الفصل الثالث: مصادر الإصلاح في رؤية الأستاذ فتح الله كولن
المبحث الأول: أسس الرؤية، ومرتكزاتها
توطئة
تناولنا فيما سبق مجموعة من القضايا تتصل بحياة الأستاذ فتح الله كولن، وحاولنا الوقوف عند المحطات الأساسية في حياته، كما سعينا إلى تبين معالم تكون شخصيته الفكرية والدعوية الحركية.. ومن الممكن القول إن تشكل معالم حياة الأستاذ كانت محاطة بعناية إلهية، وكأن الله كان يهيئه لأمر كبير. ولذلك فإن من يتأمل في جوانب حياته سيلاحظ بأن الكثير من الأشياء يصعب تفسيرها تفسيرا عقليا، لكن إذا نظرنا إليها من زوايا أخرى، فإن فهمنا لفتح الله سيكون قد أجاب عن كثير من الأسئلة.
كانت المباحث السالفة تعريفية حاولنا فيها إضاءة عالم فتح الله قبل الدخول إليه. تعتبر معالم حياة الأستاذ نوعا من الوقوف على عتبة هذا العالم، وطلبا للإذن بالدخول إلى هذا العالم الفسيح والمركب بالمعنى الإيجابي. إن عالم الأستاذ فتح الله كولن متعدد كما بينا في مكان سابق، ولهذا فإن الباحث يتهيب من وُلوجه، مخافة أن يكون هذا العالم عصيا على الفهم والاستيعاب، وعصيا على الإمساك بخيوطه.
إن عالم فتح الله عالم معنوي بكل ما تحمله الكلمة من معنى، ولذلك فمن يدخل ينبغي له التسلح بطاقة معنوية وروحية، حتى يتسنى مقاربته وفهمه ومقاربة مكوناته.
من مسلمات البحث تحديد الباب الذي يمكن الدخول منه إلى الأبواب الأخرى، لأن عالم الأستاذ فتح الله كولن عالم فسيح يحتوي عوالم أخرى، وكل عالم من هذه العوالم يشكل لوحده مجالا خصبا للبحث، وقد نجده في هذا الباب الأول، وهو باب المصادر الأساسية للميراث الثقافي، فلا حديث عن الإصلاح في رؤية الأستاذ فتح الله كولن دون فهم طبيعة نظرته للأسس التي يقوم عليها فكره الإصلاحي.
أولا: القرآن في عمق الرؤية
1- نون الجمع وتجاوز حدود الزمان والمكان
الأستاذ دائم الإلحاح على مركزية القرآن الكريم والسنة النبوية في مصادر الثقافة الذاتية كما يطلق عليها، وهو عندما يثيرهما نلاحظ بأنه يربطهما بالعلاقة الرابطة بين "الإنسان-الكائنات-الله"، على أساس وجوب إدراك هذه العناصر كلها في بوتقة واحدة، إذ تعتبر هذه العلاقة من أهم الأسس التي ينبني عليها نظام ثقافتنا الذاتية.
والملاحظ في هذا الإطار كثرة إلحاحه على "نون الجمع". الأمر يفسر بأنه ينطلق من رؤية جماعية غير محصورة في الزمان والمكان. فهذه المنظومة وجدت منذ أن خلق الله الإنسان ونزوله إلى الأرض من أجل المكابدة للحصول على إجازة كماله التي تؤهّله للعودة إلى مهده الأول. ومن منظور هذه العودة فإن هناك جائزة يحصلها الإنسان بعد نهاية مكابدته على الأرض، وبعد أن يجتاز امتحان الكفاءة الإنسانية التي يلزم أن تعترف بأن الإنسان مجرد مخلوق، بل هو مجرد عدم لولا فضل الله عليه إذ نفخ الروح فيه، وأن الله هو الخالق وهو الأول والآخر وهو الظاهر والباطن، وبأن المخلوق الإنساني لم يوجد إلا ليعرف هذه الحقيقة التي هي في الوقت نفسه سر وجوده. ولذلك فالمنظومة الوحيدة التي تحقق هذا الشعور هي منظومة التوحيد[1]. ولذلك يلمس في نون الجماعة تجاوز الحدود الزمانية والمكانية، فالتركيز على نون الجمع هذه يتم في دائرة كون المنظومة عنصرا ثابتا لا يتغير ولا ينبغي أن يتغير وإن تغير الزمان وتغير المكان، بل إن هذين العنصرين مجرد مظهر صوري فيما يتعلق بهذه المنظومة، فجذورها لانهائية. ولذلك فهي تتجه لكل إنسان استحق صفة "الإنسانية" في كل الأزمنة وفي كل الأمكنة، وحتى في العوالم التي لم تكتشف بعد عبر هذا الكون الفسيح، الواسع سعة قدرته تبارك وتعالى.
سيرُ الإنسان في هذا الطريق يحقق الكثير من الحسنات والإيجابيات ومن بينها وراثة الأرض وما يتبع ذلك من عمق في الفضاء الواسع حيث تتبدد نظرة الإنسان للزمان والمكان المحكومة بمقاييس المادة المحدودة جدا، يقول: "يقول الله تعالى في الفرقان البديع البيان: (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَالصَّالِحُونَ)(الأنبياء:105)، ولا ينبغي أن يتردد امرؤ في توقع مجيء هذا اليوم، وهو وعد الله المؤكّد. ولن تنحصر هذه الوراثـة بالأرض وحدها... ذلك، بأن مَن يـرث الأرض ويحكمها، يحكم عمق الفضاء والسماء أيضًا، إذن هي حاكمية في الكون كذلك. ولما كانت هذه الحاكمية بالنيابة والخلافة، فحيازة خصال التمثيل التي يريدها صاحبُ السماوات والأرض الحق، لازمة وضرورية. بل يصح القول بأن تلك الرؤيا، وذلك الرجاء، يتحقق بقدر إدراك هذه الخصال ومعايشتها"[2].
فالإنسان بهذا المنظور ليس مخلوقا ثانويا وليس مخلوقا هامشيا، بل هو أرقى المخلوقات وأكثرها دلالة على الخالق، فهو يشترك مع المخلوقات الأخرى في أنها "مشهر" و"كتاب" و"بيان".. فهي "مشهر" لأنها تشهر القدرة الإلهية، وتشهر عظمة الخالق.. وهي "كتاب" بما تحمله من حروف وكلمات تدل على الكاتب المصور وعلى من خط بالقلم، وقال "كن" فيكون.. وهي "بيان" لأنها تبرز جمال الخالق ورونق صنعته بما تجلى به الجميل المتعالي من جماله ورونقه على كل المخلوقات؛ فجمال المخلوقات ليس سوى تجل لمطلق جماله تعالى.. وإذا كان الإنسان يشترك مع المخلوقات كلها في أنَّها مشهرٌ وكتابٌ بيانٌ، إلا أن الله تبارك وتعالى ميّزه عنها بأن جعله المتكلم باسم كل المخلوقات، لقد جهزه بالقدرة على الكلام وعلى البيان، ولذلك يستطيع أن يجلي دقائق الربوبية المتجلية في كل المخلوقات بما فيها الإنسان نفسه، فالإنسان بفعل جوهره العالي وماهيته المكرمة، يملك القدرة على ذلك ويستطيعه. فبالبيان الذي أودعه الله في الإنسان يستطيع هذا الإنسان مد كل المخلوقات بالحياة بما هي دليل على الخالق. إن للبيان سلطة وقوة "لا حدود لها، لأن "البيان" يمد الجماد بالحياة، ويحرك الأحياء ويأسر الجموع بقوة تأثيره، ويدفعهم إلى أقصى حدود طاقتهم"[3].
فالكلام بهذا المعنى -كما يرى الأستاذ فتح الله كولن- هو ما أوجد وأفصح عن العلاقة العجيبة بين الخالق والمخلوق.
الكائني الإنساني ليس أكثر من خليط من ماء وتراب، ولكن لأنه مستودع المعرفة كان أرقى المخلوقات، لأن الله منحه منحة البيان والكلام، فكان بذلك رئيسا على هذه الأرض. وبخاصية الكلام هذه فإن الإنسان -كما يرى الأستاذ فتح الله- استطاع التكلم باسمه وباسم جميع المخلوقات الأخرى.. وبخاصية البيان هذه أصبح الإنسان هدف الخطاب الإلهي، وبالقدرة نفسها استطاع هذا المخلوق الإنساني التوجه إلى الله تبارك وتعالى. فالإنسان بفضل نعمة البيان يفصح عن ذاته ويستطيع تأويل كل الأشياء والمخلوقات الأخرى، فكل فرد من أفراد الإنسانية في حد ذاته خطاب (language) والصورة التي يكون عليها هذا الخطاب هي في حد ذاتها صورة من صور البيان.
إن البيان مفتاح يفتح أقفال الكنوز المؤدية إلى المعرفة، وهو المفتاح الذي يتيح ترتيب أمور السلطنة على الأرض.[4]
2- الثقافة الذاتية في ضوء معادلة "الإنسان-الكائنات-الله"
نستخلص مما تقدم أن الإنسان يوجد في مركز الكون باعتباره أرقى المخلوقات وأوعاها في طبيعة التوجه إلى الله وتعالى. وتعتبر معادلة "الإنسان-الكائنات-الله" مرتكز من مرتكزات نظامنا الثقافي أو مرتكز من مرتكزات ثقافتنا الذاتية كما يرى الأستاذ فتح الله كولن. فإذا كانت الثقافة هي: "مجموع نظمٍ وقواعدَ تحكم التصرفات الاجتماعية والأخلاقية التي أنتجتها أمة أثناء تاريخها الطويل، وجعلتها بمرور الزمان بعدا من أبعاد وجودها أو حوَّلتْها إلى مكتسبات في اللاشعور.. ومع أن بعض الخصوصيات الأساسية للثقافة حسب هذا التعريف يحمل سمات عالمية، لكن الواضح أن لكل مجتمع في جغرافية اجتماعية معينة، ثقافة سائدة خاصة. وبدهي أن هذه الخصوصية الثقافية عنصر مؤثر قوي في النُّظُم الفكرية. ولذلك، يعد الفكر المرتبط بثقافة معينة عند فرد من الأفراد، تعبيرا عن ذاته بواسطة إطار المرجعية المعينة"[5].
فإنها هي أصل ثبات نون الجمع وأساس استمرارها وبقائها، وبغيابها تتبدد نون الجمع وتضمحل وتنزوي بعيدا على هامش التاريخ والزمن. الحاصل: "أن الثقافة هي مجموع المفاهيم والقواعد والانسياقات التي تعلمها الإنسان وآمن بها وطبقها في حياته فصارت بعناصرها الأصلية والتبعية بعدا من طبعه، حتى تحولت إلى مصدر للمعلومات في اللاشعور... فهي ظاهرة أبيستمولوجية يُدْرَك ويُحَسُّ بوجودها وتأثيرها بين الحين والآخر، حتى في غياب الشعور والإرادة"[6].
فهذه الحقيقة توجد في أصل تكوين الإنسان، فهي لا تنمحي، لكنها قد تنسى وتهمل ويلغى دورها في الحياة كما وقع مع الفلسفة المادية التي جعلت الإنسان والأشياء والحوادث أصل كل وجود، وألغت الربوبية وأبطلت وجودها وحقيقتها.. فالإنسان من منظور هذه الفلسفة ابن الطبيعة إذ هي التي صنعته، بل هو وباقي الكائنات نتيجة تحول المادة.
المرتكز الأساسي في هويتنا -كما يرى فتح الله كولن- هو وجود مناسبة دائمة بين الصنعة والصانع، والأثر وصاحب الأثر، أو بين الخلق (أو المخلوقات) والخالق، وبين الإبداع والمبدع المطلق.. وبعبارة دقيقة إن الأستاذ فتح الله ينطلق من أن حقيقة وجودنا وحقيقة المنظومة التي تحركنا في لاوعْينا، أو بالأحرى التي تنسجم مع فطرتنا، هي التوحيد. وهو عندما يرفع أمر التوحيد ويجعله مركز الوجود الذاتي، يطرحه في مقابل الفلسفة الغربية التي تنكرت وانحرفت عن هذا الجانب المنسجم مع فطرتها، بمعنى أنه يبعدها عن دائرة منظومتنا الذاتية، لعدم انسجامها مع الفطرة، فهي لا تملك أن تكون بديلا عن ثقافتنا، ولا يمكن أن تحقق انسجامنا الفطري مع خالق الوجود، ومع الوجود.
3- جذور الإسلام فوق الزمان والمكان
التوحيد هو عمق الحقيقة الإسلامية، والإسلام في صفائه يؤيد هذه الحقيقة، بل هو دين التوحيد، لأنه فوق الزمان والمكان، وهو عندما يخاطب الإنسان يخاطب فيه حقيقته الفطرية التي تناسبه. ولذلك فهي في نظر الأستاذ مصدر من مصادر ميراث الذات الثقافي، إذ يقول: "إن جذور الإسلام لانهائيةٌ تمتدّ فوق الزمان والمكان، والمخاطَبُ في الإسلام هو قلب الإنسان الذي يسع ويستوعب السماوات والأرض بسعته المعنوية، وهدف الإسلام هو السعادة الدنيوية والأخروية.. الإسلام، اسم الصراط المستقيم الممتدِ من الأزل إلى الأبد، وعنوانُ النظام السماوي المنـزَّلِ لتحقيق رغبة "الخلود" التي يكنّها كل شخص، والمنزل لِفتحِ مغاليق القلوب جميعًا؛ ابتداءً من قلبِ أشرف البشر في الأرض -صلى الله عليه وسلم-. (...) بل نستطيع القول بأن ما نلاحظه في محيطنا من مدى الشوق إلى الإسلام والرغبة فيه وتلقيه بالقبول إنما هي أمور تتحقق بتناسب طردي مع عمق هذه الصورة الداخلية المشرقة ومدى سعة إحاطتها، وهذا يعني أنه كلما كان هذا القبول الأولي للإسلام ضاربا في أغوار أعماق الإنسان، يقوَى تأثيره في محيطه. وفي ضوء ما يمليه هذا الإذعان الداخلي، يأخذ المجتمع وِجهته في مسيرة حياته الأخلاقية والاقتصادية والسياسية والإدارية والثقافية"[7].
فالأصل في نظر الأستاذ هو أن الإسلام يخاطب الفطرة، والفطرة تقوم على التوحيد، لأن حقيقتها المعنوية فطرية. وعندما يلتقي الإسلام وحقائقه بالفطرة اليقظة المتوثبة تنتج إنسانا متناغما مع حقيقة وجوده وخلقه.. وفي الحقيقة إن الأستاذ فتح الله عندما يجعل من هذه الحقيقة المطلقة عمق ثقافتنا الذاتية إنما يرمي إلى ضرورة أن يكون الإنسان في علاقة منسجمة مع الوجود من جهة أن هذا الوجود إبداع إلهي وإبداع دال على الخالق، ولذلك فإن هذه العلاقة الانسجامية وهذا التناغم بين الإنسان باعتباره أرقى الموجودات وبين الوجود يدفع الإنسان إلى:
• التطلع إلى تفكيك مكونات هذا الوجود من جهة ما يتيحه من فهم لحقيقة الربوبية، وهو بعد من أبعاد "العلم"، لأن العلم في أدق جزئياته ليس سوى طريق سالك يكشف حقيقة الخلق المؤدية بدورها إلى معرفة الصانع وقدرته.
