الفصل الأول: تجلّيات من كتاب "ألوان وظلال" في مرايا الوجدان

حمامة في كفّها حمامة
رأيتُ فيما يرى النائم:
ظفلة بريئة، وديعة رقيقة،
نقية كالثلج، طاهرة كالورد،
ندية كالسحَر، شَفَّافة كالقمر..
في كفّها حمامة، تَزقُّها الطعام،
من ريقها تسقيها، وحرقةً في جوفها تطفيها،
من روعها تهدهدُ، ودَمعَها تكفكفُ...
سألتها من فوري: ما خطبكِ، مَن أنتِ؟!
قالت: بالأمس هاهنا كنتُ،
ألاطف الأزهارَ، وأنشُدُ الأشعارَ،
أَجري وراء الكرةِ، وأقفز من فرحتي،
ودمْيتي كانت معي، فرحةً لفرحتي، واثبةً لوثبتي...
وفجأة.. لفَّنَا الموتُ، وطوانا الهولُ،
وتزلزل المكان، وتهاوت الجدران،
وخَرَّ السقف، وتقوض البنيان..
من تحت الأنقاض انتشلوني، وللحياة أعادوني،
ثمَّ اختاروني للسلام حمامة،
ورمزًا وشارة، ومَعْلَمًا وعلامة..
أُدين الحروب، وأستنكر القُتول،
وأنشر السلام، والأمن والأمان،
وأذود عن الإنسان همجيات أخيه الإنسان...

*****

حنين الأقلام
قلم القدرة هو مَنْ كتب سطور السماوات والأرض، ورسم خارطة الوجود، وخطَّط لعالم الإنشاء والتكوين. وكل قلم بين أنامل أي كاتب يبقى دائم الرنو إلى هذا القلم الأعظم والأقدس، ويحنُّ له حنين الساقية إلى البحر العظيم، ويأمل أَنْ ينعم بشرف أن يكون ظلاًّ من ظلاله، وومضةً من بحار أنواره.. فلا يكتب إلاَّ الكلمة المعطاء النابضة بالحياة، فإذا ما قُرِئتْ أخصبتْ النفوس، وعَمَرَتْ العقول، ووجَّهت الوجوه إلى الربِّ المعبود...
وأما إذا ما وقعت هذه الأقلام في أيدي أصحاب النفوس المظلمة، والعقول المنطفئة، فإنها تتحول إلى سموم فكرية قاتلة، فتفسد العقول، وتخرب النفوس، وتشيع فوضى في الإدراكات والفهوم. وهذا مما يجعل هذه الأقلام تشعر بالاغتراب في أيدي هؤلاء الكتّاب، وبالانفصام عن عالم الحق الذي يمثله قلم القدرة.. فتصرخ من هول الظلام الذي تنشره، وتجأر بالدعاء لربِّ القلم الذي أقسم به (ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ)(القَلَم:1)، وأن يجنبها الوقوع في أيدي كُلِّ مَن لا يدرك قدسية القلم، وقدسية الوظيفة التي يؤديها لعالم الإنسان...

*****

البدر الحزين
تُطِلُّ من بين الغيوم.. وجهًا يَقْطُرْ ألَمًا، شاحبًا باهتًا،
كأنك من الموت تبعث..
ونحن كذلك حزانى، أكلَنا الحزن، ومصَّ وجودَنا الألم..
فها نحن مع أَساكَ أَسًى، ومع آلامك أَلَم..
فمتى -يا بدرنا الحزين- تأتي أزمان أفراحك؟!
ومتى الابتسام إليك يعود، وحولك هالات النور تشرق،
وتنث فرَحًا، وترسم آمالاً، وتبدد أحزانًا،
وعلى الوجوه ترسم غبطة، وتطبع قبلة.؟!

*****

لسان النور
دهورًا سكتَّ حتى قيل أبكم لا ينطق،
وعن الكلام صُمْتَ حتى قيل عيي لا يبين..
فجال الظلام وصال، وأقام أطنابه ونشر سواده،
وأكل خضرة القلوب، وأعمى نور الأبصار والبصائر..
وقد آن لك -يا لسان النور- أنْ تخرج عن صمتك،
وتبين عن نفسك،
وتقول حكمتك، وتشرح قضيتك،
وتنشر النور، وتخرق كلَّ ديجور،
وتمسح عن النفوس والعقول ما عشَّش فيها من ظلام،
وانزوى فيها من أوهام،
فقد أَظَلَّ زمانك، وهلَّتْ أيامك، وحان وقتك،
لتقول كلمة الفصل، وتنطق بالحق، وتبين عن الصواب؛
فآذان العالم متعطشة لكلمة الحق التي ينطق بها لسانك،
وعيونه توّاقة لرؤية النور وهو يغمر الإنسان والآفاق...

*****

الزهر البشري
يا أطفال،
يا سكنة الأرواح،
يا مستقرَّ اللطف والجمال،
ومعدن البراءة والطهارة...
مِن بين أجفان الغيب تتقطَّرون،
وعلى الأرض تتساكبون...
أنداءَ نور، وحبَّاتِ ألطاف،
ولآلِئَ فوق جيد الوجود،
وزهرًا فوَّاحًا في بيد الإنسان،
وصحارى الروح،
وجدب الوجدان..
آمالنا فيكم لن تخيب،
ونظرنا عنكم لن يحيد...
فأنتم الأمل والمستقبل،
والحياة الأفضل،
والنظر الأبعد والأعظم...

*****

جسر العبور
إذا تقطَّعَتْ بك السبل، وتوعَّرَتْ الطرق،
وتغلَّقت الأبواب والفرجات، وانهدم جسر العبور، إلى ضفاف النور؛
فلا تأسَ ولا تحزن، بل قُمْ وشَمِّر عن ساعد الجد،
واحفر في الزمن نفقًا، وفوقه أَقمْ جسرًا، ثمَّ امضِ راشدًا..
فبصيص النور في نهاية النفق يناديك، وإليه يدعوك،
حتى إذا جئته غمر صدرك، وأنار قلبك، وأضاء عقلك...

*****

"الماورائي" آتٍ
يا زمن، يا بحر أعماق، يا محيط أشواق،
يا فَوَّارًا بالأعاجيب، ويا آتيًا بالخفيات..!
ما أعظمَ ما تنشق عنه من أسرار،
وما تقذف به من أقدار، وتأتي به من أنوار.
نفتّش في أعماقك، ونسبر غور آطوارك، ونبحث فيما وراءك،
عن الآتي من بعيد، بيدٍ من حديد،
فيطرق الأبواب، ويوقظ النُّوَّام...
الفارس المنتظر، عميق النظر، واسع الأفق،
بنَّاء أفكار، عمَّار أرواح، وواصل الأرض بالسماء...

*****

أرضنا الولود
يا أرضنا الولود، يا حُبْلى بكل جديد، وغريب وعجيب.!
تصرخين، تتألّمين، تتمخضين، وكثيرًا ما تتعسرين..
منذ زمن وصراخك يملأ الآفاق، ويهزُّ شجرة الأقدار..
نكتم الأنفاس، وننتظر، ثم ننتظر ذاك الوليد..
حتّى إذا جاء، اخْضرَّ العالم، وأزهر الوجود...

*****

آلام الوحدة
إذا الزمان أقفر، وإذا المكان أجدب،
استوحش الإنسان، وبينهما وحيدًا عاش..
لا غيرَ من نوعه، ولا صورة من شكله..
ألـمًا يتآكل، أوراقًا يتساقط، أجزاءً يتناثر..
لا أحدَ يَلُمُّه، ولا آخَرَ يجمعه..
فإذا ما مات اندثر،
نسلاً لم ينسل، وعَقِبًا لم يترك،
ولا ذكرى به تُذَكّر، ولا مقامه تقوم، ولا عنه تنوب...

*****

السيف والقلم
ظلَّ السيف -ولازال- ممدودَ السلطان،
قوي البنيان، شديد لمرأس،
يفصل ويحزم ويحسم، في قبضته العالم والإنسان؛
فكم هدم من أركان، وشيَّدَ من بنيان،
وهزم من حق، ونصر من باطل،
وعتى وتجبَّر، وكاد يقول: "أنا ربكم الأعلى، ومالككم الأكبر"..
أما القلم فقد غاب مجده، واختفى أثره، وشَحُبَ ظِلُّه؛
إنْ تكلَّم همس، وإنْ نطق رمز، وإنْ أفصح تأتأ وتلعثم..
فصار لصاحب السيف ظِلاًّ،
يتبعه حيث يمضي، ويفلْسف همجياته، ويبرر سطواته،
ويتمحل أباطيله، ويزين فعاله، ويشيد ببطولاته...
فلا سيف بلا قلم، يمشي مرةً أمامه،
يمهّد له الطريق، ويفتح له المغاليق،
ومرةً يمشي من ورائه، يصفق له، ويرسم له أقواس النصر،
ويصنع على رأسه أكاليل الغار، وتيجان الفتوح...
ولكنَّ الزمان دَوَّار، والدُّنيا قُلَّب،
والمجد إن كان للسيف غير أنه يوشك للقلم أنْ يسلبه مجده،
ويأخذ منه سطوته وهيمنته..
فقد استيقظ عقل العالم، وتفتّحت أبواب الفكر،
وتقاربت الأزمنة، وتداخلت الأمكنة،
وأصبح للكلمة آذانٌ سمّاعة، وعقول فهّامة،
وشعوب ظامئة إلى مداد الأقلام، لا إلى مداد السيوف،
وسيكون للقرآن غدًا شأنٌ أيُّ شأن، ولكلامه مجدٌ أيُّ مجد...

*****

بشائر الربيع
يا بشائر الربيع، يا نفحاتِ صُور القيام،
الورد قام، والعطر فاح،
وعرائس النَّيلوفَر في رقص واحتفال..
ظَمأٌ أسماعنا، عطشٌ عيوننا، رقْصٌ قلوبنا،
فالربيع قد أتى، والزهر انتشى،
والأمل هَفَا، والليل اختفى، والإشراق عَمَّ وانتشر...

*****

أرضنا المسكينة
يا صنعة الله، يا بدعة الإبداع،
يا سُقيا لطفه، ويا صنع يده، وموضعَ رحمتهِ، ومَصَبَّ تَعَطُّفِه،
للإنسان سَوَّاكِ، مَهَّدَكِ، وفي الكون أجراكِ،
شَقَّ بحارَكِ، وفجَّر أنهارك، وأقام جبالَكِ، وحَفَرَ وديانَكِ،
نَقّاكِ وجَمَّلكِ وزكَّاكِ، وللإنسان أهداكِ،
وله أعطاكِ، وممرًّا لجنانه أبقاكِ..
ولكن.. يا لروعنة الإنسان، ويا لحماقاته،
بآثامه أثقلَكِ، وجَوَّكِ أفسد، وسطحَكِ دمًا سقى،
داس زهركِ، وشوّه جمالكِ، وملأكِ غبارًا ودخانًا، وآلامًا وأحزانًا،
فشوّه وجهَكِ، ومسخ جمالَكِ...

*****

الامتحان الكبير
يا لآلامَك يا "يعقوب"، ويا لآحزانك أيها الأب الحنون،
"يوسف" ضاع، في أتياه الزمن تاه،
قالوا: "أكله الذئب"، والذئب من دمه براء،
ذئبيةَ قلوبهم أخفوا، ودمويةَ عقولهم ستروا،
عميت عيناك حزنًا، وذاب فؤادك شوقًا،
تألمت وتأوهت وتوجعت،
حتى كدت تكون حرضًا، وهلكًا في الهالكين...
تألم وتتأمل، تشقى وتتعزَّى،
تطفح دمعًا، وتنزف جرحًا، ترجو الضماد من ربِّ العباد..
ونحن -يا يعقوب قلوبنا- مثلك نعاني،
وأحزانك نذوق، ومثلَ دمعك نذرف،
فأنت في ضياع "يوسف" امتحنت،
ونحن اليوم في ضياع البشرية عن الحق نُمْتَحن..!

*****

الفرسان
للفكر فرسان، وللعقيدة أعلام،
يشقّون الأزمان، ويمضون مع الأيام،
إذا من مكان مَرُّوا، آثارَهم تركوا،
هِمَمٌ سبَّاقة، وإرادات خَرَّاقة،
نورًا ينشرون، وظلماتٍ يبيدون،
وأمواتًا يبعثون، ونُوَّامًا يوقظون..
للأبدية يتوقون، وأجرَهم من الله ينتظرون،
يؤنسون، ولا ينفِّرون،
يجمعون، ولا يُفرِّقون..
الأمكنة بأنفاسهم معطَّرة، وبأرواحهم منوَّرة..!

*****

واهب الحياة
من بعد ما أمواتًا كُنَّا، أحياءً بُعثنا،
لا شيءَ في الأشياء كُنَّا، شَيَّئَنَا، وبالحياة جَمَّلنا..
يا وهَّابًا، يا خَلاَّقًا، يا باعثًا، يا ناشرًا، يا حيًّا يا قيّومًا،
قلب الجماد إذا خفق، فأنتَ خَفّاقه،
والصخر الجلمود، إذا بالماء انبجس، فماءَ الحياة أنت الذي سقيتَه،
العدم عندك إنْ شئتَ وجود، والوجود إنْ شئت عدم،
فالكل في قبضة يمينك، وتحت سلطانك ومشيئتك،
فالظلمة نورًا تنقلب، والشتاء ربيعًا يعود،
والليل نهارًا يصبح، والذبول رواءً يحول،
والجدب اخضرارًا يضحى، والصحارى رياضًا تكون،
لا شيءَ يعجزك، ولا شيءَ يندُّ عن إراداتك...

*****

حمامة الروح
من قفص الروح انطلقتِ، وكُلَّ قيود الأرض كسرتِ،
ثمَّ نشرتِ جناحيكِ، وحلَّقْتِ،
الفضاءَ تجولين، وبحزن وألم تهدلين،
ومن حرقة الوَجْدِ إلى الأعالي تندفعين،
ولهبَ العشق في صدرك تمتطين، وتتولّهين،
وإلى "اللامكان" تريدين، وإلى "اللازمان" تقصدين،
ولكنكِ تحترقين، وتشتعلين، ودروبَ السماء تضيئين،
لأولئك القادمين، المنطلقين، من أقفاص النفوس، وقيود الأرواح،
سُدًى نوركِ لا يذهب، ورسوم الطريق إلى السماء لن تُمْحَى،
ولكن لا تفخري، وعلينا لا تمني،
وانسي نفسَكِ، واذكري مَنْ خَلْفَكِ..!

*****

الصراخ لا يجدي
قرونًا تصرخ، تتألم، تتوجع،
والحرائقُ لا تكف، والنيرانُ لا تخمد،
بل تمتد وتتّسع، واللهب يستعر،
يَطْعَمُ الروح، ويأكل القلب، ويملأ العقل دخانًا وسخامًا،
وأنت قعيد الكسل، سجين الإرادة، عديم الحركة، سقيم العزيمة،
فقيد الحِسّ، صخري الشعور،
سكير ذاهل، خائر دائر، لا لطريق تهتدي،
ولا لخلاص من النيران تجتبي،
قَمْ ولا تقعد، تحرَّك ولا تسكن،
قاوم النيران، وأطفئ البركان،
واصحب عزيمتك، واشحذ همّتك،
وتقدم ولا تتأخر، حتّى الانتصار،
فألفَ عام لو صرختَ، ما انطفأتْ نار، ولا خمد سُعَار...

*****

المنبوذون
لنوع الإنسان ينتسبون، وإليه يمتُّون،
وبجنسه موصولون، وعليه يحتسبون،
لكنهم وجدوا، أنهم مبعدون، مضطهدون،
في قاع المجتمعات محصورون،
وعن الأبواب مطرودون، وفي المحافل لا يستقبلون،
كأنهم في جلد المجتمعات جرب مخيف،
منه يفرُّون، وبأنفسهم عنه ينأون،
فيا أيتها الإنسانية، أين إنسانيتك التي بها تتشدقين، وبها تباهين،
لتتواري خجلاً، وتموتي خزيًا وعارًا...

*****

النظَّارة السوداء
نظارتك السوداء، تريك،
النهارَ ليلاً، والبسمة دمعةً، واللؤلؤةَ فحمًا،
والنورَ ظلامًا، والزهرَ شوكًا، والضحكة بكاءً..
عن عينيك أبعدها، وبعيدًا ألقها، تَرَ:
الوجودَ جميلاً، والكون روضًا، والإنسانَ بستانًا،
وفي الدمع ضحكةً مكتومة، وفي صراخ المولود آمالاً موفورة،
وفي الموت حياة، وفي القبر روضة، وفي الألم حافز عمل،
ووراء الشوك، زهرًا ووردًا، وجمالاً وبهجة،
وعالَمًا أبهى وأفضل...

*****

يد الحق
يا يد الحق، من وراء الغيب،
عن العين والقلب، أزيحي الحجبَ، واكشفي السترَ،
بدّدي الوهمَ، وارفعي العتمة،
وانصبي للحق راية، وألحقي بالباطل عارًا،
وللنور خذينا، وفيه اغمرينا، وجندَه اجعلينا،
بالقلب نحميه، وبالروح نفديه...

*****

في انتظار الربيع
شَتَوِيّةٌ أزماننا، مرعبةٌ أحلامنا،
سُودٌ أيّامنا، مقرورة أفكارنا،
هاجعة أشواقنا، نائمة آمالنا،
ليلنا طويل، ونومنا ثقيل،
سماؤنا غائمة، وشمسنا باهتة،
نسأل بلهفةٍ، عن غدنا المغيبِ،
متى الربيع يقدم، وصَقْعَنا يبدّد.؟!
والدِّفْءُ فيه يَعْذُبُ، والزهر فيه يَعْبَقُ،
وطيرنا يغرّد، ويسكر ويَطْرَبُ،
وكوننا في زهوة، والكُلُّ في نشوة،
كأننا قد قمنا، من قبرنا بُعثْنا،
فخلْقُنا جديد، وعمرنا سعيد...

*****

سلالم الروح
ما ارتفع إنسان ولا علا، ولا إلى الحقيقة سما،
إلاّ إذا، سلالمَ الروح تسلَّق، وهضابَ الفكر اعتلى،
فلامس السماء، وطرق الأبواب،
وطائر الشوق على النوافذ نَقَّار، وبجناحيه خَفَّاق،
يشق الطريق، ويفتح المغاليق، لصاحبه المريد،
ليحظى بالمراد، وينعم بالوصال...

*****

النضوب القتّال
إذا ماء الروح فينا نضب، وغار وانحدر،
وجَفَّ الوجدان، وأجدب البنيان،
وتصحرت القلوب، وعطشت السواقي، وأَسِنَت الينابيع،
ملأنا الأرض صراخًا، وهتفنا ونادينا:
"يا رجال الروح، يا روَّاد القلوب، هلمّوا،
وعن ساعد الجد شمِّروا،
وأْتوا الروح من أبوابها، وفجّروا ينابيعها،
واملأوا سواقيها، وارْووا صحاريها،
وربيعَها ازْرعوا، وشجرها أورقوا،
وزهرها عَطِّروا، وماءَ الحياة فيها أجروا،
فإن لم تفعلوا، فالموتَ فانتظروا"...

*****

كتاب الله
يا حرقة الأرواح الصابرات،
ولهبَ القلوب المنتظرات،
ويا نيران الأشواق الفائرات،
يا لهفنا الملتاع، وسُؤْلنا الملحاح،
متى روح العالم على العالم يفيض؟
ومتى قلب الوجود على الوجود ينير؟
ومتى الكوثر الدَّفاق على العباد يسيل؟
يروى العطاش، ويسقى الظامئين، ويشبع الجائعين،
ومتى سفائن الجموع إلى بحار آزالك تبحر؟
وفي يَمِّ آبادك تُطْوَى وتُنشَر؟
وعلى عرش القلوب متى تستوي؟
ومن الأرواح متى شمسك تشرق؟
وكلامك على الألسنة نشيدًا يغدو؟
ونغمًا في القلوب متى يصبح ويمسي.؟!

*****

الأطفال
يا أطفال، يا أرواح السماء، على الأرض تجري،
يا قبسات من نور الله، في قلوب العباد تسري،
ولمحات من جماله، تحي النفوس، وتملؤها بالحبور،
يا أنداء السحر، يا أمثلة اللطف والرقَّة والكرم..
يا منابع طهر وبراءة، وسلسبيل شهد،
لعطاش الجمال، وظامئي الحنان،
يا ملائكية النفوس، يا سحرة القلوب،
يا حبَّاتٍ لؤلؤية، فوق الأرض منشورة،
تخطف الأبصار، وتضيء الليل والنهار،
على الشفاه ترسم البسمات، وتفجر في القلوب الرحمات،
أزهار بشرية، عطرية شذية، تزين المكان، وتجمل الأوطان،
هدايا الرحمن، لبني الإنسان...

*****

الطريق
عرفنا الطريق، إلى الهدف الذي نريد،
نمشيها، نسلكها، نصعد هضابها، نقطع وديانها،
نغبَّر، نشعث، ننصب، عرقًا نتصبَّب، موتى نسقط، دمًا ننزف،
لكننا عنها لا نحيد، وسواها لا نريد،
قد نصل، أو لا نصل، لكننا نمضي،
وحسبنا أننا، فتحنا الطريق، ومهّدنا السبيل،
للآتين من بعدنا، الحاملين هَمَّنَا، والعارفين هدفنا...

*****

العنكبوت
يا رفيقي في الطريق،
كنْ حذرًا لا تأمن، يقظًا لا تنام، متنبّهًا لا تغفل،
ففي الطريق، ألف عنكبوت وعنكبوت،
من لُعابها المسموم، شباكًا تنسج،
مخمليةَ الشكل، ناعسةَ الملمس،
تمُدُّها إليك، وتلفُّها حولك،
فإنْ أمسكتْ بك، فلن تفلتك، وعلى خَنَاقِك تطبق،
ودمَك تمتصُّ، وقلبَك تأكل، وروحَك تسحق..
والبشر العنكبوتي، لسانه شهدًا يُقَطِّر،
وكلامه نغمًا في الآذان يَعْذُبُ،
لك ينسج الأحلام، ويزيّن الآمال،
وردًا يفرش لك الطريق، وبالعطر يضمخها، ويعبقها،
في شباكه إنْ وقعتَ، هلكتَ وضعْتَ، وتهتَ ومسختَ،
فلا أنتَ أنت، ولا أنتَ غيرك...

*****

صروح الأرواح
صروحًا للروح أقاموا،
فيها من أرواحهم نفخوا، وبدمائهم طينتَها جبلوا،
إليها تأتي الأرواح، وبين جنباتها، تتناجى وتتهادى وتتعارف،
على عتباتها تُعَفَّر الجباه، وتتذاوب الأجسام،
وتعلو الأشواق، وترتفع الدعوات،
وتتبارك الأيام، وتزهو السنون الدهور..
حتى إذا، رجفت الأرض، وتزلزل الدهر،
وعصفت العاصفات، واشتدت النازلات،
فإذا الصروح مقفرّة، ومن روادها خاوية،
فأضحت، مكبلة مقيدة، حزينة باكية،
تثير أحزاننا، وتبكي عيوننا، وتشجي نفوسنا،
ولكنننا، نصبر ونتصبّر،
عسى رواد فاتحون، من بعيد قادمون،
ليملأوا المكان، ويَعْمُروا الزمان،
وإلى سابق عهدها، تعود الصروح،
قلاعًا للروح لا تقهر، ومناراتِ هدًى للأجيال لا تنطفئ...

*****

سمفونية الألوان
اصْغي يا عين واطربي، واستمتعي واهزجي،
فهذا العالم، سمفونية ألوان، كل لون فيها نغم،
صارخًا هادئًا، غليظًا ناعمًا، شاجيًا راقصًا، باكيًا هازجًا،
ألوان مَوَّاجة وثَّابة، بعضها يلج في بعض، ويندغم بعضها ببعض..
زرقة وخضرة، حمرة وصفرة، سواد وبياض، فاقعات غامقات،
في الضوء سابحات، أو في الظلمة منزويات..
والكل في سمفونية ألوان، منها تتشكل اللوحات،
كما ترسمها يد الخالق أو يد الإنسان..!

*****

درس وعبرة
شجرة هنا، راكعةً تبدو، وأخرى هنالك، كأنَّها في سجود،
وبينهما، زهر، أشتات وجماعات، ضارعات مسبّحات، بهجات،
بالندى متوضئات، وبالنور سابحات..
أتراهُنَّ، عن ربّهنّ غافلات، أو له جافيات.؟!
أم بحمده مسبّحات، وعليه مثنيات، وله شاكرات؟
فانظرْ يا إنسان واعتبر، وتعلَّمْ واختبر، وعن ربّك لا تحتجب،
فركعةً تركعها، أو سجدةً تسجدها، منحةً تُمْنَحُها،
من مانح الوجود، وصاحب الكرم والجود...

*****

الحمَّال
في الطريق، حمالاً الْتقى،
على ظهره المحني، حملاً ثقيلاً يحمل،
أشيبَ الرأس، أبيضَ اللحية، كثَّها،
بعرق جبينه تتخضَّب، وفي مشيه يتعثَّر،
ويكاد من ثقل ما يحمل، أرضًا يسقط، ومغشيًّا عليه يقع..
فقال له:
يا سيدي الحمَّال، يا جدي العزيز،
أما آن لك، من حمل الأحمال أن تستريح؟
فقد شاب رأسك، وانحنى ظهرك، وتهاوت قوّتك، وتآكلت ركبك،
وعتيًّا من العمر قد بلغتَ، وشتاءَ زمنك تعيش،
وصقيعَ يومك قد بلغت؟
أجاب الحمَّال:
لا حيلة لي -يا ولدي- فيما ترى،
الراحة عليَّ حرام، مع قدَري سأمضي،
وهكذا سأموت، لقمة عيشي بعرقي تعجن، وبتنّور آلامي تخبَز،
وحيدًا كنتُ، ووحيدًا سأبقى، ووحيدًا أموت..
ما من أحد، بيدي أخذ، وعلّمني وأعطاني،
ولعالم الغد أزجاني، ظهورَهم لي أداروا، وعني لم يسألوا،
كأني لهم لا أنتسب، وعن جمعهم مغترب...

*****

جسر الأمجاد
يا جسرًا، على نهر الزمان، منصوبًا،
للماضين والآيبين، للرجال الناهضين، والفرسان السامقين،
أفواجًا بعد أفواج، قوافل تتابع، ومواكب تتسابق،
بناة عقول، وفاتحو قلوب،
ومنشئو حضارات، ومقيمو مدن ومدنيات،
آثار أقدامهم على أرضيتك مطبوعة،
وإيقاعات من سنابك خيولهم لا زالت مسموعة..
فخورًا بهم، مزهوًا بعبورهم من فوقك،
متعاظمًا بعظمتهم، متشامخًا بشموخهم،
ولكنك اليوم، أسيف حزين، مقهور ساكت لا تبين،
بلا فارس يمرُّ ولا فرسان، ولا بطل ولا أبطال،
ولا صهيل خيل ولا وقْعَ سنابك...

*****

الشمعة
إنِ الليل احلولك، وأناخ بكلكله فوقك،
واشتدت عتماته، وقست ظلماته...
فلا تحزن، ولا تيأس، بل سارع، وشمعتَك فأوقد،
فإنها سيف مشرع، يشق سُدَفَ الظلام،
وترتعد منه الظلمات والعتمات،
فكل شموع الأرض إن انطفأت، وغار ضوءها،
ولم يبق في الليل غير شمعتك،
فلا تلتمس لك الأعذار، لكي تنكص،
وعن شمعتك تتخلَّى، وتقعد يائسًا محبطًا،
بل احفظ شمعتك، واسقها رحيق الأمل،
وحرارة القلب، ونبض الروح...

*****

العودة إلى الله
على ذاتها المحجَّبة، ونفسها المشتَّتة،
وعقلها المطمور، وروحها المسجون،
تطلّ الأمة وتنظر، وتأسف وتحزن، ومن جديد تنهض،
تقرأُ الكتابَ، وتلمس الصواب،
ذاتَها فيه تبصر، وروحَها فيه تشهد، وأيامَ الله فيه تذكر،
ومن جديد تولد، تجهد وتتعب، تبني وتعمر،
تشعل الأنوارَ، وتنصبُ المنارَ، وتهديَ الحيارى...

*****

طارقو الأبواب
طارقو الأبواب، ساكبو العبرات، رافعوا الدعوات،
على الأعتاب يبيتون، والجباهَ يُعَفّرون،
ويستغفرون، وفي الضراعة غارقون..
حرقة قلوهم تنادي... ولهب أرواحهم تهتف:
"يا ربنا، افتح لنا، عن بابك لا تطردنا، ومن نور وجهك لا تحرمنا،
آيبون، تائبون، نادمون،
كثيرة عيوبنا، عظيمة آثامنا، غافلة أرواحنا..!
غيرَ أننا، في حبّك هائمون، وفي الشوق إليك سادرون،
ولو في العذاب أقمتنا، أو عن بابك طردتنا"..!

***** 

معرفة الله
إنْ كنت عارفًا، وبه متّصلاً،
اتّسعتْ روحك، وامتدّت آفاق فكرك، واحتوى العالَمَ قلبُك،
ووجدتَ نفسَك، تَرفُّ فوق كل موجود، وتعانق كُلّ مخلوق،
وترى في الخلق يدَ الخالق، وتسمع في الكون نَغَمَ اللون،
وصوتَ العالم، بشتَّى اللغات، يهدر بالصلوات، لربِّ الموجودات،
والزهرة في بستانك، أو حديقة منزلك،
إنْ هي إلاَّ نغم الكون إذا ترنَّم، وجمال الوجود إذا تجسَّم...

*****

أحلام وآمال طفولية
سادرٌ في الخيال، محلق مع الأحلام،
في الماء رجلاه تبتردان، ويُمْنَاهُ على الخد، في تفكر وتأمل،
أفكاره طفولية، وآماله صبيانية،
صروف الدهر لا تعرف، وتقلّبات الزمن لا تعي،
والمخبوء من الأيام لا تدرك،
نظرك إلى ما حولك مشدود، وفكرك فيه محدود،
فكأنَّ الزمن عندك قد توقف، وفيك لا يعمل،
وبينك وبين ما تريد لا يحول،
وأبدًا على هذه الحال تبقى، لا تحول ولا تتغير...
انْتبهْ، وإلى وضعك هذا لا تركن،
فالهول من ورائك محيط، والغول قد فغر فاه،
وربما ابتلعك قبل أن تشعر...

