مقدّمة
لا يبلغ المفكر المسلم مرتبة الإلهام والتأثير في عقل الأمة إلاّ إذا كان فكره إبداعيًّا تجديديًّا فيه من القوة والمصداقية والخارقية ما يغدو معها كالشهاب الثاقب يخرق سماء العقول، فيلهب هشيمها، ويضيء مظلمها، ويوقظ نائمها، ويستولد عقيمها.. وأمثال هذا الفكر مرشح ليكون فكرًا إلهاميًّا تحفيزيًّا لقوى التفكير لدى قرّائه والمنجذبين إليه.. و"فتح الله كولن" هو من مفكري هذا العصر الذي يمتلك فكره تلك التوصيفات التي ذكرناها آنفًا.. فمن أخص خواص فكره -بعد القراءة والتتبّع- هو قدرته الفَذَّة على استنهاض الطاقات النائمة والمعطَّلة في عقولنا وأرواحنا؛ إنه يظلُّ يضرب الساكن ويتابع الضرب حتى يتحرك، ويهزُّ النائم ويوالي الهزَّ حتى يستيقظ.. إنه "أعماقي" بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معان، مغرم أعماق، سابر أغوار، يحفر في ذات الأمة عمقًا من بعد عمق، ويزيح أصدافها صدفًا من بعد صدف، حتى يصل إلى أخفى خفايا اللباب، ويحظى بالمجوهر النقي من هذه الذات، ليقيم على هذا المجوهر صرح البنيان الحضاري الذي يعمل من زمن بعيد على تمهيد أرضيته، وبناء أسسه، ليقوم الصرح عليها في استقامة واعتدال.
وشيء آخر في غاية الأهمية قد يغفل الكثيرون عن ملاحظته ورصده، وهو أن "فتح الله كولن" يهيب بالمكينين الراسخين من طلبة فكره إلى مغادرة صفوف الطلب ومقاعد الدرس ليصبحوا هم أنفسهم أساتذة أنفسهم، وسادة لعقولهم، ومعلّمين للآخرين، فيسيحون في أرض الله الواسعة، فيعلِّمون ويتعلّمون.. إنه يريد منهم أن يقفوا إلى جانبه كتفًا إلى كتف فوق قمة الحياة الثقافية والفكرية بهامات عالية، وقامات معتدلة، شرطَ أنْ يظلوا في موضع النقد الذاتي، وبإدراكهم أنهم لم يصلوا بعدُ إلى خطّ النهاية، وأنّ هناك أشواطًا فكرية بعيدة المدى ينبغي أن يحثوا الخطى نحوها لقطعها والوصول إلى نهاياتها.
وهنا يواجهنا سؤال دقيق وهو: أيمكن أن يكون تلميذ "كولن" قويًّا إلى درجة أنه يستطيع ابتكار أسلوبه الخاص في طريقة التفكير مستفيدًا من فكر أستاذه، ومستفيدًا من انعكاسات هذا الفكر على مرآة عقله ووجدانه؟! فإذا كان الجواب بـ"نعم" -ولا أظنه يكون بغير "نعم"- فنكون بذلك قد وصلنا إلى حل إشكالية هذا الكتاب الذي بين يدي القارئ الكريم..
فهذا الكتاب يمكن أن ننسبه للأستاذ دونما حرج، لأنه من ألِفه إلى يائه من وحي فكره، ومن صور هذا الفكر، ومن رؤاه وأحلامه.. وهو -أي هذا الكتاب- في الوقت نفسه ليس للأستاذ، لأنه كتب بغير قلمه الذي يكتب به، وبمفردات غير مفرداته، وإنْ كان المداد واحدًا والهدف واحدًا، فما يرى فيه من نقص فهو منّي، والقصور يرجع إليّ.
أما سبب اختيارنا "شؤون وشجون" عنوانًا لهذا الكتاب، فذلك لأنه يستعرض شؤونًا فكرية على درجة كبيرة من الأهمية، تتعلق بإشكالات فكرية وحياتية لدى المسلم المعاصر، وهذه الشؤون مُغَشّاة بسحائب شجن وألم تملأ سماء الأمة الطالعة توًّا من غياهب قرون العجز والتخلّف..
وختامًا نسأله تعالى أن يتقبل منّا ومن أستاذنا "فتح الله كولن" هذا العمل خالصًا لوجهه تعالى.. وله الحمد أولاً وآخرًا...
أديب إبراهيم الدباغ
- تم الإنشاء في