• ضرورة الحفاظ على هذا الذي يقدم للإنسان ما لا نهاية له من الأدلة الدالة على الصانع، فوجب بذلك الحفاظ على صفاء هذا الوجود من كل ما يعكر صفاء العلاقة بين الوجود والإنسان.. فالفساد والإفساد بجميع ضروبه المادية والمعنوية يؤدي حتما إلى انحجاب الرؤية وتكدر الطريق السالك إلى الله تبارك وتعالى، ثم تكدر المعرفة الأصيلة، وتكدر فاعلية التفاعل مع الوجود.
إن الأستاذ عندما يركز على هذه النطق يؤكد أن الإنسان ليس بمقدوره فتح الآفاق والسير إلى المستقبل دون هذه الحقيقة المطلقة؛ فعلى الإنسان في مجتمعاتنا التي ترغب في أن تقول كلمتها في هذا العصر والعصور المقبلة أن تستحضر العلاقة بين "الإنسان-الكائنات-الله" في حركيتها وفاعليتها.
4- لكل عصر خصوصيته وشخصيته
إن معيار "الإنسان-الكائنات-الله" هو محور الدائرة في كل حركية إصلاحية، بما تملكه هذه العلاقة من مشروعية تاريخية أكدت أن الإنسان باستطاعته التحول إلى حركية مغيرة في ظل انسجام العلاقة بين "الإنسان-الكائنات-الله". فالانبعاث والنهضة مرهونات بمدى تمثل هذه العلاقة. فهل هذه الروح الثقافية الكامنة في لاوعي الذات، والتي هي نتيجة تجارب طويلة ممتدة في الزمن حتى صارت جزءً مترسخا في طبع الإنسان، ومصدرا للمعلومات في اللاشعور، هل ينبغي لها المحافظة على صورتها الموروثة أم تستطيع تجديد ذاتها؟
يرى فتح الله أن العصر وخصوصياته تستطيع الإضافة إلى الموروث أو إلى الثقافة الذاتية بما انتهت إليه تجربة العصر، وإلا كيف يكون الإنسان حركيا فعالا إن لم تكن له القدرة على طبع ثقافته الكامنة في لاشعوره والموجودة -كما يقول الأستاذ- "فوق الزمان" في عمق شخصيته. بعبارة أخرى إن الكثير من الأعراف والمعتقدات والمسلمات هي جزء من الروح لكنها، "... غافية في اللاشعور، تحفزها المقومات الداخلية للعقل بين الفينة والأخرى، بواسطة دوافع وأسباب مؤثرة في هذه المكتسبات، فتنشطها وتفعلها وتنشئها وتصورها في أشكال؛ فأحيانا في شكلها القديم وأحيانا في تماثل قريب من شكلها القديم ولكن ربما بلون باهت، غير أن هذه المكتسبات مهما كانت مندرجة في طبع الإنسان فلا تظهر في الحاضر مجددا بعين الذات القديمة، لأن كل يوم جديد هو عالم خاص بذاته... لذلك لا نريد أن نكرر مكتسباتنا القابعة في اللاشعور كشيء قديم تماما، بل بإضافة شيء من العمق إليها حسب متطلبات الأحوال والظروف"[8].
رغم أن الأستاذ فتح الله ينطلق من روح التراث ومن الأصول الثابتة ومن اقتناع كلي بأن الإنسان يحيى بروح الماضي الممتد فيه دون إرادته، إلا أنه يرى ضرورة أن يكون الإنسان ابن عصره ووقته، ويرى ضرورة أن يطبع عصره بشخصيته، فجذوره الثقافية والفكرية وإن كانت ممتدة في الزمان، لا ينبغي أن تمنعه من طبع وجوده في زمنه بطابعه الخاص الذي هو طابع العصر.
بعبارة أخرى إن الإنسان يستطيع أن يزيد في وعاء المعاني والأفعال والتصرفات التي تجعل "التوحيد" أكثر عمقا في القلوب والأرواح في فترة من الفترات، فإنسان كل فترة من الفترات مطالب بأن يكون وسيلة فعالة في دفع الفكرة إلى الخارج فتعبر عن نفسها. فما دور الإنسان في عصر وفترته إن لم يكن قادرا على مساعدة من لا يستطيع تعبير هاتف الفطرة الداخلي القادم من الأعماق، حتى لا تنسحق هذه الفطرة تحت ثقل طبقات الغفلة والأفكار الغامضة والمسلمات الخاطئة، المتكدسة عبر مختلف مراحل التاريخ الطويل. فالقول الأصوب كما يقول الأستاذ هو:
"أن نعيش تلك المكتسبات بزيادة ألوانٍ وأعماقٍ طرية، صحيحة النسب، مستمدة من الأصل"[9]
فالروح الثقافية تحتاج إلى:
• أن تصطبغ بلون شخصيتنا في العصر، وأن نسمح لها بأن تتسرب إلى عمق حياتنا في العصر، بعد تكيفها مع روحه، حتى لا تكون سببا في ظهور تنافر وتناقض بينها وبين ما تمثله من جذور وبين حقيقة انتمائنا إلى عصرنا وزمننا. بعبارة أخرى ينبغي رعايتها وتعهدها بكل ما يجعلها طرية في حياتنا.[10]
• ضرورة أن تكون هذه الثقافة من مصدر سليم وصاف، لأنها إذا كانت من مصدر هجين أو دخيل فلا يصلح لأن تمد انطلاقة الذات بالطاقة والقوة اللازمة للسير تجاه المستقبل.
• أن تكون من مصدر أصيل، والمصدر الأصيل هو الدين والقيم والأخلاق.
5- حقيقة ارتباط الذات بالتراث
وفي هذا الإطار تبرز قضية من القضايا التي أثارت الكثير من النقاش والجدل بين تيارات فكرية ثقافية مختلفة، وهي قضية العلاقة بالقديم وبالتراث، إذ السؤال "كيف ينبى التعامل مع القديم، هل باستحضاره في العصر وجعله المصباح الذي ينير طريق الحاضر والمستقبل؟ أم تجاهل هذا القديم والانطلاق في بناء الواقع بناء خاصا لا يتدخل الماضي فيه كيفما كانت طبيعة هذا الماضي؟".
لقد رأى البعض أن هذا الماضي كان سببا في تأخرنا، فقاطعوه كلية ومضوا يطلبون منظومة غريبة عن الذات، وولوا قبلتهم جهة من يمثلون النموذج الحضاري الأقوى حسب زعمهم. وكان هؤلاء الذين تبنّوا هذا النموذج قد ألغوا دور الدين في الحياة، وحصروه في مجرد كونه قضية شخصية وذاتية.
كانت شعارات المرحلة لا تخرج عن ضرورة الاجتهاد، وأهمية البعث والنهضة، وجدل العلاقة مع الآخر، ومسألة الذات والهوية الثقافية، وغيرها، كلها قضايا شغلت العقل ونمطت نظام التفكير الإصلاحي ودفعته إلى إثارة سؤال قديم الحديث، عبّر عنه شكيب أرسلان بسؤاله: "لماذا تأخر المسلمون وتقدّم غيرهم؟".
لكن إثارة السؤال في الوقت الراهن يختلف بالضرورة، لأن الزمن دخل في بعد آخر تبدو فيه قيمنا الثقافية ويبدو فيه أصل هذه القيم عنصرا قادرا على أن يكون محرّكا فعّالا يمضي بمنظومة التفكير إلى أبعد حد ممكن، وهو أن يكون الإسلام وميراثنا الثقافي -كما يسمّيه "خُوجا أفندي"[11]- حامل بلسم لهذا العصر.
ومن ثم كيف نسائل ما يمكن أن نطلق عليه "تراث الفكر الإصلاحي"، وتحليل معطياته المتعلقة بأسباب فشله في تحقيق الإصلاح المنشود الذي ظل على مدى مائة وخمسين سنة لا يكاد يراوح نفسه.
كانت أسئلة الماضي القريب (القرن 17، 18، 19) أسئلة وجودية مرتبطة بالذات، تشكلت هذه عندما بدأت الذات تخشى على وجودها فكان عليها أن تتحرك لكي تمنع ما قد يقضي عليها، وتمنع ما قد يتحكم في كيانها، وقد ولّد هذا الإحساس في الماضي القريب عدة تيارات:
• تيار الاحتماء بالتاريخ وبالدين وسد الباب دون ثقافة الآخر.
• تيار الاحتماء بالتاريخ وبالدين والانفتاح على ما فيه فائدة في ثقافة الآخر.
• تيار الذوبان في الآخر، أو التيار العلماني.
• تيار قومي باتجاهين: القومي الديني والقومي العلماني.
لقد انحصرت الأسئلة في:
• كيف يُحقَّق الإصلاحُ، وتفعَّل أفكارُه؟
• وكيف تنتج أفكار إصلاحية قابلة للتفعيل؟
• وكيف يستفاد في ذلك من التاريخ، ومن الغير؟
• وكيف يستفاد من الآخر دون الذوبان في ثقافته، ودون تعطيل المقومات الذاتية؟
لكل قضية من هذه القضايا منطق محدد يتحكم في منهجية إثارة القضية وفي طبيعة الخطاب. فلكل اتجاه خطابه الخاص الذي يعبر في أحسن الأحوال عن أيديولوجية مسكينة تسقط شعاراتها عند أول منعطف فكري أو سياسي.
لقد أريد لفكر الإصلاح أو لبعض تياراته أن يكون مجرد اجترار وإعادة صياغة لما قيل. ولذلك برزت الحاجة الملحة إلى ضرورة الانتباه المعرفي للإشكالات المعرفة المتعلقة بطبيعة التناول، ووجوب الاشتغال المعرفي على الخطاب الناتج عن الجدل، وصولا إلى معرفة الضوابط المتحكمة فيه، كالاهتمام بجدل علاقة الحضارات فيما بينها هل هي علاقة صراع وصدام، أم علاقة تفوق حضارة ونفي أخرى، أم هي علاقة تكامل أم علاقة حوار؟ ودراسة الخطاب الذي ينتجه الجدل وتحليله هو غير الانخراط في الجدل. ولذلك فإن التناول المعرفي لهذه القضايا يفرض قدرا كبيرا من الموضوعية العلمية، ويفرض في الوقت نفسه التجرد عن الأنانية الذاتية.
وظفت بعض التيارات الإصلاحية جملة من الرؤى الفكرية والأيديولوجية من أجل الوصول إلى تحقيق أحلامها في الإصلاح؛ فالتيار السلفي المسترشد بفكر ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، على سبيل المثال عمل على بناء رؤية تحارب البدعة والانحراف الطرقي، جاعلا من ذلك أهم معالم مشروعه الإصلاحي، فضلا عن توجيه النقد للسلطة التي جعلت الطرقية أيديولوجية تبرر بها مواقفها.
والسؤال المطروح بخصوص هذه القضية هو "ما العوامل الذاتية والخارجية التي ساهمت في ظهور التيارات الإصلاحية؟ ولماذا لم تتمكن من إدخال الذات إلى دائرة النهوض الحضاري؟".
استطاع التيار السلفي أن ينشر بعضًا من أفكاره وتصوراته، ووقف بعض رجالاته سدا منيعا أمام محاولات التحديث التي نادى بها مفكرون من داخل التيار السلفي نفسه، بمعنى أن هذه الرؤية الإصلاحية عندما اكتملت معالمها سورت نفسها بسياج منيع يرفض الانفتاح على أفكار أخرى، ربما بدافع الخوف من المجهول، أو بدافع الأنانية الفكرية.
ربط جمال الدين الأفغاني بين تغيير العقلية الدينية والأخذ بالأسباب السياسية وصولا إلى فرض الإصلاح من الأعلى، لكن تلميذه محمد عبده الذي يئس من إمكانية تحقق منهج أستاذه، جعل الإصلاح الاجتماعي بوابة لتحقيق الإصلاح المنشود وكان أهم عنصر في دعوته هو ضرورة إصلاح التعليم وخاصة التعليم الديني.[12] ومن هنا جاءت رغبته المشهورة في إصلاح الأزهر الشريف، حيث قال: "إن إصلاح الأزهر أعظم خدمة للإسلام، فإن إصلاحه إصلاح للمسلمين وفساده فساد لهم"[13].
وتعتبر أدبيات الرحالة المغاربة والسفارات إلى أوربا، وما سجل من ملاحظات عن التطور الذي حققه النصارى في مختلف الميادين الصناعية والعسكرية والعلمية، مصدرا مهمًّا لأفكار دعاة إصلاح التعليم. ولم يكن التيار المحافظ بعيدا عن نقاش إصلاح التعليم في دائرة المنظومة التقليدية، كما هو الحال مع العالم الجليل أبي شعيب الدكالي الذي ركز من خلال سلفيته على أهمية ربط الناس بالمصادر الصافية للعلوم الشرعية من خلال علم الحديث على الخصوص، ونصوص السنة الصحيحة.
لم تكن فكرة الجامعة الإسلامية وفكرة الرابطة العثمانية والالتفاف حول الدولة العثمانية باعتبارها تمثل أحد رموز الوحدة وهو "الخلافة" أقل شأنا من إصلاح التعليم. فقد حفزت بعض زعماء الإصلاح من داخل التيار السلفي كجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده اللذين عملا بكل حماس على تحقيق الحلم، لكن الحماس ما لبث أن ضعف بفعل تأثير بعض العوامل السياسية والفكرية فتُنُوزِل مؤقتا عن هذا الحلم الكبير لصالح الأدنى وهو "القومية" التي وجدت من يقوم بإذكائها وهو الغرب الطامع في انتزاع مناطق نفوذ الدولة العثمانية. ومن نتائج القومية، بروز تيارات تختلف تصوراتها للإصلاح التقى حولها السلفي والعلماني والقومي المسيحي والقومي المسلم، كل طرف من زاوية ما يؤمن به من خلفيات فكرية ومنهجية.
وعلى العموم فإن الخطاب السلفي في المشرق بالإضافة إلى تونس والجزائر ظل محكوما بطبيعة الصراع بين الأنا/ السلفي والأنا/ السلطة التركية من جهة، والأنا/ السلفي والآخر الغرب من جهة ثانية. وأما المغرب فقد ظل الصراع فيه منحصرا بين المثقف المحافظ والمثقف المستغرب الطامح إلى التحديث والتغيير والانفتاح على الآخر، دون خلو مختلف المراحل التاريخية من محاولات للتقارب بين العثمانيين والدولة العلوية في ظل فكرة الجامعة الإسلامية، لولا أن المساعي كانت دائما تلقى معارضة بعض الدول الأوروبية وخاصة ألمانيا وفرنسا.
إذا كانت دواليب السلطة تبني أيديولوجية معينة تدبيرا لشؤون الدولة من أجل الحفاظ على السلم المدني والاستقرار السياسي، فإن المثقف ينظر بمنظار آخر يختلف كل الاختلاف عن منظار الحاكم. ولهذا فإن أسئلته وإجاباته تختلف كل الاختلاف، فلكل طرف نظرته ونظرياته التي تغري الباحث بالدراسة والتحليل.
وعلى العموم فقد ظل الفكر الإصلاحي محكوما بأمرين:
الأول: هو المبالغة في التفاؤل، واعتبار قضية الإصلاح قضية قرار يتخذ بين يوم وليلة. فبالغ زعماء الإصلاح في التفاؤل واستعجلوا لمس ثمار أفكارهم، وبعبارة أخرى لقد كان مفكرو الإصلاح مثاليين، في التفاعل مع الواقع، وافتقروا في الوقت نفسه لواقعية خبرت شروط هذا الواقع وخصوصياته.