*****

الأعمى
معصوب العينين، كيف يبصر؟!
غارق في الظلمة، أنَّى له الرؤية؟
أليف ظلمات، رفيق عتمات، كيف بالنور يشغف، ووراءَه يلهث؟!
وطريقه كيف يقطع، ودربه كيف يسلك؟
وإلى الهدف كيف يصل، ومتى يصل؟
أم هو في دائرة الظلمة يدور، وإلى النقطة التي سار منها يعود؟
يتوه، ويدور، حتى الرأس منه يدور، والعين تزوغ،
سدًى تمضي أيامه، وبددًا تذهب آماله...

*****

المنفردان
كشبحين غامضين، من بعيد يتراءيان،
يمشيان، وإلى قعر الضياع ينحدران،
وضبابَ الزمن يتسربلان،
والمجهولَ يغشيان،
وبسحب الوحدة يستظلان،
ولكنهما عن السير لا ينيان،
لا ظِلَّ من بعدهما يتركان،
ولا أثرًا من خلفهما يبقيان،
لا آسف عليهما يأسف،
ولا عين عليهما تدمع،
لا أبناء، لا أحفاد،
لا أهل لفقدهما يألمون،
ولا أخلاَّء عليهما ينشجون أو يشجون...

*****

همجية الحضارة
من سحيق التاريخ، إنسان بدا،
عاريَ الصدر، منفوش الشعر،
هراوة في يده، وسكين في محزمه،
يعايش الوحشَ، ويأكل لحمه، متوجس خائف،
دمويّ العقل، بدائي السلوك، يصيد ليأكل، ويقتل ويقاتل..
وقبالته ينظر، وإنسانًا يبصر،
مدنيّ الملبس، ناعمَ الملمس، مدَّهَن الشعر، مهذَّبَ الكَلِم،
في يده بندقية، صقيلة المظهر، رائقة للنظر،
فإذا به من عجب يصرخ..
أأنتَ أنا، أم أنا أنت..؟ فيك أرى صورتي، وفيَّ ترى صورتك،
كِلانا في الهمجية سواء، للقوة نتعبّد، وللسلاح نصلي،
وبه ننشر السلطان، ونعامل الإنسان...

*****

المفتاح والمحراب
سكبَ المحرابُ دَمْعَهْ، وأطلق أَنَّهْ، وزفر زفرهْ،
سؤاله الملحاح، عن ضياع المفتاح، يؤرق نومَهْ،
مَنْ أخذ المفتاح، وأوصد الأبواب، وسدَّ المنافذ بالتراب؟!
مَنْ أطفأ النور، ونشر الديجور..؟
وأباح، واستباح، وتوقَّح وأطاحْ، بالحق الصُّرَاحْ؟
ينظر، وينتظر الفارس المقدام، على الناقة السمراء،
يَخُبُّ السير، ويَحُثُّ الخطى،
فيلتقي المفتاح، ويفتح الأبواب،
ويعطي عهدًا، ويوثق موثقًا،
فيعمَّ السلام، ويحظى المحراب، بالأمن والأمانْ...

*****

انظر واعتبر
أغلال الروح، والسحب السود، على صفاء الأذهان،
والغشاوة العمياء، على حدقات العيون،
تشوّش عقلك، وتشتت فكرك،
فتمضي سريعًا، لا تقف ولا تتأمَّل،
وكأنّ الكون لغيرك قد خلق، والوجود لسواك قد وجد،
والجمال لغير عينيك قد أبدع،
ونجوم السماء لغير تأملاتك قد أضاءت،
فيا ويح غفلتك يا إنسان،
ويا ويل سهوك في الآن، وفي المآل والمصير...

 *****

برعم الحياة
تفتّحتَ برعمًا، ونهضتَ للتحليقة رمزًا، وللطهر والبراءة مثالاً،
يا طفلاً، يا فجرًا نديًّا، يا بسمةً روية، يا جمالاً بهيًّا،
يا ريح الصبا، يا شفق الروح، وأفق السرور والحبور..!
بقربك تسعد القلوب، وتبتسم الحظوظ،
ويطيب العيش، وتهنأ النفوس،
ليتك غدًا، هكذا تبقى،
طاهرًا كالطَّل، نقيًّا كالورد، رقيقًا كالنسيم،
لا تُؤذَى ولا تُؤْذي، ولا تَشْقَى ولا تُشْقي،
لا تُبكي ولا تَبْكي، ولا تُدْمَى ولا تَدْمي...

*****

المحطة الأخيرة
أجيال من البشر تعقبها أجيال،
تأتي الأرض، وهنيهات من عمر الزمن تمكث فيها ثم تمضي..
تسأل عن الطريق، والمآل والمصير،
وعن لماذا نحن هنا؟ مَنْ أتى بنا؟
ومَنْ للمسير يدفعنا؟ وإلى المجهول يقودنا..؟
وإذا كُنَّا قد اجتزنا في طريقنا محطات ومحطات،
توقفناعندها للراحة من وَعْثاء السفر،
غير أننا لا زلنا نسير، لعلنا للمحطَّة الأخيرة نصل،
وعصا ترحالنا فيها نضع، وخباءَنا عليها نقيم...
مِنَّا مَنْ أَعَدَّ للسفر عِدَّته، وعرف مقصده وغايته..
ومِنَّا مَن غفل عن العدَّة ولم يتزود للطريق بزاد أو متاع،
فخاف وارتعب، وحار ودار،
وعن الطريق المستقيمة حاد وانحرف، فَتَاهَ وضاع،
وابتلعته المفاوز، وطوته السرابات..
فتوهّم النار نورًا، والسراب غدرانًا،
وظَلَّ وراءهما يلهث، وعن الطريق يزيد بعدًا،
فاستقبلته ذئاب الطريق، وفيه أنشبت أظفارها،
وغرقت في دمائه أنيابها، فغدا من الهالكين..!

*****

الفراشات والسلاسل
لتبلغ القسوة منك ما تبلغ، ولتتغلَّظْ روحك،
ويتصخر قلبك، ويتصحر وجدانك، ويمت ضميرك...
لكن كيف تسوّل لك إنسانيتك -إنْ كنتَ إنسانًا-،
أنْ تسلسل الفراشات البريئات الطاهرات بالسلاسل،
وتغلها بالأغلال، وتمنعها الهواء، وتحجب عنها الشمس،
وتحرمها شذى الورد، وندى الأصباح.؟
تُرى هل في مكنة إنسان أن ينحدر هذا الانحدار في إنسانيته،
فيفعل مثل هذا الذي تفعل،
فيخرج من دائرة الإنسانية إلى الأبد..؟!

*****

المهموم
أهم ما يميز عصرنا هذا الذي قُدّر لنا أن نعيشه، ونتجرع غصصه، ونتشرب مراراته، إنه عصر القلق والهم والكآبة والوسواس والسأم والعذاب... فالإنسان المسكين مضطر أن يجرب أشكالاً كثيرة من الأحزان، وأن يخضع لنوبات مفجعة من العصبية والكآبة، حتى استنفد في هذه النوبات قُواه الحيوية الفاعلة، وأضاعها بين القلق والانفعال، فخمد عقله، وجفَّتْ فيه منابع الإدراكات العميقة لأغوار نفسه، ولأغوار الحياة والوجود، وصار عدوّ نفسه، وقاتل ذاته، ومدمّر حواسه، ومقارف كل ما يميت فيه حِسَّه الإيماني، وشعوره الروحاني.. فهبطت درجات تفكيره، ولم يعد يجد الجوَّ الذي يستطيع فيه أن يفكر في أمور عظيمة، أو ينجز عملاً أخلاقيًّا عظيمًا يرفعه إلى مستوى عالٍ من الإنسانية التي كادت بهبوطها أن تودي به إلى مستنقع الانحلال والتردّي في مهاوي التآكل الروحي والوجداني والعقلي، وهذا هو ما يسعى الإيمان إلى إنقاذ الإنسان منه، والانسلاخ عنه، وإعادته إلى عالم الجمال الإيماني المتفائل بالحياة والمستبشر بها...

*****

نور الأنوار
قال رجل لِمَن حوله وهو على فراش الاحتضار:
-يا أهلي المقرَّبين... ويا أبنائي المشفقين.. أزيحوا الستائر، وافتحوا النوافذ على مصاريعها، ودعوا النور يغرق المكان، ويضيء الجنبات، ويهزم العتمات... فإني -كما عهدتم- لا أطيق الظلمة، ولا أصبر على الظلام..!
ثم غشيته غاشية، حتى إذا أفاق قال له أحد أبنائه وهو دامع العينين:
-لو غيرك قالها يا أبتي... فقد أمضيتَ عمرك كلَّه وأنت في معيّة "نور الأنوار".. تحفظه في صدرك، ويتحرّك به لسانك، ويسكن به جنانك، ويقيم في ضميرك.. به تحيا، وله تعيش.. ليلك به نهار، ونهارك به وهج وإشراق.. طريقك به تبصر، وبه تهدي الآخرين، وتنير درب الحائرين، وتأخذ بأيدي الضالين.. حتى غدوتَ قبسة من قبساته، ووهجًا من وهجاته... فما أنت يا أبتي بالذي في حاجة إلى نور النوافذ ومعك نور الأنوار، وروح كل مَن أنار وأضاء..!

*****

الجرة العطشى
عطشة مثل روحي، ظامئة مثل قلبي،
مشتعلة متلظية مثل اشتعالي واحتراقي...
أنتِ للماء تعشقين، وله تشتاقين،
وعليه تئنّين، وإليه ترقبين، وتنادين:
متى جوفي هذا المحترق بالماء يبترد،
ومتى هذا الخواء الذي يعنيني ويضنيني بالماء يمتلئ؟
فتسكن جوانحي، ويهدأ قلبي، ويطمئنّ روحي..
لماذا تحرمونني -يا قساة- الماءَ الذي من أجله صُنِعْتُ،
ولماذا تحولون بيني وبينه، وروحي وروحه..
الآن أدرك كم يكون الإنسان بائسًا وحزينًا ومقهورًا،
عندما يفرغ قلبه من ماء الإيمان،
وتجفُّ روحه من أنداء الرحمن،
وكم يأسى ويألم عندما يَعُمُّهُ الخواء،
ويطفو فوق فقاعات الفراغ،
فذلك الموت الذي لا موت بعده ولا موت قبله...

*****

التفكك الكوني
نحن البشر نستخدم حواسنا كلها في ملامسة الكون والتعرف عليه ومن حولنا، ثمّ نسعى لفهمه وإدراك مراميه وأهدافه، وهذا الفهم الاستيعابي لا يصح إلا إذا أقمنا صلة حميمية استكشافية بين عقولنا وعقل الكون حيث يحدث نتيجة ذلك ما يشبه التفاعل الكيماوي بين العقل الإنساني والعقل الكوني، وعن هذا التفاعل ينتج "الإيمان الذهني" الذي يرفد إيماننا القلبي والروحي والفطري ويعززه ويقوّيه ويسقط إلى الأبد ما يمكن أن نسمّيه بالإلحاد العقلي..
فالتفكك الحتمي في المنظومة الكونية عند نهاية العالم وقيامة قيامته قد يبدأ من أي جزء من أجزاء الكون ثم يسري إلى جسم الكون الكلي، فتضطرب السماوات، وتتناثر النجوم وتنكدر الشموس، وتنتثر الكواكب، ويذهب الكل إلى الهباء.. وبالمقابل إنّ المنظومة البشرية التي تحكمها السنن والنواميس الكونية نفسها قد تتهافت وتتهاوى إلى أسفل سافلين بانحدار أمة أو شعب من الشعوب في هذه المنظومة، وخروجه أو خروجها عن أهداف الإنسانية الأخلاقية الكبرى في الحق والعدل والخير، فيكون ذلك سببًا في انهيار بشري عام لا تحمد عقباه، ومن هنا صار الإنسان مسؤولاً عن أخيه الإنسان، والشعوب مسؤولة بعضها عن البعض الآخر، تحاول أن تعدل وتصحح وتبلغ وترشد وتعلم، وإلاّ عمَّتْ الفوضى وانتشر الفساد...

*****

النجاة
لكل زمان من أزمنة الأرض رجال أفذاذ تبتعثهم الأقدار من أجل أن يكونوا "الصح" بين أخطاء العالم، والميزان السوي في جنوح الموازين، واشتطاط المكاييل، والعقل الراجح في جنون العقول، والحق الصراح في أباطيل البشر.. وهؤلاء الرجال يفعلون ذلك بدافع من ثقل الرسالة التي حُمِّلواها إلى أبناء جنسهم من بني الإنسان..
غير أنهم لا يمنُّون بذلك على أحد، ولا يستعلون على أحد، ولا يحسبون أنفسهم أنهم أفضل الخلق، وأكثر عباد الله إحسانًا وتوفيقًا.
ولهؤلاء الرجال رايات يركزونها على هضاب الأرض... ومفترقات الطرق، وأبواب الفجاج والسبل، فَيُعْرَفُون بها، ويُسَمُّون باسمها، ويأتيها مَنْ يريد إتيانها، والمشاركة في حمايتها، والاستظلال بظلّها، ودعوة الناس للالتفاف من حولها، والتعرف عليها، والتشبث بها، والسير وراءها، ففيها النجاة كل النجاة، والفوز كل الفوز، من أهوال الدنيا، وعذاب الآخرة..!

*****

دموع طفل
لا شيء أوجع للنفس، وأحزنَ للروح، من دمعة تسيل على خدِّ طفل بريء، يقطر طهرًا، وينضح براءة ولطفًا.. إنه يستثير دموعي، ويحرك أشجاني، ويلهب مشاعري.. فأجلس قبالته، أبكي لبكائه، وأذرف معه الدموع، وأسكب الآهات، وأطلق الزفرات، مستذكرًا أيام طفولتي بعذاباتها ودموعها، تلك الأيام بمشاعرها المرهفة تجاه أي طفل الْتقيتُه على قارعة الطريق باكيًا، فأبكيه وأبكي معه، دون أن أسأل نفسي عن سبب بكائه هو، أو سبب بكائي أنا..
وأَمَّا اليوم فليت كُلَّ الدموع التي تذرفها عيون أطفال العالم أن تتحول إلى سحب ماطرة تغرق العالم وتغسله من أدرانه وقساواته التي يعانون من فظاعاتها ما لا تحتمله أبدانهم الهزيلة الجائعة.

*****

الربيع المنتظر
ليس أخطر على الإنسان من شتاء العقل، وزمهرير الروح، وصقيع الوجدان، ونضوب الخيال، وموت الإرادة، وشلل الإبداع، والركون إلى السكون، والقبول بالسقوط من قمة المعاني الإلهية التي أُهِلَ لها كيانه الإنساني إلى درك ما تعيشه قيعان المدن والمدنية من تفاهات الحسية الغليظة، وأخلاط الأفكار السقيمة.. وهذا كله هو الذي يجعلنا نشعر بخيبة أمل من الإنسان، لما يعكسه بانحداراته السريعة من صورة مرعبة ومذهلة تكاد تملأ العالم بالتعاسة والشقاء والكآبة.
ولكن لا بد أن يعقب هذا الشتاء الإنساني روح ربيعي يشيع في أجوائه حرارة القيام بالانبعاث من تحت صقيع الأيام المتثلّجة، وهذا الربيع لا يمكن أن ينبعث إلاَّ من روح إيماني عظيم، وإشراقات نفس صافية نقيّة الصفاء، قدسية الإشراق، إنه ذلك الربيع الذي تتفتح أزهاره من معرفة الإنسان لذاته، والإيغال في أعماق روحه، ومثل هذا الإنسان ذي العقل الكبير، والروح الهائل، هو المؤهّل لكي يأتي بالربيع المنتظر...

*****

الغروب والموت
إذا كنتَ قد أوشكتَ على فقدان أي نوع من أنواع "الهدفية" و"المعانية" التي ترفعك إلى مستوايت عالية من الفكر والسلوك، فأنت إذن -لا قدّر الله- في حالة احتضار نفسي وموت سريري سرعان ما سيأخذك إلى فقدان الحياة بالتمام، وعندئذ سيتفاقم شعورك باحتقار نفسك، والاستهانة بشحوب حياتك التي يتجاذبها الموت والحياة، وأنَّ حياتك لا تزيد عن حياة أيّة دويبة تدبّ على وجه الأرض لغير ما هدف ولغير ما غاية، وبذلك تكون قد فقدتَ الرغبة بالحياة.. وأن ذهابك عن هذه الأرض بات أمرًا محتمًا لأنه لم يعد للأرض حاجة إليك، ولا حاجة بك.
ولكي تستعيد شيئًا من حرارة الحياة، وفاعلية الروح، لا بدّ من اغتنام فرصة التشبث بتلك البروقات التي تفجأ آفاق النفس بين الفينة والفينة، على الرغم من تكاثف السحب السود التي تغطي البصر والبصيرة... تلك البروقات التي تخطف أبصار البصيرة وأنظار البصر، وتضيء أعماق الإدراك، ومن خلال هذه البروق الخاطفة التي تنقدح في أعماق الإنسان مرةً بعد مرة، وهي بالتأكيد بروق ماورائية، يمكن استعادة الهدفية والمعانية للحياة، واستئناف النضال والتعب والنصب الذي يشعرنا بطعم الحياة، وأنها جديرة بأن تعاش، وجديرة بأن تجعلنا على استعداد دائم لشيء عظيم ننجزه بأنفسنا أو غيرنا يدعونا إلى إنجازه...

*****

البشرية المعذَّبة
في أزمات "النبوات" كانت البشرية تجد -بين نبوة وأخرى- فترة زمنية تخرج فيها عن عذاباتها النفسية والفكرية والروحية وحياتها العشوائية المنفلتة من معاني القيم الإيمانية العالية، فتتنفس الصعداء، وتقف لتراجع النفس وتنكب على تقويم معوجاتها وانحرافاتها، ثم تعاود المسير من جديد على ضوء ما استفادته من تعاليم نبوة زمانها.
أما اليوم وقد باتت معاني هذه النبوات غائبة عن المنظومات الثقافية والفكرية لقطَّاعات واسعة من الشعوب والأمم، فإنها -أي البشرية- تعاني بسبب ذلك صنوفًا هائلة من العذاب الذي يكاد يوردها موارد الهلاك الأبدي، فهي في صراعاتها مع "غولي النفس والعقل"، وجدالاتها الطويلة والصعبة معهما من دون الاستعانة بتعاليم النبوات لم يفضِ إلى شيء ملموس، أو يحسم الإشكالات التي يثيرها العقل وتعاني منها النفس.
إنَّ الباحثين في شؤون البشرية الفكرية والروحية لا يستطيعون تجاوز العذاب الذهني والجحيم الروحي اللذين تعاني منهما البشرية اليوم، وما يُشاهد من إغتباطات تبلغ حدَّ الهوس بلذائد النبوغ الفردي أو الجماعي هنا وهناك ليس بأكثر من فقاعات طافية على سطح الحضارة لا يمكنها أنْ تغطي ما يموج في الأعماق من العذابات التي يتجرعها البشر في سكرة خادعة تجعلهم لا يعرفون مواضع أقدامهم من شدة الذهول والحيرة التي تدير الرؤوس وتدوخ العقول، فمن غير المعقول ولا الأخلاقي أن يغتبط المرء أو يبدو مغتبطًا بين مجموعة من الذين يتصارخون من هول العذاب الذي يعانون...

*****

النفس القاتلة
حين تغلق "النفس" أبوابها في وجه "أقباس الروح"، وتصمُّ آذانها عن سماء هتافها وندائها، فإنها تغلظ وتتخشب، وتعتم وتظلم، وتفحش وتتفاحش، ويسوء خلقها، وتفسق عن أمر ربها.
ويدوم انحدارها، ثم تثقل على صاحبها ثقل الجبل الآجرد، فيشقى بها ولا يسعد، ويسفل بها ولا يعلو، ويصيب نقاءه الدنس، وعقله الهوس، وقلبه المرض..
لذلك تبقى الروح القلْعة الحصينة التي تأوي إليها "النفس" حين ينتابها الفزع، ويدهمها ما تخشى منه على نفسها، وحتى العقل يجد في الروح هذا المأوى الركين إذا ما استنفدته شواغل العالم المادي وأفرغته من قدراته الذهنية، وأعمت بصيرته الإبداعية والابتكارية، وعلى الإنسان أن يستعين بالروح لكي يستطيع الغلبة على عنجهيات النفس، وعلى تمرّدها وتفسّقها، لذلك صار من لوازم الإنسان المؤمن أن يراقب نفسه جيّدًا، وأن يحتاط منها، وأن يكفها عن رعوناتها وحماقاتها، لأن فسادها قد يكون مقدمة لأفساد الجانب الإيماني من الإنسان، والجانب الأخلاقي منه.

*****

الطفولة والأطفال
أطفال يُقتلون وهم بعد في بطون أمهاتهم[1]، ويُقتلون بعد أن يولدوا[2]، ويقتلون صبيانًا[3]، ويفتك بهم شبانًا[4]، ويطحنهم العذاب رجالاً[5]، وتطويهم الملاجئ والوحدة شيوخًا[6]، ووحيدين يموتون ويقبرون، وبعد أيام يُنْسَون ولا يذكرون...
والطفل الرضيع، ذو القماط المخملي الناعم، صاحب البسمة الملائكية، والبراءة القدسية، فهو في نفسه مشغول، وبعالمه الطفولي سعيد، لا يُحِسُّ بما يحاك له في عالم الكبار من حوله، ولا بما ينتظره من أهوال، وأيام شقاء.
ولو قدر له أن يشهد في مرايا المستقبل صورًا من حياته الآتية، لخاف وارتعب وطلب النجاة والعودة من حيث أتى لا إلى بطن الأم فحسب، بل إلى بطن الغيب من جديد..!

*****

قطرات الماء
لا نهرًا دَفَّاقًا في حوضنا يدفق، ولا نبعًا سيّالاً إلى حوضنا يسيل، نعرف ذلك، فنصبر على العطش والظمأ ونتصبّر، فنحن أبناء الصبر، ورجال التصبّر، فجبال القدر الفَوَّارة بماء السماء، تقطِّر لنا الماء قطرة قطرة، ونقطةً نقطة، لكي تجعلنا نُقَدِّرُ ما يتنزل علينا منها، ويتقطَّر في حوضنا من قطراتها فنحيطها بعنايتنا ولا نفرط بها، أو نضيعها فيما لا يروي من عطش، ولا يطفئ من ظمأ.
ومما يزيد في تصبّرنا علمنا أن القطرة بعد القطرة، والنقطة بعد النقطة، إذا دامت واتصلت صارت غدًا سيلاً وغدت نهرًا، وملأت الحوض ماءً وحياةً وريًّا..!

*****

عالم بلا رحمة
إذا الرحمة من القلوب انتزعت،
وإذا الشفقة في الوجدان تحجَّرتْ،
وإذا نيران الأحقاد تَسَعَّرَت،
فكم في هذا العالم مَنْ هو عدواني السلوك،
دموي العقل، وحشي الطبع، سفَّاك دم،
مغتال أمن وأمان، ومحبّة وسلام، وأخوّة ووئام...
من مثل هذا كيف البشرية على نفسها تأمن،
وحتى وحوش الغاب منه لا تأمن،
والحَمَل الوديع، والطفل الرضيع،
والغزال الرقيق، والزهر في الحقل والفراش في الروض،
كيف منه يأمنون، ولا يخافون أو يرتعبون..؟!

*****

ضياع الروح
عاد المسلم منذ أَنْ فقد حرارة الإيمان، ولوعات القلب في الأماسي والأسحار، مخلوقًا كئيب المحيا، معتم القسمات، كسير النظرات، هابط الهمَّات، خامل الإرادات، يشيح بوجهه ساخطًا متبرمًا، ويمضي مسرعًا، إلى حيث تأخذه دَوَّامات الحياة، ومشاغل الأزمات التي تكاد تطحنه طحنًا، وتذروه رمادًا رياحُ الزمن، وعواصفُ الأيام..
إنَّ عظماء الروح تركوا لنا في سلوكياتهم وفي وقائع حياتهم، أمثلة رائعة، ومعاني عظيمة، يمكن أَنْ نتخذها معارج تعرج بنا إلى حيث الحياة الإيمانية العميقة التي نسعى للوصول إليها. ولكن عندما أصاب الجدبُ الروحي أرواحنا، وزحف من هناك إلى أذهاننا، تجمدت هذه التعاليم، وفقدت روحها، وانشلت أطرافها، وتحولت إلى جسم بلا روح، وجسد بلا قلب، فصارت فلْكلُورًا تراثيًّا ينظر إليه الناس ويعجبون، ويرونه وهم لاهون يلعبون..!

*****

الموت البطيء
ننتحر دون أن نشعر..
بأقدامنا إلى الموت نسعى، وقبورنا بأظفارنا نحفر..
نمارس عادةً، وعليها ندمن..
بمخاطرها عالمون، وبويلاتها مدركون..
لكننا عنها لا ننفكّ، والْتصاقًا بها نزيد، وإدمانًا عليها نريد..
هو الجنون.. أو قل هو نوع من أنواع معاقبة النفس، وجلد الذات..
بعقولنا الباطنة مدفوعون، وبعذاباتنا البائسة مُدَّعون،
والصراع بين العقلين في احتدام، ومن أعمارنا ندفع الثمن..
فالإدمان على الخمر والدخان، دبيب موت إلينا يدبُّ،
واستنفاد لقوانا الجسدية والعقلية والنفسية...
تُرى متى إلى بواطننا نلتفت،
وكما بظواهرنا نهتم، وبنظافة صورنا نقوم،
فغسل الباطن من الأدران أوجب، وتزكيته من الآثام أهمّ وأولى...

*****

عالَم الموتى
عالَمٌ بالأموات ملآن، الشاربون الآكلون، الناعمون المنعمون،
هم موتى ولكنهم لا يشعرون،
لأنهم إلى الموت عن قريب سيمضون..
وأموات آخرون، مثلهم هنا كانوا، حطُّوا رحالهم ثم مضوا..
آثارًا تركوا، ومدنًا فيها هلكوا،
خرائب شاخصة، وبألف لسان متكلّمة، للإنسان تقول:
لا تغتر، فنحن مثلك كنّا، فانظر الآن أين صرنا،
فكّرْ واعتبر، وعلى نفسك فابْكِ،
وإلى ربك فارجع، وإيّاه فاعبد...

*****

كعبة الروح
أرواح شاردات، ونفوس ضالاَّت ضائعات،
في الظلمة غارقات، وفي الداجيات خائضات..
للحق متشوقات، وللنور ساعيات،
ولكعبة الروح آتيات، وجلات، نادمات، متضرعات..
للدموع ساكبات، وللآهات زافرات..
أرواحنا على أستارك ذبيحات، وآلامها سافحات، تنادي:
يا كعبة الروح، ها قد جئنا، وإليكِ قدمنا،
طهّرينا، ومن الآثام اغسلينا، وبنور الله نوّرينا،
فقيرات بائسات، ورحمات ربنا طالبات...

*****

الانبعاث الجديد
قرونًا عِدَّةً، غفتْ هذه الأمة،
وفي غيبوبة دخلتْ، وعن نفسها نامت،
عن ذاتها سهت، ولتاريخها تنكّرت،
ثم رجفتْ، واهتزّت، وتزلزلت،
ومن نومها قامت، تنفض النوم، وتغسل الكرى،
وحدقات عيونها فتحت، لترى أبعدَ، وتبصرَ أكثر، وتنفذَ أعمق..
صرخت وتصارخت، لتوقظ نفسها، وتهزَّ كيانها، وتبتعث مواتها،
وتفجّر طاقاتها، وعلى العالم تنشر روحها،
نورًا ومنارًا، وأمنًا وسلامًا..
يصحح العقول، ويبني النفوس،
ويرشد الضال، وللتّائه ينير الطريق...

*****

رجل العصر
لم نكن نعتقد في يوم من الأيام بأن الطبيعة البشرية تنطوي على أخطاء مريعة لا يمكن إصلاحها، أو تصحيحها، فإذا كان الأمر كذلك -وهو ليس كذلك بالقطع- فإن رسالات الإصلاح الكبرى التي جاء بها الأنبياء عليهم السلام لم يعد لها مكان في هذا الإنسان، ولا للمفكرين والوعاظ وأصحاب الأقلام جدوى بالذي يقولونه أو يكتبونه أو يفكرون به.
ومع ذلك فإن "رجل العصر" في كل عصر مطلوب ومرغوب به، ليكون شاهدًا على عصره، وبارًّا به، وقائمًا عليه. و"رجل العصر" الذي نعنيه هنا، هو ذلك الإنسان الذي يستوعب بعقله الكبير، وروحه العظيم، إشكالات عصره، ويجد لها الحلول، ويعطيها الأولوية من اهتمامات فكره، وانشغالات ذهنه.
فـ"رجل العصر" في هذا الزمان الذي تتعرض فيه الروح لأشدّ الأخطار، ينبغي أن يكون "رجل روح" قبل كل شيء، و"إنسانَ قلب" وصاحب "عقل روحي" لكي يستطيع أن يذود عن روح الإنسان ما يتهددها من أخطارٍ وما تتعرض له من إحباطات.

*****

بين عالَمين
لو كُشِف الغطاء، وأزيح الستار،
وانكشف المستور، وبان العوار،
وخرقتْ عيون الصغار عوالمَ الكبار،
لهالهم ما يرون، ولأفْزعهم ما يسمعون،
ولتمنّوا أن يبقوا صغارًا لا يكبرون،
وأطهارًا لا يدنّسون، ولِعالم الكبار لا يلجون؛
فهو عالم دَنِس، تتصارع فيه الإرادات،
وتحاك في الليالي المؤامرات، وتتوحش الأخلاق،
فإمَّا أن تكون صائدًا أو مصيدًا، قاتلاً أو قتيلاً..
على أعراض الدنيا يتقاتلون، وعلى الشهرة يتذابحون،
وللدينار والدرهم يتعبّدون، وللأعراض ينتهكون،
وكل وسيلة إلى الهدف يستخدمون..
أين هذا من هذه الطهارة والبراءة التي تسربل عالمَ الطفولة.؟!
فتملؤها بالأحلام الوردية، والضحكات القلبية، والسعادة الطفولية،
لا خطايا ولا آثام، لا كراهية ولا أضغان،
ولا حسد ولا حُسَّاد، ولا ضد ولا أضداد...

