمل الكلمات والأفكار وأعذبها، والوقوف أمام جميع التخريبات والتآكلات، والحيلولة دونها".
ويقول: "إن أوخم الآثام التي يقع فيها الإنسان هو أن يرى نفسه بريئًا على الدوام، ويرى الآخرين مذنبين، وهو أمرٌ يفسد الأجواء الاجتماعية، ويربي فيها القوة، وينشر فيها وسائل التشرذم والانقسام. لذا كانت أهمية البدء بالنفس وعلاجها أولاً".
وتحت عنوان "عندما تنبض القلوب برقّة" يقول الشيخ فتح الله كولن: "تقوم الأيام والليالي المباركة بإعطاء كل شيء ولكل شخص، طعْمَها ونكهتها ولونها الخاصّ بها؛ فتضيف إلى كل شيء رفقًا وليونة، وتسوقه إلى عالم من الخيال، وإلى أعماق تتجاوز تصوراتنا. ففي كل مكان في السوق والمدرسة والمسجد والمعسكر يحدث سريان سحر عميق في سماء المؤمنين، حيث يبرق جو الآخرة وتلتمع المحبة الإلهية في العيون، وفي ساعات الليل بالأخص تبتسم الأضواء الملونة في عيوننا، وتهمس لنا نغمات بعد آخر من أبعاد الوجود، وكل وجه نراه في البيوت أو في المعابد أو في أماكن العمل، يبدو لنا وكأنّه يعيش رحلةَ وصالٍ وعشق ممض، ويتماوج من حين لآخر مع الأماني والآمال، ثم يتحول إلى شلال من العواطف التي تجري لتصب في اللانهاية. وكلما زادت مشاعر العبادة والطاعة في أنفسنا، تفور معها قابليتنا في العيش والشعور بالأشياء على نحو آخر، وتسحبنا إلى أغوارها البعيدة في مثل هذه اللحظات، والأوقات تضعف روابطنا الجسدية والجسمانية، وتتخلص أرواحنا من همومها ومشاغلها اليومية، ونحس أننا ارتفعنا وسمونا إلى ذروة نراقب منها الوجود بأكمله هنا، يفيض الحب لكل شيء فنتنفس حبًّا، لأن كل شيء وجه من وجوه الجمال الذي خرج وانساب من يده سبحانه وتعالي".
والكتاب -كما قلت- سياحة لصوفي صاحب تجربة روحية، تتضح في كل ما يكتب ويقول.
المصدر: جريدة "الجمهورية" المصرية، 9 يناير 2009.
- تم الإنشاء في