الثاني: التشكيك في القيمة الإصلاحية والفكرية التي يقدمها الغير وليس الآخر، من منطلق تسييج الرأي الخاص بسياج منيع يرفض وجود الرأي المخالف.
ثانيا: أزمة الشرق وإشكالاته راهنا
1- وظيفة التراث في مشروع فتح الله كولن
يمكن تلخيص أزمة الشرق في دخوله في وقت ما في نوم عميق وإهماله توظيف ملكة العقل واستعمالها في فهم الطبيعة واكتشاف أسرار الكون والوجود من أجل تسخيرها بما يعود بالفائدة على الإنسان في كل مكان.
قد يكون السبب هو أن الذات لم تكن في حاجة إلى ذلك بالنظر إلى طبيعة الحياة البسيطة، وبالنظر إلى عدم وجود ما يضايقها في وجودها وفي رزقها وفي أرضها، فكانت تنام ملء جفونها راضية بمصيرها. وفي الوقت الذي كان الشرق يوظف الحد الأدنى من قدراته الفكرية والثقافية والعقلية والدينية أو لا يوظفها بالمرة. كان الغرب يعمل ليلا ونهارا على استجلاء أسرار الكون وتفسيره وفك ألغازه بغضّ النظر عن طبيعة الخلفية الفكرية، ويعمل كذلك على توظيفها التوظيف المناسب؛ علما بأن هذا الغرب نفسه عندما أعاد النظر في منظومته الوجودية أعادها على أساس ما حققه العقل الإسلامي عبر تاريخه. وقد ظل الشرق العربي في سباته ينتظر الحملة الفرنسية لكي يدرك موقعه في سلّم الحضارة والتقدم.
وتفرز هذه الملاحظة سؤالا مهما هو "ما العوامل التي أنتجت عصر الأنوار وأنتجت النهضة الأوروبية التي بهرت العقل الشرقي إلى درجة الهوس، فحركت فيه ملكة الحلم باسترجاع الماضي بازدهاره الحضاري والمعرفي والعمراني، تجاوزا للراهن المتدهور؟". إذ كما حلم البعض بالبعث آمن البعض الآخر بضرورة القطيعة مع الماضي وكل ما يمثله وخاصة الدين، وبناء الحاضر على ما بنت به الأمم المتقدمة في الوقت الراهن حاضرها. لقد جزَّأت هذه المواقف الذات الشرقية إلى نخب متصارعة حول المنهج المناسب لتناول قضية الانبعاث.
"الآخر" بصفة عامة لم يكن مطروحا بالمستوى نفسه في كل مناطق العالم الإسلامي، فالإشكالات التي أثيرت في تركيا العثمانية التي تعرفت على التقدم العلمي لأوربا ردحا من الزمن قبل العالم العربي، لم تواز الإشكالات التي طرحت في العالم العربي. لأن التعرف على التقدم العلمي الأوربي مبكرا لم يشفع للدولة العثمانية، ففككت أطرافها ودخل المجتمع في البلبلة الداخلية سياسيا واجتماعيا، انتهت بسقوط الخلافة وانقطاع خيوط الاتصال بين أطراف ما كان يشكل كلا متجانسا، لتتحدد الإشكالية الكبرى في كون مصدر الأزمة هو الإنسان وليس جلب التقنية الحديثة، ولا الانفتاح على ثقافة الغرب وفلسفته. وبالمقابل فإن مصر والشام -على سبيل المثال- قد عاشتا هذه الصدمة بأسلوب مختلف بعد الحملة الفرنسية على وجه الخصوص.
كانت رؤية المثقف العربي المسيحي مختلفة كل الاختلاف عن رؤية المثقف المسلم، محافظا كان أم معتدلا أم علمانيا؛ إذ لكل مثقف رؤيته الخاصة التي تناهض أو تعادي الغرب أو تقبل عليه.
لقد انخرط المثقف المسيحي في الدعوة إلى ضرورة تبني جميع قيم الغرب، بل إن المثقف العربي المسيحي والعربي المسيحي عموما كان يعتبر نفسه أقلّية عربية، وكانت الهجرة إلى أوربا نوعا من العودة إلى الأصل، ومتنفسا مهما بالنسبة له. ولذلك فإن أول من أثار قضية الإصلاح وأسئلة النهضة في العالم العربي بعيدا عن الدين هم المسيحيون، بالنظر إلى كونهم أول من اتصل بثقافة الغرب دون أحكام مسبقة أو عقدة فقدان الهوية. كان المسيحيون العرب هم أول من أدخل بعض مستلزمات النهضة كالطباعة، وهم أول من احترف الصحافة والنشر، وبادر إلى تأسيس نظام تعليمي مسيحي على أسس حديثة تراعي خصوصيات العصر.[14]
العقل الإصلاحي ينشط في ظل الأزمة، بل إن تاريخ الفكر الإنساني منذ القديم وإلى الآن تاريخ بحث عن الأجوبة الوجودية لأزمات الإنسان وواقعه. وتاريخ الفكر الإنساني هو كذلك تبادل للتأثير من جهة كون الفكر الإنساني ملكا للإنسانية كلها يحق للإنسانية أفرادا وجماعات الاستفادة منه وتبني كل أو بعض معطياته.
رغبة التغيير والإصلاح كانت وما تزال إحساسا يسكن كل مكونات المجتمعات، كما أشرنا سابقا، لكن الإشكال يكمن في المنهج والكيف. ولهذا فإن لكل فترة دعوتها الخاصة للإصلاح، ولكل مجتمع أسلوبه في بلورة أجوبته على أسئلة الواقع، ورؤيته الخاصة لهذا الإصلاح، بل إن طبيعة الأجوبة مرآة تنعكس عليها مختلف التيارات والخلفيات والأفكار والمذاهب التي تصب في النهاية في خانة البحث عن أجوبة لأسئلة الواقع الوجودية.
وأما موقف الأستاذ فتح الله فهو موقف وسط بين الأخذ من التراث وبين المحافظة على روح العصر. فهو يعتبر القديم أساسا متينا، لكن مع ضرورة تطويره بمعطيات الجديد. فالأصل ألا يتم اعتبار العصر والماضي حقبتين أو مرحلتين منفصلتين متنافرتين، إذ يقول: "ونلفت نظرنا إلى خطإ وقعْنا فيه كأمّة دائما، وهو أننا بدلا من جعل القديم أساسا متينا ليقام عليه الجديد، وتطوير القديم بمعطيات الجديد، فصلْناهما في أكثر الأحوال إلى شريحتين ربطناهما بحقيقتين منفصلتين؛ فأحيانا استعدينا بعضهما على بعض، وأحيانا أخرى عارضنا بينهما، فأدينا إلى حصول معضلات في الأسس؛ فإما قلنا: "الجديد يُشَمّ عطرُه ثم يُرمَى في النفايات، والقديم يفوح كالمسك والعنبر كلما رججته يتضوع"، فأفرطنا في "واردات" حقبة من الزمان.. أو قلنا: "نفع في مكتسبات عتيقة لزمان ولى، الخير في العالم الزاهي للجديد"، وأهملنا تماما ذلك الجانب للزمان فأغفلنا مفهوم "الزمان الذاتي"، وتغافلنا عن البعد العالمي الكوني"[15].
وهذه الإشارة في حد ذاتها هي التي تحمل روح الدعوة إلى ضرورة التجديد، بل يذهب إلى حد لزومية إعداد بيئة طيبة لزمان ثقافي جديد، يستطيع تطوير حياتنا الفكرية، بتفسير ثقافتنا تفسيرا معمقا، وتقويمها التقويم الذي تستحقه، لكن مع ضروة النظر إلى الماضي والحاضر والمستقبل باعتباره بوتقة واحدة لا يمكن فصل أجزائها بعضها عن بعض. ولا ينبغي في هذا الإطار أن نفدي قيم الماضي والحاضر والمستقبل بعضها ببعض، وبعبارة أخرى يتوجب عدم جعلها تناقض بعضها بعضًا أو يعادي بعضها بعضا. وتعليل ذلك هو "أن الزمان الثقافي غير مرتبط بفكرة التواجد قبل أو بعد، على خلاف مفهوم الزمان المعروف لدينا. وأرى من الأنسب أن نسميه بـ"فوق الزمان""[16].
فثقافتنا التي هي عنصر داخل في أصل طبعنا، والذي امتزج مع الروح، ينبغي النظر إليه نظرة متعالية بعيدا عن مقاييس الزمن التي تقتضي وجود بداية ووجود نهاية. ولكي تستطيع هذه الذات التفاعل الأنسب والملائم مع هذه عناصر الثقافية ينبغي أن تكون مستقلة بذاتها، بل إن ديمومتها بذاتها منوطة كذلك باستقلالها.
2- القيم أساس متين
انطلاقا مما تقدم نطرح السؤال الآتي: ماذا تعني الثقافة عند الأستاذ هل هي روح الإسلام، وإذا كانت كذلك فهل الموروث القادم من مراحل ما قبل الإسلام يدخل في الثقافة ويعتبر جزءا منه؟
أعتقد بأن الاستاذ فتح الله يعتبر أن كل ما دخله روحُ الإسلام فاصطبغ بصبغته صار من الثقافة. وتجد هذه الرؤية داعمها الفكري في أن الله تبارك وتعالى عندما بعث رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم- بالإسلام إلى أهل الجزيرة بداية لم يلغ ما كان متداولا بين العرب آنئذ من مكارم الأخلاق وسامي القيم، فهذه لا شك أنها كانت قيما إنسانية متوارثة جيلا بعد جيل، وحقبة زمنية بعد حقبة. وليس من المستبعد أن يكون أصلها هو الدين والتوحيد، بل إن التوحيد هو الذي أصلها في جينات الإنسان وبقيت تنتقل عبر الأجيال إلى اليوم، في وقت تغافل فيه الناس عن الدين وبقيت قيمه ومكارمه موجودة في صلب جيناته إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. ومن هنا فإن هذه الأشياء تسمى "ثقافة"، والإسلام عندما جاء لم يلغها ولم يحاربها بل احتضنها لأنها في الأصل جزء من الدين، والدين واحد كما هو معروف. فهل نقول إنها تحتضن الإسلام، أم إن الدين يحتضنها؟ والجواب إنها جزء من الدين بل إن الدين هو طاقتها المحركة، ولذلك كان العرف -كما يؤكد الأستاذ فتح الله كولن ذلك- من مصادر الأمة الأساسية المعتمدة في التشريع، وسيأتي بيان ذلك لاحقا.
3- أبعاد الثقافة الإجرائية عند الأستاذ فتح الله كولن
ما عناصر الثقافة وما مقوماتها عند فتح الله كولن؟ وبعبارة أخرى ما مفهومه للثقافة؟
أشرنا في مكانين سابقين من هذا المبحث إلى منظور الأستاذ للثقافة. وبإضافة تعريف آخر تكون الصورة العامة لمفهوم الثقافة عنده قد اكتملت. يقول محددا عناصرها: "مجموع نظمٍ وقواعدَ تحكم التصرفات الاجتماعية والأخلاقية التي أنتجتها أمة أثناء تاريخها الطويل، وجعلتها بمرور الزمان بعدا من أبعاد وجودها أو حوَّلتْها إلى مكتسبات في اللاشعور.. ومع أن بعض الخصوصيات الأساسية للثقافة حسب هذا التعريف يحمل سمات عالمية، لكن الواضح أن لكل مجتمع في جغرافية اجتماعية معينة، ثقافة سائدة خاصة. وبدهي أن هذه الخصوصية الثقافية عنصر مؤثر قوي في النُّظُم الفكرية. ولذلك، يعد الفكر المرتبط بثقافة معينة عند فرد من الأفراد، تعبيرا عن ذاته بواسطة إطار المرجعية المعينة"[17].
ويضيف مستخلصا: "الحاصل أن "الثقافة" هي مجموع المفاهيم والقواعد والانسياقات التي تَعلّمها الإنسان وآمن بها وطبّقها في حياته فصارت -بعناصرها الأصلية والتبعية- بعدا من طبعه، حتى تحولت إلى مصدر للمعلومات في اللاشعور... فهي ظاهرة أبيستمولوجية يُدْرَك ويُحَسُّ بوجودها وتأثيرها بين الحين والآخر، حتى في غياب الشعور والإرادة"[18].
ويمكن تفكيك العناصر التعريفية والحدية للمفهوم إلى المكونات الآتية:
• "مجموع نظمٍ وقواعدَ تحكم التصرفات الاجتماعيةَ والأخلاقية". فالثقافة من خلال منظور الأستاذ فتح الله، هي تلك الضوابط الأخلاقية والقيم التي تتحكم في سلوك الإنسان الأخلاقية والاجتماعية، وهذه الضوابط والقواعد هي التي توجه تصرف الإنسان في إطار بعده الفردي اللازم لتأسس البعد الجماعي اللازم بدوره لتأسيس البعد الاجتماعي. إذا تمكنت الأبعاد الجماعية من أن تتمثل مجموع هذه القيم وقواعدها المتحكمة صارت نوعا من أنواع "الوعي الجمعي" الذي تنتهي عنده كل التصورات والرؤى الفردية لتمتزج في بوتقة واحدة منسجمة مع هذه الضوابط والقيم والأفكار التأسيسية، أو الأفكار المنطلقية. لا شك في أن هناك مرحلة من التاريخ استطاعت فيه القيم وضوابطها أن تتجذر في عمق اللاوعي الجمعي وأصبحت تمارس حضورها اللاإرادي على كل فرد من أفراد المجتمع، ومن خلال الفرد على المجتمع كله.
• "أنتجتها وأصَّلتها أمة أثناء تاريخها الطويل"، لأن القيم وضوابطها ليست واردة على الأمة، بل هي جزء من أصول الأمة ومن تاريخها، بمعنى أن الأمة عندما ولدت واستحقت هذا الوصف كان ذلك بتأثير هذه القيم والضوابط نفسها. لقد ولدت الأمة بها وانصهرت في بوتقة هذه القيم وضوابطها. فهذه القيم والمقومات الثقافية هي النتيجة المعنوية الأصيلة، التي رسخت في أعماق الإنسان باعتباره جزءا من كل هو الأمة. وبعبارة أخرى لقد انصهرت هذه القيم في معمل التاريخ فاكتسبت صلابتها وقوتها. فهي ليست عناصر ناتجة عن العجلة والتسرع، فقد نمت نموها الطبيعي في حضانة التاريخ، وارتوت بما يقدمه لها التوحيد والعقيدة والفكر الديني من عناصر التغذية اللازمة، دون أن تكون عالة على مصدر آخر يغذيها، ثم يزرع فيها جيناته الفاسدة، وبكلام آخر إنها نتاج المحاضن الصافية النقية السليمة
• "جَعَلتها بمرور الزمان بُعدا من أبعاد وجودها" أي أنها اختمرت في معمل الزمن الذي أكسبها عتاقتها وأكسبها في الوقت نفسه قوة الرسوخ حتى صارت بمرور الزمن عنصرا تكتسب منه الأمة سر وجودها، فهي باعتبارها أمة لا تعتبر كذلك إلا بهذا العنصر وهذا المكون.