*****

ساعة الوداع
إذا وَهَنَ العظم، واشتعل الرأس شيبًا،
وحان الأجل، ودقَّت ساعة الوداع،
والتفت الساق بالساق، فإلى ربك يومئذ المساق...
وجاءت الصحوة بعد الغفوة، وظهر حقُّ الآخرة أَبْلجَ ناصعًا،
وعلى أباطيل الدنيا وقع وأزهق...
عَضُّ الأصابع عند ذلك لا يجدي، والندم على ما فات لا ينفع..
فإن كنت عن ربك غافلاً، وله مدابرًا وناسيًا،
فإنك اليوم تُنْسى كما نسيت، وإليك لا يُلتَفَتْ، وعنك لا يُسْأل..
فكن حذرًا يا إنسان، فكما تدين تُدَان، وكل شيء عنده بميزان...

*****

سفينة البشرية
في عباب الكون تمخر بنا، تصارع الموج، وتشقّ الطريق،
وبنا تدور، عن الدوران لا تكفّ،
أهوال أوزارنا على ظهرها تحمل،
بأثقال آثامنا لا تنوء، وبأحمال شرورنا لا تؤود،
عجبًا لها، كيف إلى أعماق الفضاء لا تقذف بنا؟!
وعن ظهرها لا تطردنا؟
ومن أثقال ما حمَّلناها تتخفف؟! وتعود كما خلقها الله تعالى،
خفيفةً، شفيفةً، لا إنسان ولا شرور ولا أدناس،
كم هي صبورة هذه الأرض علينا، كم مرةً استأذنتْ ربَّها، لتنفضنا عنها، وعن ظهرها تزيحنا..
ولكنَّ ربَّ الأرض والسماء، أوحى لها:
يا أرض، بيني وبين عبادي لا تكوني،
أطيعي أمري، وسيري حيث أمرْتُك،
فلكل أجل كتاب، ولكل إنسان حساب...

*****

دنيا البشر
لا يظننّ أحد أنّ دنيانا شاخت وعقمت، ولم تعد قادرة على إنجاب عظماء الروح أصحاب الدعوات الكبرى كما كان شأنها في مختلف حقب التاريخ.. هؤلاء العظماء الذين يبادرون العمل على إعادة التوازن في حركة الأرض، وإقامة المعالم الهادية عبرَ ممرات الدروب التي يمكن أن تسلكها البشرية إذا ما التاثت عليها الطرق، واختلطت عليها المسالك، أو عندما تكاد تبتلع هاوية التيه روحها المأزوم والمهزوم...
فهؤلاء الرجال النجباء الذين كانت الأرض تنسلهم بين فترة وأخرى من أجل الحفاظ على مكانها الكوكبي في الخارطة الكونية باعتبارها ممرًّا تمرّ منه الأجيال والتاريخ إلى غير المنظور من عوالم الغيب، ولكونها كذلك مدرسة تتعلم فيها الأرواح أصول التهذيب والتطهّر من الأثقال المعيقة لطيرانها والوصول إلى مأواها الأخير عند نهاية الأزمنة.
والزلازل المخاضية الفظيعة الآلام التي تعاني منها الأرض وهي تنشق عن عظمة هؤلاء الرجال، تجعلنا نعاني الكثير من المشاق ونحن نحاول أن ننفذ إلى أرواحهم أو أن نلحق بهم، أو ندرك ارتقاءاتهم.. غير أننا نشعر بشرفنا الإنساني وهو يستعيد مكانته في هؤلاء الرجال المكافحين من أجل الإنسانية برمّتها، فننتشي فرحًا ونحن نشاهد رجالاً من ذوي الصفات الخارقة القوة وهم يأخذون بزمام الأرض ليعيدوها إلى مسارها الذي رسمته لها الأقدار..
ومهما أُغرقت الأرض بالدماء، ومهما زادت الطعنات إلى قلْبها ليكفَّ عن نبضه، ومهما تكاثفت الظلمات في أرجائها، فإنها ستبقى ولاَّدة، وستبقى رحمها خصبة تحمل ولادات جديدة في كل مرة. فالعين الكونية المشرفة على الأرض من عليائها، والحريصة على شرفها الكوكبي ومكانتها الرفيعة في الخارطة الكونية، والمقدرة لرسالتها المقدّسة في إعداد الأجيال، وتزويدهم بالمعرفة، ليجتازوا الطريق بسلام إلى مآلهم الأخير... كل هذه الوظائف تجعل الأرض تحت نظر الأقدار فلا تتركها سدى تضيع في سحيق الفضاء متخلية عن رسالتها القدرية التي انتدبها لها الله سبحانه وتعالى لكي تقوم بها وتؤدّيها على أحسن وجه.
فهي -أي الأرض- محكومة بموفعها من الكون، وموفعها من المشيئة الإلهية، الأمر الذي يحتم عليها أن تستولد في كل مرة رجال الروح العظام لكي يكونوا في عونها على إتمام رسالتها الإصلاحية للبشرية التي تعيش فوق ظهرها..

*****

سنابل الروح
كم رفعنا أكُفَّ الضراعة، مُبَلَّلةً بالدموع،
وكم ملأنا السماء دعاءً وتسبيحًا وتمجيدًا،
لكي تبقى سنابل الروح الفتية التي سقيناها رحيق أرواحنا،
وعصارات أفئدتنا، تبقى مثقلة بحبَّات الإيمان المعطاء...
حتَّى إنّنا أخذنا حِكَمَ الأرض مجتمعة،
وجعلناها سياجًا يحميها من تقلّبات الأجواء، وعواصف الرياح...
وها هي الحقول اليوم تزخر بالسنابل الذهبية المتموجة،
وهي تمتدُّ مَدَّ البصر مشاعةً،
لكل جائع وناظر، ولكل راغب وطالب...

*****

سلام العقول
في اللحظة التي ترفع فيها قبضتك مهدِّدًا ومتوعّدًا في وجه أخيك الإنسان، في هذه اللحظة الفارقة تكون قد منحتَ عقلك إجازةً يقضيها خارج موطنه من رأسك..
وأمثال هذه اللحظات المرعبة هي التي تخشاها البشرية على نفسها، لأنها قد تدفع بها في لحظة جنونية إلى حافة الدمار والهلاك من قبل ذوي الأمزجة الدموية والغضبية والعدوانية، والبشرية دائمة الانحناء احترامًا وتبجيلاً لأولئك العقلانيين والروحانيين الذين ترى فيهما ضمانًا لنفسها من رعونات أولئك الملوّحين بقبضاتهم الحديدية، والمستقوين بقواهم التدميرية المهولة..
ففي العقلانية والروحانية يكمن السلام، ويزداد الاطمئنان، وتنعم البشرية بالأمن والأمان، كما أنَّ "العقلانية والروحية" من عناصر الرجولة الحيّة، وهما روح تاريخ السلام على هذه الأرض.
إنَّ في القوة المنفلتة من زمام العقل ومن زمام الروح، شيئًا سرطانيًّا قتّالاً إنْ لم يقتل الآخرين قتل نفسه، وقتل صاحبه، والسلام الذي تنشده البشرية وتسعى إليه، إنما هو قوة كذلك، ولكنها قوة تعزز التوجه نحو الخير والحق والعدل، وهو تجلّ من تجلّيات أسماء الله الجمالية "السلام"، وهو حين يتجلّى على العالم لا يتجلّى إلاّ على أصحاب النفوس الصافية والطاهرة، والوديعة في غير ضعف، والنبيلة في غير استعلاء، والجميلة في غير عجب.
فالبشرية المثخنة الجراح والتي تُدفَعُ تدريجيًّا إلى حافات الهاوية، في حاجة اليوم للخروج من بين أشداق الموت إلى المزيد من الحكماء العقلانيين والمزيد من الروحانيين، ليبذلوا جهودًا مضاعفة من أجل إيقاف عجلة البشرية المتدهورة نحو جحيم الصراعات والحروب، وهذا لن يتمَّ إلاّ إذا جُوبه بصمود عقلاني وروحاني عاليي الإصرار على مواجهة الأنواء العاصفة من العقول الدموية، والأرواح الهمجية...
إنَّ قوى الحياة المهدَّدة بالموت عادت اليوم تتحفز من جديد في الشعوب والأمم لكي تشكل حاجزًا رافضًا وعصيًّا أمام تلك الشحنات النارية التي تتأجج في نفوس العدوانيين، وذلك بالعمل على الارتفاع بمدارك الإنسان، وتنبيهه إلى المخاطر التي تحيق به وبحياته، وتعبئة روحه بكل قيم السلام والمحبّة والوئام...

*****

الباب المفتوح
هناك في النفس الإنسانية نقطة ميّتة يلتقي فيها اليأس بالرجاء، والخير بالشر، والموت بالحياة، وكل شيء بنقيضه.. فعند هذه النقطة بالغة الحراجة، وبالغة الخطورة، وربّما تكون القاتلة كذلك، يضطرّ المرء للُّجوء إلى خالق "النفس" خارج النفس، وإلى خالق الأضداد والأشباه المنزَّه عن الأضداد والأشباه، ليستعين به على الخروج من هذه البؤرة الضيّقة والخانقة، فيرفع يديه في دعاء حار.. فإذا ما رفع يديه طوى بهذا الرفع بساط الكون، وخرق الحجب، وأزاح الأستار، ووقف بين يديه من دون باب ولا بوّاب يصدّه عنه، ومن دون حجاب يحجبه عنه.. فبابه مفتوح، وحجبه غير مسدلة على قدر حرارة الداعي ولهفته وإلحاحه بالدعاء.. فارتقاء مدارج الدعاء مرةً بعد مرة يُشعر المرء بانعتاقه من قيود نفسه، وأغلال ذاته، وبما يحبطه من السأم، وبما ينتابه من ضجر الركود الروحي، والخمود العقلي... إنَّه من العسير بل من المستحيل على الإنسان الضعيف والمحدود والقاصر أن يتحمّل أعباء الحياة من دون هذه الأدعية التي تجعل قلبه سماويًّا، وروحه يسبح فيما وراء الملكوتيات جميعًا.. فالدعاء الخالص والصادق يقربنا من الله تعالى، وهذا القرب يجعلنا في معيّته، فتتفتّح مَسَامَ بواطننا لاستقبال إلهاماته تعالى، وتنزّلات رحماته.
والدعاء بعد ذلك كله يغسل كُلَّ شيء حيواني في النفس الإنسانية؛ فكم من إنسان كان ميّتًا من زمن بعيد أحياه الدعاء، فهو يعيش اليوم حياةً ما بعد الموت.. وكم من عقل وحشي بارد هزَّه الدعاء وحرَّكه وأشعل فيه فتيل حرارة اللقْيا بربّ العقول والأفهام... فالإنسان يبقى منفيًّا خارج الوجود ما لم يتّصل بخالق الوجود ويدعوه لكي يمنحه بطاقة العودة إلى موطنه الذي كان منفيًّا عنه.

*****

المخدوع
خدَعُوه، قالوا له: خذْ واشرب،
اطْفئ ظمأك، وبَدِّدْ قلَقك، وأزل همَّك وغمَّك..
شرب وكرع حتّى ثمل، وزاد في شربه وفي كرعه،
لكنّه زاد ظمأً، وزاد قلَقًا، وزاد هَمًّا وغَمًّا،
وشعلة الذكاء في عقله غامت،
والبصيرة أظلمت، والبصر عمي، والرأس دار، والذّهن داخ...
ولم يعد يدري كيف الخلاص من جهنَّم،
التي كلما قيل لها "هل ارتويتِ؟"، تقول "هل من مزيد!"..
وما درى المسكين أنّ صراخ الظمأ،
وتفجّر الهمّ والغَمّ والحزّن،
يُسْمَعُ من باطن الروح وليس من باطن الجوف،
فإذا ما سقيتَ الروح، ورويتَ القلب،
عادت إليك صحتك النفسية والروحية،
واعتدل مزاجك، واطمأنّ عيشك، وبِتَّ إنسانًا سويًّا...

*****

عالَم الإنسان
الإنسان أُعجوبة الأعاجيب، إنه مجموعة هائلة من الطاقات والقدرات، منها ما هو ظاهر بيّن، ومنها ما هو منطوٍ في الأعماق، غير أنه يكتفي بالقليل منها في حياته المعيشية الرتيبة والساذجة. وقلَّما يحاول التعرّف على المخفي من قدراته وطاقاته واستنهاضها إلاّ عندما تضطره الحياة إلى خوض تجربة مفصلية حادّة تهدّد وجوده الإنساني وتدفع به إلى حاجز فاصل بين الموت والحياة، أو عندما يوخزه شعور دائم بأنه ذات ضائعة في طوفان بشري ليس له منه غير ظل باهت وشاحب، مما يضطره إلى أن يكون مستعدًّا لتوكيد ذاته باستخدام قواه الخفية الروحية منها والعقلية، وعند ذاك تأتي روح العالم متواثبة لكي تعزز من قدرات الإنسان، وتفجر من طاقاته، لأن الحقيقة الإنسانية هي جامعة لكل الحقائق إنْ هي استنهضت من مكامنها، وقامت من رقادها.
فالإنسان وإنْ كان قطرة ضئيلة في بحر هذا الوجود الطامي إلاّ أنه عالَمٌ كامل يحيط بعوالم ويبسط سلطانه على الكثير من حقائقها، يحركه إلى ذلك شوقه إلى الحقيقة، وهذا الشوق هو لبُّ كل حياة، ولُبُّ حياة الإنسان...

*****

ربيع الأحزان
نحن اليوم أمّة فيّاضة الأحزان؛ يلبسنا الأسى، ويغشِّينا القهر، وتعايشنا الهموم الغموم، وتجلس معنا على الموائد، وتتقدمّنا إلى حفلات الأعراس والأعياد، وكأنّ حزن العالم، وأسى الوجود، لم يجد أُمَّةً ينزل بها، ويحطُّ رحاله في موطنها غير أمّتنا، وغير موطننا.
مُنِعْنا أنْ نكون أنفسنا، أو أن نعبّر عن ذاتنا... كان لنا ربيع، عصفتْ به رياحُ الشمال القاسية، وكان لنا دِفْءٌ وشمس، ونهار ضحْيان، وقلب رَيَّان، وفكر سبَّاق، وعقل وَضَّاء، وكلمة مسموعة، ومكان مرموق، وَصَفٌّ مرهوب.. كان لنا كُلُّ ذلك، وإذا بنا بين عشيّة وضُحاها نخسر كُلَّ ذلك، حتى أنكرنا نفوسنا، واتَّهمنا وجودنا، واسْتَهَنَّا بعقلنا، وفقدنا اشتهاءَنا للحياة، ورغبتَنا بالوجود والبقاء.. وغدونا خاوين مفلسين، نستجدي أفكار الآخرين، ونتعلّق بأذيال الثقافات والحضارات، وكأننا أمّة بلا ثقافة ولا حضارة، وبتنا أقزامًا بين عمالقة، ولم تعد تنتابنا حُمَّى الحياة لتبعث في أوصالنا المتخشبة حرارة الانعتاق والانتفاض من جديد.
وعلى الرغم من كل هذه السلبيات التي نعاني منها، غير أنَّ هناك جوانب إيجابية في هذه السلبيات يمكن أنْ تعيد لنا الآمال باستئناف حياة ربيعية جديدة.. فالعذاب والمعاناة والشقاء كم حفّزت قوى المعرفة في عقولنا، وكم ألهبت خيالنا وتطلّعاتنا إلى ربيع قادم، نَتَشَمَّمُ عبير أنفاسه العذبة، ونتَسمَّع حفيف شجره المورّق، ونتراءى تفتّح زهره العبق، فهو قادم لا محال، ولكل أجل كتاب..!

*****

المعية الإلهية
السائر في الطريق بمعية الرحمن لا يشعر بالوحدة ولا بالغربة في هذا الكون المهول، الذي يبعث في النفس الرهبة، ويستثير الحيرة.
فصاحب المعيّة يشعر بفيض من القوة يستطيع بها مصارعة العقبات والعوائق، ومصاولة الزلازل العقلية الشكوكية التي تزلزل الكيانات، وتقوض المعتقدات، وصاحب المعيّة يحسُّ بأنه جزء من الوجود الأكبر، وجزء من الكون المحيط.. فهو في سيره لا يلقي بالاً إلى مغريات الطريق وجمالياتها، لأنه على علمٍ مسبق بأنها ليست سوى متاع زائل بالنسبة إلى متاعات الخلود عند نهاية الطريق. وهو لا يحب شيئًا ولكنه في الوقت نفسه يحب كل شيء يُذَكِّره بخالق هذا الشيء وبمُحَسِّنه ومُجَمِّله.. فالمجهود المبذول من أجل العالم اللاّزماني الذي يسعى إليه، ويقطع الطريق من أجله، يمكن أن يكون حاضرًا دائم الحضور يحياه مع أنفاسه، ونبضات قلبه، إنْ صدق في معيّته مع الله تعالى..

*****

سالك طريق
إذا كنت تريد المسير، وإلى الهدف تصير،
عليك ألاّ تسير وحدك، معتمدًا على نفسك،
ولكن عُدْ والْتمس لك صديقًا عارفًا بالطريق،
قد مرَّ به قبلك، مختبرًا شعابه ووديانه، ومسالكه ومهالكه،
وإلاّ تاهت بك السبل، والْتوت عليك الطرق،
وأخذتك السرابات، وابتعلتك كثبان الرمل،
فلا أرضًا تقطع، ولا إلى هدفك تصل...
وأصعب الطرق، وأكثرها طولاً وامتدادًا، وأشدُّها مخافة،
هي تلك الطرق التي يحتفظ بها العقل في جمجمته،
وتختزنها الروح في مطاويها، لِمَنْ يريد الأسفار،
وينوي أن يكون رَحَّالة في العقل البشري والروح الإنساني.
فالرَّحالون في هذه الْمَظَانَّات العالية والسامية،
هم أصدقاء الإنسان ومعلّموه والآخذون بيده في الطريق،
وهم عينه التي يبصر بها، وقلبه الذي يفقه به،
وعقله الهادي، وبصيرته النافذة.
فالْتمسْ لك رفيقًا من هؤلاء الرحَّالة الذين يصدقونك ولا يكذبون،
ويعينونك ولا يخذلون، ويعطونك ولا يأخذون،
ويهدونك ولا يضلّون...
الهزيمة والانتصار
عقل مهزوم مضطرب حضاريًّا،
وإرادة منكسرة، ونفس ذليلة خانعة،
ويد ممسكة شلاّء، وقلب جبان خَوَّار،
وتشبث بالحياة أيِّ حياة،
ورعب من الموت، والشك بنصر الله...
كل هؤلاء كيف يمكنهم أن يتصدوا لجبروت الأعداء،
وأن يحفظوا وطنًا، أو يصونوا كرامة إنسان..؟
فئة قليلة العدد، كثيرة من الله المدد،
به تستعين، وعليه تتوكل،
تحقق النصر تلوَ النصر...
هكذا كان "داود" -عليه السلام- وهكذا كان جيشه،
فقضى على "جالوت" بأبسط سلاح، وأقلّ عدّة وعتاد...

*****

روح الجمال والإنسان
نفس الإنسان لوحة تشكيلية رائعة الجمال، شَكَّلتها يد القدرة الإلهية، ورسمتها بميزان دقيق، ونَاسَبَتْ بين ظلالها وألوانها، وَوَأَمَتْ بين القسمات والسمات، ورَفَعَتْ سَمْكَهَا، وعلتْ بروحها، وسمتْ بأشواقها، وارتقت بأفكارها، وألهبتْ خيالها، وأرهفت نظراتها، وهَذَّبتْ أحاسيسها، وأخصبت مشاعرها.
فلا جَرَمَ وهذا شأنها من الجمال أَنْ تأنس بكل جميل، وتنجذب لكل لمحة جمال، وتطرب لكلِّ نفحة ونسمة تنفح عنه، وتنسم منه... وهذه النفوس الطاهرة المطهّرة التي تنأى بنفسها عن عالم القبح والفساد هي أعلى أشكال الحياة الإنسانية لا يُعْثَرُ عليها إلاَّ في ظلّ حضارات ذات امتدادات دينية وخلقية وجمالية.
وهي تقوم بين الناس كمَعْلَمٍ من معالم الهدى ودعوة للنفوس الضعيفة والمتأخرة عن الصف لكي تلتحق بالركْب الإنساني المتقدم من أصحاب النفوس العظيمة والجميلة. فأمثال هذه النفوس تكسب الدنيا جمالاً، وتنهي إلى الأجيال القادمة نماذج عالية من الإنسان المتفوق كما ينبغي أنْ يكون، بل هي مرايا يرى الإنسان نفسه بقصورها وتخلّفها، فيتدارك ما فاته من فضائل النفوس ومحامدها... فكما أن العظمة لا يعرفها إلاَّ العظماء، فكذلك الجمال لا يعرفه أو يتذوّقه إلا أصحاب النفوس الجميلة..!

*****

مشيئة الله
يخطئ خطئًا كبيرًا مَنْ يريد حصر مشيئة الله تعالى في زمان دون زمان، وفي مكان دون مكان، وفي أمم وشعوب دون أمم وشعوب... فمشيئته تعالى مطلقة فوق حدود الأزمنة والأمكنة؛ فالزمن بكل أبعاده ذو بعد واحد -أو إنْ شئتَ قلت "بلا بُعد"- لدى مشيئته وقدرته. فمعجزاته وألطافه ورحماته كما جرت في أُمَمٍ وشعوبِ مَنْ قبْلَنا ففرّجَتْ كروبهم، وضمدت جروحهم، وآستْ آلامهم، وأعزّتهم بعد ذلّ، وأغنتهم بعد فقر، ونصرتهم بعد هزيمة، وقوّتْهم بعد ضعف، فكذلك يمكن أنْ تفعل الفعل نفسه معنا، فتنقلنا في لمح البصر من حال إلى حال، وتجعل من بعد ضعفنا قوّة، ومن بعد ذلّنا عزًّا، ومن بعد هزائمنا نصرًا، إذا تعرَّفنا عليه تعالى واستعنّا به، وتوكّلنا عليه..!

*****

فرَس وفرسان
الفرَس هذا الحيوان ذو البأس الشديد، والصلب المتين،
مقتحم الغمرات، ومسابق العاصفات،
وقادح الشرارات، ومثير الغبرات،
له في تاريخنا وثقافتنا مكان مرموق، واهتمام غير مسبوق...
على متنه خضْنا معارك الحق،
وعلى ظهره وصلنا أقاصي الدنيا، وطرقنا أبواب العالم القديم،
وتعرَّفنا على شعوب الأرض،
وتعارفنا وتآخينا وتسالمنا، وأخذنا وأعطينا...
والفارس في ثقافتنا كذلك،
هو رجل المهمّات الصعبة، وصاحب النجدات..
رفيع النفس، كريم الطبع، ذكي القلب،
شهم عفيف اليد، عظيم الإيثار، كثير العطاء،
روحه على راحته، ودمه على كفّه،
يموت ليحيا الآخرون، ويجوع ليشبع الجائعون،
ويسهر ويشقى ويعرى لكي يأمنوا ويشبعوا ويسعدوا..
وفرسان النور المقدامون، من كل مكان آتون،
ليفتحوا أبواب القلوب المغلقة، والعقول الموصدة،
وينشروا الأمن، ويشيعوا أجواء المحبّة والأخوّة والسلام...

*****

أمراض حضارية
بأكواب الموت المتكسّرة نشرب ماء الحياة،
وكثبانُ الرمال الحارقة والمتحرّكة
تأخذنا إلى الأسفل كلّما أردنا الحراك إلى أعلى،
وقيعان البحار المالحة تسحبنا لتسقينا الماء الأجاج،
والعلقم والصاب..
ونيرانُ مصائبنا المشبوبة يزيد شبوبها بمهراق دمنا فوقها..
ونحن حيارى لا نعرف ماذا نفعل، وكيف نفعل..؟
أدْنانًا من الخمور شربنا.. سكرنا وثملنا وتطوحنا،
تناولنا الحشيش، وأدْمنَّا المخدّرات،
وآلاف الليالي قضيناها على موائد القمار،
فازددنا جوعًا وفقرًا...
فزادت القتول، واكتظّت بنا المقابر والقبور،
وملأنا السجون والمستشفيات، والمأساة هي المأساة..
والحال هي الحال، وحُلَكُ الليل تشتد سودًا،
والمنارات صامتة لا تتكلّم، والأنوار كاسفة لا تنير..
والذين ينادون القلب ليستيقظ،
والحكمة لتكشف عن نفسها،
والإيمان ليبعث الأمل..
تضيع أصواتهم في ضجيج الأصوات،
وتُسَدُّ من دونها الأبواب، وتوضع الأصابع في الآذان..
والأيدي في الأفواه، وكأنّ الناس في صمم،
فلا يسمعون، ولا يستوعبون، وقلّما يفهمون...

*****

ابنة الطهر والبراءة
لو شئتِ أسكنتُكِ قلبي، وأجلستُكِ على عرش روحي،
وسقيتُكِ الندى، وألبستُكِ أوراق الورد،
وحَمَّمْتُكِ بدموع المطر، ونشَّفْتُكِ بعطر البنفسج..
لتبقي رمزَ الطهروالعفاف، والبراءة والنقاء،
وليَحْملَكِ كفُّ النسيم، ويطير بكِ مع الفراشات البريئات،
المحوِّمَات على حياض الروض، وإضمامات الورد..
يا ابنة البراءة هكذا ليتكِ تبقين،
وعن براءَتَكِ في قادم السنين لا تتخلّين،
يا ضوء العين، ونور القلب،
وبهجة الفؤاد، وربَّة العفاف والصون،
عساكِ هكذا تظلّين، وبلوثات الدنيا لا تتلوّثين،
وبأوساخها وأقذارها لا تتوسّخين،
وبرحيق الإيمان تتغذّين، وطريقَ الهدى تسلكين،
وفي دروب الصديقات تمشين، ومن حياتهنّ دروسًا تتعلّمين...

*****

الكتاب المبين
استمعوا وأنصتوا، وأخشعوا وتخشّعوا، وإذا قال فصدّقوا..
لا صوتٌ يعلو فوق صوته، ولا حديثٌ من حديثه أصدق..
آيات وَمِضات مُشِعَّات، في النفس والآفاق،
دَفَّاق الحياة، وضَّاء الجنبات،
سقَّاء الأرواح، هدَّاء القلوب، بعَّاثٌ من الأجداث،
في الأفواه رحيق، وفي الصدور أزيز،
بكَّاء العيون، تَوَّاب الذنوب،
بلاّل الشفاه، رَوَّاء العطاش،
من أقفاص المكان، وسجون الزمان، يطلق الإنسان،
وإلى ما بعد الأزمان يأخذه، وفي لجج الأبدية يقذفه،
وفي الأكوان يغرقه، وبربّ الأكوان يعرِّفه..
روح الوجود، ونبض العالم، وقلب الكون،
ووجدان الأرض والسماء، والليل والنهار،
مَنْ جافاه هلك، ومَن عصاه تَعَصَّتْ عليه الحياة،
وضاقت عليه السبل، وحارَ وحَيَّر،
ومَنْ أخذه بقوّة، نجا وأنجى، وعَلِمَ وعلَّم، وشاد وعمَّر،
والسلامَ على الأرض ألقى، والأمن والأمان أشاع ونشر...

*****

قبيل نهاية العالم
إذا ما قربتْ النهايات، وأزفتْ الآجال، والسقوط المريع بات وشيكًا، والتصدع الكوني، والزلزال الأرضي، أرهصت به الأرصاد، وقامت عليه الدلائل والعلامات، ودبيب الموت في كُلّ شيء بات يُسْمَعُ ويُرى.. عند ذاك تأتي الصحوة الكبرى المنتظرة، ويأتي الانبعاث العظيم، والانتفاض الهائل الذي يُسْمَعُ دَويُّه في كل أرجاء العالم، قتعود الروح تورق من جديد، والقلب يزهر ويفوح، والإيمان يتفتح وتضوع عطوره، والغبطة بالحياة تعمُّ وتنتشر، والدنيا تزهو وتتجمّل، والنفوس الجائعة للحق يأتيها الحق من كال جانب، فلا ظلْم ولا جَور، حتى ليسرح الحَمَلُ الوديع إلى جانب الذئب الكاسر.. لا قويّ يعدو على ضعيف، ولا ظالم ولا مظلوم، ولا فاجع ولا مفجوع، وتغدو الحياة محبَّبة إلينا، فنحياها بالطول والعرض، وننعم بها وتنعم بنا، وتنزاح الأستار عن أعظم بطولاتنا الروحية، وجواهرنا الإنسانية.. فنعود إلى الله تعالى بكامل صحتنا الروحية، وبأذهاننا العالية المتفتّحة، والرغبة في احتواء العالم في أسمى جوانب الذات، والوقوف مع البشرية في رسم خارطة الطريق نحو الأبد الأبيد، بتفجير طاقات الإرادات الحية عند الإنسان اليائس والمقهور، وفتح قنوات جديدة في الذهن لتوسيع مديات الإدراك والفهم، والشروع بتعلم تفكير جديد لم نعهده من أذهاننا من قبل.. وهذا هو العالم قبيل نهايته كما بشّر به الأنبياء عليهم السلام وأكّدته رؤى الأولياء..

*****

الخريف
نسمع همس الخريف وهو يسري إلى مسامعنا على استحياء من روحه المضنى الخجول، ويقف بيننا وقْفَة المأخوذ المسحور بما يحمل من طلائع الموت، معلنًا أنه قد أتى الدنيا بآية صغرى من آيات الفناء الأكبر الذي سيلفّ العالم ويطويه في يوم ما من أيام الله المشهودة.. فإنْ لم تكن -أيها الإنسان- تنظر وتعتبر وتتّقي، فذلك يعني أنك تفتقر إلى إحدى خصائص الإنسان في النظر والاعتبار.
ولئن كنتَ -أيها الخريف- تحمل إلينا نذر الموت والاندثار، غير أنك في الوقت نفسه تجيء إلينا ببشائر الانبعاث والحياة.. لأنّ كل شيء في هذا الوجود يحمل نقيضه وينطوي عليه، فلكي يحيا كل شيء لا بد أن يذوق ذائقة الموت أولاً، فالبذرة لا تصير شجرة مورقة ومثمرة إلا إذا ماتت وقبرت تحت التراب.. فإذا تكاثف الشرُّ وقويت شوكته وبلغ الأوج من القوة، فهذا إذن أوان عودة الخير من جديد.. وكل باطل يخفي في باطنه بذورًا من الحق يمكن أن تتسنْبل وتطلّ برأسها من بين الظلمات، وكل ضعف يحمل نواة قوة، وكل قوة تحمل نواة ضعفها.. وقد تصدر الكلمة الحية من بين رميم الكلام فتبلغ من القوة حدًّا يتجازو قوة ألف كلمة وكلمة.. وقد يصبح الجحيم الروحي الذي يصطلي به الإنسان في وقت من الأوقات طريقًا إلى باب الجنّة.

*****

اليد القارئة
خلق الله تعالى الحواس الخمس في الإنسان وسائلَ للعقل في اكتساب المعرفة واكتشاف العالم من حولنا.. والبصر واحد من هذه الحواس، ننظر به ونقرأ قرائح العقول المسطَّرة فوق القراطيس وقيما تحتويه الكتب والأسفار من كنوز الأفكار.. غير أننا معرّضون إلى فقدان البصر لسبب من الأسباب، فنفقد معه القدرة على القراءة التي هي وسيلتنا إلى مواصلة التعرف على ما يستجد في العالم من أفكار ومعارف وثقافات..
إن أعظم ما نزل من السماء على الأرض كلمة (اقْرَأْ)، فالإنسان مخلوق قارئ، أو مشروع قراءة طوال عمره.. فالقراءة تمثل الجزء الأرقى من كيانه الأعلى، ووجوده الأسمى... وحواسه الخمس تتضافر جهودها من أجل قراءة صحيحة للحياة والكون والوجود. فكل حاسة من هذه الحواس لها قراءاتها الخاصة بها، ومن مجموع قراءاتها كلها تتشكل المعرفة المبصرة بما يحيط به من كائنات وموجودات، فكما يقرأ بعينيه فهو يقرأ كذلك بيديه ورجليه ولسانه وشفتيه وأنفه وأذنيه... وبكل جوارحه ولطائفه الظاهرة منها والخافية. فالمعرفة لا تتأتّى للإنسان إلا من خلال قنوات هذه الحواس التي تصبُّ في نهاية المطاف في بوتقة العقل ليصوغها بعد ذلك فكرًا وسلوكًا..
فباستثناء العين المبصرة تبقى "اليد" بصولاتها وجولاتها أكبر وسائل قراءات الإنسان العملية في هذه الدنيا.. فاليد كما تقرأ بالسيف فإنها تقرأ بالقلم كذلك، فهي باطشة وآسية في الوقت نفسه، ومخرّبة ومعمرة، ومعطية وآخذة.. و"اليد العليا خير من اليد السفلى".. (إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ).. (وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ).. و"هات يدك يا محمد أبايعك".. وفي كفه صلى الله عليه وسلم سبّح الحصى، وانقلبت حفنة من تراب إلى قوة أرهبت أعداء الله وأخزتهم، ومن أصابع يده الشريفة انفجر ينبوع ماء، ويده أعادت عينًا مقلوعة إلى مكانها من وجه واحد من صحابته.
فهذه هي اليد وتلك هي فعالها.. بانية حضارات، ومشيّدات صروح، ومقيمة مدن ومدنيات.. وتلك هي قراءاتها، وتلك هي مكانتها من مجموعة كيان الإنسان الحسيّ والمعنوي...

*****

القلم
القلم سيف العقل، ورمح الوجدان،
وعلَمُ الروح، وهدية الرحمن للإنسان..
منشئ الحضارات، ومقيم المدنيات، ومُقوِّم الأخطاء والخطيئات..
مداده دم للحياة، وروح للأموات..
دبيبه على القرطاس، له صوتٌ ودَويّ،
ولسان سَويّ، وكلام ولغة، وعلْمٌ وهدى..
أفكاره على الرؤوس تيجان،
وعقوله هيبة وصولجان، وعلى النفوس سلطان..
داهم الضلالات، ومزيح الظلمات، وناشر الأنوار..
فتّاح المغاليق، وخرَّاق الأباطيل..
مجده عالٍ.. تخافه الملوك، وترتعب منه الجبابرة..
منذر بالموت، ومبشر بالحياة..
حمَّال أفكار الأقدمين، وحافظة كنوز الداثرين..
لولاه ما عرفنا تاريخًا، ولا تعلّمنا حرفًا ولا حروفًا،
ولا لغاتٌ قامت، ولا معارفُ دامتْ...

*****

حياة الروح
لا شيء أعظم نفعًا لتحريك قوى الإنسان الروحية من توجُّه الروح إلى بارئها سبحانه وتعالى بالدعاء والتضرع والتوسّل.. فهذا التوجه الخالص والمخلص يهيج أشجانها، ويبعث أشواقها، ويحرّك ساكنها، ويوقظ نائمها، ويلهب مشاعرها، ويستثير إحساسها، ويقوي انفعالها، ويشدُّ من عزيمتها.
ومعاناة الروح، ومرورها من بوتقة العذابات وهي تناضل من أجل الهدف الأخلاقي في الحياة، هذه المعاناة هي واحدة من أنواع البطولة التي تبقيها مشدودة الانتباه لما يحيق بها من أخطار.. فالركون إلى الراحة والنأي بأرواحنا عن خوض مثل هذه العذابات يعمل على انخفاض درجة الطاقات الحيوية فيها، ويقودها إلى نوع من الفتور والكسل والتبلد، فلا تفعل شيئًا ولا تنفعل بشيء، وهذه حالة من حالات الموت الأخلاقي والديني الذي ينبغي لأصحاب الرسالات الروحية تجنّبها.
فالقلق الذي ينتاب الروح هو دليل صحوة، وهو دليل عل أن هذه الروح بدأت تتلمس طريقها الصحيح بين شبكات الطرق والشعاب والمسالك.. فنحن لا نخاف من الأرواح القلقة، والمحترقة بقلقها، والمكتوية بنيران حيرتها، بل نخاف تلك الأرواح الثقيلة المستنيمة إلى نوع من الطمأنينة الخادعة والكاذبة، لأنها تغطّ في نوم عميق لا توقظها منه صواعق الحق، ورعود الحقيقة.
وخير للإنسان أن يشارك روحه العذاب والألم والقلق والبحث عن الحق، وأنْ يخوض معها تجربة المعاناة، ويدخل بها المصفاة التي تصفي الروح من أخطائها وأوهامها، وتجعلها مُصَفَّاة من كل الأكدار لكي تكون مؤهّلة لقبول الحق والتوجه إلى الحق تعالى.
وخير لنا أنْ نتخذ من آلامنا آلامًا لأرواحنا، فنؤلمها ونتألم لها، ونوجعها ونتوجع عليها، ونُبْكيها ونبكي معها.. أما إذا خلت الروح من المعاناة وغرقت في النوم والصمت، فصمتها مرعب، وسكونها مخيف، وفتورها عذاب، ونومها موت..!

*****

الإنسان المعرفي
الإنسان المعرفي هو ذلك الإنسان الذي يحاول أن يعرف نفسه التي بين جنْبيه، ويعرف العالم من حوله. والرغبة بالمعرفة نازع إنساني غريزيّ فطري، وهو دافع ملحّ يضطر الإنسان بسببه إلى البحث عن الطريق الموصلة إلى هذه المعرفة، فَيَجِدُّ في سلوكها وقطع أشواطها...
فالنقطة الفارقة التي عندها يتحول الإنسان من مجرَّد كتلة جسدية ثقيلة، إلى طاقة روحية وفكرية، هذه النقطة الفارقة هي عندما يخطو الخطوة الأولى في هذه الطريق فيغدو شكلاً آخر من أشكال الرقي الإنساني التي تتوخّى الإنسانية ابتعاثه إلى العالم من بين أبنائها لكي يكون تاجًا على رأسها تزهو به وتفخر أمام الكون والكائنات..
ولَمّا كان "المعرفي" بتميزه الفكري هو أكبر وأوسع مِمَّنْ يستطيع الناس العاديّون والتقليديون فهمه وحتّى احتماله والوثوق به، لذلك وكردّ فعل من جانبه- يبدأ بالانسحاب إلى أعماق من نفسه، ليمحص فيها أفكاره ويراجع معارفه وثقافاته، وقد يمضي في طريقه المعرفي وحيدًا متفرّدًا دون شعوره بالحاجة إلى البحث عن رواد كبار كانوا قد مَرُّوا بالطريق نفسها من قبلُ لكي يأنس بهم ويستعين بوجودهم على معرفة الطريق ومسالكها وشعابها وسهولها وحزونها.
فأهوال الطريق من الكثرة بحيث تتطلب من سالكها الكثير من اليقطة والانتباه، والكثير من الرفقاء الروّاد الملمّين بشؤونها وأبعادها، وإلاّ أصابه التعب وربما هلك وهو لم يقطع من الطريق إلاّ القليل.
ومن جانب آخر فإنّ تفرد "المعرفي" بنفسه في سلوك الطريق خطأ ذهني بالأساس، لأن الاستقلالية الفردانية وهم يقع فيه "المعرفي" لعدم التفاته إلى الحقيقة المشاهدة مما يحيط بنا من أن الأشياء لا يستقل بعضها عن البعض الآخر، وأنه لا يمكن فهم شيء إلا إذا اقترن وجوده بوجود شيء آخر، والإنسان كذلك لا يمكن أنْ يعرف ذاته حقّ المعرفة، إلا إذا اتصلت هذه الذات بالذوات الأخرى المختلفة معها وحتّى المتشاكلة معها.
والمفتاح الذي يديره المعرفي في مغاليق ما يواجهه من إيهامات معرفية، وإشكالات وجودية، وهو يقطع الطريق إلى هدفه، إنما هو -أي المفتاح- فَعَّالية ذهنية مضنية، تهزُّ أعماق مداركه، ليحظى من بعدها باللحظة المضيئة التي تضيء له معضلات الطريق، وترشده إلى وسائل تجاوزها، وهذه اللحظة المضيئة تتنزل على سماء العقل بعد مجاهدة ذهنية مضنية، كالنجم الثاقب من وراء الغيب لكي تعينه على مواصلة السير على نور وهدى ويقين.
و"المعرفي" بفعل ذلك مدفوعًا بقوى روحية وعقلية هائلتين، تقودان خطاه وتلازمانه في هذه الطريق، وتخلي هذه القوى عنه وتركه هناك وحيدًا يشكل إحدى أشد الانتكاسات التي تفجع "المعرفي" في أخص خصائص وجوده كإنسان متميّز ومتفوّق ونموذج مثال واقتداء في اكتشاف حقائق العقل واكتشاف ما تنطوي عليه الروح من عوالم لازال اكتشافها سرًّا من أسرار أصحاب عظماء الروح في هذا العالم.
وتتبع خطوات "رجل المعرفة" في الطريق التي يسلكها، تمنحنا شيئًا من الطمأنينة بأننا لازلنا أحياءً فكريًّا، وبأننا لازلنا نملك إرادةً تدفعنا لارتقاء الدرجات المعرفية التي ارتقاها والتعلم منها، وبأننا بهذه المتابعة نُكَفِّرُ عن الأيام التي انشغلْنا فيها عن اللحظات القدسية والانتشائية التي نحظى بها اليوم من خلال مشاركتنا لرجل المعرفة باهتماماته المعرفية العالية، والإعجاب ببصيرته المدركة النافذة إلى ماوراء هذه العالم والذي يجعل أذهاننا تستمتع إلى حد الانتشاء بالْتماعات أفكاره وانعتاقاتها من سجون الأرض الدنيا إلى صروح الروح التي يقيمها من مقالع فكره وروحه.. وأقلُّ ما يمكن أن تفيدنا هذا المتابعة لرجل المعرفة هو الخلاص من سأم البطالة الفكرية المدمرة، أو الوقوع في شباكات اللغط الفارغ الذي يراد ملْأُ أذهاننا به.

*****

هواتف الغيب
المعنيُّ الأول والأخير من هواتف الغيب إنما هو الإنسان.. هذه الهواتف التي لا تتوقف أسلاكها عن الاهتزاز وهي تهاتف الإنسان في كل وقت وحين، ملهمةً وهاديةً وموجِّهةً تارةً، ومبشرةً ومنذرةً تارةً أخرى..
غير أنَّ أصحاب الأسماع الثقيلة المحشوّة بأطنان الكلام من اللغْو واللغط قد يستغربون ذلك، وقد ينكرونه، لأنهم عاجزون عن الإنصات والاستماع، وقد تمضي الغفلة بأيِّ إنسان إلى الحد الذي يمنعه ويحول بينه وبين التأمل والتفكر في نفسه (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ)(الذَّارِيَات:21).. فالقليل من التأمّل في نفسه سيكشف له أنّ الغيوب تغشاه من كل جانب، فهي تحيا به ويحيا بها، ولشدة قربها منه لا يكاد يبصرها.
فالإنسان في حقيقة أمره غيب قائم في غيب، ولكن في قالب شهودي.
أفليس "الضمير" الذي يعول عليه الإصلاحيّون في إصلاح البشرية شيء غيبي لا نعرف شيئًا عن ماهيته، ولا عن ندمه إذا ندم، ولا عن آلامه إذا تألم وحزن، ولا عن قوّته إذا حاسب صاحبه واشتدَّ في حسابه إلى حد الهلاك، أو إذا اطمأنَّ وجعل صاحبه ينام قرير العين هادئ البال..
و"القلب" هذا العالِم والفقيه والمفكّر والهادي والمضلّ، أليس هو الآخر شيئًا يلفُّه الغموض، وتكتنفه الأسرار، لا نعرف كنهه ولا نعرف إذا حزن كيف يحزن، وإذا اشتاق كيف يشتاق، وإذا أحبَّ كيف يحب، وإذا ابتهج كيف يبتهج ويُسرُّ..
و"الروح" قدس الأقداس، أليست هي الأخرى غيبًا فوق كل الغيوب، تلج غيب الإنسان لكنّنا لا نعرف كنهها ولا ماهيّتها، ولا كيف تعمل في دواخل الإنسان وكيف تكون للإنسان بصرًا وبصيرة ونورًا وهديًا...
و"الرؤى والأحلام" ما يصدق منها كيف يصدق، وما لا يصدق لماذا لا يصدق..
والحدس والفراسة والعقل والمشاعر والأحاسيس والإرادة والخيال والتكهّن والتبصّر... إلى آخر هذه المغيّبات التي تشكل بمجموعها عالَمًا غيبيًّا قائمًا -كما قلنا سابقًا- في قالب شهودي...
إن هذه الغيبيات المكتنفات للكيان الإنساني هي التي تجعل حياته ذات قيمة في موازين القيم، ومن دونها تبقى التفاهة هي الأدقّ وصفًا لحياة الإنسان.. وهذه الغيبيات الصغرى التي تشكل القسم الأعلى من الكيان الإنساني إنْ هي إلا ترشحات من الغيب الأعظم والأقدس الذي يطوي الغيوب كلها في قبضته، وهي دليل عليه وحجة له على بني الإنسان، وإلزام إيماني لهم وتبديد لأيّة شكوك بمآل الإنسان الغيبي النهائي..

*****

ضيوف الأرض
نحن البشر هبطنا على الأرض، ونزلنا بساحتها، ونصبنا خيام إقامتنا فوق ظهرها.. فلم تنكرنا، بل أكرمتنا وبالغت في قِرانا، وواست غربتنا، وأكرمت وفادتنا.. فصار لزامًا علينا أنْ نبادلها الإكرام، وأن نتقرّب منها، ونتعرَّف عليها، ونقرأ ما بين سطورها ونتعمَّق في قراءتنا، ونتعلَّم منها، ونفيد ممّا تعطينا... وهي -أي الأرض- حين تكلمنا تفصح أحيانًا، وترمز وتشير أحيانًا أخرى، ثمّ تتركنا لنستخدم مواهبنا وقدراتنا في حَلِّ الكثير من ألغازها وطلاسمها، وتفسير ما غمض من رموزها، وما خفي من إشاراتها... والذين يعيشون على ظهر الأرض بلا مبالاة ولا يشغلهم هَمُّ القرب منها والفهم عنها، فإنهم بالتأكيد قليلو الاحترام لعقولهم، لذلك كثيرًا ما تهتزُّ الأرض وتتزلزل من تحت أقدامنا احتجاجًا على جحود الإنسان وإساءة الأدب معها، بما يُرْتكب فوقها من آثام وذنوب، وما يستعر بين الناس من نيران العداوات والخصومات والحروب والدماء، وكأنّنا قد جئنا الأرض لكي نحوّل ما عليها من حياة موتًا، وما فوقها من مياه دمًا، وبدل أن تكون مرتعًا فائضًا بالجمال غدت بفعل حماقات الإنسان مكانًا كالحًا يفيض بالأحزان والآلام.
وأرضنا الحنون لا تنفك تبعث بنداءَاتها إلى البشر الساكنين في كنفها وتقدم لهم "الشجرة" كنموذج ورمز لهذا التماسك الحميمي بين كل جزء من أجزائها، من الجذر والساق إلى الأغصان والأوراق.. وتدعوهم لكي يتخذوا من الشجرة أستاذًا ملهمًا يتعلّمون على يده كيف ينسجون من توحدهم وتماسكهم، ونبْذ عداواتهم، نسيج محبّة ومودّة وتعاون وتساند، وأن يصغوا إلى إلهامات الروح التي تكمن في صميم كل كائن حي، وهي تدعوهم ليرتفعوا فوق الجانب السفلي من كيانهم البشري ويرتقوا إلى جانبهم العلوي الذي يحقق لهم ما يطمحون إليه من الطمأنينة والسلام.. فكم هو مدهش أن نتعلم من "الشجرة" العقل والحكمة والشجاعة الأخلاقية التي تجعلنا ألاّ نستنكف من التعلم من كل شيء على هذه الأرض نباتًا كان أو حيوانًا أو جمادًا، ففي كُلِّ معنى ومغزى يكتشفه المتيقّظون ويغفل عنه الغافلون.
آثار نبي الله محمد -صلى الله عليه وسلم-
ارتقينا الأسباب، وعَلَونا هامات التاريخ،
وجئنا الماضي نقرع أبوابه،
ونستفتح آفاقه، ونستدعي أعلامه ومعالمه..
فإذا به قائم شاخص في نبيّ إنسان، لازال يحيّي بالسلام،
بنبض العالم نبضُه موصول، وبروح الوجود روحه موجود..
أشياؤه.. آثاره.. بقبسات من نوره تتلألأ، وإلى قلوبنا تشقُّ الطريق،
فَتُهيج منّا الأرواح، وتُدمعُ منّا العيون،
وتنهال علينا الذكريات،وتتراءى في خيالنا صور العظمة والبطولات؛
هذا سيفه، وتلك درعه، وهذه خوذته،
لكنه للحرب لم يأتِ ولم يبعث، بل للسلام بُعِث،
سَالَمَ فأبَوا، أحبَّهم وكرهوه، مدَّ يده فقبضوا عنه أيديهم،
وَادَّهم فجافوه.. سالمهم فحاربوه.. أشفق عليهم فقاتلوه..
أتُرَانا قد رأينا، وذكرنا واعتبرنا، وعزائمَنَا ابتعثنا،
وإراداتِنَا سَعَّرنا، وأقْسمنا وتعاهدنا..
هذا الماضي منه نفيد، وعن سننه لا نحيد،
نصون شرفه، ونحفظ عرضه، ونجدِّدُ شأنه..
في صدورنا نقيمه، في ذمّتنا دَيْنُهُ، نعمل ونكد،
لنوفي الدَّين، ونُسَدِّدُ الطلب، ونأتيهِ بالعجب..
نولج نهار الماضي بليل الحاضر،
والجدارَ الذي يريد أنْ يَنْقَضَّ نقيمه، والصرحَ المائلَ نعدله،
ومن مقالع أرواحنا نبني القلاع،
ونشيّد الحصون، ونسدُّ الثغور...
هذا محمد -صلى الله عليه وسلم-، وتلك آثاره..
به أرواحنا هامت، وعقولنا تحيّرت وتولّهت..
من أين أتيتَه أخذتْك الهيبة والعجب..
كلامه سلسبيل إذا بشَّر، وقوارع إذا أنذر،
ورحمة ورأفة لمن آمن وأسلم..
إنه محمد -صلى الله عليه وسلم-، ابن الإنسانية البار، ونبي الأقدار، وقاصم كل جبَّار،
ورافع راية السلام، فوق الأرض والأنام...

*****

أرضنا بلا سلام
هذه الأرض المسكينة الصابرة المحتسبة،
ما وجدت منذ آدم -عليه السلام- وابنيه قابيل وهابيل يومًا تنعم فيه بالسلام،
وكأنّها خُلِقَتْ لتكون شاهدة يومَ الدينونة
على ما يسفح فوق ظهرها من دماء،
وما يسكب من دموع، وما يرتكب فيها من خطايا وآثام..
فالبشرية اليوم تتفانى فوقها، يفني بعضها بعضًا، ويأكل بعضها بعضًا.
وشلاّلات الدم تتدفّق، والآلام تتفاقم، والفواجع تزداد..
وكل صباح جديد بمأساة جديدة يأتي،
فيصبُّ العذابات فوق رؤوسنا صبًّا،
فَتَغَصُّ حلوقنا بالآلام، وتنشقُّ مرائرنا بما نسمع ونرى..
وحتّى الحمائم في الأجواء وفوق الشجر،
حزينة لأحزاننا، باكية لبكائنا..
فهي تهدل بالسلام، وتغنّي للسلام، وتشير للسلام،
وترمز إليه بما تحمله بمناقيرها من غصون الزيتون..
ولكن الإنسان لشدة حماقاته لا يفهم الإشارة، ولا يلتفت للرمز..
فيا ويل الإنسان من القادم من الزمان،
إنْ هو ظَلَّ في غيّه سادرًا، وبالدماء غارقًا، وللجرائم مرتكبًا،
فلعلّ ساعته قد قربت، وأجَل قيامته قد أزف...

*****

أطفال الأرض
ما وقعت عيناي على مجموعة أطفال يلهون ويلعبون، وإلا ودمعتْ عيناي وزاد خفق قلبي وهفتْ روحي وتمنّيتُ لو أُرَدّ وأعود طفلاً غريرًا ألهو وألعب معهم..!
إنهم مجموعة من اللطف الربَّاني محرومون بذنوبنا منه، وباقة زهر متعددة الألوان من مزروعات الرحمة الإلهية..
هم أحباب الله وأقرب خلقه إليه، لو رفعوا أكفَّهم إلى الله لعادت مفعمة بهداياه سبحانه وتعالى، والبلايا إذا نزلت وجاءت الأقدار تحملها رجعت إلى ربّها بالاعتذار وهي تقول: صدَّتني عن الأرض براءة هؤلاء الأطفال، فقفلتُ راجعةً من حيث أتيت..
ولكن إذا هاجَتْ همجيات الإنسان، وعوتْ ذئاب مصّاصي الدماء، وكشّروا عن أنيابهم، سكت العقل، وماتت الحكمة، وغابت الرحمة، وجاءت القسوة تسعى، ومات الضمير، واختفى الوجْدان.. لم يعد للطفولة مكان ولا لها اعتبار، أو محبَّة أو إشفاق..!

*****

قلب الأُمّ
يا قلبَ الأُمِّ..!
ما أشفقك من قلب، وما أرحمَك من فؤاد،
وما أحناك على وليد، وما أبرَّك بعاقّ،
وما أصبرَك على ألم، وما أجزعك على متألم،
وما أسمحك مع مذنب، وما أرأفك بخائف،
وما أوسعك بلائذ، وما أكرمَك بمعدم،
وما أحزنك لحزين، وما آلَمَك على مريض..!
ومما يحكى عن قلب الأُمّ أنَّ ابْنًا عاقًّا حمل قلبَ أُمِّه على كفِّه وهو بشخب دمًا فإذا به يتعثَّر في مشيه ويكاد يسقط على الأرض، فإذا بقلب أمّه يقول جازعًا: "حاذرْ يا بني.. وقيتَ كل سوء"..!
هذا هو قلب الأمّ قبسة من قبسات الرحمة الإلهية،
فهو منبع رحمة وحنان ولطف ورقّة وشفقة وإشفاق..
ولذلك جاء في الحديث الشريف:
"الجنّة تحت أقدام الأمّهات"..
فالجنّة رحمة، وقلب الأم رحمة،
والرحمة إلى الرحمة منجذبة، وإليها متشوّقة..!

*****

محنة المفكّر
المفكر ذو الفكر الخالص يعيش في غربة واغتراب عن نفسه التي بين جنبيه، فينأى عنها ويستوحش منها، ويكاد لا يعرفها أو تعرفه؛ لأنه مشغول بأفكاره، غوّاص بها، يقلّبها رأسًا على عقب، وينظر إليها من جوانب مختلفة ووجهات متعارضة.. يتنقل بها من حالة ذهنية إلى حالة ذهنية أخرى؛ يقوّم أحيانًا، وينقد أحيانًا أخرى، يعدِّل معْوجّها، ويصحح مخطئها، في فوران عقلي انفجاري يكاد يُسْمَعُ صدى صوته في رؤوس العالمين.
والمفكر في امتحان ومحنة، وشقاء وعذاب، بتآكله عقله.. وتطعَمُهُ نيران أفكاره، فلا يجد وقتًا للراحة والاستجمام والاسترخاء، فهو في توتّر عقلي لا ينفك عنه، ولا يتركه أبدًا، فيدور معه حيثما دار، ويصحبه في حِلِّه وتَرْحاله، وهذا التوتّر العقلي الدائم يعمل تدريجيًّا على صهر أفكاره في بوتقة واحدة، لكي تتجوهر في الأخير في فكرة واحدة يعرف بها المفكر، وتصبح سمة من سمات فكره، وعلامة عليه، وخاصية من خواصه لا يشاركه فيها غيره، بها يُعْرَف، وبها إليه ينظر...
وفي تاريخ الفكر والمفكرين لا نعدم أن نرى مفكّرين كبارًا أمضوا أغلب سني أعمارهم في هذا الأتون الفكري ثم خرجوا على العالم بفكرة عتيدة هي محور كل أفكارهم، وهذه الفكرة الفذَّة هي أثقل في ميزان الأفكار من ألف فكرة وفكرة... وقوة الفكر من قوة العقل، والعقل هبة من هبات الله سبحانه وتعالى للإنسان لكي يعرفه ويعبده.. وقوته -أي العقل- إنما هي تجلٍّ من تجلّيات اسمه تعالى "القوي" لكي يحسن التفكير والفهم عن الله تعالى وعن آياته في الإنسان والكون والحياة.. وهو وإن كان يكابد ويعاني إلاّ أنه لا يستبدل ما يجده من لذاذات التفكير بأية لذاذات أخرى.. وقد أدرك المتنبّي الشاعر الفذ هذه الحقيقة حين قال:
ذو العقل يشقى في النعيم بعقله وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم.

*****

حلِّق وارتفع
تسلَّقْتَ عاليًا، ووجدتَ في علوّك قوة روح، وسُموّ إرادة..
ركِّزْ نظرك إلى الأعلى دائمًا، وإلى الخلف لا تلتفت..
فإنّ الذين يعلون، ثم إلى الخلف ينظرون،
بالدوار يصابون، وإلى السقوط يصيرون..
إنْ كنتَ عن الأعماق تفتّش، وعن اللُّبّ والجوهر تبحث،
فالسماء هي عمقك الذي تبغي،
وفي أعماقها تجد لُبَّ كل شيء، وجوهر كل شيء..

*****

لا تخف..
ففي جناحيك قوة إنْ استخدمْتَها طارت بك إلى حيث تريد..
ولك إرادة لو امتحنتها فتحت لك الأبواب، وقرّبتْ إليك الأبعاد...
ساميًا خُلقت، فعن السموِّ لا تتخلَّ،
ومن علٍ أتيتَ، فعن العلوّ لا تتنزَّل..
حاولْ مرةً بعد مرَّة، وعن المحاولة لا تكف..
إنْ عصفتْ بك العواصف، واشتدَّتْ من حولك الرياح،
فحلّقْ عاليًا لتشهدَ تحت قدميك رياح الإحباط وقد صارت بددًا،
وعواصف الابتلاء وهي تمضي هدرًا...

*****

الفضاء وطنًا
لو رُحْتَ تبني فوق القمر بيتًا، أو تشيد على كوكب المريخ مدينة،
وأردتَ أن تغادر الأرض، وتستوطن أداني الفضاء أو أقاصيه..
ولكن عن نفسك الدنيوية لم تنسلخ،
وعن عقلك الشيطاني لم تتخلَّ، وأوزارَك عن كاهلك لم تلقها،
ولم تنزل الفضاء كيوم ولدتْك أُمُّك،
فما فعلتَ شيئًا.. وكنتَ ضيفًا على الفضاء ثقيلاً،
بدنسك تدنّسه، وبآثامك تثقله، وبسفكك للدماء تغرقه..
غيِّرْ نفسك، وطهّر ذاتك، وتخلّص من ذنبك،
ثُمَّ امضِ حيثُ شئتَ من الأرض
 أو من السماء، ضيفًا مقبولاً تكن، وأهلاً تنزل، وسهلاً تطأ...

*****

شواطئ القلب
هذا القلب، معجزة الخلق، وأعجوبة الأعاجيب،
محيّر الألباب، ومدوخ العقول،
سلطان الإنسان، والحاكم على الجوارح والأبدان،
خفي الماهية، غامض الهوية،
سرُّ الأسرار، عالَمٌ بلا أسوار، غيب الغيوب،
إذا أضاء فالخافقان ضياء،
وإذا أظلم فهو الليل الألْيل، والظلمة الأكثف،
والتيه الأرعب، والضياع الأخوف..
كم على ضفافه الخضر جلسنا، وفوق روابيه أقمنا،
وصبرنا وصابرنا، ونظرنا واستشرفنا،
وبحرّ أشواقنا احترقنا، ولرذاذ موجه تعرضنا، ومن حَرِّنا ابتردنا،
عسى مَوْجَةٌ من وراء "الماوراء" تقدم، وضفافَ القلب تلمس،
وعطشه تروي، وليله تضيء، ومنارةَ هدًى له تكون...

*****

الكون شعر موزون
كونيًّا ينبغي أنْ تكون.. سماوي النظر، علويَّ الفِكَر،
بالعالم موصولاً، وإليه مشدودًا،
سَوَّاحًا رحَّالاً، في أعماقه غواصًا، وفي مجاهيله جوَّالاً،
لا تفاوتَ في خلقه ولا فطور..
شعر موزون.. قوافيه النجوم، وتفعيلاته الأجرام والسُّدوم..
إذا أصغيتَ إليه بهرتْك ألحانه، وأسكرتك موسيقاه،
بسمفونية لَحْنيَّة، لا نشاز ولا خلل،
جمالي التكوين، حسنوي الخَلْقِ والتسْويَة،
جلالي الهيبة، فخيم العظمة، باهر الهندسة،
آياتٌ جلية، وإشارات عليَّة، من الرحمن للإنسان هدية،
ليقرأ ويتدبّر ويتعلم، ولله يشكر ويتعبَّد...