• "حوَّلتْها إلى مكتسبات في اللاشعور" فعتاقة هذه العناصر جعلتها تتسرب بمرور الزمن كذلك إلى لاشعور الإنسان فأصبحت تمارس تأثيرها على نمط التفكير وطبيعة الرؤية للعالم والكون والإنسان، فصار الإنسان الذي ولد في ظلها وترعرع، يتأمل وينظر ويحاكم من خلالها ذاته ومحيطه دون شعور منه. ولذلك فإن من يحاول تجاهلها في النظر إلى ذاته ومحيطه والكون كله، بطلب منظومة هجينة غريبة عن ذاته، ينتهي إلى الفشل والتيه المؤدّيين إلى الموت، لأنها تعاكس الهاتف الداخلي الفطري الذي يمنحها التوازن ويجهزها بالطاقة المعنوية اللازمة للحركية والفعل.
• "إن بعض الخصوصيات الأساسية للثقافة حسب هذه الرؤية يحمل سمات عالمية"، لأن هذه العناصر والخصوصيات ذات طبيعة مشتركة مع كل البشر من جهة أن الإنسان في كل مكان يجد نفسه تحت تأثير هذه العناصر الثقافية التي اكتسبت بمرور الزمن سلطة معينة، فهي تمارس هذه السلطة على الإنسان الذي ظهر في كنفها وتكون في أحضانها.
• "لكل مجتمع في جغرافية اجتماعية معينة ثقافة سائدة خاصة". من هنا تنبع الخصوصية الثقافية التي تميز فئة اجتماعية عن أخرى وتميز مجتمعا عن آخر.. فما كان أساس ثقافته "التوحيد" لا يمكن أن يكون مثل ما كان أساس ثقافته "الطبيعة" وقوى مادية أخرى. فنمط التفكير في كل جغرافية مجتمعية محكوم بهذا الأساس الثقافي الكامن في اللاشعور الفردي والجماعي.
• "الخصوصية الثقافية عنصر تأثير قوي في النُّظُم الفكرية"، ولذلك فإن هذه الخصوصية تعتبر موجها لنمط التفكير، بل هي صاحبة السلطة في ذلك.. فالإنسان المنتمي إلى جغرافية ثقافية معينة (بالمعنى المعنوي لا بالمعنى الفزيائي) محكوم بخصوصية هذه الثقافية التي توجهه وتمارس عليه تأثيرها. ولذلك فهو عندما يتنكر لها ويدعي الانتماء إلى ثقافة أخرى أو يحاول مجاراتها فإن النتيجة ستكون نموذجا بشريا هجينا ليس بإمكانه تقديم شيء لنفسه ولا لغيره، بمعنى أنه لا يساوي شيئا في دائرة منظومة ثقافية غريبة عنه.
• "يعد الفكر المرتبط بثقافة معينة عند فرد من الأفراد، تعبيرا عن ذاته بواسطة إطار المرجعية المعينة"، بمعنى أن هذا الفرد كلما كان مرتبطا بثقافته كلما كان أصيلا في رؤيته وفي نظرته للوجود ولكل ما يحيط به. وكلما كان تفاعله مع محيطه إيجابيا، كلما وجد في عمقه داعما فكريا وروحيا منبثقا من ثقافته هته، مما يجعله يلغي كل المظاهر السلبية من حياته وينظر للمستقبل بروح متفائلة واثقة في ذاتها.
• "الحاصل أن "الثقافة" هي مجموع المفاهيم والقواعد والأنساق، التي حصلها الإنسان وتعلمها" خلال رحلة طويلة استمرت أجيالا كثيرة، واختمرت حتى العتاقة في معمل التاريخ الواسع.
• "آمن بها" بمعنى أنها صارت جزءا من معتقد الذات تؤمن بأنه هو المصدر الذي ترجع إليه في كل شؤونها وتحتكم إليه في كل ما يعنّ لها.
• "وطبقها في حياته" فهي ليست مجرد أنساق صورية، بل هي في الأصل أنساق عملية جرى تطبيقها أزمنة بعد أزمنة حتى صارت جزءا من سلوك الذات تفرض نفسها على السلوك. بعبارة أخرى لقد صارت سلوكا وتصرفات ذات سلطة ثابتة.
• "صارت -بعناصرها الأصلية والتبعية- بُعدا من طبعه"، بمعنى أنها طبعت الذات بطابعها الخاص، فأكسبت الذات طابعا محددا هو في الأخير طابع الثقافة الذاتية.
• "حتى تحولت إلى مصدر للمعلومات في اللاشعور"، بمعنى أنها هي المعين الذي ترجع إليه الذات في كل وقت وحين لكي تفسر كل ما يحيط بها، والتي تحل كل ما يعنّ لها في حياتها من مشكلات وأحداث، فهي المعين الذي يصنع توازن الذات الوجودي.
• "وهي ظاهرة أبستمولوجية" أي أنها ظاهر معرفية، بما تختزنه من قابلية للخضوع للبحث والتحليل، في أفق وضع خطاطة مختزلة عن منهج اشتغالها، لأنها تشتغل وفق أنساق محددة اكتسبت نسقيتها في مصنع التاريخ.
• "يُدْرَك ويُحَسُّ بوجودها وتأثيرها بين الحين والآخر حتى في غياب الشعور والإرادة"، إذ لولا قابليتها لأن تكون مدركة وأن تكون مؤثرة لما كانت ظاهرة معرفية تمارس تأثيرها باستمرار بوعي الذات أو بدون وعي منها: بل هي تمارس تأثيرها حتى في غياب الشعور والإرادة، ولذلك فهي صاحبة سلطة تمارس سلطتها على مختلف مكونات المجتمع أفرادا وجماعات.
وبناء على ما تقدم فإن مفهوم الثقافة الذاتية التي عمل الأستاذ فتح على صياغة عناصرها وبلورة مكوناتها، تقوم على جملة مكونات ومجموعة مفاهيم هي: الثقافة عبارة عن مجوعة من المفاهيم المختلفة وسبل التفكير المتنوعة، وأوجه الرؤية المتعددة، "والتصورات" الفنية والقيم الأخلاقية المرتبطة كل منها بتفسير مختلف. فهي تحويل لكل فعاليات الإنسان، في كافة المجالات المعرفية والسلوكية والرؤيوية، وغيرها إلى فاعلية إيجابية.
انطلاقا مما تقدم يمكن القول إن منظور الأستاذ فتح الله للثقافة ينحصر في تلك العناصر التي تصنع أمة من الأمم، أو بالأحرى إنها تلك المقومات التي لا تستطيع الأمة بدونها أن تكون حاضرة وموجودة على مسرح الحضور الحضاري العالمي، لأن هذه العناصر هي التي تقدم للأمة الدعم المعنوي والروحي والفكري لكي تقول كلمتها. فهذه العناصر مجتمعة واجبة الحضور في جميع المناحي الفكرية والعلمية والحضارية والتربوية وحتى في التقاليد والعادات، إنها هي التي تصنع كيان الإنسان.
4- ميلاد الهوية في ظل الإسلام
إن الأستاذ فتح الله وهو يحلل هذه المقومات يريد التنبيه إلى تلك العناصر التي استطاعت الأمة بواسطتها أن تولد بعد أن كانت مجرد مجموعة بشرية لا تأثير لها في محيطها ولا وجود لها على مسرح التاريخ، وبعد أن كانت على هامشه. لكن العوامل الطارئة في واقعها قد حولتها إلى حقيقة وجودية، بل إن هذه الحقيقة الوجودية نفسها قد تكونت نتيجة هذه العناصر الطارئة في حياتها، لقد تحولت إلى شيء بعد أن كانت لا شيء.
هذا العنصر الطارئ في حياة هذه المجموعة البشرية هو "الإسلام" الذي تتوفر روحه على قدرة تحويل الإنسان وتغيير مسار تاريخه في كل وقت وحين، بل إن التاريخ نفسه يتغير مساره بفعل ذلك التحول الذي يُلحِقه الإسلام بالإنسان.
يتحدث الأستاذ بروح جماعية من خلال إلحاحه على "نون الجماعة"، فهو يركز على الذات الجمعية المتفرقة في كل مكان من هذا العالم، لكن هذه الذات الجماعية تلتقي عند مرتكز الثقافة. فـ"نحن" هذه ليست مرتبطة بحيز زماني ولا بحيز مكاني محدد، بل هي تعم الماضي والحاضر والمستقبل، وتعم كل مكان.. ولذلك كانت عناصر هذه الثقافة كما سبقت الإشارة إلى ذلك خارج حيز الزمن والمكان معا، إنها فوق الزمان كما يقول الأستاذ.
إن المعتقدات والمكتسبات التي تتشكل منها هذه الثقافة وتنبني عليها هي عناصر مندرجة في الروح وغافية في اللاشعور، "تُحفِّزها المقومات الداخليةُ للعقل بين فينة وأخرى، بواسطة دوافعَ وأسباب مؤثرة في هذه المكتسبات، فتنشطها وتُفعِّلها وتنشئها فتصوِّرها في أشكال؛ فأحيانًا في ذات شكلها القديم وأحيانًا في تَماثُلٍ قريب من شكلها القديم، ولكن ربما بلون باهت. غير أن هذه المكتسبات مهما كانت مندرجة في طبع الإنسان فلا تَظهر في الحاضر مجدَّدًا بعين الذات القديمة، لأن كل يوم جديد هو عالم خاص بذاته، وإذ يطلع يطلع بخصوصياته، وإذ يغيب يغيب بخصوصياته.. لذلك لا نريد أن نكرر مكتسباتنا القابعة في اللاشعور كشيء قديم تمامًا، بل بإضافة شيء من العمق إليها حسب متطلبات الأحوال والظروف. بل القول الأصوب أن نعيش تلك المكتسبات بزيادة ألوانٍ وأعماقٍ طرية، صحيحةَ النسب، ومستمدةً من الأصل"[19].
يتأمل الأستاذ فتح الله في الثقافة من زاوية الثابت والمتحول. فالثابت هو تلك الأصول التي تنير الطريق وتوجه الرؤى وتضبط الأفكار. وأما المتحول فهو ما يستطيع الإنسان أفرادا وجماعات تقديمه لذاته ولجماعته وللعالم كله انطلاقا من تفاعله الإيجابي مع مرتكزات ميراثه الثقافي، وانطلاقا من خصوصية الفترة التاريخية التي تنتمي إليها الذات المتفاعلة.
ما يريد الأستاذ التنبيه إليه هو أن لكل جيل ولكل عصر خصوصيته وهي خصوصية تسمح للجميع بأن يثبت ذاته وأن يبني شخصيته وأن يكون بسلوكه وفاعليته إضافة نوعية إلى مسيرة الحضارة والعمران، بل الأكثر من ذلك هو ملتزم بأن يضيف إلى المكتسبات الكامنة في أعماقه. بعبارة أخرى عليه بعث هذه الخصوصيات، وطبع حياته من خلالها بطابعه الخاص الذي تتجلى فيه شخصته في الزمان والمكان.
ماذا نستفيد من هذا التصور؟ نستفيد منه أن فتح الله حريص على أن يقوم أهل كل عصر ببناء حاضرهم وألا يقفوا على أبواب الماضي مادحين. وهو عندما يثير هذه القضية يطرحها بمنطق المجيب عن سؤال العصر المتعلق بعلاقة الذات بالقديم وبأصولها، كيف ينبغي النظر إلى القديم وكيف ينبغي التفاعل معه؟ يرى فتح الله بأننا ملزمون بإعادة إحياء البيئة الطيبة التي صنعت حضارة تعتبر اليوم من أقوى ما قدمته الإنسانية عبر تاريخها الطويل.
5- مفهوم جديد للثقافة
يرى فتح الله أن الأسس التي قامت عليها حضارة الماضي أيام كان المسلمون يعيشون نضارة الأسس الثقافية في أعماقهم، ينبغي أن تكون هي الأسس نفسها التي ينبغي أن تقوم عليها شخصية الحاضر.
الجدير بالذكر في هذا المقام هو أن فتح الله كولن يبني أسس مفهوم جديد للثقافة، فالثقافة في منظور الأستاذ تتجاوز ذلك السلوك الثقافي والتصرفات التقليدية التي اكتسبتها الأمة بمرور الزمن، من خلال توسيع الدائرة ملاحظا بأن الأمم التي ارتبطت بالإسلام في وقت من الأوقات قد اكتسبت بفعل ذلك سلوكا تَجذَّر في أعماقها وتحكم في تصرفاتها وكوّن لوحده اللاشعور. ولذلك فإن الثقافة في منظور الأستاذ هي جزء من روح الإسلام، إن لم تكن هي الإسلام نفسه، بمعنى أنه إذا لم يكن بمقدور الإنسان في مكان ما وفي زمن ما التخلص من روح الإسلام وهو يحاول الانطلاق إلى الآفاق البعيدة، فهو ملزم بأن يكون الإسلام في حد ذاته هو الموجه الأول في كل نهضة وانبعاث، وأن يكون هو أساس كل انطلاق إلى المستقبل.. وبعبارة أخرى إذا كانت مذاهب فكرية كثيرة تلح على عنصر الثقافة في بناء حاضر ومستقبل مجتمعات كثيرة، فإن الأستاذ لا يلغي ذلك بل يعيد بناء مفهوم "الثقافة" ليعطيه بعدا إسلاميا. إنه المفهوم الإسلامي للثقافة من وجهة نظر الأستاذ فتح الله إذ يقول: "وثَمّ أسس راسخة نجد أنفسنا مُلزَمين بأن نربط كلَّ مضمونٍ ومفهوم وأسلوبٍ فكريٍ وتفسير ومقاربة بتلك الأسس. حتى إن الثقافة بألوانها المختلفة تحوم وتدور في محيطها، وتنهل من مناهلها، وتتغذى بغذائها، وتنمو بها، ثم تتحول بفضلها إلى حال فوق الزمان والمكان"[20].
المبحث الثاني: المصادر الأساسية للثقافة الذاتية
أولاً: مركزية القرآن في الثقافة الذاتية
انطلاقا مما تقدم يثار السؤال الآتي "ما مرتكزات الثقافة عند الأستاذ فتح الله؟"
يجيب الأستاذ نفسه عن هذا السؤال من خلال مقالة "المصادر الأساسية لميراثنا الثقافي": "وهذه الأسس -باختصارٍ- هي الكتاب والسنة... وبالإضافة إلى هذين العمادين -وفي إطار مرجعيتهما- التفسيرُ والحديث وأصول التفسير وأصول الحديث والفقه وأصول الفقه... ونخص بالذكر الفقه وأصول الفقه فهما -من حيث إنهما ثمارُ مساعٍ حثيثة وكدحٍ مضنٍ، ومن حيث إنهما من غير مثيل أو شبيه لهما في التاريخ- مَنبعان لا ينضبان ومصدران قابلان للتوسع والثراء الرحيب بحيث إن الشعوب التي تمتلك هذين المصدرين تُعَدُّ مالكة لأهم الأشياء الحيوية. إن كل حضارة تَفخر بقيمٍ تخصها بالذات... فالفقهُ وأصول الفقه من أهم وأبرز قيم حضارتنا نحن. وأحسب أننا لو كنا نحتاج إلى أن نَصِف حضارتنا -باعتبار ماضينا- بصفة، لكان من الأنسب أن نصفها بـ"حضارةِ الفقه وأصول الفقه"... حضارة الفقه وأصول الفقه المنفتحة أبوابُـها على مصاريعها للفكر والحكمة والفلسفة"[21].