*****

الطفل المثال
لو قيل للبراءة:
في مثالٍ تمثّلي،
وفي إهابٍ جسمانيٍّ تشكّلي..
لقالت:
الطفل مثالي،
ومُجَسَّمي ومشكاتي ومرآتي،
مَنْ رآه فقدْ رآني..
فيه أسكن، ومنه على العالم أطلُّ،
ونورًا أشعّ، وندًى وعطرًا أَنُثُّ وأرُشُّ..
هو روحٌ من روحي، وقبسة من نوري،
ولمسة حنانٍ من لمساتي، ونبض حياة من حياتي..
من غير الطفولة ييبس العالم، وتجفُّ الرحمة،
ويندثر الحنان، ويُقْبَرُ الوجدان، وتموتُ مشاعر الإنسان...

*****

الماشي في الظلمة
يا ماشيًا في الظُّلَم، يا قاطعًا القَفْرَ واليبابَ،
التّيه قد فَغَر فاهُ لابتلاعك، والضياع قد فتح شدقيه لمضْغك،
أينَ تمضي ولا نورَ معك،
ولا هاديًا يهديك، ولا عارفًا بالطريق يدلّك.؟!
عُدْ من حيث أتيت، والْتمس في الظلمة نورًا،
وفتّش عن صاحبٍ وخليل، خبير بالطريق، عالم بمهالكه..
يأخذ بيدك، ويسلك معك، ويمشي قُدَّامَك..
بذلك تكون آمنًا، ومن الهلاك ناجيًا...

*****

من جديد لن ننخدع
مرةً أخرى لن ننخدع.. لن نُسْلمكم قلوبنا لكي تفسدوها،
ولن نضع بين أيديكم أرواحنا لكي تميتوها،
ولن نُسْلمكم زمام عقولنا لكي تخرّبوها..
مرةً أخرى لن ننخذع لكم، ولن نطمئن إليكم،
وأساتذة لنا لن نقبلكم، وهداةً لنا لن نتّخذكم..
لقد بلوناكم وامتحنّاكم، وأدركنا أنّكم معاول هدم لا بناء،
ورسل تخريب لا تعمير..
تهدمون كُلَّ مُشَاد، وتفرّقون بين كل مُلْتئم،
تجزّؤون المجزأ، وتفكّكون المفكك..!
تنحَّوْا عنّا، وابتعدوا مِنَّا، مرةً أخرى لن ننخدع بكم...

*****

المؤمن والشيخوخة
وحدة وغربة، وشيخوخة وكربة،
ووهَنُ عظم، واشتعال شيب،
محبط مثبط، قعيد هَمٍّ، نزيل حزن، ناظر موت،
مشلول الإرادة، مكبَّل العزيمة...
صامت لا عن خرس، ساكن جامد لا عن موت،
وكأنه ميت قبل أن يموت، ومقبور قبل أن يقبر...
لا.. ما هكذا المؤمن يكون، قلبه بالله موصولا، وعليه متوكّلاً،
وأمله به لا ينقطع، واستمداده منه لا يتوقف..
يأمل ويعمل، وبه يأنس، ولو قامت قيامته، وبيده قسيلة..
فإنه في الأرض يثبتها، وبآماله يسقيها، وللأجيال القادمة يحتسبها...

*****

البيضة الوحيدة
كواسر الطير،
حولَ بيضَتِكِ الوحيدة تُحَوِّم،
تتصبَّر وتنتظر،
حتّى إذا نقف الفرخ المسكين،
وبرأسه من قشرة البيضة أطلَّ،
وأنفاسَ العالم الجديد تنفَّس،
انقضّت عليه العقبان والنسور،
وتخاطفته من كُلّ جانب،
وبمخالبها الحادّة أطبقت عليه،
وإلى الأعالي حملته،
ولمناقيرها المعقوفة طعامًا جعلته،
وبحواصلها القوية سحقته،
والأُمُّ المفجوعة، تنظر وتتألم،
مُزَعًا وأشلاء فرخها الوحيد يتحول،
لا صولَ لها ولا قوة، لتدفع عنه، وتذودَ الطيرَ عنه،
فتصبر وتأمل، وإلى ربّها تشكو وتتضرع،
وسنَةً أخرى تنتظر، لتبيضَ بيضتَها الوحيدة، وفرخها الوحيد،
ليكونَ لقساة الطير طعامًا من جديد...

*****

ميلاد عالَم الجديد
إذا كان من عادة العالَم أنْ يلد في كلّ عدّة قرون عوالم جديدة أخرى، فإنّنا -وجريًا على العادة نفسها- ننتظر ميلاد عالَم جديد يكون فيه للروح والإيمان شأن عظيم، وللمادية والإلحاد انحسار وتخلّف واندثار... وإنْ كان لكل فعل ردُّ فعل مساويًا له بالقوة كما يقول العِلْم، فإنّ الفعل المادي الإلحادي الذي يكاد يغطّي معظم أرجاء العالَم اليوم، فإنّ نقيضه ومضادّة سيكون الدين والإيمان ومعرفة الله تعالى. وبشائر هذا العالم الإيماني الجديد بدأت تتراءى لنا من بعيد أحيانًا، ومن قريب أحيانًا أخرى، كما يتراءى الفجر الكاذب الذي هو بشير مجيء الفجر الصادق، وهذا الفجر الصادق آتٍ لا محال، وإنْ تأخّر بعض الشيء غير أنه قادم، وإنّ غدًا لناظره لقريب...

*****

القوّة والضعف
ضعفك وذُلُّك وخنوعك، لا يرقق قلوبَ الأعداء الأقوياء عليك، بل بالعكس فإنّه يزيد من شهيّتهم في الفتك بك، والانقضاض عليك، كما يقول الأستاذ "النورسي" رحمه الله. وهذه حقيقة مشاهدة وملموسة فيما يحيط بنا من وقائع وأحداث يومية، حيث تزداد وحشية الأقوياء ودمويّتهم إزاء الضعاف الأذلاّء الخائفين من بني البشر.
فلا غروَ والأمر المشاهد هكذا أن نرى بعض فلاسفة الغرب ومفكّريه، يشيدون بالقوة، ويسبّحون بحمدها، لا بل ويُنشئون دُوَلاً ويربُّون أجيالاً على تعاليمها وأفكارها، وإذا كان الجهل ضعفًا مركّبًا والعلم قوةً مضاعفةً فحريٌّ بالأمم الضعيفة أنْ تتجه إلى العلم بكل طاقاتها، فإذا هي تعلّمت أمسكتْ بزمام القوة وقويت، وإذا هي قويتْ فهيهات أن يتحرّش بها متحرش أو يريدها بسوء صاحب شرٍّ وسوء.

*****

الخائف من الكون
يخاف من الكون، ويصاب برعبٍ جنوني حين يضع نفسه بضآلة جرمه، وصغر شأنه، وقصر قامته إلى جانب الكون بعظمته وفخامته وكبره وسعته، فينتابه شعور بأنه لا يزيد عن كونه نملة بشرية تسعى على رزقها في مجهول من مجاهيل الأرض لا يُحسُّ بها أحد، ولا يشعر بوجودها مخلوق.
وهذا شعور جنوني يشعر به الإنسان المبتوت الصلة بربِّ الكون، وإله الوجود. فأين منه ذلك الإنسان الذي يَعْتَزُّ بوجوده، ويشعر بأهمّية خلقه، وخلافته في الأرض عن ربّه، وتكريمه له، وسجود ملائكته لعلوّ شأنه، فإنه ينظر إلى الكون نظرته إلى صديقٍ حميم، ومصاحب ورفيق، وأنه هو والكون صنوان، يعيشان معًا، ويموت أحدهما إذا مات الآخر، وأنّ القيامة عليهما كليهما تقوم في ساعة واحدة، وأنهما سيتبادلان الشهادة أحدهما على الآخر أمام ربّهما..!

*****

ابدأ من جديد
إذا تزلْزلتَ وانْتَكَسْتَ، وتهدَّم ما بنيتَ، وضاع ما ادَّخرْتَ..
فلا تجعل لليأس إلى نفسك سبيلاً،
ولا للإحباط طريقًا نحو هِمَّتك وإرادتك..
بل جَمِّعْ شتاتَ نفسك، واحشد قوى روحك،
وفجِّرْ كلّ طاقاتك، ما ظهر منها وما خفي،
ومن جديد ابْدأ البناء، ومن تحت الأنقاض قُمْ وانْهَض،
وعن ساعد الجِدِّ شَمِّرْ،
فأنت بالإرادة إنسان، وبالهمَّة القعساء بطل من الأبطال..
فالبطولة لا تنهزم،
وإن هي خَسِرَتْ معركة إلاّ أنها لم تخسر الحرب كلها..
عُدْ من جديد، واشْحَذْ قواك، وحدَّ ذكاءَك،
وابتعث الأمل، واستقبل التحدّيات بشجاعة قلب،
وبقوة إرادة، وبتصميم على النجاح...
إنْ فعلت ذلك أتاك النجاح راكضًا، وأقبل عليك راشدًا...

*****

قساة البشر
لا أدري كيف يستطيع إنسان له في الحضارة قدم راسخة أن يمضي في نوم هادئ وهانئ وهو يسمع أنَّات الجوع يطلقها أخٌ له في الإنسانية من غير أن يجد مبرّرًا أخلاقيًّا وإنسانيًّا ليمدّ له يد المساعدة بشيء يسدُّ الرمق، ويبقى على بقايا حياته.
وكيف يستطيع إنسان له قدم صدق في الإنسانية أنْ يجلس متدثّرًا بمعطف من "الفرو" الخالص على أريكة مخملية، بينما يرى أخًا له في الإنسانية تصطكّ أسنانه من البرد وهو يفترش الأرض ويلتحف السماء، ثم يدير إليه ظهره ويمرُّ به مرورَ مَنْ لم يسمع ولم يَرَ.
إن البشرية نسيج واحد، وأيُّ نكث لهذا النسيج وفي أي جانب من جوانبه هو نكث لخيوط النسيح كله، فقد تؤتى البشرية بمن يهتك هذا النسيح من قبل فرد من أفرادها، فالكل البشري مسؤول عن الفردي منه، والفرد مسؤول عن الكل، مسؤولية تضامنية تماسكية، ومن هنا جاء تأكيد القرآن على أنّ مَنْ قتل نفسًا من غير وجه حق فكأنما قتل الناس جميعًا، ومَنْ أحياها فكأنما أحيا الناس جميعًا، فالكل عن الجزء مسؤول، والجزء عن الكل مسؤول.
فالفقر والجوع والمرض المعشش في كثير من شعوب الأرض اليوم هو سبب من أسباب ما يعانيه الكُلُّ البشري من شقاء وعذاب على الرغم من التقنيات والتكنولوجيا والمسليات والمهدئات وحتى المخدّرات، لأن الشقاء يعُمُّ الغنيّ والفقير، والقوي والضعيف، والمتعلم والجاهل.
فما لم تتضامن البشرية بمجموعها مع هذه الشعوب وتاخذ بيدها، وتنقذها من الشقاء الذي تعانيه، فسيظل هذا الشقاء يضرب بأطنابه في كل مكان من هذه الأرض.

*****

مفاتيح القلوب
تحيط بالإنسان في هذا العالم "مغاليق" تخفي وراءها عوالمَ خفية، وقد يدفعه الفضول الغريزي فيه إلى السعي للكشف عنها، والتعرف عليها.. ويظلُّ القلب البشري هو أعصى هذه المغاليق على الفتح والكشف، لأنّه عالَمٌ تنطوي فيه عوالم، وتختفي فيه أسرار وطلاسم وغوامض.
فاستعصاؤه على الفتح يناسب نفاسة ما يحتويه من كنوز يمكن أن تجد فيها البشرية ما تسعد به أزمانًا طويلة، وإنه من الغبن لهذا القلب والإحجاف بحقه أنْ يغدو مشاعًا يغرف من كنوزه مَنْ لا يفرق بين الحصى والدُّرر، وبين التبر والتراب... فأصحاب القلوب هم وحدهم الذين يملكون مفاتيح القلوب، وأفضل هذه المفاتيح هو مفتاح "الحب"، فبهذا المفتاح يمكن للمحبّين أن يديروه في أعصى مغاليق القلوب، فإذا بها تنفتح أمامهم على مصاريعها، وتسلس لهم قيادها، وتُسْلِمُهُم زمامها، وتضع بين أيديهم أسرارها وكنوزها، وتكشف عن عوالمها.
فالمحبّون بلهب المحبّة الذي يستعر في قلوبهم قادرون على أن يصهروا كُلّ مغلاق قلب ولو كان من "فولاذ".
فرجل القلب أولى بالقلب من غيره، لأنه أقدر على فهمه، وأقدر على معرفة الأبواب التي يلج منها إليه.

*****

أحضان السماء
عيوننا -نحن البشريين- دائمة النظر إلى السماء إذا داهمتْنا الأحزان وأثقلتنا المصائب، وَقَلَّ في الأرض المواسي والمعزِّي.. وهذه العيون نفسها تعود مرَّةً أُخرى تتطلع إلى السماء عندما تتهاطل علينا نجوم المباهج من كل مكان، فلا تكاد تسعها الدنيا، فنتوجه بها إلى السماء التي تسع كُلَّ شيء.. فأقسامنا العلوية من أجسامنا الأرضية مخلوقة فينا لكي نكون سماويي النظر في سائر أحوالنا، وتقلبنا بين الأفراح والأتراح، وكأنّ هناك عمودًا نورانيًّا غير منظور ولا ملموس يربط بين وجوهنا وبين الأعالي، ويقينا النظر إلى التحتيّات والسفليات التي تعمي الأبصار والبصائر.

*****

الطفولة المعذَّبة
نياط قلوبنا تكاد تتقطَّع، وأكبادنا تتفتّت،
ومرائرنا تنشقُّ، ودموعنا تنهلُّ،
ونحن نرى أطفالاً بالدمع غارقين،
آلامًا يتجرّعون، وعلى الأحزان يقتاتون،
أسمالاً يلبسون، وحفاةً على الشوك يمشون..
ملائكيّون، تحاوشتهم شياطين البشر،
قتلتْ آباءَهم، وشرَّدتْ أُمَّهاتِهم، فجاعوا وَعَرُوا،
ينامون على الطوى،
باللقمة واللقيمة يحلمون، وباليوم الموعود يأملون،
وبالعيش الرغيد أنْفُسَهُم يُمَنُّون،
ولكنهم اليوم من جوعهم يصرخون،
منادين: يا ضمير الإنسانية إلى متى تظلُّ نائمًا.؟!
وأنت أيها القلب البشري،
أما آنَ لك أن ترحم، وأنْ تشفق.؟!
فتأتي هذه الطفولة المعذَّبة،
فتمسح دمعها، وتضمد جرحها، وتسدُّ جوعتها،
وتؤنس وحشتها، وترسم البسمة على وجهها،
والإشراقَ على أساريرها..!؟

*****

تمرّد إنسان
يا إنسان، ما أَغدرك، وأجحدك؟!
متى شيئًا كنت من غيري، أنا شيَّئتُك، وآدميًّا جعلتُك،
معي كنتَ، وتحتَ نظري، وفي كنفي ورعايتي..
مُذْكنت نطفة، ثم علقة، ثم مضغة،
ثمَّ عظامًا تشكلتَ، ثمَّ لحمًا كُسيتَ..!
آلآنَ وقد بلغتَ أشُدَّك، واستويت.. تنكرني، وتنساني..
وبنفسك تنفرد من دوني، ثمَّ تتأَلَّهُ عليَّ،
ويركبك الغرور، وتتورَّمُ "أناك"..
وكأنَّك خالق نفسك، ومُسَوِّي خَلْقِك، ونافخ الروح في بدَنك..
تمشي بطرًا، وتسير كبرًا، لمعيتي لا تلتفت،
ومعونتي لا تطلب، وبي على أهوال الطريق لا تستعين..
ماذا لو قاطعُ طريقٍ أوقفك، ونهرك وزجرك،
وقال لك: مَنْ أنت؟ ومَنْ تكون؟ وإلى مَنْ تنتسب؟
وفي معية مَن تمشي؟ وإلى أين تمضي..؟!
ماذا لو أجبتَ وقلتَ: أنا عبد من عبيد السلطان،
بَوَّاب حضرته العلية،
حامل أختامه، جندي من جنده، خادم من خدمه..
تابع ركبه، وقائم بأمره، وسائر في ملكه وأرضه..
إذن لسمعتَ الأرض والجبل والسهل والوادي،
الكُلُّ يقول لك: جُزْ راشدًا، وسِرْ آمنًا، وامضِ سالِمًا...

*****

الانبعاث إلى الأعلى
إنه الانبعاث إلى الأعلى هو ما يطمح إليه شبَّان شجعان، يرون أنّ من حقهم أنْ يمسكوا بزمام الأجواء إذا أرادوا أن يفعلوا شيئًا للأمّة التي ينتمون إليها.. فالسيطرة على الأرض في عالمنا اليوم لا تكفي ما لم يكن إلى جانبها سيطرة أخرى على الأجواء التي تغطّي المدن.. فقد بلغ حماس أجيالنا الفتية حَدَّ الطموح إلى أن يكونوا من روّاد الفضاء والأسفار بين النجوم والمجرَّات.. وهذا حسن جدًّا، ولكن ينبغي أن يكون إلى جانبه حماس آخر لبلوغ فضاءات عظيمة وخفية في العقل والروح، وبذلك يتمُّ التوازن المطلوب في شبابنا بين قواهم العلمية وقواهم الروحية، فيستطيعون عندئذ أن ينجزوا لأمّتهم من الأعمال ما يرفعها إلى ما فوق مستوى أعظم أمم الأرض... وما ذلك ببعيد إذا توفر لشبابنا الإرادة والتصميم والأخذ بزمام الانبعاثين معًا، الانبعاث الروحي إلى جانب الانبعاث العلمي..!

*****

أصدقاء الأرض
أتضايقكم الأرض التي تدرجون فوق ظهرها إلى الحدّ الذي لا تجدون معه حرجًا في الإساءَة إليها، والانتقاص من حرمتها وقدسية خلقها بما ترتكبون فوقها من آثام وذنوب، وسفك للدماء، وانتهاك للأعراض، وقتل للمثل والقيم... إنّ ثقل أقدامكم الملطّخة بالأوزار يكاد يأخذكم بعيدًا إلى أكثر طبقات الأرض ظلمة، وأشدّها عفونة وضيقًا.. فالأرض إنْ مادت بكم واهتزَّت وتزلزلت فهي تفعل ذلك من أجل أنْ تتخفَّف من ثقل ما تحمل على ظهرها من بلاياكم وحماقتكم وسخف ما تقترفون فوقها من جرائم.
وكما يعرف الحصان الأصيل فارسه من لمسات يده على عنقة ومن تمسيده على رقبته، فيرحب به ويُسْلِسُ له قياده، فكذلك الأرض تعرف جيدًا أصدقاءها الذين يمشون على صعيدها هونًا لا يكادون يخدشونها، حتّى لكأنَّ في أقدامهم أجنحة تطير بهم من فوقها كي لا تَمَسَّ منها ما يؤذيها ويزعجها، فهؤلاء أصدقاء الأرض حقًّا.. الذين يكنُّون لها الودَّ والاحترام، والراغبون بالقيام فوقها من أجل النضال الروحي الارتقائي في درجات المعرفة الإلهية، إنهم زينة الأرض وفخارها وذخرها، تتقرّب بهم إلى ربّها الذي خلقها من أجلهم، إنهم الجوهر الإنساني المصفّى والذين يهتفون دائمًا: يا أرض.. يا مهدنا إذا ولدْنا.. ولحْدنا إذا متنا.. نحن نحبّك..!

*****

من طبائع النفوس
إذا سلمتْ نفس الإنسان وتصفَّت وترقَّت فإنها تنجذب بطبيعتها إلى كل ما هو صادق وعادل ممَّا يحيط بها، فتلتحم به وتجعله درجة جديدة من درجات ارتقاءاتها نحو "النفس الأعظم والأقدس"، ويترتب على هذه الارتقاءات سُموّ عقلي يَشعُّ وَميضًا خاطفًا يخطف إليه العقول والنفوس، ويسلكها في خطه الإدراكي، ودرجته الارتقائية.. فالقلب الذي هو المجمَّع الذي تجتمع فيه قيم النفس والعقل يبدو في غاية السرور وهو يجد طريقه إلى الناس ليتخذ منهم "أصدقاء طريق" و"رفاق درب" الكفاح الروحي الذي كُتِبَ على الإنسان أن يخوض غماره منذ مولده وإلى حين وصوله إلى "الأبدية الروحية" آخِرَ نهايات الأزمنة.
إنّ مجرّد الإحساس بوجودنا من قبل الآخرين يعني أننا نمتلك من الجاذبية الروحية والفكرية ما يجعل الآخرين مضطرّين للاعتراف بمكاننا على خارطة الوجود الفكري والروحي، ويجعلهم لا يجدون حرجًا في الكشف عن نفوسهم وفتح منافذها وأبوابها لكي نتدفّق إليها بكل طبائعنا المشعّة والهادية، فنصبح على الدوام من المرحبين بهم لدى الآخرين، وأن ما نقوله لن يذهب هدرًا، وأنّ له أسماعًا صاغية، وعقولاً متفتّحة، وقلوبًا فقهة... وهذه الطريق هي أشرف ما عرفه الأنبياء والرسل والأصفياء من طرق الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى...

*****

المدد الإلهي
إذا كنّا قد بلغنا من سُموّ النفس إلى درجة تحرير أذهاننا من أوهام الكِبْر والاستعلاء عما يقوله القلب، وتؤمن به الروح، فذلك يعني أننا قد وصلنا إلى جوهر "الإيمان" وجاوزنا حدود "الإمكان" إلى حيث "الوجوب"، ومنه إلى "واجب الوجود"، ووصلنا إلى "ماورائيات" عالم العقل الذي يحدُّ من وجودنا بأسوار من مخترعاته المنطقية وجدران أحكامه التسلطيّة الفاصلة بين زمانية الآن و"لازمانية المآل والمصير". وإنه لمما يحز في نفوسنا أن نرى أناسًا يموتون من شدّة ما كانوا يعانون من صراعاتٍ ذهنية وجدَلية بين "النسبي الإنساني" و"المطلَق الإلهي". هذه الصراعات التي امتصّتْ ماء الحياة من أرواحهم فأوردتْهم موارد الهلاك. فماتوا وهم سجناء نسبيّاتهم ومحدودياتِهم في حياتَيهم المعيشية والفكرية على حدٍّ سواء.
والعمل الكفاحي الاستمراري في سبيل الارتقاء الإيماني على سلَّم الوجود والذي ينبغي أن لا يتوقّف إلا بتوقّف الحياة نفسها، لا بد له من إمدادات قوية وفيوضات ربّانية تعينه على مواصلة سيره الكفاحي، والتغلّب على مشاقّ الطريق وحواجزها. واستدعاء هذه الإمدادات والفيوضات تتأتّى للإنسان عن طريق الدعاء والتضرّع الذي هو مخّ العبادات كما جاء ذلك في الحديث الشريف "الدعاء مخ العبادة".
والمسلم في طريقه الارتقائي قد يلاقي في تصعيده فراغاتٍ زمانية وثغرات مكانية يمكن أن يتسلّل منها إلى نفسه شيء من الملَل والفتور، فتتهدّل أوتار القلب، وترتخي أعصاب الروح، فيُسْلمُه ذلك إلى الكسَل الذي يفضي بدوْره إلى فقدان حرارة الإيمان وقوة حركيته، فعندئذ يلجأ المسلم إلى الدعاء والتضرّع راجيًا من الرحمن الرحيم أن لا يكِلَه إلى نفْسه طرفة عين، وأن يَكْلأه كلاءَة الوليد، ويحفظه من السقوط إلى المكان الذي بدأ منه تصعيده الارتقائي الأول... فما أفقر الإنسان وأعجزه وأضعفه إن لم يكن له من الله تعالى عونٌ وسنَد وتسديد ومدَد.
فالمسلم يرتعد خوفًا من أن يُطرد إلى خارج عالَمه الإيماني الذي يتنفّس أنفاسه ويحيا في كنَفه، فبقاؤه ولو للحظة واحدة خارج هذا العالم يُعَرِّضه لنوْبات متلاحقة من الإخفاقات والانتكاسات والنكوص على الأعقاب. وقد يسقط سقطة مُريعة لا يجد من نفسه القدرة على القيام منها من دون أن تُدركه عناية الله ورحمته فتنْتشلُه من هوّة هذه السقطة إلى خارجها ليستأنف مسيرتَه الإيمانية من جديد.

*****

أوجاع الأرض
البأساءَ والضرَّاءَ تعانين،
ونورَ الروح تفتقدين، وغصَصَ الموت تتجرّعين،
وعقوقَ أبنائك تشتكين، ومن غدرهم بكِ تئنّين وتتوجعين..
على ترابك الطاهر، دماءُ ألف "هابيل" كُلَّ يوم تسفح،
وألف "قابيل" يقتل ويذبح..
الرفش بيمينه، والمجرفة بيساره،
حَفَّارَ قبور غدا، يقتل وقتلاه يواري،
ومذابحه عن الأنظار يُخافي..
كما "الغراب الأسحم" علَّمه، وإلى ذلك أرشده..
وأنتِ -يا أرض- من الهلع تصرخين،
ومما يجري على ظهرك تجنين،
ماذا جرى، أم ماذا أرى..؟
هل جُنَّ الإنسان، وعقلَهُ فقد،
وضميرَه قبر، وإنسانيتَه هدَر..؟!

*****

الحيرة
الحيرة دليل يقظة وصحوة، وآية حركة ونهضة، لأن النُّوّام والأموات لا يعرفون هذه الانفعالات الذهنية التي تنتاب عقل الإنسان الصاحي إذا ما خُيِّرَ بين أمرين خطيرين قد يغيران حياته ويقلبانها رأسًا على عقب.. فأصحاب المشاعر الميتة والأحاسيس المثلومة، قد حزموا أمرهم من أول وهلة، واختاروا الغفلة، وفضّلوا الجمود على ما عندهم دون أن يخطر ببالهم التغيير والتجديد. أما ذوو العقول الحيّة، والمشاعر المرهفة، والأحاسيس العالية، إذا خُيِّروا فإنهم -بالتأكيد- سيختارون الحياة على الموت، والخلود على الزوال، والبقاء على الفناء، والنعيم على الشقاء، والجنّة على النار.. وهذا ما سيجدونه عند الله تعالى والإيمان به، وسلوك الطريق المستقيم الذي اختَطَّهُ لنا الأنبياء والرسل عليهم السلام. فهيّا اختر أيها الإنسان، واحزم أمرك، وخُذْ قرارك ولا تتردَّد، فالحياة أجل، والموت قدَر، والعمر في الغفلة هدَر، وإيّاك والتسويف والتأجيل، وطول الأمل، والرغبة في الكسل..

*****

شواهد القبور
نشيِّع الموتى، وعلى أكتافنا نحمل نعوشهم،
وإلى المقابر نمضي بهم،
نواريهم التراب، وعلى قبورهم نضع الشواهد،
ونكتب عليها الآيات،
ونحفر عليها الأسماء، ونرجو من المارِّين بهم أنْ يواسوهم بالدعاء،
ثمّ إلى بيوتنا نعود، نَطْعَمُ الطعام، ونشرب الشراب،
ونعاشر الزوجات، ونلاعب الولدان،
ونحسب أننا لن نموت، وأنّ الموت لغيرنا خُلِق، ولسوانا وجد،
وأنّ بيننا وبينه أمدًا طويلاً، وسنين عديدة..
ونحن نودّع عزيزًا علينا، قد تغلبنا العَبْرَة، وقد تأتي معها العِبْرَة،
ثم نسلوا وننسى، وكأنّ شيئًا لم يكن..
وعجلة الحياة تدور، والأيام تتوالى، وتشغلنا الدنيا،
والتكاثر بالأموال والأولاد،
ثُمَّ يفجؤنا الموت على حينِ غِرّة، دون أن نستعدَّ له،
وهذا لعمر الله هو الخسران المبين...

*****

طلائع الفجر
إذا الليل تمَطَّى، وأناخ بكلكله على النفوس والعقول،
وعَشّش في الرؤوس، وبات يشتدُّ ويقول:
أكفاني السود، لموتى الأرواح..
هُمْ الهالكون في لججي، الغارقون في يَمِّي وموجي،
السادرون في الغيّ، الجاحدون النور،
الكارهون الفجر، المنكرون الصبح،
وكأنّهم من قطع الليل صنعوا، ومن سواده خُلقوا،
خفافيش ظلام، وسكَّان كهوف وغيران،
يعشي النورُ عيونهم، ويسلبهم أبصارهم..
ولكنَّ.. الفجر قادم، ونوره زاحف، ولا أحد على صَدِّهِ قادر..
نوره غامر، وضوؤه ساطع، عرس الأفاق، ونور العيون والأبصار،
للأفئدة رحيق، وفي الألسنة نشيد، وللنفوس مرح وسرور...

*****

عالَمٌ مجنون
عالَمٌ مجنون.. تائهُ العقل، ضائع الرَّشَد،
حِسِّيُّ المعرفة، ماديُّ الثقافة، قاصر النظر،
فوضوي الفِكرِ، مشتَّتُ النَّفس، مُعَطَّل القيم، نفعي السلوك،
"أنا" ولغيري الطوفان، "أنا" وعلى الآخرين العفاء،
فقيد الروح، هزيل القلب والضمير،
غريق دماء وحروب، وكثرة قتول، مرعب مخيف،
آلامٌ وعذاب، قهر واستلاب،
وإنسانٌ بلا لُبٍّ ولا جوهر، جاف الخيال، مقفر الوجدان،
تافهي المشاعر، شهواني الأحاسيس، انفصامي الشخصية،
جنوني اللّذات، حيواني المشارب والأكلات..
فيا رجال الروح، ويا صحاب الإيمان،
أنتم عقل هذا العالم المجنون،
فأدركوه، وإليه أسرعوا،
أوقفوا عجلة انحداره نحو الهاوية، وسقوطه إلى القاع...