فالقرآن الكريم والسنة النبوية وما يتصل بهما من فقه وأصول فقه يعتبران المصدر الأساسي الموجه للميراث الثقافي بالنسبة للأستاذ، وهو إذ يبرز هذا المرتكز لا يقف بذلك عند حدود الخطاب بل هو يركز على جانب الحضور الفعلي لهذين المصدرين في الحياة من خلال بناء نماذج بشرية متحلية بثقافة تستمد مرجعيتها من سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومنهجه في الحياة ومنهجه في التفاعل مع الكون، ومن خلال الاسترشاد بالقرآن الكريم وما يتصل به من تفسير وفقه وأصول فقه.. وهو إذ ينبه إلى ذلك كله إنما ينبه إلى الأساس المتين الذي يكون خير عون للإنسان في مسيرة البناء والانبعاث من جديد والنهضة.. وهو كذلك إذ ينبه إلى ذلك يؤكد بأن كل منطلق لا ينطلق من خصوصيات ذاتية، فإن نتاجه ومخرجاته سلبية لا محالة، ولن يكون هناك انبعاث ولا نهضة، ولذلك وجب الارتكاز على هذه الخصوصيات. بمعنى أن الأستاذ فتح الله كولن يجعل القرآن الكريم والسنة النبوية وتوابعهما شرطين أساسيين للانبعاث الحضاري والنهضة والتقدم. ولا يقف هذا الرجوع إلى هذه الأصول عند مجرد اجترار ما قدمه السلف، بل لا بد للأجيال الحالية من أن تسجل حضورها.
لقد كانت البيئة التي أنتجت ما أنتجته من معطيات ثقافية ومن ميراث يعترف العدو قبل الصديق بقيمته وأهميته.. لقد كانت هذه البيئة بيئة حية معطاء وبيئة ولودا، بفعل ما وفرته المصادر الأساسية من أجواء مساعدة على الصلاح وعلى الإبداع. ولذلك فإن حضور هذه الأصول في حياة الأجيال الحالية، وعيشها كما كان يعيشها الأجداد، سيولد بيئة مساعدة على الانبعاث والنهضة وغير ذلك من أسباب النهوض، وسيقدم لهذه الخصوصيات إضافات كثيرة كما أضاف الأجداد بما أنتجوه من علوم ومعارف كانت مرشدا ومنارة تنير الطريق.. يقول: "يتحتم علينا -من أجل بناءِ فهمٍ ثقافي أمتن وأسلم وأقوم وأبقى لأمّتنا- أن لا نفدي قِيَمَ ماضينا وحاضرِنا ومستقبلنا بعضَها لبعض مع مراعاة الأولوية للمستقبل، وأن نوقر ونصون الديمومة والتوسع بنفس الدرجة.. والحقيقة أن الزمان الثقافي غير مرتبط بفكرة التواجد قبلُ أو بعدُ، على خلاف مفهوم الزمان المعروف لدينا. وأرى من الأنسب أن نسميه بـ"ما فوق الزمان". بل الأحرى أن ننظر إليه مستقلا عن الزمان ومتعاليا عنه. والواقع أن ديمومة الثقافة بذاتها منوطة باستقلالها. لكن من البدهي وجودُ إطار من المرجعيات تنظِّم بناءها الذاتي والمستقل تماما، وتُشكِّل كيفية علاقتها بالجهات المختلفة"[22].
قد يلتقي الأستاذ فتح الله كولن مع العديد من مفكري الإصلاح في قضية الارتكاز على القرآن الكريم وعلى السنة النبوية. فأغلب مفكري الإصلاح إن لم نقل كل مفكري الإصلاح الذين ينطلقون من رؤية إسلامية يجمعون على ضرورة الرجوع إلى القرآن والسنة، ولكنهم وهم ينظرون لذلك نسوا وضع خطة عمل لتفعيل ذلك، وهو الجانب الذي يميز الأستاذ فتح الله كولن.. فرؤيته الفكرية ومجهوده النظري لا ينفصل عن المستوى التطبيقي والحركي في مشروعه الإصلاحي بصفة عامة.
فما موقع القرآن الكريم في هذا الميراث الثقافي؟
وما موقع القرآن الكريم في التصور الإصلاحي بكامله؟
وما طبيعة نظرة الأستاذ فتح الله للقرآن الكريم؟
وما منهج تفعيل الوحي عنده؟
يقول عن القرآن والكريم وعن حيويته واستمرار نضارة خطابه، باعتباره وحيًا: "إن القرآن الكريم -سواء بالتفسيرات المروية عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أو التفسير والتأويل في ضوء قواعد اللغة العربية وأساليبها، أو أسباب النـزول- لم يزل مصدرًا مهمًّا لثرائنا الفكري، حتى إن من ينظر إليه بالنظر السطحي فلا يخفى عليه كم هو مصدرُ ثراءٍ كبير.. والمعنى عينه جار على الحديث أيضًا، لكن الواجب أن تصان هذه العلوم بالعقول الوفية والمقتدِرة، وإلا فلا منجى ولا مفرّ لأمّتنا من حياة الشقاء في هذا الثراء إن دام ما يراد لهذين المصدرين النيرين الفياضَين من تكديرٍ لصفائهما أو إغفالٍ لوجودهما، نتيجةً للعداوة اللدود من الخصوم، والخذلانِ أو السكون من الأصدقاء"[23].
فالقرآن وما يحيط به من معارف وعلوم، هو أول مصدر للثراء الفكري المتصل بالذات، بل هو أساس كل شيء في حياة المؤمن.. فالقرآن كتاب مقدس أوحاه الله تبارك وتعالى على رسوله -صلى الله عليه وسلم- ليبلّغه للناس كافة، بما أنه الكتاب الذي وضع فيه الله تبارك وتعالى تفاصيل السير إليه، وتحقيق الغاية من خلق الإنسان ونزوله إلى الأرض. ولذلك فإن القرآن الكريم الذي بلّغه الرسول -صلى الله عليه وسلم- لكل من كانوا محيطين به كان أداة تفتحت بها بصائر رجال حول الرسول -صلى الله عليه وسلم- وتعمق به شعورهم وتوسع به إدراكهم الفكري، حينما ربطهم بالآفاق واسعة، بعد انتشالهم من ضيق رؤية لا تتجاوز حدود اليومي إلى آفاق الوجود والكون الواسعين.. لقد أخذ بألبابهم منذ الوهلة الأولى نظرا لمنطقه الدقيق وقدرته على مخاطبتهم بأسلوب عهدوا أنفسهم أقدر الناس عليه، لكنهم مع ذلك عجزوا كل العجز عن الإتيان بمثله، وأدركوا مع كل ذلك بأنهم بالانفتاح على القرآن وتشريع أبواب كل جوارحهم سينتقلون بفضل ما أودعه الله في هذا الكتاب من أسرار إلى مقامات أخرى ترشد العالم إلى كل أنواع الفضل والخير. لقد أدركوا -وهم متحلقون حول المبلغ الأول- لهذا الخير العظيم بأن "الاستفادة من خيره منوطة بمقدار ما تتسع له العقول المنصفة"[24].
بهذا الإدراك -أي بإدراك كون القرآن الكريم وحيا وخطابا إلهيا يتوجه به الله تبارك وتعالى إلى خلقه من أجل مساعدتهم على معرفته والاسترشاد بمنهجه في إعمار الأرض وبناء الحضارة- نجح الرسول -صلى الله عليه وسلم- المؤيد بمصدر الوحي في صنع نماذج بشرية لم يسبق لها مثيل، لأن "درجة الكمال التي وصلت إليها الأجيال التي نشأت في جوّه النوراني كانت معجزة قائمة بذاتها لا تحتاج معها إلى ذكر أي نوع آخر من المعجزات، ولا يمكن العثور على أي مثيل لهم في مستواهم من ناحية التدين والتفكير وأفق الفكر والخلق ومعرفة أسرار العبودية. فالحقيقة أن القرآن قد أنشأ جيلا من الصحابة آنذاك لا نبالغ إن قلنا إنهم كانوا في مستوى الملائكة"[25].
فانطلقوا نحو الآفاق مبلغين كلمة التوحيد إلى كل مكان، مرشدهم في كل ذلك هو "لا إله إلا الله محمد رسول الله"، والخطاب القرآني.. لقد انطلقت هذه النماذج البشرية نحو الآفاق لا يحركها سوى شيء واحد هو "إعلاء كمة التوحيد"، ولم يكن في حسابها الاستقرار من أجل بناء الحضارة أو إدراك منفعة مادية ودنيوية، بل كان غرضهم الأول هو أن ترفرف كلمة التوحيد في كل مكان، وتبليغ الوحي إلى كل بقعةٍ وَصلوا إليها، لكن العمران والحضارة وما يترتب على ذلك من استقرار وإنتاج معرفي وغيره، كان في الأصل منحة إلهية وجائزة منحها الله تبارك وتعالى لهذه النماذج البشرية. واستمر الأمر على هذه الحال قرونا عديدة حولت فيه هذه الحضارة أمكنة قوتها من زمن إلى آخر ومن قطر إلى آخر، إلى أن تغافل الناس عن الهدف الأسمى وهو نشر التوحيد وجعل ذلك موجها أساسيا في الحياة، فابتلي الناس بما ابتلوا به من ضعف ومذلة وتراجع في القيم والأخلاق.
ومن هنا فإن فتح الله عندما يستحضر القرآن باعتباره مصدرا أساسيا من مصادر ثقافتنا كما يقول، يستحضره باعتباره وحيًا ما يزال يتنزل باستمرار إلى أن تقوم الساعة. وهذا هو عمق ما يقصده الأستاذ فتح الله بأن الخطاب الإلهي أو البيان الإلهي -الذي يعبر عنه الخطاب القرآني- هو فوق الزمان والمكان، وليس مجرد مصحف يتبرّك به ويحترم جانبه الخطي، ويعتنى بجوانب الزخرفة فيه.. فالأستاذ فتح الله كولن عندما يطرح القرآن الكريم بهذا البعد، يطرحه بروح مطلعة على تاريخ الحضارة الإنسانية بصفة عامة، وتاريخ الحضارة الإسلامية بصفة خاصة، يعلم يقينا أن الحضارة الإسلامية هي إسلامية بمقدار التصاقها بالوحي وروحه. فإذا هي ابتعدت عن هذه الروح ضاع منها مشعل الحضارة، والتجأت إلى هامش التاريخ وصارت تابعا، والأصل أن تكون رائدة. بعبارة أخرى إن الأستاذ فتح الله ينظر إلى عمق التمثيل لقيم الوحي، فكلّما مُثِّلت قيمُ الوحي تمثيلا حقيقيا وسليما وعميقا كلما تحقق الشهود الحضاري، يقول: "يمر العالم الإسلامي كله -في عصره القريب الأخير- بأشد أزمة واجهَته في تاريخه، من حيث الاعتقاد والأخلاق والنمط الفكري والمعارف والصناعة والعادات والتقاليد والأوضاع السياسية والاجتماعية. لقد نجح المسلمون في تأسيس أكمل إدارة، تعجز عنها مدارك التصور الإنساني، لمّا كانوا زمنًا أشد أهل الأديان تمسكًا بالدين، وأقوى الناس التزامًا بالأخلاق، وأسلمهم أعرافًا وتقاليد، وأجدرهم بقيادة الدنيا بسعة أفقهم السياسي والاجتماعي ونُظُمهم الفكرية. ذلك، بمعايشتهم للدين من غير خلل، وبكمال أخلاقهم، وعقلهم العلمي، وسبقهم الناس في كل عصر. واستطاعوا أن يمدوا سلطة إدارتهم - في ظل الأعمدة الثلاثة: الإلهام والعقل والتجربة- من جبال "بِيرِينَة"[26] إلى المحيط الهندي، ومن "قَازَان" إلى "الصومال"، ومن وبواتييه إلى سدّ الصين... وأحيوا الشعوب التي في عهدتهم في هذه المساحة الواسعة، بأنظمة متخيلة في المثاليات، حتى جعلوا الدنيا بُعدًا من أبعاد الجنة، وذلك في زمن كانت الدنيا تمر بأحلك العصور ظلمة"[27].
لقد كان القرآن باعتباره وحيا يتنزل على الناس فيبعث فيهم الحياة والحيوية والنشاط، لكنه عندما سُحب من مقامه العالي الذي يشرف منه على كل شيء، انهار البنيان وانهدت الصوامع. ولذلك فأصحاب الأحكام المسبقة والمنحرفون فكريا، والأرواح الأسيرة المكبلة، لن تستطيع الإحاطة بأسراره. فوجب تحرير الفكر من الأحكام المسبقة، ووجب انطلاق الروح من عقالها لكي تدرك معاني هذا القرآن الكريم، لأنه "أبدًا كتابٌ ذروةٌ في العلاء يتعدى آفاق البشر، وبيانٌ لا مثيل له بتنوع تفسيراته وتأويلاته بِطول موجات مختلفة، وذلك إنّما ينجلي لمن يفتح صدره له بإخلاص وصدق. إنه إكرام إلهي مهم للإنسان، والتعرفُ عليه ثم اللجوءُ إليه في كل مسألةٍ حظٌّ فوق الحظوظ وجَدٌّ فوق الجدود.. لكن -يا ترى- كم شخصا هو على دراية بهذه الحظوة؟! والحق أنْ لا حلَّ لمعضلة بشرية من غير اللجوء إلى ضيائه، وأنْ لا سعادةَ باقيةً يَحظى بها الإنسان من غير البناء على أسسِ شلَّالِ بيانه الدفاق"[28].
إن الأستاذ فتح الله يقدم الدليل بعد الدليل ملحا على أن كتابا مقدسا ظل محافظا على قوة خطابه وعلى نضارة معانيه وعلى حيوية بيانه على مر الزمن، لا يمكن إلا أن يكون أهم مصدر لثقافتنا. فما حقيقة هذا الكتاب، وما طبيعة نظرة الأستاذ للقرآن الكريم؟
تحدث الأستاذ عن القرآن الكريم في الكثير من المواضع، حتى لا يكاد كتاب من كتبه لا يُذكَر فيه مصطلح القرآن أو يشار فيه إلى معانيه. ويرجع ذلك إلى مقام القرآن الكريم في فكر الأستاذ فتح الله، وكيف لا يكون كذلك وهو الذي يبني مجموع مشروعه الحضاري على القرآن الكريم وعلى السنة النبوية. فالقرآن حاضر في مختلف مراحل مشروع "الخدمة"، إذ هو المصباح الذي استنارت به الخدمة في حركتها، وهو المصباح الذي أنار للأستاذ فتح الله السبيل للإجابة عن الأسئلة المحرجة في مسيرة حياته الحافلة، يقول: "القرآن هو قمة الفكر المتين والصحيح، وأساس التعبير الدقيق، وقاعدة للتعبير المنطقي. وكما كان هذا الفرقان العظيم سيد الكتب السماوية وغير السماوية كان المخاطب الأول له سيد الأنبياء والمرسلين -صلى الله عليه وسلم-. الكتب السابقة جاءت لكي تضع إشارات على طريقه وأعلامه، أما الكتب التي جاءت بعده فلكي تقوم بشرحه ووضع الهوامش والحواشي، كل حسب خريطة روحه وغنى ذلك الروح"[29].
ويقول في مكان آخر معمقا هذه النظرة: "بل إن العصور المظلمة التي جال فيها ظلُّه أصبحت عصورا ذهبية. أما العصور التي تعرفت به عن قرب وعاشته فقد تحولت إلى ما يشبه الجنة. من وهب نفسه له سما إلى مرتبة الملائكة، وأصبح كل ما في الكون من أحياء وجماد أليفا عنده.. بل هو معجزة كبيرة وشاملة وغنية تتجاوز كل الأزمة والأمكنة، وتلبي جميع المطالب الإنسانية بدءً من العقائد وانتهاء بأصغر الآداب الاجتماعية، وهو بعمقه يستطيع حتى اليوم تحدي الجميع وتحدي جميع الأشياء"[30].
القرآن الكريم عند الأستاذ فتح الله مصدرا مطلقًا لا ينضب من المعلومات والحلول لمشاكل العالم. فقد وُهبت للقرآن في تصور فتح الله نعمة الإرشاد إلى طريق سعادة الدارين، بل هو مفتاح السعادة الذي يستطيع حل كل الألغاز في كل موضع في هذا العالم.. فبفضله يستطيع العالم الخروج من دائرة الحيرة والتّيه، والوصول إلى بناء الانسجام بين الأفكار والمشاهد، وبين الفكر والشهود. فالقرآن الكريم باعتباره كتابا مقدّسا وباعتباره وحيا، جاء لنجدة الإنسانية"[31]. إنه هو مفتاح كل المجالات المرتبطة بحياة الإنسان. يقول موجها خطابه إلى القرآن الكريم: "كيف سيكون حالنا إن لم تهطل كالغيث، ولم تهدر كالصاعقة، ولم تسحق سحق الصاعقة؟! وكيف ستكون حال الإنسانية؟! وكيف تستفيق هذه الأمة وتنهض؟! وكيف تخطو المدارس إلى الأمام؟! وكيف تتنور المعابد؟! وأين سيجد القلب والروح والعقل ضالتهم؟! وأي شيء يستطيع أن يكون بلسما لهذه الأرواح البائسة والقلوب المكلومة وشفاء لها؟! وكيف تستطيع هذه الأرواح المشلولة أن تبسط أجنحتها وتطير؟! وكيف يستطيع العقل فتح الطرق المسدودة أمامه فيرشد الفكر إلى طريق الأبدية؟!"[32].
ومن يحلل رؤية الأستاذ فتح الله بخصوص القرآن الكريم سيلاحظ بأنها تلتقي إلى حد بعيد مع رؤية الأستاذ بديع الزمان سعيد النورسي، لكن أفكار فتح الله تتميز بروحها الحركية المتصلة بمشروع "حركة الخدمة" التي بدأها فتح الله قبل خمسين سنة خلت، بل إن مشروع فتح هو بوجه من الوجوه الصورة التي كان النورسي رحمه الله يحلم بتحققها في الواقع. وعند فتح الله عقيدة ثابتة أن حقائق القرآن الكريم ستقول كلمتها في المستقبل، وهو مقتنع بأن العصر الحالي هو عصر آخذ في التوجه إلى القرآن الكريم إذ يقول: "هناك العديد من المفكرين المعاصرين الذيـن يرون بـأن العصر القادم سيكون عصر القرآن. والحقيقة أننا إن دققنا قليلاً لرأينا أن عصرنا الحالي بدأ يتجه للقرآن بسرعة أكبر مما كنا نتوقع أو نتصور. أجل.. حتى أصحاب أكثر النظرات بلادة وسطحية يستطيعون حدس كيف أن القرآن مرتبط بالكون ومتداخل معه، وكيف أن جميع بياناته حول الوجود صائبة، فلا يملكون أنفسهم من الإعجاب بقوة تأثيرها ونورانية عالمها"[33].
فإذا كان القرآن قد غير وجه العالم منذ أربعة عشر قرنا خلت، فإن فتح الله يعتقد بأن القرآن سيقول كلمته في القرون الحالية وفي المستقبل، وهو على يقين بأن القرْن الواحد والعشرين سيكون عصر القرآن، انسجاما مع رؤية مركزية في مشروع فتح الله كولن الإصلاحي، هي طرد اليأس واستحضار الأمل في المستقبل، فالقرآن سيحمل الحلول لكل مشاكل العالم، وعلى المسلم أن يكون واثقا في ذاته وفي القيم التي يمثلها، وأن يؤمن بحقائق القرآن وقدرتها على أن تكون بلسما لمشاكل العالم الروحية والواقعية، وشرط ذلك أن تتمثل الأجيال الحالية القرآن كما تمثله المسلمون الأوائل، يقول: "ولو تصرف مسلمو اليوم في موضوع القرآن بصفاء المسلمين الأوائل -علما أن هناك حركة ملحوظة في هذا الاتجاه حاليا- لاحتلّوا مكانة مرموقة في التوازن الدولي الحالي في وقت قصير، ولتخلصوا من تقليد الآخريـن والسير وراءهم، ولما وجدوا السلوان في ودْيان التقليد الأعمى. إن قيام الطلاب الأوائل للقرآن بتلك الحملة الإيمانية والأخلاقية التي أدهشت العالم آنذاك يجب أن يدفع إنساننا المعاصر إلى تنـاول تلك الحملة بالدراسة والتدقيق بكل حرص. أجل.. إن ظاهرة قيام بضعة آلاف من الصحابة -بعد ظهور الإسلام بين جبال مكة الوعرة- بحملة وبانقلاب كبير أضاءوا بـه أرجاء الأرض، حادثةٌ متميزة وخارقة للعادة يجب تدقيقها وتقييمها، وهو منبع ثرّ غنيّ يرجع له المؤمنون على الدوام"[34].
ما يضفي المشروعية على ما يذهب إليه فتح الله هو ما يمثله القرآن، إذ هو معين لا ينضب من الحلول، مع خاصية الصدق والإخلاص الذي يميز خطابه.. فكما أنه لم يخدع من تفاعل معه منذ قرون بعيدة، فلن يخدع من يتفاعل معه في العصور الحالية ومن سيتفاعل معه في العصور المقبلة. وهذا أمر يقيني وعقدي بالنسبة للأستاذ فتح الله كولن، فهو متأكد بأن الخطاب القرآني كان محركا للفاعلية الإنسانية في عصور السعادة، فإنه يقينا يستطيع تركيز الحركية والفعل في كل زمن وفي مكان. ونظرا لأن رؤية فتح الله تلتقي مع رؤية النورسي رحمه الله فهو يرى ضرورة الاتجاه نحو العلم من أجل معرفة الظواهر الكونية وفهمها، انطلاقا من كون الوجود قرآنا شهوديا يشهد بعظمة الخالق، ويشهد بصدقية الخطاب القرآني. فالقرآن الكريم باعتباره كتابا لحقائق كونية وكتابا يرشد ذوي الألباب إلى تدبر عظمة الخالق، فإن العلم السليم سيتناسق كل التناسق مع القرآن المكتوب الذي يدعو الناس بشتى السبل إلى العلم وإلى البحث العلمي، ويدعو إلى التأمل في كتاب الكون، بل ويدعو إلى نظام للتفكير خاص في فهم أسرار الوجود.. يقول في بيان هذه الحقيقة: "لذا نستطيع أن نقول بأن القرآن كما لم يقم بالأمس بخداع الذين آمنوا به واتبعوه ولم يحيرهم، كذلك لن يخدع الذين سيتوجهون إلى جوّه النوراني ويؤمنون به بعد اليوم، ولن يخيب آمالهم. لأننا نؤمن بأن العقول عندما تضاء بنور العلوم، والقلوب تتنوّر بمعرفة الحقّ، وعندما يوضع الوجود تحت عدسة العلم والحكمة للتدقيق والدراسة، سيكون كل حكم صادر باسم العلم موافقًا لروح القرآن ومتلائمًا معه"[35].
والأهم من ذلك هو أن القرآن الكريم يعلم الإنسان حقيقة ماهيته، ويعلمه الحق والحكمة، ويعرّفه بذات الله وصفاته وبأسمائه الحسنى[36] التي تجلى بها على الوجود -كما يقول الأستاذ بديع الزمان سعيد النورسي-، بل إن القرآن -كما يبين فتح الله- "هو الكتاب الوحيد الذي يعلّم الإنسان معنى الإنسان وماهيته والحق والحكمة وذات الله تعالى وصفاته وأسمائه الحسنى، وذلك بأدقّ ميزان. وليس هناك كتاب آخر يماثله في هذا الميدان أبدًا. ولو طالعت حكم الأصفياء والأولياء وفلسفة الفلاسفة الباحثين عن الحق لعرفتَ ذلك بنفسك"[37].
ثانيًا: أهمية السنة ودورها في رؤية فتح الله كولن
الأستاذ فتح الله كولن يعتقد اعتقادا راسخا أن فهم أبعاد القرآن الكريم وإدراك مختلف مستوياته الدلالية والتداولية، والوقوف على مختلف أبعاده التي هي فوق الزمان، المفسرة بصورة دقيقة لحقيقة الإنسان وأبعاد الكون والوجود، وحقيقة الله، قضية ملحة وحتمية. ولكي يكون استيعابه لذلك كله وفق أساس متين ينبغي الاقتراب والدخول إلى عالم من وهبه الله صلاحية تفسيره وبيانه للناس بتطبيقه وتفعيله وتلقين دقائقه الروحانية على الوجه الأمثل، لتتحدد بذلك أهمية السنة النبوية وأهمية الرسول -صلى الله عليه وسلم- باعتباره خاتم الأنبياء والرسل، وباعتباره الصورة النموذجية للإنسان الكامل، والنموذج المثالي للإنسان الذي يستحق أحقية العودة إلى الفردوس المفقود.
ومن هنا يبرز ثاني أهم مرتكز في مفهوم الثقافة عند الأستاذ فتح الله وهو "السنة النبوية" التي تحتل مكانة مهمة جدا في رؤية الأستاذ فتح الله كولن الإصلاحية، نظرا لأنها -كما يرى الأستاذ فتح الله- الوجه الآخر للقرآن الكريم، والصورة المطبقة لحقيقة القرآن الكريم.. فقد كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- قرآنا يمشي، فكما أن القرآن المنظور تفصيل للقرآن المكتوب، وكما أن القرآن المكتوب ترميز للقرآن المنظور، فإن السيرة النبوية الشريفة هي القرآن المطبق، ولذلك يستحيل الاستغناء عن السنة والسيرة النبوية في استيعاب أبعاد القرآن الكريم الدلالية والتداولية.
إن السنة النبوية وسيرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- هي المصدر الثاني للثقافة الذاتية، وعناية الأستاذ فتح الله كولن بالسنة النبوية والسيرة تكتسب مشروعيتها من النصوص الشرعية التي تفرض التمسك بهذا المصدر. ولذلك جعل من الانتساب إلى الإسلام مرهونا بالإيمان بنبوة محمد -صلى الله عليه وسلم- ومرهونا بضرورة اتباع سنّته. ومظاهر عناية فتح الله كولن بهذا المصدر كثيرة لا تقف عن حد الدعوة إلى ضرورة الاهتمام بالسنة والسيرة، ولا تقف عند المظاهر الاحتفالية كما هو حال العديد من الدعوات في هذا الباب، بل الملاحظ هو تجاوزه لهذه المراحل إلى الأهم في الموضوع وهو الحرص على تنزيل السنة بدءا منه هو.. ففتح الله كولن من بين أكثر الدعاة ومفكري الإصلاح في الوقت الراهن تمسكا بالسيرة النبوية، فهو يعيش السنة ويحيى بها، بعد أن اختط لنفسه منهج حياة متصلة بالسيرة النبوية، وألزم نفسه به منذ عقود خلت.. وأما المنهج التربوي الذي اتبعه في بناء النماذج البشرية التي تؤثث مؤسسة الخدمة فمنهج نبوي مستمد من القرآن الكريم ومن السيرة النبوية، ومرد ذلك هو عقيدة الأستاذ الراسخة في هذا الباب وهي أن المنهج الذي نجح الرسول -صلى الله عليه وسلم- من خلاله في بناء رعيل الصحابة الكرام، سينجح يقينا في بناء "الإنسان الجديد" أو "جيل القرن الواحد والعشرين السعيد".. وفي هذا الإطار تأتي عناية الأستاذ فتح الله كولن بسيرة الصحابة الكرام، باعتبارهم نماذج بشرية تربّت في مدرسة النبوة وتلقّت أنوارها من الرسول -صلى الله عليه وسلم-، من منطلق أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- كان يربّيهم إما بتلقّيهم المباشر منه، أو من خلال ما كان يقذف فيهم منه من أنوار تصيب الذين حوله فتطبعهم بطوابع خاصة، وترتقي بهم إلى المقامات النورانية العالية، وتطبع أرواحهم بالسموّ والارتقاء. ولأهمية هذا الجانب في مشروع الأستاذ الإصلاحي فقد أولاه عناية خاصة.. ويمكن تقسيم هذه العناية إلى ثلاثة جوانب:
• الجانب الأول ذاتي مرتبط بطبيعة شخصية الأستاذ فتح الله، إذ جعل من السنة النبوية منهجا شخصيا يتمثل في الاجتهاد في اتباع جميع الجوانب المتعلقة بالسيرة النبوية من خلال اتخاذ شخصية الرسول -صلى الله عليه وسلم- قدوة يقتدي بها في جميع تفاصيل حياته. والظاهر -من خلال ما يرويه تلامذته عنه- أنه حريص على تطبيق السنة النبوية حرصا لا مثيل له، وليس هذا غريبا على مربّ عاش حياته كلها وقلبه متشبث بعصر الصحابة أو بما يطلق هو عليه "عصر السعادة".. فرجل حريص على أن يتخذ تلاميذه الصحابة الكرام قدوة لهم، وأن تكون السيرة النبوية وسيرة الصحابة الكرام منهجا يحرك كل فعل وسلوك... وقد نجح في هذه المهمّة التي تتجلى في العديد من النماذج الإنسانية الذين انطلقوا إلى كل مناطق العالم ينشرون عبق قيم السيرة النبوية وأريجها، وقيم الخير والمحبة بسلوكهم وتصرفهم، ومبشرين بعهد جديد ينتظر الإنسانية.. رجل هذه صفاته لا يمكن إلا أن يكون رجلا متعلقا بالسنة حريصا على تطبيقها.
• الجانب الثاني في مظاهر الاهتمام هو الجانب التطبيقي للسنة والسيرة النبوية.. فاهتمام الأستاذ بصورة خاصة، والخدمة بصفة عامة بهذا الجانب يتجلى على الخصوص في العمل على تنزيل مبادئ السنة في الحياة الواقعية، لأن السنة ليست مجرد مظهر احتفالي في رؤية الخدمة، بل هي منهج حياة، لأن عددا كبيرا من المنخرطين في "الخدمة" قد لا يُقنعون المتلقي في تحديد ماهية السنة وتعريفها، لكن عندما تعايشهم عن قرب تلمس في تصرفاتهم وأقوالهم مظاهر من السنة وسيرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وسيرة الصحابة الكرام -رضي الله عنهم-.