*****

عالَمُ الكتب
عُضاراتُ أدمغة، ودفقات أفكار،
ووَمضات أرواح، وإشراقات أفئدة،
وأيام وتواريخ، وأزمان غابرات،
وحضارات قائمات، أو مندثرات،
وأسرار مكتشفات، وغوامض مُوَضَّحات،
وعِبَرٌ وعِظَات، وأخلاق ساميات..
والكتب مرايا البشر،
منها الصالح والطالح، والخيِّر والشرير،
والمفيد والْمُضِرُّ، والمضيء والمظلم،
والرفيع والوضيع، والخافض والرافع،
والخالد والزائل، والباقي على الدهور،
والفاني في الأيام والشهور..
والكتاب العظيم لا يكتبه إلا عظيم،
يَصُبُّ في قارئه رشحات من عظمة صاحبه،
ويحرك فيه نازع العظمة في نفسه،
ويستنهض دواعي السُّموِّ في روحه،
يزيل صدأ القلوب ويجلو مراياها..
يَبُثُّ الأمل في قعيد اليأس،
والحَراكَ في مشلول العقل..
يضيء الظلمة، ويكشف الغُمَّة،
ويعلي من شأن الإنسان،
ويقيمه على عرش الكرامة،
ويجلسه على كرسيّ المعرفة،
ويلبسه تاجَ الوقار،
ويسربله بسربال العقل والحكمة..!

*****

المظلومون على الأرض
يجأرون.. يصرخون.. من الجَور يعانون،
وغصصًا آلامًا يتجرّعون، وظلمًأ وقهرًا يشتكون،
فيتضرعون، وأكفَّهم الراجفة إلى الله يرفعون:
نَجِّنا، من الظلمة خلّصنا..
الطاغين المتجبرين، فيهم لا تجعلنا،
وبين ظهرانيهم لا تتركنا، من جمعهم أخرجنا..
إنَّا إليك آيبون، وإليك لاجئون..
اجْعل بيننا وبينهم ردمًا،
فلا إلينا يصلون، ولا ظلمهم بنا ينزلون..!
عجبًا للأرض المسكينة،
كيف بهم لا تميد، وعليهم تصبر وتتصبّر،
وبنفسها من شاهق لا تلقي،
وفي الفضاء تحترق، بما فيها ومَنْ فيها،
من هول ما ترى وتشهد،
ومن عِظَم ما يقترف على ظهرها،
من مظالم وذنوب وآثام،
تستهجنها، وتنكرها، وتأباها،
وإلى الله تبرأ من فاعليها ومرتكبيها...

*****

سفينة الدنيا
الدنيا.. إنْ كنتَ لا تعرفها،
فهي هَوْلٌ هائل، وغول غائل،
وحوت فاتك، وبحر هائج،
وريح عاصف، ورعد قاصف،
سريع الغضب، شديد الخطر..
كنْ منه على وَجَل، ومن فتكه على حَذَر..
فكم قتل وأغرق، وكم طوى وأهوى،
وكم أغرى بخوضه، والدخول إلى لُجِّه،
والاستمتاع بِمَدِّه وجَزْره،
وركوب موجه، والغوص إلى لؤلؤه..
حتى إذا خطف بريق اللؤلؤ الأبصار، وأدار الرؤوس والأفكار،
وأفرح تجار المال، وصاغة الذهب والجوهر..
أخذهم ولم يفلتْهم، وإلى سحيق قاعه جَرَّهم،
وملأ أفواههم طينًا، وعيونهم ترابًا، وعطشهم ملحًا أُجاجًا...
أما سفينة النجاة..
المصنوعة على عين الله تعالى،
والسارية على الموج بمعيّته تعالى..
فقد مخرت كل البحار، وقطعت كل المحيطات..
وعادت إلى ميناء السلام..
محملةً باللؤلؤ والمرجان، ومثقلة بالفواكه والرمّان،
وبالمسك والعنبر، والبخور والصندل..
منجاة من المخاطر، ومتجاوزة لكل المهالك...

*****

رجل الغيب
أتى رجل الغيب، فلا تستعجلوه،
واقتربت من الأرض السماء،
ووُضِع الكتاب، وجِيءَ بالكون يسعى بين يديه..
فبدأ بالإنسان، وبالضمير والوجدان..
فقلب الكيان، وعدَّل الميزان،
وجَدَّد البنيان، وأيقظ النُّوّام، وحطَّم الأوثان،
بَشَّر وأنذر، واجترح المعجزات الخارقات،
للتصديق والإيمان، وأقام الحجَّة والبيان..
على مَنْ شكَّ وتولّى، ونكص وأدبر، وعَلاَ واستكبر..
إنَّه ترياق الأرض، وماء الحياة،
من مشربه إنْ شَرِبَتْ نَجَوت،
ومن أقداحه إنْ رَشَفَتْ رَوِيَتْ، فلا تظمأ أبدًا،
ومن تعاليمه إنْ قَبَسَتْ أضأت وأنرت، فلا تُظْلِمُ أبدًا...
إنه كوني الطاقة، عالمي الإشعاع، إنساني الامتداد،
إذا هتفَ هَزَّ العوالم،
وإذا نادى فكل الآذان إليه صاغية، وكل العقول إليه ناظرة..
إنه عَلَمُ الهدى، وراية التُّقى،
وصاحب السيف والقَلَم،
وفاتح عالَم الإنسان، على "اقْرَأْ" القرآن،
محمد بن عبد الله عليه السلام...

*****

حمامة السلام
يا حمامة يا بيضاء، يا سِرَّ النقاء، يا صفية السماء،
يا روح السلام، يا رمز المحبّة والأمان..
جناحيك تفرشين وتحلّقين،
ومن علٍ إلى الأرض تنظرين،
ومن جنونها تعجبين،
ومن ساكنيها إذْ يقتتلون، ويحتربون،
والدماءَ يسفكون، والأهوال يرتكبون،
والمآسي يجترحون، بلا رحمة يتعاملون..
قلوب قاسية، وأرواح يابسة، وضغائن وأحقاد،
وقتلة ومقتولون، ودماء مسفوحة وسفَّاحون..
إلى كُلِّ هذا تنظرين، وتأسين وتتأسفين، وتتألّمين،
وبغصْن زيتون في منقارك تحملين، وكأنك تقولين:
يا أهل الأرض، إليَّ انظروا وتطلّعوا،
ومنّي لا تسخروا، فأنا من عقلكم أعقل، ومنكم أرحم،
وبالإنسان أرأف، وبالأرض أحَنُّ وألطف،
في منقاري غصن زيتون، به جئتكم،
لتذكروا وتتذكّروا، وإلى السلام من جديد تعودوا...

*****

طريق ورفيق
للأرض أبعاد، وفيها مجاهيل،
وكثرة سرابات، وسَعَةُ مفازات،
وصحارى قاحلات، وأتْيَاهٌ مهلكات..
أَتَظُنُّ أنّك وحدك قادر على أن تتجاوز كُلَّ هذا،
ثُمّ تنجو وتسلم، وإلى هدَفك تصل، وعلى مبتغاك تَحْصُل..؟!
إنَّك إنْ قطعتَ مسافات، ووصلتَ إلى منعطفات،
ثم التَفَتَّ إلى روحك وجدتها لازالت جائعة،
أو وضعتَ يدَك على قلبك وجدتَه وَاهِنَ النبض، وَاهي الخفق،
أو جَرَّبْتَ عقلك وجدته في حيرة يدور وعن مكانه لا يحور..
لماذا إذن لا تعود إلى الفطرات والبداهات
التي تحثّك على المشي برفقة عالِمٍ بالطريق،
سالكٍ له من قبلك، مجرِّبٍ هَوْلَهُ وغَوْلَهُ..
إنْ لم تفعل ذلك ستغدو عن قريب كومةً من التصورات والخيالات،
والآمال المحطَّمة شظايا في طرقات الأرض ومسالكها..
لا تقطع رابطك الإنساني مع أخيك الإنسان،
إنه سيكون لك عونًا؛
به تأنس من وحشة الطريق، يعينك ويهديك،
وإلى أفضل المسالك يرشدك..
إنَّه عينك الثالثة الأخرى، وعقلك الثاني الذي به تفكّر،
ورِجلٌ أخرى مع رجليك اللتين بهما تمشي،
وقلب مع قلبك ينبض، وروح مع روحك يناضل..
فأنت وحدك قليل، وبرفيق دربك كثير،
وأنت من دونه تظلُّ تعبًا ناصبًا متهاويًا،
وربما سقطتَ إعياءً، ومُتَّ كمدًا..
فاختَرْ رفيق طريق قبل أنْ تسلك أيَّ طريق...

*****

ألعن من "إبليس" اللعين
على كرسي التعلم -بين يديك- يجلس "إبليس"،
منك يتعلَّم، ومن خبراتك في الشيطنة يستفيد،
ومن وسْوستك وخَنْسِكَ يفيد المزيد ويجرِّب الكثير..
و"الإبليس الآدمي" اليومَ،
مَجْمَعُ كُلِّ أبالسة الأرض، وشياطين العالم..
إنه مدرسة في فَنِّ الإغراء والإغواء،
ودائرة معارف كبرى في طرائق إبعاد الإنسان عن ربِّه،
ووسائل استدراجه ليظُنَّ أنَّه شريك الخالق في خلقه..
فيغير خلق الله، ويبدّل صورة الإنسان،
ويقطِّع جسده جزءً جزءً، ثم يتاجر بها..
وهو بعد ذلك أستاذ حروب، وجَزَّار رقاب،
وإحداثُ مَقْتَلات، وسفك دماء،
إنه لا يعفُّ عن إثم، يهجم على الذنوب هجومًا،
ويخوض في الحرام بلا حياء..
قلب الموازين، وجعل المعروف منكرًا، والمنكَرَ معروفًا،
والخير شرًّا، والشرَّ خيرًا..
فإذا العالم اليوم في هرج ومرج،
لا يعرف خطأً من صواب،
ولا حقًّا من باطل، ولا خيرًا من شرّ...

*****

الطفل الحزين
أيها الطفل الحزين، يا كسير الجناح، يا محبط الأمل،
لا تأذن للحزن أن يفريك فريًا، ويسحق قلبك سحقًا،
ولا تأذن لينابيع العين تغرقك بالدموع،
قاوم آلامك، وانتصر على أحزانك، واستهن بإحباطاتك..
ولئن كنت اليوم، طفلاً غريرًا باكيًا،
ناعم المشاعر، مرهف الحِسِّ،
تبكي للزجرة والنهرة، وتتألم لقرصة أذن،
وخدشة كلام، أو تأنيب أُمٍّ أو أب،
غير أنك وإنْ كنتَ لا تدري طاقة عظيمة،
من مدخور القدر، ليوم القدر،
فتتفجَّر عندئذٍ طاقاتك، وتنطلق أفاعيلك وأعاجيبك،
وتنزل الميادين لتبني وتعمّر وتشيد..
فأنت الأمل الباسم، والغد المشرق القادم،
صاحب قضية، ورجل مهمَّة، حامل هموم أمة،
عن دينها تناضل، وعن إيمانها تكافح...

*****

الإنسان بين جمالين
الجمال روح الوجود.. وسِرُّ كُلِّ موجود.. ومن الخلق هو المقصود.. ومن الإنسان هو المرغوب..! وهو نزهة للعين.. وزاد للحِسِّ والشعور.. وكما للكون والطبيعة جمال.. يخلب الإلباب.. ويسكر الوجدان.. ويطرب الروح.. فللإنسان كذلك جمال.. في جَوَّانية كيانه.. هو للملائكة بهجة.. وللملأ الأعلى لوحة أَيُّ لوحة.. تحفظها السماء.. وتطويها السجلات.. لليوم الموعود.. حيث الكُلُّ شاهد.. والكُلُّ مشهود..! والإيمان هو أصل كل جمالٍ إنساني جواني.. منه تنبثق الألوان.. وتتشكل اللوحات.. وتُرْسَمُ الملامح والسِّمات.. وهو -أي الإيمان- هو الينبوع الذي يروي أشجار الروح.. ويسقي أزهار النفس.. هذه الأزهار التي تظللها أجنحة الملائكة.. وهي تستمتع بعطرها الفَوَّاح.. ولونها الْمِفْرَاح..!
عُد إلى الله تعالى
ما أنت خَلاَّق نفسك، ولست أنت بالقيّوم عليها،
ولا المتكفل بها، ولا الرزَّاق لها،
ولا الذي يَمُدُّها بأسباب الحياة، ولا إليك تعود إذا ماتت،
ولا أنت مَنْ يناقشها الحساب، وليس لديك جنَّةٌ ونار،
فإذا كان الأمر كذلك، وهو يقينًا كذلك،
فارجع إذن إلى الخلاّق العظيم،
القيّوم على الأرض والسماء، وعلى الخلائق أجمعين،
والذي خلقك فَسَوَّاك فَعَدَلَك، وفي أيِّ صورة ما شاء ركَّبك،
اطْرقْ بابَه، والْتمسْ رحماته،
واسجد له، وتمرَّغ على عتبات فضله وكرمه،
واسْكبْ دمعك، وقَدِّم له قلبك، وتخشَّعْ له،
واسكنْ إليه، واشكر له واحمده،
وتَرَجَّى ألْطافَه وأفضاله، واستنزل مغفرته ورضاه...

*****

آمالنا الدفينة
آمَالَنَا في التراب ندفن، وحَبَّاتِ قلوبنا تحت الثرى نودع..
ثُمَّ بماء العزائم نسقيها، وبينابيع الإرادات نرويها،
وبشموس أرواحنا ندفيها، وننتظر الربيع..
فإذا بدت تباشيره، وطلعت أنواره،
تشقَّق التراب، وأَطلَّتْ السنابل، وتبرعم الزهر، وفاح العطر،
وعمَّ الفرح، وصَحَا النائمون، وقام القاعدون، وعلا صوت الحق،
ورفرفت راية الإيمان، فوق الأرض بالسلام،
ووجد الإنسان نفسه، والْتقى ذاته، وعرف ربَّه، وسلَك دربَه...

*****

الشروق والغروب..
متى أشرق قلبك، وأضاء روحك، وأنار عقلك،
فلا تخشَ غروبًا ولا ليلاً ولا ظلامًا،
فقد غدا كلُّكَ نورًا، وجمعك ضياءً، وظاهرك وباطنك لألاءً،
فأنّى لليل أن يغزوك، وللظلام أن يغشيك،
وللعتمات أن توشح آفاقك، وتسدَّ مشاكي أنوارك..
لقد مضى زمان، كنتَ فيه عن النور باحثًا،
وأنتَ فيه اليوم للنور باعثًا،
فكن كما أنت، الْزمْ مقامك،
وقفْ عند حدِّك، وأقِمْ حيثُ النور أقامك...

*****

وادي الأحزان
قرونًا بهذا الوادي مكثنا، تجرَّعنا آلامه،
عشنا أحزانَه، واكبْنا مآسيه، وعانينا فواجعه،
نمضغ أنفسنا، وبعضنا يأكل بعضًا،
نتمزق، شظايا نتشظَّى، على جروحنا انطوينا،
وأحزَانَنا كتمنا، وآلامَنَا أخفينا،
وأيدينا على قلوبنا وضعنا،
ساعةَ الخلاص ننتظر، وعن رجل الإنقاذ نفتّش،
فإذا بصوت من رواء ضباب الوادي،
يهتف ويقول:
ها هو رجلكم المنتظر، صاحب الْمِدَادِ والقلم،
يشقُّ لكم بقلمه جدولَ أفراح، ونهيرات آمال،
كفكفوا دمعكم، واغسلوا آلامَكم،
وافرحوا واهزجوا، فقد جاء الفرج، وعمَّ الأرضَ الخبر...

*****

الكُلُّ عن الكُلِّ مسؤول
يتسوّلون.. قلوبَهُم الجائعة على أكفِّهِمْ يحملون..
على أبواب الحضارات طويلاً يقفون، يطرقون الأبواب،
وعلى غير الفُتَات لا يحصلون،
وتظلُّ القلوب جائعة، والأرواح عطشة،
لا قلبًا يشبعون، ولا روحًا يسقون..
حيارى يبقون، مهمومون، تائهون،
لا يعرفون أَيَّ طريق يسلكون..
القلق يؤرّقهم، والحزن يتآكلهم،
والشعور بلا جدوى ما يعملون يزيد في شقائهم،
والعالمون العارفون،
شيئًا لا يفعلون، وبأنفسهم مشغولون،
ويحسبون أنهم عن الآخرين غير مسؤولين..
فالكُلُّ عن الكُلِّ مسؤول،
إذا تعثَّر إنسان وعلى الأرض سقط، فأنت عن ذلك مسؤول،
لأنك لم تمهّد له الطريق، ولم تنبّه ولم نحذر،
ولم تأخذ بيد أخيك، وتقيل عثرته، وتجبر كسره،
فانتبه يا إنسان، فالكُلُّ عنك مسؤول،
وأنت عن الكل كذلك مسؤول...

*****

القوة والحقّ
"القوة" لا يصحبها "الحق والعدل" تتحول بيد الظالم إلى ظلم صارخ وطغيان وعنف وتكبّر وتجبّر.. و"الحق" الأعزل الذي لا تصحبه "القوة" لا يثير اهتمام أحد، ولا أحد يعترف به، أو يقيم له وزنًا، أو يجعله محلَّ اعتبار واحترام..! حتّى قال قائلهم: "نَحَّوا الضعفاء العاجزين عن طريق الأقوياء القادرين، وتخلّصوا منهم إن استطعتم، وطهّروا الأرض من ضعفهم وعجزهم"!.. وقد ولَّدت هذه المقولة فلسفات ومذاهب، وقامت عليها دول وزعامات وأحزاب ومنظّمات.. وذهبوا إلى أكثر من ذلك، فزعموا أنّهم القِمَّة في سلّم البشرية، ومِن خُلَّص أبنائها لأنهم يعملون على تطهيرها من الشعوب والأجناس الضعيفة والعاجزة التي لا يرجى للبشرية منهم خيرًا.. وقد فلسفوا هذا الكلام وأعطوه أبعادًا عقلية وفكرية، بَرَّروا به استعبادهم للشعوب الضعيفة والمتأخرة من أجل تحضيرهم وتَمدينهم، كما يزعمون.. ثم لا يتورعون عن نهب ثروات هذه الشعوب وتركها للفقر والعوز، والتأخر والحرمان، بينما يعيشون في ترف ورفاه بأموال هذه الشعوب المقهورة..

*****

الصحوة والانعتاق
صحت الأمة، تيقّظت،
فركتْ عينيها، ثم نظرت حواليها،
فإذا الركب قد فات، وقافلة الزمن تحث الخطى،
فنهضت، وعلى قدميها وقفتْ،
ثُمَّ سارعت وسابقت، وبأقدام واثقة،
بدأت تدق ظهر الأرض،
وتمشي نحو النور الوامض، والضوء الهادي،
تخترق العقبات، وتجتاز المعوقات،
لتلتقي هويتها الضائعة، وذاتها الغائبة،
وتاريخها المطمور، وحضارتها المنسية..
يا أمّتي، يا شطر نفسي، يا كلية كُلِّي،
ويا جامعة جمعي، ويا بصيرة عيني،
وعقل فؤادي، وضوء روحي،
ارْفعي رأسَكِ واشْمَخي،
فقد مضتْ عصور الذل، وذهب زمان الهوان، ودار الزمان،
وجاء أوان، أن تكوني اليوم الوازنة والميزان،
والشاهدة على الأزمان، والرقيبة على أخطاء العالم،
والمصححة لأغلاط الإنسان...

*****

الظلمة والنور
تَعَفَّنّا، خَمَّتْ أرواحنا، أَسِنَتْ ينابيعنا، جَفَّتْ سواقينا..
في الظلمة غائصون، وفي العفونة سائرون..
ننظر ونتطلّع، وننتظر ونسأل:
متى تشرق الأنوار، وتنهلُّ علينا الأضواء،
لتغسل مِنَّا الأرواح، وتزيح عنّا الظلمات،
وتسقينا النور المصفّى، والرحيق المختوم،
وبِمِسْكِ الإيمان تعطّرنا، وتضَمخُنا، ومن جديد تبعثنا،
لننادي: "هلمّوا، هلمّوا.. فقد أشرق الفضاء، وقامت قيامة الليل،
وألقت السماء بفلذات كبدها على الأرض،
لكي ينادوا للإيمان، ويدعوا لعبادة الرحمن"..!

*****

صوت الأمّة
عودوا إليّ، وإلى أحضاني ارْجعوا..
فأنا الدين والإيمان، والسلم والإسلام..
عاقّين لا تكونوا.. عاصين مدبرين لا تبقوا..
فأنا الحضن الدافئ، والصدر الحنون..
وأنا مجمع فضائلكم، وخزين فكركم،
وعمود نوركم، وكنز حضارتكم، وذات وجودكم..
وأنا الجبل الأشم، لَوْلاي لمادت بكم الأرض،
ومِن فوق ظهرها نفضتْكم ولفظتكم، ومن جذوركم اقتلعتكم..
وأنا الحبل المتين، مَنْ تمسّك بي نجا،
ومَن جفاني جفتْه الأرض والسماء، وضاع وتاه،
وهلك مع الهالكين، وسقط مع الساقطين..
تعالَوا إليّ، واستنطقوني أُنْطِقُكم، واسألوني أجبْكم..
تاريخكم على صفحاتي مسطور، وآثاركم في بواطني قائمة للرائين..
أنا الحفيظة عليها، أذود عنها الغرباء، وأصونها عيون الأعداء...

*****

رجل القِيَم
تجنَّبْ -يا إنسان- الحُفَرَ والقيعان، والسهول والوديان..
وليكن هَمُّكَ وهِمَّتُكَ أن ترتقي الأعالي،
وتطال القِمَم، وتتنشق الرياح العاليات،
وتسبح في الأجواء الصافيات، والأنوار الساطعات..
فإذا أَطْلَلتَ من هناك، رأيتَ العالم صغيرًا وضئيلاً،
والدنيا نقطة تحت جيم "الوجود"،
والكون في روحك قائمًا، والأبد جدولاً ساربًا..
والكُلُّ في القبضة الرحمانية، والمشيئة الربّانية،
يقلّبها كيف يشاء، وأنّى يشاء..
فإذا عرفتَ ذلك، فالزم ما تعرف،
وأقم حيث أقامك الله،
واجعل عبوديتك بين يديه، دليلَ لُجُوئِك إليه..!

*****

الحقيقة
أرأيتَ إنْ أردتَ الحقيقة وسعيت إليها سعْيك، أنّها يمكن أنْ تتحاشاك، وتدبر عنك، ولا تكشف لك عن نفسها..؟! فكما لك حياة، فللحقيقة كذلك حياة.. وأوسع حياتها، وأشدُّها عنفوانًا، أن تكون موضع بحث العقول، وموضع نظر الرجال الفحول.. وعلى الرغم من أنّ الحقيقة قادرة على الدفاع عن نفسها، إلاّ أنها تجد في العقول العميقة حماية تحميها، وحافظة تحفظها من الامتهان والإهمال.. فالحقيقة تملك المداخل لكل العقول المخلصة والمسترشدة إذا ما أبدت رغبة في امتلاكها، والاستنارة بها.. وأعظم حقائق الوجود، حقيقة الربِّ المعبود، التي لا حقيقة فوقها، وكل حقيقة دونها، بل كُلُّ حقيقة في هذا العالم إنّما هي صدى هذه الحقيقة الأم الكبرى والأعظم التي تضع بين أيدينا مفاتيح جميع الحقائق لنتعرَّف عليها، ونقاسمها حياتها، وتقاسمنا هي حياتنا..!
الربيع الآتي
عالمنا الانفعالي اليوم في أشدِّ ساعات رهافته وقوة تَحسُّسهِ، وطولُ الانتظار ملأنا خوفًا وتوجّسًا.. ولكي نكون مستعدّين لاستقبال الربيع الآتي، علينا أن نفرغ أذهاننا من هذه الحشود الفكرية الشاذة التي تعتاش على عقولنا، وتوجهنا نحو مسالك ما كنا قد مررنا بها من قبلُ، ولا هي من طبيعة ذواتنا أو من نسيج كياننا الإيماني..
إنّنا نعاني من القصور في الإيفاء بأمانة ما عهد به إلينا من واجب التمهيد والتهيئة لقدوم الربيع واستقباله بنفوس صافية وعقول متفتّحة.. إنّنا إنْ بددنا طاقاتنا في ملئ فراغات لاَواعية ولاَجوهرية، فإنّ ذلك سيزيد من تعبنا وإنهاكنا وإغراقنا في الأحزان والإحباطات.. فكلّما دارت محركاتنا الروحية بشكل أقوى وأسرع جاءنا الربيع سراعًا، وأتانا أكثر ازدهارًا، وأكثر وهجًا وألقًا وزهرًا وينعًا.. ومن أجل هذا الربيع القادم يتوجب علينا أن ننحّي ما هو غير جوهري ولا صلة له بجوهر الجمالية المرهفة التي في دواخلنا لتتوافق مع جمالية الربيع الآتي..!

*****

أغوال الطريق
يا سالك طريق الإيمان، يا ماضيًا في ضوء النهار وظلماء الليل! أتظنُّ أنّ الطريق التي تسلكها خُلْوًا من العقبات، ومن المنغصات والمثبطات، وأشقياء الطرق، وسُلاَّب المسافرين؛ وإنها ممهَّدة مستوية لا تنزلق عليها الأقدام، ولا تتعثَّر بها الأرجل، وإنّ جسورها عامرة، وقناطرها شاخصة، ترحّب بك وتقول لك: "جُزْ يا مسافر بسلام وأمان".؟!
إنْ كنت تظنُّ ذلك فإنّك واهم مغرق بالوهم.. فقد وضعوا في طريقك الحواجز، وأقاموا السدود، وقطعوا الجسور، ونسفوا القناطر، وملأوا أرضيتها بالشوك والحسك، وحشدوا لك قُطَّاع الطرق، وخاطبوا أحاسيسك ومشاعرك بكل مغْريات الدنيا، ليصدّوك عن هدفك، ويوقفوك دون غايتك..
فكن على حذر، واحشد قواك، واشحذ همتك، وتنبّه لمصائد الأعداء، ولإغراءاتهم وإرهاباتهم، لتكفّ عن اللحاق بركب المؤمنين، ففوتْ عليهم الفرصة، وأعلِمْهم أنّك منتبه لمكرهم، وإنك لستَ بالخَبِّ ولا الخَبُّ يخدعك..!

*****

الإنسان بين الشكّ واليقين
الشك في الشك نفسه، والنظر فيما فيه نظر، والوقوف مع العقل حيث ينبغي أنْ يقف، وكفّه عن تجاوز حَدِّه، أو الدخول في مناوشات على تخوم عالمِ الغيب، والجرأة على التحرش بجنده، واستهداف حصونه وقلاعه، لأنّ طاقاته محدودة، وقدراته ضعيفة، ووسائله قاصرة، وعدده وعدَّته ضئيلة، ونظره كليل..
فمن غير الصواب أنْ نطمئنّ إلى "عقل" كلّما أوغل في العمر ضعف، وخفتت شعلة ذكائه، وسرعان ما يمرض ويخرف ويكتئب.. فإذا ما بلغ أرذل العمر لم يعد يعلم من بعد علمه شيئًا، وعادت مداركه لا تزيد عن مدراك أطفال في باكورة طفولتهم..
إنّنا إنما نُدعى إلى عالم الغيب بمَدَدٍ من عالم الغيب نفسه، وبما ينزله على أرواحنا من سلالم نتسلق درجاتها لنصل إلى حدود هذا العالم النوارني البهيج، وهذه السلالم والدرجات والإمدادات إنما هي الرسل والأنبياء وكتبهم وتعاليمهم صلوات الله عليهم، فهم وحدهم رواد هذا العالم، والعارفون بطرُقه ودروبه وشعابه..
إنّهم موكّلون بالإنسان، يعلّمونه ويرشدونه، ويأخذون بيده، ويفتحون أمامه أبواب السماوات السبع، ويدلّونه على معرفة الله، ووسائل القرب منه، وكسب رضاه، وفهم مراده في خلق الإنسان وفي خلق الخليقة كلّها، وآيات وجوده في الكون والإنسان والحياة وفي كل شيء..
فالعقل المحدود والنسبي وإن كان ذا قدرة على إدراك "اللانهائي" و"المطلق" غير أنه غير قادر على الإتيان بدين وكتاب، وشريعة ومنهاج..

*****

ربيع الروح
الربيع في قلبك وأنت تفتّش عنه في غير ما مكان، وعندليبه بلسانك يصدح وأنت تتسمَّع إليه على ألسنة غيرك، وزهره في روحك يُسْتَنْبَتُ، وعطره من أنفاسك يضوع، وشروقه من أفق ذاتك يطلع..! إنْ حرثتَ نفسك جيدًا، وقلَّبتَ تربة حياتك، ونقيتها من الشوك والدغل.. إنْ فعلت ذلك، جاءك الزرع الإلهي: (أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ * أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ)(الوَاقِعَة:63-64).. وامتلأت حياتك شجرًا أخضر، وزهرًا ملوّنًا، وأنهارًا جاريات، وجنّات معروشات، وأيامًا هانئات.. ودام ربيعك، ودامت أيامه، ومضى معك حيثما مضيت، ورافقك إلى أقاصي الدنيا وأدانيها، لينهل منه الناهلون، ويقبس منه القابسون..!

*****

 حين يلعب الكبار
إلى "الدنيا" يسارعون، ويتسابقون،
وعضلاتهم يستعرضون، وبأذيالها يتشبّثون،
كُلٌّ إلى جانبه يسحبها، وإليه يريد أن يأخذها، ولنفسه يحوزها،
حتّى كادت تتمزّق، وأوصالاً تتقطّع، ومن ثوبها تتعرّى..
فإذا تعبوا جلسوا لسيتريحوا، فقال قائل منهم:
لماذا هذا الخصام، دعونا نقتسم كَعْكة الأرض فيما بيننا،
خُذْ أنت شمالها، وأنت جنوبها،
ولك أنت شرقها، ولصديقنا المحبوب غربها،!
واحتفاءً بهذا الصلح، أولموا الولائم،
وجلسوا يطعمون، ويتخمون، ويتلمظون،
والناس من حولهم جائعون،
رائحة الشواء يتشمّمون، ولذيذ الطعام يشتهون،
ولكنهم حتى بالفُتات لا يحظون...
الدعاء والضراعة
إذا جنَّك الليل، وجافاك النوم،
واجتمعت عليك الهموم،
وتفاقمت عليك الأوجاع والأحزان،
ارْفع كفّيك، وتوسّل وابْكِ وتضرّعْ إلى مولاك،
استعن به، توكّل عليه،
ضعْ أحمال همومك على عتبة رحمته،
اسْكبْ دمعًا غزيرًا، واشفع ذلك بالأنين، وبالزفرات..
توسّلْ إليه، تبْ إليه، ارْجع عن ذنبك،
أظهر له عجزك وفاقتك، وضعفك وذُلَّك،
وهوانك على الناس،
ويأسَك من القريب والبعيد، ومن المعين والمواسي..
فالكل في الضعف سواء، والكل في العجز سواء..
لا أحدَ غيره يسمعك، ولا أحدَ غيره على إسعافك قادر،
والاستجابة إليك، والمنجاة لك،
وتبديد همومك، وتفريج كروبك،
وتكفيف دمعك، ومواساة حزنك..
لستَ اللاجئَ الوحيد إليه،
ولست وحدك طالب النجاة منه؛
فالخليقة كلّها،
والسماوات السبع ومَنْ فيها وما فيها إليه مفتقرة،
ومدَدَه طالبة وراجية..
فلو توقّفت أمداد رحمته لمحة عين عن العالم لسقط ميتًا،
وغارت فيه ينابيع الحياة،
وغدا جثة هامة لا تجد مَنْ يواريها تراب العدم..

*****

دموع الأطفال
إذا طفل بكى، من حزن وألَم، بكتْ السماء معه، وحزنت لحزنه، وتألّمت لألمه.. فالبراءة حين تبكي فكلّ البراءات في عالمي الغيب والشهادة تبكي معها، وكُلُّ قداسات العالم تجيش بالألم والتوجّع.. فالطفل ينبوع دَفَّاق من ينابيع الرحمة الإلهية، فإنْ أصابه ضُرٌّ، أو أصابته مخمصة، أو سقط صريع لكمات فساوات البشر، فإنّ عرش الرحمن يهتزُّ لذلك ويألم. أتظنُّ دموع الأطفال على هذه الأرض تذهب سُدًى، وتضيع هدرًا..؟ فإنّ دمعة واحدة من طفل بريء يمكن أن تكون سببًا في إغراق الدنيا بأسرها في المآسي والأوجاع، فلا يَسْتَهينَنَّ أحد بدموع الأطفال، ولا بهذه الملايين الجوعى الذين يملأون العالم، وتغرق دموعهم وجه الأرض.. فلن تجفَّ هذه الدموع قبل أن تجتاح العالم كوارث رهيبة قد تعجِّل بقيام الساعة، واقتراب أجل الدنيا الموعود..!

*****

الأيدي المتزاحمة
تتكاثر أيدينا.. تتزاحم.. تتشابك.. تتنافس.. على متاع دنيوي قد نحظى به أو لا نحظى.. وقد يتحول التنافس إلى تقاتل، فيقاتل بعضنا بعضًا، وقد تهرق دماء، وتحصل مآسٍ، وتسيل دموع.. فحتى لو حصلنا عليه فإننا في الحقيقة لم نحصل إلاّ على حفنة تراب، ونفخة هواء.. إنّك لو حُزْتَ "الدنيا" كُلَّها، وتوجتَ ملكًا عليها، وانقادت لأمرك، وجاءتك خزائنها تسعى بين يديك، فإنّك في الحق لم تَحُزْ شيئًا، لأنّها عدم في عدم، والعدم إلى القبر لا ينزل معك، ولا يعينك على اجتياز الطريق إلى الآخرة.. نعلم ذلك، ويتمثل لنا كلَّ يوم، ولكن لا نعتبر ولا نتّعظ.. ألا نرى قوافل الموتى وهم عراة إلا من أكفانهم وأعمالهم، فيا ليتنا اعتبرنا..!

*****

صوت البشير
قالوا: لا تنبسوا ببنْت شفة.. على أفواهكم أقفالاً وضعنا، وبالأغلال أياديكم شددنا، وفي أرجلكم قيودًا أحكمنا..!
أجابوا: لا ضير.. إنا إلى ربّنا منقلبون.. أبحنا لكم أجسامنا.. افْعلوا فيها ما تشاؤون.. كلوا لحومنا، واكسروا عظامنا، ومُصُّوا دماءنا..! ولكن أرواحَنا لن تطالوا.. وعلى حبسها غير قادرين.. حرةً ستبقى.. ومن إراداتنا وعزائمنا لن تنالوا.. شامخةً -بالإيمان- ستبقى.. عزيزةً بعزَّة الرحمن.. قويةً بقوة مَنْ له القوة جميعًا.. وساعة الفرج قد قربت.. ويوم النصر قد آن أوانه.. وجاءت تباشيره، وصوت البشير يَتَصَادى في النفوس والأرواح، وكُلُّ آتٍ قريب، وما أمر الفرج إلاّ كلمحٍ بالبصر.. وما ذلك على الله بعزيز..!

*****

النفس الثانية
مَلَلْتَ نفسَك.. سَئِمْتَ منها.. شاختْ هرمتْ تَعَتَّقَتْ.. قرفْتَ من ملازمتها إياك.. ومن جمودها معك.. وانطفاء جذْوتها.. وموت حماسها.. وَوَهَنِ إرادتها.. والكفِّ عن استشرافاتها المستقبلية.. ومن أحاديثها المكرورة.. وقصصها الممجوجة.. ومن رعوناتها وحماقاتها.. وما تسببه لك من أضرار.. وتحدثه فيك من خرائب..! إذن ماذا تنتظر.. لماذا تصبر عليها كُلَّ هذه السنين.؟! بَدِّلها.. غيِّرها.. فنفسك الأعلى.. والأقوم.. والأقوى.. والأكثر شبابًا.. والأشدُّ حماسًا.. قريبة منك.. مُدَّ يَدَك.. وتناولها من يد الله تعالى.. ومن كنوز غيوبه المكنونة.. وخزائنه المحفوظة... أما علمتَ أنَّ لَديك نفسين: نفسك الأرضية التي بين جنبيك، ونفسك السماوية في أعالي السماء.. فإنْ مللتَ من الأولى، فدونك الثانية.. فإنّك لن تملَّ معها أبدًا..!

*****

بين السطوح والأعماق
طاشَتْ سهام الأبصار.. وضاعت وتشَتَّتت.. وإلى الأعماق لم تنفذ.. ولُبابَ الأشياء لم تُصِبْ.. وتكسّرتْ السهام على السهام.. وعاد المبصر والأعمى سواء بسواء.. هذا بعينٍ لا ترى سوى الأصداف والقشور، وذاك بيدٍ لا تلمس غير الظاهر الملموس، وكلا الرجلين لا يحسنان العيش إلاّ على ظواهر الأشياء، وفوق سطوح الممكنات، أما الأعماق والجواهر فهي من نصيب المؤمنين الذين ينظرون بعين الإيمان إلى الأشياء فيستبطنون كُلّ شيء ويغوصون في كل شيء لزيادة معارفهم ولاكتشاف السرّ الإلهي في كل كائن ومخلوق..
إنّ أحاسيسهم ومشاعرهم بالغة الرهافة إلى الحد الذي يجعلهم يرون ما وراء الكائن وما تحته وما فوقه، مهما كان هذا الكائن مألوفًا للعين، وحاضرًا أمامها في كل وقت، إنّهم بطبيعتهم الإيمانية أعماقيون غواصون لا يعومون فوق السطوح، بل إلى أعماق الأشياء ينفذون..!

*****

فارس النور
نفد الصبر.. إعياءً سقطنا، شقينا، تعبنا،
مللنا الانتظار، والانتظار مِنَّا مَلّ، شربنا بحورَ آلام،
وسُقينا الهموم والأحزان، نتحرّق للآتي من الأيام،
نلملم جراحاتنا، ونغرق في نزف أرواحنا،
وفي بحر الظلمات سقطنا، وصرخنا،
وبلهفةٍ سألنا: متى فارس النور يَقْدُم،
هذا غبار فرسه، وموريات قدحات أرجله،
ولكن أين فارسه، أم هو قد قدِم،
ولكننا من شدّة الهول لم نفطن لمقدمه..؟!
فغاب بين الجموع، واختفى في العقول،
وجلس على كرسي القلوب،
إنْ فتّشنا لقيناه، في كتاب مقروء، أو مقال منشور...

*****

رجل وقرآن
رجل كان، في حُبّ الله هام،
وبقرآنه صال وجال، وأَدَّبَ وعلَّم،
والقلوبَ سقى، والأرواحَ روى، والعقول فتح..
هَزَّ النائم، وأيقظ الهاجع،
وأبكى الخاشع، وهدى الضائع، وأنقذ الضَّال..
أضاء الظلمة، وكشف الغُمَّة،
ورفع الإنسان، من هاوية النسيان..
كان للإيمان صوتًا، وللقرآن دَلاَّلاً،
وللأخذ به داعيًا، وإلى الله هاديًا، وإلى محبّته مرشدًا..
بنور القرآن أضاء الأكوان، وأنار دياجير الإنسان،
وفتح المغاليق والأسرار،
وأولج موت الأرض بحياة السماء،
وحياةَ السماء بموت الأرض،
ووقف عاريًا من كل سلطان، إلاّ سلطان القرآن،
وأبطل كُلَّ كلام إلاّ كلامه وآياته، وأحكامه وتعاليمه...
كان بالآخرة أعرف منه للدنيا،
وبمسالك السماء أعرف منه من مسالك الأرض،
وظلَّ ينادي ويهتف: يا مسلم، يا إنسان،
أنت للخلود مخلوق، وللبقاء مرصود،
لماذا تلقي بنفسك إلى التهلكة،
وتقبل لنفسك ألاّ شيء تكون، وعدمًا تصير،
يوم لا ينفع مال ولا بنون، إلا مَن أتى الله بقلب سليم...

*****

الفوضوية المهلكة
ذهنيات مشتَّتة، وإرادات مبعثرة، وآمال مبدّدة، وإحباطات متراكمة.. كلها في حاجة إلى ضوابط تضبط ما تعانيه من انفلاتات، وتوقف الانحدار الذاهب بها نحو نهايات مفجعة وعذابات مفزعة.. فلا شيءَ يمكن أن ينقذ العصر الحاضر من هوة الإحساس "بلاجدوى الحياة"، إلاّ إذا توقف قليلاً وتنفّس الصعداء، ثم شرع يفتّش بجدّ من جديد عن آيات الخلاقية وعن بصماتها على وجه الخليقة، فعندئذ سيكتشف المعنى والمغزى وسر الوجود ولغز الألغاز في كل ما يواجهه من شيء في هذه الحياة. فالغرابة الأكثر فزعًا التي تشكل طابع العصر والتي أفقدته الكثير من دعاماته الإيمانية وتصاميمه الفكرية، أصابت الإنسان بضربات متلاحقة، فقَدَ من جرائها توازنه النفسي والفكري وأصبح يدور في حلقة مفرغة من فوضوية عارمة هي خليط من الخطأ والصواب، والحق والباطل، والخير والشر، وحتى الموت والحياة، ولم يعد يعرف ماذا يأخذ من كل هذا وماذا يترك، وبماذا يؤمن وبماذا يكفر، وعلى الإنسان ابن العصر الحديث أنْ يفتح بصره وبصيرته ليرى أكثر وأعمق وليؤمن بأنّ هناك كونًا آخر خلف عينيه وما وراء الحس والنظر، فيه الخلاص والإنقاذ الذي يبحث عنه.

*****

استغاثة قلب
ظامئ ظامئ اسقوني، عَطِشٌ روني،
تائه دلُّوني، ضالٌّ أرشدوني، جاهل علّموني،
مريض داووني، جريح ضمدوني،
نازف أسعفوني، غريق أنقذوني...
جَفَّتْ ينابيعي، وصَوَّحتْ أزاهيري،
ويَبِسَ شجري، وأفقرت أرضي، وتصحّرت رياضي،
وغاب بلبلي، ونَعَبَ بومي، ونَعَقَ غرابي...
فيا سحائب الرحمة تجمّعي في سمائي، وأغيثيني بالماء،
فإن لم يكن وابلاً فَطَلّ، أو كثًّا أو رذاذًا،
فإذا ما اهتزت أرضي ورَبَتْ، وإذا السماء تعطَّفَتْ،
نثَّتْ وردًا، ونفحت عطرًا، وأشرقت آفاقًا،
فتفتّحت زهوري، وأورقت أشجاري،
وغدت نجوم السماء في الأماسي زهورًا تلتمع في رياض الكون،
وتوشح العالم بوشاح من الجمال والسلام،
واختفت قساوات القلوب، وبات الإنسان مخلوقًا ورديًّا،
إليه تنجذب الورود، وبه تأنس، تبادله الودَّ، وتشاطره السلام...

*****

الدنيا المغرية
أخرجها من قلبك، ضعها في يدك،
أنفقها، ومن الفقر لا تخشَ،
تَعِسَ عبد الدنيا، وشقي عبد الدرهم...
إنها حفنة تراب، وقبضة ريح،
مبذولة مشاعة، للمولهين بها، والمشغوفين بمتاعها،
إنّ نبضة قلب واحدة في محبة الله، وفي معرفته،
والتعبّد له، والخشوع بين يديه،
أفضل من ملْك الدنيا، والاستحواذ عليها،
واعتلاء مناصبها، وجمع كنوزها،
فهي لا شيء تساوي، والآخرة هي كل شيء،
هي الخلود والبقاء، وهي الجلال والجمال،
فكن من الدنيا على حذر؛ إنّها خّدَّاعة مكَّارة، فَتَّانة قتَّالة،
فإليها لا تركن، ولها لا تطمئنّ...

*****

القلب البشري حين يتكلّم
لو استطاع العلم الحديث بما يمتلكه من قدرات هائلة أنْ يُصَمِّمَ آلةً تُرَكَّب على موضع القلب من صدر الإنسان، فتقوم هذه الآلة بترجمة نبضات القلب ودقّاته، وتحويلها إلى كلام بشري مسموع كما تتحول أقراص "الحاكي" وشرائط المسجّلات والمصورات إلى كلام أو غناء، لسمِعْنا إذن هذا القلب وهو لا يني يردّد في كل نبضة من نبضاته ودقَّة من دقَّاته اسم الجلالة "الله.. الله.. الله..."! لأنّه مصنوع الله ومخلوقه؛ خلَقه لنفسه، وبرأه ليكون موضع أسراره وكنز معارفه، فكل مصنوع ومخلوق مجبول على حب صانِعه وخالقه وموالاته والتسبيح بحمده، وترديد اسمه.. فالقلب من غير سائر جسم الإنسان هو موضع نظر الله تعالى كما في الحديث الشريف: «إِنَّ اللهَ لا يَنْظُرُ إِلَى أَجْسَادِكُمْ وَلا إِلَى صُوَرِكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ»[7]. فهذا القلب بالغ السعة لدرجة أن يقول الله تعالى فيه "مَا وَسعَنِي سَمَائِي وَلاَ أَرْضِي، وَلَكِنْ وَسعَنِي قَلْبُ عَبْدِيَ الْمُؤْمِنِ"[8].
وهذا هو سِرُّ نزوع القلب فطريًّا إلى الدين والتديّن، وسرُّ انبثاق الحضارات من الدين وستعود إليه مهما اشتطت اليوم في الابتعاد عنه، كما يتوقع "توينبي" شيخ فلاسفة الحضارات في العصر الحديث. فالأنبياء والرسل عليهم السلام المبعوثون من قِبَل ربِّ القلوب وصانعها، إنما بعثوا لكي تكون أعظم مهامهم ترجمة ما يقوله القلب في نبضه وخفقه، فمنذ أن قال هذا القلب "بلى" في عالم الذر وهو يردد هذه الـ"بلى" ويودعها نبضاته ودقّاته.. و"بلى" هذه هي مفتاح جميع إدراكاته التي تنطوي عليها دواخله، وبفضلها استطاع أن يتلمس تجليات أسماء الله الحسنى في العَوالم والأكوان والإنسان..
فإطلاق القوى الخفية في القلب البشري لتحمل الإنسان إلى عوالم "الماوراء" حيث يتراءى صورته على حقيقتها المجرّدة على اللوح المحفوظ، ويرى ذاته المتجوهرة تجري في حقول الحقائق والمعارف المحاطة بالرضى الرحماني.. فيعلم عندئذ علم اليقين أن كل حقيقة على الأرض ما هي إلا ظل من ظلال حقائق الغيب، وصدى ضعيف من أصداء صورها، وإنّه لأمر في غاية التضليل أن ندع عقلنا الباهت والقاصر بحجب عنا طلائع "الأبد" التي يأخذنا إليها القلب النزيه والطاهر.
فهذا القلب إذا تكلم نطق بلسان جيل عظيم من القلوب في هذا العصر الذي تُبذَل فيه الجهود من أجل حرف هذه القلوب عن فطرة التدين، واستبدال هذه الفطرة والطمس عليها بسلوكيات وتأملات يُزعمُ أنها تقوم مقام الدين وامتصاص التوترات والأزمات التي يعاني منها إنسان اليوم، وهيهات.. هيهات.. أن يكون ذلك، فالفطرة غَلاَّبة، وأمرها مطاع ولو بعد حين...

*****

الغارقون
غرقى في بحار الدنيا.. يستنجدون،
أياديَهم من تحت الماء، بها يلوحون،
يصرخون.. يكاد يختنقون، ويصيحون:
أنتم.. يا مَنْ فوق الموج تسبحون، لكنكم لا تغرقون،
وبطنَ الحوت لا تلجون، وبزبد البحر لا تتلطخون..
مُدُّوا أيديكم إلينا، خذوا بأيدينا،
أنقذونا ثم علِّمونا، كيف نقاوم الغرق،
ونخرج من البحر سالمين، ومن بطن الحوت معافين،
وبعقولنا محتفظين، وبأرواحنا مستضيئين، وللآخرة متشوّقين...

*****

الطائرة الورقية
في صبانا كم لهونا، ولعبنا،
والزهرَ قطفنا، والفراشات في الحقول طاردنا،
والطائرة الورقية، للجو أرسلنا، على جناح الريح تسبح،
وقلوبنا إليها تنطر، ومن فرحها تطرب وترقص...
ثم كبرنا، فعَجَمَتْنا الحياة، ورقابَنا لوت،
ونير الهموم على كواهلنا وضعتْ،
فصرنا ندور، وطاحونة الدنيا بنا تدور، ولنا تسحق، وتفتت،
وكأننا قمح يطحن، وبالآلام يُعْجَن، وفي تنّور الأحزان يخبز..
فيا ليتنا أطفالاً بقينا، وصبيانًا ظللنا،
أبرياءَ أنقياءَ، أطهارًا غير ملوثين، ولا مذنبين...

*****

التراب الحي
الإنسان مخلوق ترابي، له في التراب نسب عريق، وقربى وصلة، فإذا مات عاد إلى التراب وارتمى في أحضانه، وغفا على صدره.. فالتراب مادّة الحياة الأولى في خليقة الإنسان، وفي خليقة الزهر والشجر والحَبّ والثمر، ومن دونه لا أفواه تأكل، ولا معدات تشبع.. ولأنّ له حياة تضاهي حياة الماء (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ)(الأَنْبِيَاء:30). حَلَّ محلَّه عندما يكون مفقودًا (فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا)(النِّسَاء:43) ولأنه حياة قال الله تعالى في الأرض أُمِّ التراب (مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ [ولم يقل نُمِيتُكُم] وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ [ولم يقل سبحانه نُحْيِيكُمْ، وكأنّنا كنا أحياءً في قبورنا ثم بُعثنا منها] تَارَةً أُخْرَى)(طَه:55). فالمحوية فيه قربة من الله تعالى كما في الحديث الشريف «أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ، فَأَكْثِرُوا الدُّعَاءَ»(رواه مسلم)، حتّى أنّ بعض علمائنا كره أن يسجد المصلي على شيء يحجب جبهته عن الأرض، ولَمّا رأى الرسول -صلى الله عليه وسلم- سيدَنا عليًّا t نائمًا على التراب خاطبه قائلاً: «قُمْ أَبَا تُرَابِ»(رواه مسلم)، فصارت لقبًا يعرف به ويلازمه، ووسامَ تشريف وتكريم له.
وإنْ كنّا ترابيّين في أصل خليقتنا، غير أننا لم نبذل أيّ جهد جدّي لتعميق دراستنا للتراب هذا العنصر المهم الذي خُلقنا منه، واكتفينا بهذا الفهم السطحي الظاهري الذي يوهم بأننا عرفناه كما ينبغي أنْ يُعرَف.. وفي التراب حرقة وعطش وانتظار دائم لمساكب الماء من الدفوق السماوية العليا لتبُلَّ حرقاته، وتطفئ تعطشاته، وتنعش حيوياته، فيهتز ويربو من خلال لقاء حميمي بين حياتين، حياة الماء وحياة التراب.
وإنه لأمر في غاية الوجوب أن يحظى التراب في كل مرّة بلمسة مائية تتنزل عليه من سماء الرحمة قبل أن يغيب عن وعيه الإحيائي فيما حوله من أشياء ميتة أو في طريقها إلى الموت.. ولكي يكتسب قوة جديدة تعزز قوته الإحيائية في الأشياء المنتظرة للهزّة الإيقاظية من النوم الذي يكبس بثقله عليها والذي تراه عذابًا لا يحتمل، تسعى للخلاص منه، والعودة إلى كامل قواها التيقظية والحياتية التي يطمح كل ميت أن يعرفها ويجربها.
آلام الأطفال
أيُّ قلب إنساني لا يذوب إشفاقًا ولا يتفطَّر ألَمًا، وهو يرى طفلاً بريئًا طاهرًا طهر الملائكة، وهو يذرف الدموع، ويسكب العبرات، وقد أنهكه الجوع، وأوجعه الألم، أو تصطكّ أسنانه بردًا، أو يحترق جلده جفافًا وحرًّا..!
أفتحسب الإنسانية أنها غير مسؤولة عن هذه الملايين من الأطفال الذين يكادون يُغرِقون المعمورة بدموعهم، ويملأون أجواءها بصراخهم وتوجعهم وآلامهم.. أم أنّ في آذانها وقرًا، وفي عيونها عمى، فهي لا ترى ولا تسمع.. بل لا تريد أن ترى أو تسمع.. فأين تذهب غدًا من عقاب إلهي يمكن أن ينزل بها في أي وقت، وعقاب الآخرة أشدُّ وأعظم وأغلظ..!؟

*****

عطاءات الغيب
لا يزال الغيب يقذف إلى هذا العالم بين زمان وزمان رجالاً أفذاذًا؛ يسارعون لتعديل مسارات الأمم، وإيقاف عجلات تدهورها، وذهابها بعيدًا إلى منحدرات مفزعة وهوات مظلمة.. ومن أعاجيب هذا الغيب حرصه على بقاء روح الأمة خالصًا صافيًا معافى مما ينتاب الأرواح من أمراض تهوي بها من شواهق التألق والوهج إلى ظلمات المنحدرات التي تسرع في إفراغ الأمة من مضامينها الروحية السامية. وأخلاقياتها التي هي مناط تماسكها وأساس وجودها وبقائها.. والأستاذ "النورسي" رحمه الله هو واحد من رجالات الغيب المبعوثين لهذه الأمة في فترة من أشد فترات تاريخها ظلامًا وتأخرًا وانحطاطًا، وضمورًا للروح، وجمودًا للعقل، وموتًا للضمير والوجدان.. فإذا به يقوم لينفض عن روح هذه الأمة -وهو "القرآن"- ما تراكم فوقه من غبار عقود كثيرة من السنين، ويجليه ويكشف عن معانيه، ويزيح الأستار عن أسراره، ويدعو الأمة إلى العودة إليه والتعلّم منه، والأخذ به بقوة، وذلك من خلال "رسائل النور" التي أحدثت في أعصاب الأمة وفي عقلها هزّة قوية جعلتها تستيقظ من نومها الثقيل، وعجزها الكسيح. ولا زالت هذه الرسائل تفعل فعلها في هذه الأمة وتسري فيها سريان الروح في الجسد، وسريان الدم المغذي بالأوصال الشلاّء من الإنسان.. رحم الله "النورسي" وجزاه عن هذه الأمة خير الجزاء..

*****

نار ونور
على الصراط.. يَمُرُّ المؤمن.. فيقال له: جُزْ يا مؤْمن.. فإنّ نورك قد أطفأ نارك.. وأنار لك الطريق.. وأخذ بيدك إلى جنان الخلد.. وربيع القرب من الرحمن الرحيم..! ونور المؤمن الهادي الحنون كما يطفئ نيران الآخرة فإنّه كذلك يطفئ نيران الدنيا التي يشعلها حوله الأعداء والمتربّصون والكارهون.. فهو بهذا النور يُحَصِّنُ نفسه من نيرانهم.. ومن لهيب عدائهم، ويصون عِرضه الإيماني، وشرفه الإنساني.. فيسلك بينهم ولكنهم لا يحسُّون.. ويسري خلالهم ولكنهم لا يشعرون.. (فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ)(يس:9). ومع ذلك فإنه عليهم مشفق.. وعلى إيمانهم حريص.. وعلى إنقاذ أنفسهم من النيران يدعوهم.. ويناديهم.. ويعلّمهم السبل إلى ذلك.. والوسيلة إليه..!

*****

لا تقل "أنا"
انْسَ "أنا".. "أنا" لا تقل، وانْسَ أنَّك نسيت..
"نحن وأنتم وإيانا وإياكم" لتكن لغتك،
وقاموس حديثك، وأبجديات كلامك..
إذا خرج "درويش" من عند الشيخ، وسأل:
"أين نعلي بين نعال الدراويش"، سقط من عين الشيخ..
لأنه خان الدروشة، وأخلَّ بالصحبة، وهتك ميثاق الأخوّة..
وأصبحت ياء "نعلي" وبالاً عليه،
قد تعيقه عن السير، وتؤخره عن السلوك، وتبعده عن الطريق..
فليحذر أولئك الذين يخالفون ناموس الأخوّة،
ومواثيق الصحبة أن يسقطوا من عين الله تعالى...

*****

أحلامنا الكبيرة
حقًّا إننا نحلم..
وقد تكون أحلامنا -أحيانًا- أكبر من أحجامنا،
ولكننا للحلم لا نستنيم،
وفي ظلال أجوائه الوردية لا نظلُّ ساكنين،
مُخَدَّرين، وبه مولَّهين،
بل نعمل ونجهد، وعرقًا نتصبَّب،
نقاوم البردَ الشديد، والصقيع والجليد،
في عقولنا يشرق ربيع،
وفي قلوبنا ألف زهرة وزهرة تعبق وتفوح،
ثم نأتي الأرضَ، بأظافرنا نحفرها ونحرثها،
وبعصارات أرواحنا نسقيها، وحبَّاتِ قلوبنا نطعمها،
غدًا سيأتي الربيع، ذاك الذي به كنّا نحلم،
ومن أجله نسعى ونكد...

*****

الطائر والبيضة
تكسّرت الأقفاص، وسقطت الأغلال،
وتهاوت جدران الحبوس،
والطائر الصغير، نقف بيضته،
ومن ضيقها تحرَّر..
وإلى أجواء الحرية الوسيعة نشر جناحيه وحَلَّق،
ثم صدح وغَرَّد..
طعمَ الحرّية ذاق، وبأضواء شمسها اغتسل..
بعد هذا، أيّة قوة يمكن أنْ تعيده للبيضة من جديد،
وللقيد المكسور، والحبس المهدوم..؟!

*****

صروح الحضارة
تَلَبَّثْ قليلاً، قفْ مليًّا، تأمَّلْ ساعةً..
إنك إذن تسمعها تقول:
أيها المارُّ بنا على عجل، الناظر إلينا بلا مهل،
المعجب بشخوصنا، الفخور بقيامنا بينكم..
آهٍ لو عرفتَ -يا إنسان اليوم- كم من العقول المبدعة،
في هذه الأحجار مدفونة،
وكم من القلوب المؤمنة فيها مسكونة،
وكم من الأيدي أصابها الكلال وهي تعمل،
وكم من عرق الجباه صُبَّ بها،
وبه جُبِلَتْ طينتها، وسُقي حجرها..
العمران -يا إنسان- تعب ونصب، وجهد وعرق،
وإرادة غَلاّبة، وتصميم قوي،
ونبضات قلب يَهُزُّ قلب الحجر..
فيسلس للباني القياد، وبيديه يغدو طائعًا مطواعًا،
لا يستعصي عليه، ولا عليه ينأى ويتمرد...

*****

اطلب ما يدوم ولا يزول
(وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)(الرُّوم:21)
الحبُّ يومًا بعد يوم يتآكل ويفنى..
أمّا المودَّة فهي تزيد وتبقى،
ولهب العشق الجسماني سرعان ما يهمد وينطفئ..
بينما الرحمة تظلُّ وعلى الأيام تتألق وتفيض..
اطْلبْ ما يبقى ويدوم، ولا تطلب ما يتبخّر ويزول..
ليس على العشق وحده تُبنَى البيوت،
وتنشأ الأسر، ويولد الأولاد، وينشأ الصبيان والبنات..
بل على التعاطف والتساند، والمودّة والمرحمة..
على ليالي الفراش لا تعول..
وليكن اعتمادك على ليالي الأنس والسمر..
فيه تتبادلان كؤوس المعرفة، وأقداح العرفان..
بهذا وحده تدوم البيوت، وتستقر الأسر، وتنشأ الأجيال الصالحة...

*****

أهوال القبر
ما نحن إلا أعمار وأيام،
وآجال مكتوبة، وأنفاس معدودة،
لا نزيد عليها نفسًا، ولا نتأخر عنها نفسا..
ثم تطوينا القبور،
ويطمرنا التراب بما كان مِنَّا ونحن فوقه،
وبما كان مِنَّا ونحن تحته،
حيث طاقات الجنان، أو حفر النيران (نستعيذ بالله منها)..
فلنأخذ حذرنا، ولنستعد لليوم المشهود،
ولنتّقِ النَّار ولو بشِقِّ تمرة كما في الحديث الشريف،
ولولا رحمات الله وألطافه بعباده،
وإشفاقه عليهم، وتجاوزه وغفرانه، لما نجا منَّا أحد،
«حتّى أنت يا رسول الله؟ حتى أنا، إلا أن يتعمّدني الله برحمته»..
فلنسأل الله الرحمة والغفران،
والخلد والجنان، ولنستعذ به من النيران..