• الجانب الثالث وهو الجانب المتصل بالتأليف.. فالأستاذ اهتم بالسيرة من خلال تدشينه لسلسلة من المحاضرات والخطب حول السنة والسيرة النبوية، وهي الخطب التي صارت أصلا لكتاب هو اليوم من أهم كتب السيرة في العصر الحديث، وهو "كتاب النور الخالد" الذي يعد رؤية حركية للسيرة النبوية الشريفة. إن السنة مصدر أساسي للثقافة الذاتية، ولذلك فهي تحتل أهمية كبيرة في المشروع الإصلاحي للخدمة، لأن الارتباط بها هو ارتباط بالمظهر الروحي والحركي والسلوكي للإسلام، يقول الأستاذ فتح الله كولن: "نعم، السنة -سواء بفضل سعة مساحتها في التشريع أو بمرونتها القابلة لتفسيرات متنوعةٍ- لا زالت مصدرًا مباركا لا نجد له نظيرًا في العطاء في أي دين آخر أو أمة أخرى.. فهو المصدر في التفسير أو الفقه أو المسائل الاعتقادية أو الأخلاق أو الزهد والتقوى أو الإخلاص"[38].
فالسنة عند الأستاذ فتح الله ذات أهمية بالغة ولا يمكن الاستغناء عنها في رسم معالم المجتمع المسلم، بل وحتى المجتمع الإنساني.. فالسنة هي المصدر الثاني للتشريع، وقد تمكن علماء الأمة من المحافظة عليها بوضع الضوابط الصارمة التي مكنتهم من تصفيتها من الشوائب والتحريف والكذب على الرسول -صلى الله عليه وسلم-. ولذلك فإن صفاء هذا المصدر لا يشك فيه إلا جاحد ومن في عقله نقص أو انحصار رؤية، يقول: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يرى إطاعته واتباع سنته جزءً من الدين، ويريد من الشاهد تبليغ الغائب وانتقال سنته إلى الأجيال القادمة، ويوصي أصحابه بالرفق بالذين يأتون من أماكن بعيدة بقصد سماع الأحاديث، ويشجع على فهم أحاديثه جيدًا، لذا نرى أحيانًا يكرر كلامه ليساعدهم على فهم أحاديثه وحفظها"[39].
وأما الأمر الثاني الذي يجعل للسنة كل هذه الأهمية، فهو كونها تمثل كل أفعال وأقوال وتصرفات وتدبيرات الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وهذا هو عمق ما أدركه الصحابة الكرام رضي الله عنهم. لقد أدركوا أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- بعث معلما ومرشدا لهم، فكانت أذهانهم وعقولهم وأفئدتهم وجميع جوارحهم متيقظة منتبهة لكل ما يصدر عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- فحرصوا على جعل كل توجيهات الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأقواله وأفعاله سلوكا يوميا. وهذا ما جعل من هؤلاء الرجال الصحابة نماذج بشرية لم يعرف التاريخ مثيلا لهم.. فهؤلاء هم الذين بنوا حضارة التوحيد وأسسوا العمران وأنقذوا شعوبا كثيرة كانت تقاسي من مآس عديدة.. بعبارة أخرى كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- في تصور الأستاذ فتح الله بمثابة معلم لكل من على أكتافه انتشر الإسلام وذاق حلاوته من شعوب وأقوام، لا حصر لهم، يقول: "لذا، نرى أن الصحابة الكرام -رضي الله عنهم- -وقد عرفوا أنه بعث لتعليمهم وتربيتهم- يهتمون ليس فقط بالاستماع إلى أحاديثه المتعلقة بأسس الدين وقواعده، بل بكل تفصيل دقيق من تفاصيل حركاته وسكناته وحتى أموره الخاصة، ثم يكررون ما سمعوه منه فيما بينهم ويتداولون أحاديثه فيما بينهم حتى تنطبع في ذاكرتهم أو يسجلونها ويكتبونها. وكانوا يعدون كل كلام صادر منه -صلى الله عليه وسلم- أبرك ذكرى وأفضل أمانة، ويجتهدون ألا تضيع حكمة واحدة منه. وقامت هذه الجماعة المباركة بحمل هذه الأمانة المقدسة في جو من الثقة والاطمئنان"[40].
خصص الأستاذ فتح الله في كتاب "النور الخالد" آخر الكتاب بملحق عنوانه "السنة النبيوة ومكانتها في الشريعة الإسلامية". ونلمس في هذا الاهتمام دليلا على أهمية هذا المكون بالنسبة للثقافة الذاتية، كما يدل في الوقت نفسه على صفاء السنة من الشوائب التي قد تطعن فيها كما بيّنّا سالفا، لكنها تدل في الوقت نفسه على الدور الذي قام به الصحابة الكرام في تدوين السنة والحفاظ عليها، والدور الذي قام به كبار العلماء الذين تربّوا في هذا السنة النبوية من خلال وضعهم للضوابط التي حصنت السنة وحمَتْها من التحريف والتزوير، من خلال بنائهم لمنظومة "علم الحديث" الذي يعتبر اليوم من أكثر العلوم دقة وانضباطا للمنهج العلمي الذي توصّل إليه العقل البشري.
وعلى العموم فإن اهتمام الأستاذ بالسنّة النبوية كان اهتماما كبيرا وخاصا، واهتمامه بها لم يقف عند حدود الإعجاب بل كان حريصا على تطبيقها وتفعيلها، بدءً بنفسه، ومرور بكل مَن تلقّوا على يده، وانتهاء بجميع أفراد المجتمع. ولذلك كان الطابع الغالب على كتاب "النور الخالد" هو الإكثار من ذكر تصرفات وقصص الصحابة التي تشير إلى تأثير شخصية الرسول -صلى الله عليه وسلم- في الصحابة.
بعبارة أخرى لقد سعى الأستاذ فتح الله من خلال اهتمامه بالسنة إلى تفعيل أخلاق القرآن الكريم من خلال نماذج بشرية حية تتحرك بين الناس، إنها النموذج السلوكي الذي تحضر فيه القيم وتتجلى فيه قيمة التاريخ باعتباره أحداثا وقعت ليس فيها للخيال مكان. لقد كان مطلب الأستاذ فتح الله كولن وما يزال هو الارتباط الكلي بالسنة من خلال العمل على إيجاد نماذج بشرية في مستوى الصحابة الكرام.
لقد تركز سعي الأستاذ فتح من خلال هذا الاهتمام إلى بناء "وعي جمعي"، وكتاب النور الخالد هو أداة من أدوات تحقيق ذلك.
ثالثًا: الإجماع
ومما يلفت الانتباه في هذه المرتكزات هو أن الأستاذ فتح الله يلح على أهمية العناصر الأخرى التي تنبني عليها الثقافة الذاتية، وهذه العناصر هي الإجماع الذي يعتبر عنصرا مهما في نظر الأستاذ لأنه يقوم على اتفاق بين المتخصصين في مجالاتهم والقادرين "على إثباتِ وتقييم مسألة معينة بالاستناد إلى الأدلة الأصلية واجتماعهم على رأي واحد فيها. فلا يعد اتفاقُ العوام على شيء من المسائل إجماعًا، كما لا ينعقد الإجماع في مسألةٍ تُناقض الأدلةَ الشرعية. كذلك لا عبرة للإجماع فيما ورد فيه من الشارع نصّ، وفيما هو معلوم من الدين بالضرورة. ولا في مواضيعَ مثلِ حدوث الكون وعدم أزليته. ويقع خارجَ شمولية الإجماع قضايا مثل ثبوت حقيقة وجود الله ووحدانيته والنبوةِ. ولا يُتصور الإجماع في الأمور التي يتعلق فهمها ببيان الشارع كأحوال الآخرة وعلامات الساعة وأنواع النعم والعذاب في الأخرى"[41].
فالإجماع لا قيمة له إذا لم يصدر عن أهل العلم والدراية، لأنه يقوم في الأصل على نوع من الاجتهاد وتقليب القضايا المثارة للنقاش على كل الأوجه قبل بناء حكم دقيق عنها، وعندما يجمع أهل الدراية على الحكم الواحد، ففي ذلك إجماع مؤسس على أن الحكم قد وافق روح التصور الإسلامي وراعى كل مقاصد الشريعة.. والجدير بالذكر في هذا الإطار أن الأستاذ فتح الله كولن يحلم بأن تتحول قضية الاجتماع والاجتهاد بصفة عامة إلى مؤسسة غير مرتبطة بالأشخاص، توكل إليها مهمة العمل على إيجاد أجوبة عملية ومقنعة لأسئلة الواقع المعاصر في كافة المجالات والميادين.
كثيرا ما يتحدث الناس في عالمنا الإسلامي عن الوحدة والتكامل، ولكن العناصر الممهدة لهذا التكامل لا تتحقق إذا لم يكن الناس قد حققوا توحدهم الرؤيوي والفكري، وإذا لم يتحول الاجتهاد إلى مؤسسة ذات ضوابط معروفة تمارس سلطة معروفة على الأفراد والجماعات، إذ يقول الأستاد فتح الله عندما يتحدث عن نقاط الالتقاء والاتحاد: "لا تتصرف أبدًا كحَواريّ الوحْدة، ولا تقل لكل من تقابله "تعال لنتّحد!"، لأنها دعوة ليست في محلّها. أما عندما تقول هذا بأسلوب من يدعو الآخرين للانضمام إلى مجموعته فهو خطأ أكبر وعدم توقير، ذلك لأن مثل هذا الأسلوب لا ينتج عنه -حتى عند أكثر الناس جنوحًا للخيال- سوى زيادة التعصّب لجماعته، بل قم بالثناء على خدماتهم واحترم ووقّر مرشديهم"[42].
رابعًا: التصوف وبناء صرح الروح
جرت العادة أن يأتي ترتيب العرف بعد هذه المصادر الأساسية السابقة، لكن الأستاذ يجعل التصوف مصدرا أساسيا من مصادر الثقافة الذاتية، إذ للتصوف أهمية خاصة في رؤية الأستاذ فتح الله كولن، لكن التصوف عنده ليس هو تلك الممارسات التي طبعت -وما تزال- العديد من الطرق الصوفية، بل يقصد به حياة القلب والروح.. ونظرا لكون الأستاذ فتح الله كولن سنّيًّا، فإن نظرته للتصوف تنطلق من طبيعة الحياة الروحية التي كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- يحرص على ألا تفارق جميع أحواله وجميع أقواله. فالناسك والمتصوف الأول هو الرسول -صلى الله عليه وسلم- الذي عاش حقيقة التصوف في لحظة من حياته. ولما كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- على هذه الصورة المثالية من جهة الحياة الروحية، ولما كان الأستاذ فتح الله يعتبر الرسول -صلى الله عليه وسلم- قدوته الأولى، فقد كانت حياة القلب والروح هي أساس حياته الخاصة، كما تدل على ذلك مختلف مراحل حياة الأستاذ فتح الله، وهي الملامح نفسها التي عمل على تربية محبّيه وتلاميذه عليها، دون أن يكون شيخ طريقة أو تابع طريقة ما في التصوف، يقول معرفا التصوف: "التصوف، اسم يطلق على الطرق الموصلة إلى الحق تعالى، يسلكها الصوفي والمتصوفة. فالتصوف يعبّر عن الجانب النظري لطريق الحقيقة، والتنسكُ (التَدَروُش) يُعنَى بجهته العملية. وأيضًا أُطلق على الجانب النظري للطريقة "علم التصوف" وعلى جهتها العملية "التنسك". ويرى بعض أرباب الحقيقة أن التصوف هو إماتةُ الله جهةَ الإنسان النفسية والأنانية والسموّ به إلى حياتية أخرى بأنواره الذاتية. وبتعبير آخر: إفناءُ الله الإنسانَ بإرادته سبحانه، ودفعه إلى العمل بإرادته الخاصة واختياره الأحدي. ومقاربة أخرى: إن التصوف هو المجاهدة المستمرة والمراقبة الدائمة لإزالة الإنسان جميعَ أشكال الأخلاق الذميمة عنه وتخلّيه عنها، وإقامته الخصال الحميدة الرفيعة، وتحلّيه بها"[43].
فالتصوف بصفة عامة لا يخرج عن إطار ذلك التعريف الذي يعرفه علماء السنة الأوائل الذين ارتبطت حياتهم بالتصوف أو بحياة القلب والروح. ومن هنا فإن مفهوم التصوف عند الأستاذ المربّي فتح الله لا يخرج عن إطار كونه الإقبال على الله بكل حماس من خلال الالتزام بتعاليم الدين، إنه بكلام آخر هو الانسلاخ عن الصفات البشرية، والتدثر بالأخلاق الإلهية.
يرى الأستاذ فتح الله كولن أن تعريف التصوف بعناوين كثيرة لا يعني عدم ارتباطه بالشريعة، وكونه يعنى بالجوانب الباطنية لا يعني عدم اتصاله بالشريعة، ولا يعني عدم ارتباطه بالحياة والواقع، ولا يعني كذلك اعتزال المجتمع والعيش.
لقد عمل الأستاذ فتح الله على إضفاء الشرعية على التصوف من خلال تجاوز الاسم والتركيز على المسمى، يقول: "إن تعريف التصوف بعناوين مختلفة كعلم الباطن وعلم الأسرار وعلم الأحوال والمقامات وعلم السلوك وعلم الطريقة، لا يعني افتراقه عن العلوم الشرعية، إذ إن هذه الأسماء والعناوين نابعة من تذوق أمزجة متباينة ومشارب مختلفة للحياة القائمة على الشريعة طوال عصور مديدة وإدراكها بصور متنوعة. لذا يعدّ انحرافًا ومجانبة للصواب إظهار وجهات نظر الصوفية أنها مختلفة في الأساس عن أفكار خدام الشريعة واستنباطاتهم. ورغم أن هناك في كل عصر من العصور متعصبين من الصوفية ومتشبثين بظاهر الأحكام الشرعية من الفقهاء والمحدّثين والمفسرين، إلاّ أن أرباب الصراط المستقيم هم الأكثرية دائمًا بالنسبة لهؤلاء الذين أفرطوا وفرَّطوا. وبناء على هذا فمن الخطأ قطعًا تناول المسألة وكأن هناك منافاة حقيقية بين أهل الحق من كِلا الجانبين، نظرًا إلى أقوال ومفاهيم غير لائقة لقسم من الفقهاء على المتصوفة أو لقسم من المتصوفة على الفقهاء، وذلك لأن عدد الذين يثيرون مثل هذا النـزاع ويشـاركون فيه يُعدّون قطرة من بحر بالنسبة لمن يسلكون طـريـق التسامح والعفو والصفح. وفي الحقيقة إن هـذا أمر طبيعي جـدًّا، لأن مرجع كِلا الطرفين واحد، فمثلما يرجع الفقهاء إلى الكتاب والسنة في الأحكام الشرعية يستند الصوفيون كذلك إلى المرجعين نفسيهما"[44].
لا شك في أن طبيعة التربية التي تلقّاها الأستاذ، وطبيعة الأجواء الروحية التي كانت تطبع الحياة الاجتماعية في منطقة أرضروم، قد أثّرت في شخصيته وطبعتها بطابع روحاني خاص. فمن المعلوم أن الأستاذ ينحدر من أسرة معروفة بروحانيتها الكبيرة. فقد كان جده وجدته شخصيتين معروفتين بالورع وبالإحساس المرهف، إلى درجة أن الجدة كانت معروفة بكثرة بكائها عندما تسمع موعظة أو يأتي ذكر الرسول -صلى الله عليه وسلم-، أو ذكر أحد من الصحابة الكرام -رضي الله عنهم-. لقد كانت أسرته أسرة محبة للرسول -صلى الله عليه وسلم- ولصحابته -رضي الله عنهم-، يضاف إلى ذلك الشيوخ الذين أثّروا فيه، وقد ذكر بعضهم في "دنياي الصغيرة". فعامل الوسط الذي ترعرع فيه الأستاذ فتح الله كولن هو الذي ساهم بالإضافة إلى عوامل أخرى في اهتمام الأستاذ بالتصوف من جميع جوانبه السلوكية والفكرية.