*****

نيران الدنيا
طعامًا لنيران الدنيا لا تكن..
ارْبأ بنفسك عنها، وانْأى بروحك دونها،
فإنّها إن طالتك، لا تتركك غير سخام ودخان،
ورماد تذروه رياح الغيب، وإلى النيران تقذف به..
وبقدر ما نلتَ من نيران الدنيا، فسَتَنال من نيران الآخرة مثله،
والهول هناك أشدُّ وأعظم، والسعير أفزع وأفجع..
شهواتك لا تتّبعْ، والشيطان لا تطعْ، وكنْ منه على حذر،
فقد أهلك جبِلاًّ كثيرًا، ومنه أبوك آدمُ لم ينجُ..
دُبُرَ أذنيك اجْعل صوته،
وتحتَ قدميك اتْركه جاثيًا،
ومخزيًا، وخاسرًا...

*****

غريب الدار
أنت في هذه الدنيا غريب، وغريبًا تظَلُّ،
ولو ألفَ عام عشتَ فيها، وتوطَّنتَها،
هي ليست بالمقرّ المطلوب، والمستقرّ المحمود...
وطنك هناك، وراءَ النجوم، وخلف التخوم،
ذاك موطنك الذي منه أتيت،
مرغمًا جئتَ هذه الأرض،
وكرهًا منك سكنتَ فيها،
فالمشيئة غَلاّبة، والقدر لا يُقاوم،
وحكمة ذلك في طي الغيب مخفية،
فإنْ عرفتَ بعضها إلاّ أنّ جُلَّها لا تعرف،
ويكفي أن تعلم أنّ الأرض ممرٌّ، ومحطَّة طريق،
وأنّك إلى ذاك الموطن البعيد ستمضي،
عاجلاً أم آجلاً، شئتَ أم لم تشأْ...

*****

الوجوه صحائف النفوس
على الوجوه ترتسم النفوس..
وجوه يومئذ ضاحكة، لسعيها شاكرة،
ووجوه يومئذٍ كالحة، ترهقها قترة،
وتسلكها ذِلّة، وعار وندم...
كيفما تكن النفس يكن الوجه،
فإذا صفتْ وتنوّرت وجَمُلَتْ،
صفا الوجه، وأنار وجَمُلَ،
والعكس صحيح كذلك...
ومهما على وجوهنا وضعنا الأقنعة،
وتغشينا ثيابنا، واختفينا وراءها،
وخدعنا أنفسنا وخدعنا الآخرين،
غير أنّ القناع لا بد يومًا أن يسقط،
وتبين الحقيقة، ويظهر المستور،
وينكشف المحظور...
فالنفوس الهابطة الفاجرة،
والنفوس السامية العالية،
بينهما حاجز لا يبغيان،
فلا إحداهما بالأخرى تختلط،
فكما الطيور على أشكالها تقع،
فكذلك النفوس على أشكالها تقع..
وما أصدق قول الشاعر الجاهلي:
ومهما تكن عند امرئٍ من خليقة
وإنْ خالها تخفى على الناس تُعْلَمِ

*****

أعداء الطبيعة
نغتال الشجر، ونقطف الزهر..
صعيدًا جُرُزًا نجعل الحقول، نجفّف الينابيع،
والخضرة الرائقة، نأتيها من كل مكان،
ننقصها من أطرافها، ونُقَطِّع أوصالها،
وكأنّنا مع الطبيعة أصحاب ثأر،
نقتصّ منها، ونعاقبها على إثم لم تقترفه، وذنْبٍ لم تأته...
نفعل ذلك لنقيم مصانع ومداخن،
تنفث الدخان والسخام ليل نهار..
ونبني للإنسان أقفاصًا وشققًا كمفحص قطاة؛
لا هواء نقيًّا يتنفس، ولا شمسًا بدفئها يتدفّأ...
ثم نتباكى ونوَلْول،
ونحذر من الاحتباس الحضاري الذي يغشى كوكبنا الأرضي،
وكأنّ أحدًا غيرنا هو الذي يفعل فينا هذا الفعل،
ويجلب لنا هذا العناء، ويوردنا هذه الكوارث...
فمتى يعقل الإنسان، ويعقد بينه وبين الطبيعة صلحًا،
وبيادلها الحبَّ والإشفاق والودّ.. متى..؟!

*****

اللسان ترجمان الضمير
الإنسان خبيء اللسان.. فإذا تكلم كشف عن نفسه، وأفصح عن عقله، وأبانَ عن رشده، وترجم عن ضميره.. وعكس في كلامه خفايا باطنه.. فالكلمة مسؤولية أدبية وأخلاقية: (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ)(ق:18). فكل كلمة له أو عليه تدون.. وعنها يسأل يوم القيامة.. «يَا نَبِيَّ اللهِ وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ؟! قَالَ ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا مُعَاذُ، وَهَلْ يُكِبُّ النَّاسَ عَلَى وُجُوهِهِمْ فِي النَّارِ إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ»(رواه ابن ماجه).
فالكلمة تخرج من فم صاحبها لا يلقي إليها بالاً تهوي به في نار جهنّم سبعين خريفًا كما جاء في الأثر، وكلمة يطلقها إنسان لا يلقي إليها بالاً قد ترفع من شأنه وتعلي من مقامه عند الله تعالى.. والمسلم إمَّا أن يقول خيرًا أو ليصمت كما في الأثر كذلك.. أما حركة اللسان ودورانه فيما لا طائل من ورائه ولا خير في سماعه، وإنما هو لغو وثرثرة فهذا مما لا يليق بشرف اللسان وطهره كعضو مترجم عن الجنان، ولا يليق بالإنسان صاحب الجد والكرامة..

*****

الفرس والفارس
فرس بلا فارس فرس يتيم كابنٍ بلا أب، إنه في حزن مقيم حتى يلتقي الفارس المغوار والبطل الهمام ليكون جديرًا بامتطاء صهوته، يحيط به وهو يسابق الريح شيء سامٍ بطولي كله عظمة وكله جلال. إنّ قلوبنا لتنتشي ونحن نرى فرسًا يجري جريان الريح، ويسري سريان الخيال، فتتداعى على مرآة خيالنا صورة البطولات التي أنجزها الفرسان والأفراس في تاريخ هذه الأمة..
إنّ كبرياءَنا التاريخي مدين -بعد الله- لهذه الأفراس التي كانت تُنادى من الفرسان فوق صهواتها: يا خيل الله شُدِّي.. وغيري.. واملإي الأرض أغبرةً، فبغبارك نتوضّأ ونتضوّأ، إنه في أنوفنا أرق من ريخ الصبا، وفي عيوننا مكاحل تزيد حدقات عيوننا تفتحًا ورؤية..!

*****

رجال الأقدار
أنتم يا رجال الحيويات الناهضات المقدَّرات.. إنّ مُصَرَّف الأقدار يحفزكم لكل عمل رائع وعظيم، وخالد وجليل.. تعذبكم الحُرَقُ، وتفور في دواخلكم الآلام والآمال، وتأخذكم إلى الأعالي مرة حتى ليكادُ يُقال لا ينزلون، وإلى الإيغال في البعد مرةً أخرى حتى ليكاد يقال لا يرجعون..
أنتم الذين ترأبون الصدوع، وتسدّون الثقوب، وتبنون الصروح، وتقفون على مشارف جبال الحق تنظرون إلى البعيد، وتجلُّون الغيوب، وتشيرون إلى الآيات، وتفسرون الرموز.. ونهرَ الزمن تركبون، ومع موجه تجرون، ولكنكم به تميلون، ومن اعوجاجه تقومون، وللإنسان تصحبون، من فراغه المرير تخرجون، وحياتَه بالحق تملأون، وإلى وجوده الأفضل ترفعون، وجوهره الإنساني تضيئون.. لغتكم جريئة ولكنها وديعة.. متميزون متفوقون، ولكنكم موطأون الأكناف.. متواضعون هينون سهلون، ولكنكم على الحق غيورون، وعلى الباطل عصيون، وعنه لا تغضون، وبالحق كُلَّ باطل تقذفون.. أنتم إذن رجال القدر في هذا الزمان..!

*****

القفل والمفتاح
أصعب الأقفال استعصاءً على الفتح هي أقفال القلوب.. فالقلب البشري نفسه قفل كبير لا تقوى مفاتيح الدنيا كلها على فتحه.. لأنّه قفل روحاني، وختم إلهي.. مفتاحه عند الله.. وفَضُّ ختمه بيد الله.! فما لم نستفتح القلب بمفتاح رَبِّه، وما لم نستعن على افتضاض ختمه بصاحب الختم نفسه، فلن نستطيع الولوج إلى هذا القلب، أو الكشف عن سر الله تعالى فيه، والتعرُّف على الكون النوراني الذي يسبح فيه..
فأشرف لغات البشر هي لغة القلب، وأفضل خلقِ الله إنسانًا هو ذلك الإنسان الذي يحسن لغة القلب، ويعرف أبجدياتها، ويُسْحَرُ ببيانها وبلاغتها ومفردات كلماتها.. وهذا هو السرّ في أننا نقرأ لكاتبٍ فلا نُحِسُّ في قلوبنا انفتاحًا وانشراحًا، ونقرأ لآخر فإذا بقلوبنا تخشع، وعيوننا تدمع، وأرواحنا تطرب وتنتفض وتتواثب وكأننا نبعث من الأجداث من جديد، ونتذوق طعم الحياة المفعمة بالخلق والتجديد لأول مرّة..

*****

زمان الجنون
عصر مجنون.. يغشاه الجنون، من كل حَدَبٍ وصوب..
إذا غَنَّى جُنَّ في غنائه، وإذا رقص جُنّ في رقصه..
هستريا تجتاح العالم؛
أعصاب مكهربة، وأمزجة متوترة..
قتول ودماء، فقر وجوع..
أطفال يجهضون، ونساء يغتصبون..
سجون ومعتقلات، فيها يتعفَّن الإنسان ويموت..
حشيش ومخدّرات، خمور ومسكرات، وأنواع المهدّئات..
والإنسان هو الإنسان..
يزيد جنونًا، ويستشيط نارًا، ويلتهب أعصابًا،
ويقفر روحًا، ويموت قلبًا، ويتوحش عقلاً..
وحضارته تنحدر؛ علم بلا قلب، مادة بلا روح..
ماتت الأخوّة، وجفَّتْ ينابيع الرحمة،
وقست القلوب، وغلظت الأكبدة،
وذرَّ الشيطان قرنيه، ونادى أتباعه:
"هلمُّوا إلى مملكتكم.. واحظوا فيها بالأمان...

*****

تضرع ودعاء
عطش وظمأ، قفر وجدب،
صحارى محرقة، ورمال ملتهبة،
تشوى الوجوه، وتشعل النيران تحت الأقدام،
والقلوب لظى، والأرواح لهب،
والكُلُّ في لهفة يسأل، ويدعو ويتضرّع:
جودي يا سماء، استهلّي يا سماء،
ينابيعَ رحمة تحوّلي، سيولَ رِيٍّ كوني،
وجداولَ سُقْيا سيلي، وأنهارًا جاريةً تفجّري...
والقلب العطشان، والروح الولهان،
والضمير الحيران، والإنسان الظمآن،
الكلُّ ينتظر يومًا من السماء آتيًا،
وأقدارًا قادمات، وكروبًا منفرجات،
وغيثًا مغيثًا، وغَدَقًا مغدقًا،
وربيعًا مشرقًا، وشجرًا مورقًا، وزهرًا مؤنفًا...

*****

من هنا مشى
من هنا مشى، من هذا الدرب مَرَّ،
قدمه الشريفة هنا وقفت، وتريثت،
وعلى التراب أثرًا تركت،
ريحه الفَوَّاح، أسكر الأرواح،
وطَوَّحَ بالقلوب، وأدار الرؤوس والعقول..
إنه محمد صلى الله عليه وسلم؛
نبيٌّ إنسان، سبَّاق الزمان،
قَذَّاف الحق، هَزَّام الأباطيل، ناشر رايات التوحيد،
تاج الأنبياء، وسفيرهم إلى رب العالمين...
من كبواته أنهضَ الإنسان،
ومن نومهم الثقيل أيقظ النُّوَّام،
جمع بين الكونين والثقلين،
وآخى بين العقل والروح،
ورفع الأرض إلى السماء،
والتقى الإثنان على أمر قد قدر..
سعيد سعيد من لمسَ كفَّه،
وصافح يده، ولثم تراب قدمه،
وسعد ببسمة من شفتيه، ونال رضاه،
وأطاع أمره، وشرب قدحًا من كوثره...

*****

أوجاع الأرض
دامية الجروح، نازفة الآلام،
مترعة الأوجاع، مليئة الأحزان،
نعلم ونأسف، أنْ يكون ابنك الإنسان،
هو الذي فعل بك الأفاعيل، واجترح الموبقات،
وارتكب الآثام وأثقل ظهرَكِ بالدماء...
ولكنّكِ لا زلتِ تأملين، وتنتظرين، توبةً يتوبها،
وآثامًا يغتسل منها، وذنوبًا يكفرها عنه،
ليعود من جديد تائبًا نادمًا،
فيرتمي في أحضانِكِ، ويُؤوي إلى كنفكِ،
فلا إثمًا يرتكب، ولا ذنبًا يجترح،
ولا دمًا يسفك، ولا عَاقًّا لكِ يكون...

*****

فكر ومفكرون
الفكر، والفكر وحده هو الذي يرفع الإنسان فوق هامات الزمان، ويشكل مستقبل الأيام، ويصوغ أحداث التاريخ، وينهض الموتى، ويشبع الجوعى، ويمنح النظر نفاذًا أعمق، والبصيرة آفاقًا أوسع..
والمفكرون هم الذين يحملون الأرض على كواهلهم، يخافون عليها الانهيار والسقوط، يقيمونها كلما اعوجَّت، وينهضونها كلما تعثَّرت، ويصلون ما انقطع بينها وبين الله تعالى، ويمدون أسلاك النور، وينصبون المصابيح فوق أعمدة الليل، ويفتحون أبواب الانفراج على عوالم الغيب، وشواطئ الأبد، ويأخذون الإنسان إلى سبل الخلود، ويزرعون الأيام المقفرة الجرداء بالربيع.. إنهم رجال المستقبل الذي به نحلم، وإليه نسعى، ومن أجله نشقى ونتعب، وننصَبُ فكرًا، ونجهد نظرًا وستشرافًا...

*****

ثورة الجرذان
اخضرّت الأرض، وأينع الثمر، وأورق الشجر،
وأشرق ربيع الإنسان..
فاغتاظ الجرذان، وتنادوا مجتمعين..
فالخطب شديد، والأمر جاد،
والزرّاع لا ينفكون يزرعون،
والأرضَ يستنبتون، والشجرَ يغرسون..
فإنْ استمرّ الأمر هكذا،
فسيأتي يوم نُطْرَدُ فيه من جحورنا،
ونُطَارَدُ في مغاورنا، ليتخلَّص منا الإنسان..
فهتف الجرذان كلهم:
نحن معك يا زعيم، لا نتخلى عنك،
نطيعك فيما تأمر، وننصاع لما تريد...
قال الزعيم:
إذن هي الثورة.. إليها أدعوكم، وعليها أحثّكم،
حُدّوا أنيابكم، واشحذوا أظفاركم،
واعملوا في الشجر قرضًا وقضمًا، وفي الزرع فتكًا..
كلوا النبات، وأفسدوا الثمر،
وأْتوا على بيادر الحصاد حتى لا تبقوا عليها من شيء..
إنها معركتكم الفاصلة، وبعدها الموت أو الحياة...
عندما بدأ الجرذان ثورتهم، كان الوقت قد فات،
والبيادر عليها حرس شديد، وفتيان أقوياء أشدَّاء..
فَرَّقوا جميع الجرذان، وأحبطوا كيدهم..
فباءوا بالخزي والخسران...

*****

يا أرضُ يا ولاَّدة
في كف الرحمن تدورين، وأجيالاً تنسلين،
وروّادًا أبطالاً تلدين..
توجعي وتمخضي، وآلامًا مفزعة تحملي،
من أجل بطل الأبطال، ذلك الرجل العظيم الشأن،
الرمز الكبير، والمثال الأمثل، والشجاع الأشجع..
هو رجل الزمان،
الذي برأسه تدور الأزمان،
وبعقله توزَن الأفكار، وتتغربل العقول والأفهام،
في الأرض راسخ القدين،
وإلى السماء شاخص العينين،
يمناه إلى السماء ممدودة، منها يأخذ،
وإلى الأرض يسراه تعطي..
نبي بلا نبوة، ورسول بلا وحي،
من الأنبياء يأخذ ويعطي، وبرسائلهم يبشر..
فيا أرض يا وَلاّدة، متى هذا الرجل تلدين،
مَنْ كل شأنه أعجوبة من الأعاجيب..؟!

*****

السماء المعطاء
مناهل عطائها لم تنضب، وجداول غيوثها لم تجف،
وسيول إمداداتها لم تيبس،
ولكن أين الروح العَطِش، وأين القلب المحترق،
وأين الوجدان الشغوف، والعقل السَّؤول..؟!
أين الإنسان الموصولة أسبابه بأسباب السماء،
أين المتضرع، أين الملحف بالسؤال،
أين مستمطر الرحمات، أين المستغيث،
أين شديد اللهفة إلى الغيوث، أين رافع الأكف إلى المغيث،
أين المتمرغ على الأعتاب، أين الكاشف عن عجزه وفقره،
والناشر ذلِّه، الساكب دمعه، المفَتِّت قلبه، الحارق روحه،
أين..؟ وأين..؟ وأين..؟!
(قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلاَ دُعَاؤُكُمْ) (اُدْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ)..!

*****

ربيع القلم
إذا حَلَّ ربيع القلم، وأشرقت روحه،
واعتلى مجده، واستوى على عرشه،
وفُكَّتْ عنه القيود، وسُرِّحَ من الحبوس والسجون..
فانتظر عندئذٍ منه:
عقولاً مبدعة، وأفكارًا مبتكرة، وإرهاصات حضارات،
ومقدمات مدنيات، وغوصًا في أسرار الوجدان،
وكشفًا عن مطاوي الروح والقلب،
وإظهارًا للجوهر الإنساني بكل نقائه وصفائه،
واحترامًا للذات، واستظهارًا للتاريخ،
وتقديرًا لبطولات الأمة،
ولفتوح الروّاد الأوائل للعقول والقلوب والبلدان،
وانحناءً وتبجيلاً لصروح الأمة الروحية منها والمادية،
واستنهاضًا للإرادات،
وتحفيزًا للقوى النائمة، والطاقات الهاجعة...
هذا هو القلم، وتلك هي أفاعيله..
به أقسم ربُّ القلم (ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ)،
تنويهًا بعظمته، وإلفات النظر إلى قدسيته،
وبما يؤدّيه للإنسان وللإنسانية جمعاء...

*****

القاذفون أنفسهم في النيران
نحزن، نتألّم، نبكي، نتوجع،
ونحن نرى فتيانًا إلى النار يلقون بأنفسهم..
ركضًا إليها يركضون، كأنهم إليها مشتاقون،
وبها راغبون، وعليها حريصون..
يفعلون ذلك وهم يشعرون، أولا يشعرون، ولكنهم يصرون...
وفتيانًا آخرين، إليهم يسارعون،
يحجزونهم عن النار، يذودونهم عنها،
يقفون حائلاً بينها وبينهم..
يا أصدقاء، يا إخوتنا في الآدمية،
ما لكم تراكضون، وعلى النار تتهافتون.؟!
على رسلكم، نحن عليكم مشفقون،
كما الخير لأنفسنا نريده، فإننا لكم نريده كذلك..
تعالوا إلينا، استمعوا لنا..
نحن سفينة النجاة، وطوق الإنقاذ..
أرواحنا لأرواحكم الفداء، وقلوبنا لقلوبكم النبض والحياة..
كياننا كله لكم.. من أجلكم نحيا، وفي سبيلكم نكدُّ ونسعى...

*****

أخطبوط الأرض
أنَّت الأرض، توجَّعت..
في قبضة أخطبوط بشري سقطت..
يمتص ماء حياتها، ويسحق عظامها،
ويتشرَّب رحيق دمائها،
ويستحوذ على ما فوقها وما تحتها..
وهي في قبضته الحديدية تزداد ألَمًا وصراخًا وبكاءً..
ولكن قبضة الأخطبوط تزداد على خَنَاقها شدةً وقسوةً..
ولولا أنه لا يريد موتها -لأنَّ في موتها موتًا له-،
لَما تركها إلاّ جثة هامدة، وقبرًا كبيرًا لأمواتها،
ومأوى واسعًا للأفاقين والمشردين، واليائسين القانطين،
الذين لا يأملون، ولا يجدون لحياتهم معنى، ولا لعيشهم مبررًا...

*****

دقائق العمر
هكذا تدق دقائق العمر،
ماضيًا معها حيث تمضي،
ومسيل الأقدار من كل مكان يجتاحك،
وقوى الغيب تدفعك للمسير،
لا الزمنَ يمكنك أن توقف،
ولا أنت تستطيع الوقوف...
الكُلُّ يمشي، والكُلُّ يمضي،
والكُلُّ في فلك يسبحون،
وأنت مع الكلِّ تمضي،
تغني شجاك، وتنشد أساك، وترنِّم غربتك...
وفي لهفة محمومة نتساءل:
متى الوقوف؟ وكيف؟
متى نرتاح من نَصَب الطريق؟
ومتى من وَعْثَاء السفر نغتسل..؟
آلام عصر كامل على كاهلك تحمل،
وأسى الزمان بثقله أثقلك، وآداك وأشجاك...
ولكن انتظر.. فالفجر الوردي قد تنفَّس،
ونسمات السحر قد اختلجت،
وبراءة الكون اللازوردية تتراءى لك من بعيد،
تغريك بالمسير، وتفتح لك الطريق...

*****

أحلام طفولية
أَخوان.. إلى المدرسة يمشيان،
بهجة خفيفة تغشاهما، وإشراقة لطيفة تلفهما،
ووداعة بريئة، على محيّاهما ترتسم...
يسارعان الخطى، ومن فرحهما يكاد يطيران،
قلباهما من طرب يرقصان، وروحهما سرورًا مترعان،
الأقدارَ يسابقان، والأيّامَ يتعجلان..
وردية أحلامهما،
والمستقبل عندهما، حديقة وظلال،
وفَيء وأزهار، وإشراقة نهار، وليل وضاء، وسماء قمراء،
وحكايات جدَّة، أميرات وأمراء، وقصور ومملكات،
وكأنهما بزمام الأقدار يمسكان،
وعلى رقاب الأيام يقبضان، يسيرانها كما يشاءان...
حتى إذا كبرا قليلاً، ووعيا من أمرهما ما وعيا،
تبخرت الأحلام، وذهبت المسرَّات،
وهبَّت الرياح بما لا تشتهي سفن أحلامهما،
وزوارق أمانيهما، وبدأت المكابدات،
وقلب لهما الزمن ظهر المجن،
فإذا بهما يتعبان ويشقيان، ومرارة الحياة يذوقان...

*****

نور بلا ظلام
إذا احلولك الليل، وماجت أمواجه وفارت،
وخالطت الأنفس، وغشيت العقول وتسرمدت،
وأحاطت بالناس من كل جانب...
عندئذٍ انتظر جلجلة الرعود،
وضَجَّةَ الكائنات، ودَوِيَّ قرقعة البروق،
وزلزلة الجبال، وقيام النيام،
وإشراقة النور، واخضرار الأرض والحقول،
وانزياح الغيوم، ورفع الأغشية عن العيون..
وإذا بالرجال على المنابر قائمون،
وبرحيق الروح يخطبون،
وماءَ زلال القلب يسكبون..
فتنتفض الضمائر، وترشد العقول، وتهتدي القلوب..
ومن كل مكان تجيء الجموع،
مفعمة بالأمل والرجاء، وبين ذراعي المنبر تلقي بنفسها..
تستمع وتنصت..
حتى إذا قُضي الكلام، ولَّوا إلى قومهم منذرين ومبشرين،
بربيع بلا شتاء بعده، وبنور لا ظلام بعده...
في الأرض والسماء
كن دفين تراب، غبينَ نسيان، في آخر مكان..
لا يشار إليك ببنان، ولا تفتَّح لك الأبواب، ولا يبش في وجهك..
ولا يفسحُ لك في المجالس، ولا تدعى إلى الموائد..
كن في الأرض كذلك، وفي السماء غير ذلك..
لك تفتَّح الأبواب، وتستقبل بالترحاب،
وينادي المنادي: هذا عبد الله..
ارفعوه على الأرائك، واعلوا من شأنه،
واعرجوا به إلى أعلى الدرجات،
فهو مرضي الله، المقبول عنده،
المرغوب فيه، المحبوب لديه،
وراءه الملائكة تسير، وبه تحفٌّ..
تاجه بالياقوت والمرجان مرصع،
لباسه الحرير، ورائحته المسك والزعفران،
تجري من تحته الأنهار، وتتطامن له قطوف الجنان...

*****

الجندي المجهول
اضْرِبْ في جدران الأوهام..
وأزح ظنون العقول، وضلالات القلوب..
تلك هي مهمتك، وذاك هو واجبك..
انصب للحق منارًا، وأقم للحقيقة مثالاً،
واكتب على جبين الدنيا عهدًا وميثاقًا، ووعدًا والْتزامًا؛
أنْ لا تغادر الدنيا، حتى تضع في صرح الحق لبنة،
وتكتب على صحائف الزمن سطرًأ وآية..
إلى "الحق" تعالى تشير، وإلى الطريق إليه تومئ..
فأنت نبيّ هذا العصر ولكن بلا نبوّة،
والرسول إليه ولكن بلا رسالة مُنْزَلة..
اعرفْ قيمتك، وأعطِ منزلتك حقّها..
من السموِّ والرفعة، ومن عظمة الشأن، ورفعة المكان...

*****

الأرض كرة
بأيدي الأقوياء.. يتقاذفونها،
وأحيانًا بأرجلهم القاسية يركلونها..
بها يتلاعبون، ويتبارون،
والصياح والتصفيق يسمعون..
والحاصلون على أكثر الأهداف،
هم أولئك الذين يسفكون دماءً أكثر،
ويقتلون مقْتَلَةً أعظم..
دِنانَهم من دم الشعوب يملأون،
وبجماجمها كؤوسًا يتساقون، حتّى يرتوون..
ولكن لا يرتوون، ويصرخون:
يا شعوب الأرض الضعيفة،
هل من مزيد؟! هل من مَزيد..؟!

*****

الفكر البنّاء
ابْنِ عقلاً، شيِّدْ للروح صرحًا، ازْرعْ في القلب ربيعًا،
اعْملْ، اعْرَقْ جبينًا، اخْشوشنْ يدًا،
اسْقطْ إعياءً، ثم قُمْ مرةً بعد مرَّة..
عن فكرك لا تتخلَّ..
أَتْبعْ الفكر بالعمل، والقولَ بالفعل،
فالفكر والعمل صنوان وقرينان..
فكر سبَّاق، وعمل به لَحَّاق،
هو قوة وحياة، وطريق بناء،
وسبيل تقدُّم ورخاء...

*****

الرحمة المهداة
قلوبنا الراجفات، وعيوننا المقرَّحات،
وأيدينا الباسطات، الرافعات الأكف، الضارعات، المناديات:
يا عبق الأنفاس، يا شذى الخصال، يا عظيم الخلق..
يا رؤوفًا بالمؤمنين، يا رحيمًا بالمعذَّبين،
يا رحمة مزجاة، يا غيثًا من السماء هَطَّالاً،
يا نور الثقلين، وضياءَ المغربين والمشرقين،
يا هازم الأحزاب، يا نصير المقهورين، يا كنف المظلومين،
يا محمد، يا أحمد، يا محمود،
يا نبي كل العصور، ورسولَ كل الأزمان،
يا رفيق الإنسان، والفاتح طريقَ الجنان،
صاحبَ المعراج، الواقف على سدرة المنتهى،
العائد من ربه بالصلوات الخمس،
مَن أحبَّك نجا، ومَنْ قلاك هلك...
اعتذار الأرض إلى بارئها
سحائبُ أحزان، وغاشيات آلام،
ودموع وآهات، وزفرات شاكيات،
من شقوق الأرض تُسمَع، ومن ودْيانها ووهادها،
وزلزلة أرجائها، شاكية ضارعة،
من الإنسان وظلمه، وفعله وقهره، وعصيانه وجحده، تقول:
يا ليتني ما كنتُ له مهدًا، ولا له قبرًا، ولا ترابي إذا مات له سترًا،
فإذا ما أفضيت إلى ربّي، منه استحييتُ، وإليه اعتذرت،
لأنه على ظهري أقام، وخيام جحوده نصب، وصروح كفره شيّد...

*****

كتاب العالم
يا أُمِّيًّا، ما خطَّ بقلم، ولا كتابًا قد قرأ،
حتّى إذا عليك القرآن نزل،
كنتَ أنتَ الكتاب، وكنتَ أنت القلم...
مَنْ قرأك عرف حقيقة الإنسان،
وأدرك سِرَّ الوجود والأكوان،
وتعرَّف على الرحمن..
أنت للبشر كتاب مفتوح،
وعالَمٌ بالفكر مشحون،
ضياؤُه الحق، ونوره الصدق،
لا يسبر غوره، ولا يدرك جوهره،
رحمة مزجاة، وهدية مهداة...

*****

زمن الوصال
واصِلْ ولا تجافي، عانق ولا تفارق، واهتف ونادِ:
يا خليل الروح، يا شطر القلب، يا شقيق الوجدان..
صلْني ولا تقطعني، وافني ولا تدبر عنّي..
هذا قلبي المحترق بين يديكم أضعه،
وهذا روحي المعذب، أزجيه إليكم،
وأرسله نحوكم، تلطفوا به، تعطّفوا عليه،
مريض بنظرة منكم تشفوه، أشواقه حرق،
بلمسة منكم أطفئوا حُرَقَهُ، وحففوا من عذابه..
يا زمانًا بالوصل كان مترعًا، كيف مضيتَ وانقضيت،
وكأنّ شيئًا لم يكن..
لا وصلاً قد كان، ولا خلاًّ بالأمس كان هنا،
ثمَّ مضى واختفى...
 
 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] بالإجهاض.
 
[2] بالإهمال.
 
[3] بسوء التربية.
 
[4] بالحروب.
 
[5] بمشاغل الدنيا.
 
[6] بعقوق الأولاد.
 
[7] مسلم، البر 33.
 
[8] انظر: الزهد للامام أحمد 81؛ إحياء علوم الدين للغزالي 3/15؛ المسند للديلمي 3/174. كشف الخفاء للعجلوني 2/255، 431.
 
 

Tweet

Whatsapp