فالتصوف بالنسبة للأستاذ فتح الله كولن، له أهمية كبيرة لا تقل عن أهمية المصادر الأخرى ولا تختلف، بل يمكن القول إنها تكملها، وذلك لأن الشريعة والتصوف ينطلقان من المصادر نفسها وهما القرآن السنة. وفي هذا الإطار حرص الأستاذ فتح الله على إبطال ذلك العداء الذي برز خلال مراحل تاريخية مختلفة بين التصوف والشريعة أو بين الحقيقة والشريعة. فالأستاذ فتح الله كولن يعتبر هذا العداء مجرد عداء وَهْمي ليس غير. ويرجع إلى انطلاق التصوف والشريعة إلى مصدر واحد، ولذلك فالفصل بينهما تجزيء ما لا يجزّأ. وقد نبذ فتح منذ اللحظة الأولى هذه الازدواجية عندما جعل أساس حياته الخاصة وأساس المشروع الإصلاحي الذي انطلق منه هو ضرورة الجمع بين الجانب العملي الذي تمثله الضوابط العملية المستخلصة من القرآن والسنة، وبين الحياة القلبية أو بين الشريعة والحقيقة. لأنه يعتقد اعتقادا راسخا بأن الحقيقة والشريعة وجهان لعملة واحدة، يستحيل فصلهما.
بعبارة أخرى لقد كانت رؤية الأستاذ متجهة إلى البحث عن السبل التي تكفل توحد المجتمع، وتنزع كل عناصر الخلاف المتوهمة بين بعض فئاته الاجتماعية. فتوهُّم الخلاف بين الشريعة والتصوف أو بين الشريعة والحقيقة من شأنه إثارة التوتر الاجتماعي والجدل حول خلافات متوهمة، يقول: "وفي الحقيقة إن قصد كلا الطرفين هو الوصول إلى الله بمراعاة أوامره ونواهيه، ولكن لعدم تأصيل ميزانٍ يوزَن به طريق الوصول أحيانًا وفق مقاييس شرعية أدّى إلى الإفراط والتفريط؛ وسبّب ما يبدو لنا من اختلافات في الوقت الحاضر. والحال لا سبب للاختلاف في المنشأ والأساس. وكما أن تدوين أقسام مختلفة من الدين بشكل مستقلّ والامتثال بها لا يعني اختلافًا، كذلك ليس اختلافًا قطّ اهتمام علم الفقه بأحكام العبادة والمعاملات، أي تنظيم حركات الإنسان الفكرية والعملية وتنسيقها، وكذا جهود التصوف لرفع حياة الإنسان إلى مستوى القلب والروح بسلوك تربية الروح وتصفية القلب وتزكية النفس. فلا اختلاف ولا افتراق، بل قد تعهّد كلٌّ من الجانبين بالحفاظ على ناحية مهمة من الشريعة، فكلٌّ من تلك النواحي بمثابة كلية من الجامعة التي تمثل الكل، والتي يتوقف تكاملها على تكامل تلك الكليات. حيث إن إحداها تعلّم كيف يتعبد الإنسان وكيف يتطهر للعبادة، وكيف يقيم الصلاة وكيف يصوم وكيف يزكّى، وعلى أي أساس يستند في معاملاته.. بينما الآخر -فضلاً عن هذا- يؤكّد باهتمام بالغ على علاقة جميع العبادات والطاعات والمعاملات بالقلب والروح، فيبحث عن طرق رقي الإنسان "الصورة" إلى الإنسان "السيرة" أي المعنى. ويوصي بالطرق المؤدية إلى الإنسان الكامل. وعلى هذا الأساس فلا يمكن إهمال أيٍّ من الجهتين"[45].
يرى فتح الله أن السبب الذي أدى إلى وجود هذا الخلاف هو عدم تأصيل ميزان يوزن به طريق الوصول وفق مقاييس شرعية. الأمر الذي أدّى إلى الإفراط والتفريط في الوقت الذي يكون فيه الحقلان الحقل الكبير الذي هو حقل الدين والعبودية لله تبارك وتعالى، إذ إن كل حقل قد تعهد بالحفاظ على جانب من جوانب الشريعة، فهما يكمّلان بعضهما البعض.
يعتبر فتح الله التصوف أكثر غورا، لأن التصوف في نظر فتح الله طريقة للعبادة تهتم بالباطن، وبالجانب الروحي للأحكام الشرعية، ولذلك فهو أكثر غورا ولدنّية وأوسع مدى وأصعب فهما.[46] ومن هنا يأتي استشهاده بما قام به الإمام الغزالي الذي استطاع التأليف بين التيارين، مما يدل على أهمية هذا العنصر عنده، لدرجة أنه يعتبر الغزالي مجدد عصره حيث يقول عنه: "أتى حجّة الإسلام الإمام الغزالي وألّف كتابه القيّم "إحياء علوم الدين" بعد أن نقّح طرق التصوف بجميع آدابه وأركانه واصطلاحاته، مقرًّا بما أقرّه المشايخ عامة ومنتقدًا لما يستوجب النقد.. فآلف مرةً أخرى بين هذين التيارين المباركين اللّذَين يبدوان كأنهما مختلفان، ووفّق بينهما بانسجام تام، بحيث إن كثيرًا من الصوفيين الذين أتوا من بعده وجدوا علمهم لونًا من ألوان العلوم الشرعية، وبُعدًا من أبعادها، فانتعشت الوحدة والتعاون في كل مكان، حتى إنهم انسجموا وائتلفوا مع الذين كانوا يطلقون عليهم -إلى ذلك اليوم- اسم "علماء الرسوم" استخفافًا بهم. وخاصة لدى حملهم إلى المدرسة الفقهية توضيحات متميزة في علم التصوف، أمثال الحقائق الوجدانية والذوقية الكثيرة، كعلم الحال وعلم الخاطر وعلم اليقين وعلم الإخلاص وعلم الأخلاق. فوجدوا نقاط التقاء مشتركة كثيرة جدًّا توصلهم إلى الاتفاق والوفاق، سواءً في أرباب التصوف أو علماء الظاهر"[47].
ما يهم فتح الله كولن في مقاربته لعلاقة التصوف بالشريعة، وربطه للتصوف بالحياة الروحية والمعنوية، وجعل كل ذلك في علاقة وثيقة بالشريعة، هو أن يبرز بأن النموذج البشري الذي يستطيع تحقيق الانبعاث والنهضة الذي يستطيع الارتقاء في المقامات التي تحقق الإنسان الكامل هو أن تكون حياته الروحية شيئا حاضرا مع هذا النموذج البشري في كل وقت وحين.. بعبارة أخرى إن الأستاذ لا يريد متصوفة يعتزلون الناس وينقطعون في صوامع بعيدة عن المجتمع، بل على العكس من ذلك إنه يريد متصوفة ينخرطون في الحياة بين الناس يبنون ويربّون ويصلحون ما فسد بروحانية كبيرة وبصبر على الناس وعلى والواقع ومجرياته. فهو يريد فرسانًا بقلوب متصوفة، هذا هو نموذج التصوف الذي يريد الأستاذ فتح الله الوصول إليه.
يمكن اعتبار كتاب "التلال الزمردية... نحو حياة القلب والروح" كتابا في القيم والأخلاق بالدرجة الأولى بالمفهوم الذي عمل الأستاذ فتح الله على بلْورته عمليا بدءً من ذاته ومرورا بتلامذته الذين تربّوا في كنفه وتلقّوا منه التربية السلوكية مباشرة، وانتهاءً بعموم أفراد المجتمع الذين ألهبت أفكاره وخطبه وسيرته مشاعرهم ودفعتهم إلى حركية فعالة، هي اليوم مثار اهتمام الدارسين والباحثين في كل مكان في العالم.
لقد توقفنا وقفة طويلة عند هذه العناصر نظرا لأهمّيتها، ولأنها تشكل أسسا تنبني عليها الرؤية التربوية التي ترتكز على حياة القلب. وهذا العامل فرض على الأستاذ إثارة مفهوم الصوفي وحقيقته.. وبكلام آخر حاول مناقشة خصوصيات رجل القلب. وهذه الرؤية الخاصة للتصوف وللمريد، الغرض منها هو تكوين نموذج الإنسان المثالي، أو الإنسان الكامل، إنه صوفي القرن الواحد والعشرين، نموذج الإنسان الذي يستطيع تغيير وجه العالم ويسير به نحو برّ الأمان.
فغاية التصوف هي ربط القلب بالحقّ سبحانه وتعالى، وجعل هذا القلب يكتوي بنار العشق والمحبة.. ولذلك كان الصوفيون على مر التاريخ -باستثناء بعض الانحرافات التي كانت تظهر بين الفينة والأخرى- "في غاية الاستقامة ومنتهى البساطة، ومبرّأون من كل انحراف وفساد، وأبعد الناس عن الأذواق البدَنية والسفاهات الجسمانية.. وقفوا أنفسهم ليمضوا حياتهم في جوّ التسامي للتنسك والزهد والفقر، رزينون وعازمون على التشبه بالرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- وعظماء الإسلام الأماجد"[48].
وخلاصة القول بخصوص هذا الموضوع هو أن روح التصوف الحقيقي هو تزكية النفس والارتقاء بها نحو مدارك الصفاء الروحي ونحو مقامات الإخلاص والتفاني.. إن هذه الروح هي ما يحمِّس الأستاذ في التصوف، لأنه ضرورة بالنسبة لمشروعه الإصلاحي، لأن حياة الحركة والعمل النافع تحتاج إلى النموذج البشري الذي تجتمع فيه عناصر الفاعلية الواقعية من عناصر قوة القلب والروح.
ويتأكد كل ذلك عندما ننظر في العناصر التي تبني النموذج الصوفي الذي يريد الأستاذ فتح الله الوصول إليه.. فهي عناصر ومقومات أخلاقية بالدرجة الأولى. ومَن يتأمل فيما سطره الأستاذ في كتاب التلال الزمردية وفي كتب أخرى سيلمس هذا البعد الأخلاقي الروحي.
خامسًا: العقيدة الصحيحة تمنح التوازن
1- العقيدة والفكر الديني في رؤية الأستاذ فتح الله كولن
وإلى جانب العناصر السالفة فإن مفهوم الثقافة يتعزز بقضية العقيدة الصحيحة. وقضية العقيدة الصحيحة متصلة شديد الاتصال بالفكر الديني عند الأستاذ فتح الله كولن بصفة عامة.
لا شك أن الفكر الديني عند الأستاذ فتح الله عميق الغور، واسع الرؤية، دقيق الاتصال بالأصول إلى درجة كبيرة.. بل إن الفكر الديني بصورة عامة وليد هذه الأصول ووليد ميراث الذات الثقافي، أو هو ميراث الثقافة الذاتية كما يطلق الأستاذ فتح الله عليها.. ولهذا فإن تناول الجانب العقدي في فكر الأستاذ ينبغي ربطه في كل المراحل بخصوصية المشروع الحضاري الذي ينطلق في ضوئه الأستاذ فتح الله.
إن الأساس الذي يحرك "الخدمة" ويحرك الدعوة بصورة عامة هو الدين وأفكاره المتقدمة. ولن نبالغ إذا قلنا بأن سر ذلك هو الفهم العميق والدقيق لمقاصد الدين، بالإضافة إلى دراية بسبل ومسالك تفعيل هذا الفكر الديني واقعيا. فالفكر الديني لا ينبغي أن يظل مجرد أفكار، ومجرد رؤى وتصورات وأفكار حبيسة في دائرة النظر، بل ينبغي أن تتحول إلى سلوك.. بل يمكن القول إن أهم ما أضافه الأستاذ فتح الله باعتباره مفكرا إصلاحيا وباعتباره رجلا حركيا هو تمكنه من نقل الفكر الديني من المستوى النظري إلى المستوى التطبيقي. وأهم ما يتم التركيز عليه في هذا الإطار هو جانب العقيدة. وتناوُلُ الأستاذ فتح الله من هذه الزاوية يعتبر أمرا دقيقا جدا، وموضوعا متسعا باتساع القضايا التي تطرق لها طيلة حياة التبليغ المستمرة منذ أكثر من خمسين سنة، ارتباطا بمجريات الواقع وتشعب مستوياته.
فقد كانت العقيدة من أهم قضايا التي تعرض لها فتح الله في أغلب خطبه وفي محاضراته وفي كتبه نظرا لأهميتها عنده، فلا مجال للحركية دون عنصر العقيدة التي تقوم بمهمة توجيه الفعل والحركية. فالعقيدة هي التي تحافظ على توازن علاقة الإنسان بواقعه ووجوده كله، ومن السهل إدراك العوامل التي تجعل الأستاذ فتح الله يهتم بموضوع العقيدة والفكر الديني كل هذا الاهتمام، وذلك بإنعام النظر في خصوصية "حركة الخدمة" التي تلحّ على إلغاء الأنانية الفردية والجماعية وإرجاع كل فضل وكل توفيق إلى الله تبارك وتعالى.. إذ ليس هناك أدنى مجال لمجرد الظن بأن النجاح والتوفيق هو من البشر ومن نجاعة المناهج والخطط المتبعة في تنزيل الأفكار والرؤى. والمتأمل في كتاب "القدر في ضوء الكتاب والسنة" سيدرك الأبعاد العقدية التي تأسست عليها رؤية الأستاذ فتح الله كولن، خاصة عندما يتناول موضوع الإرادة في علاقتها بالقضاء والقدر، إذ تظهر صعوبة تناول القضية العقدية نظرا للعوامل الآتية:
العامل الأول: هو تعدد مستويات الفكر الديني بصفة عامة عند الأستاذ فتح الله والفكر العقدي على وجه الخصوص عما ذكر سالفا.
العامل الثاني: تداخل فكر الأستاذ فتح الله وارتباطه بروح الدين، لأن منطلق أفكار الأستاذ وحلوله وتحليلاته من الإسلام. فكل مشاريع الخدمة المختومة بروح العصر والحداثة، توجهها الفكرة الدينية أو الرؤية الدينية. ولذلك فإن الفصل بين مستويات هذا الفكر مجرد فصل إجرائي أو صوري، لأن الأفكار في ظل منظومة الأستاذ فتح الله الإصلاحية لا تدرك كل مراميها إلا في دائرة مظاهر تنزيلها وتطبيقها.
العامل الثالث: حاجة الأستاذ فتح الله في كل ما كتب إلى استحضار روح العقيدة السليمة في كل ميادين الحياة، وخاصة في مجال شحذ الهمم وترغيب الناس في الفعل والعمل. ولذلك فإن العقيدة حاضره في عموم رؤية الأستاذ، بل نستطيع القول إن كل رؤية وتصور وموقف وسلوك صدر من الأستاذ متصلة بخيط ناظم هو العقيدة الصحيحة المتسامية، والتي يعاد ضبطها وتقويتها في كل وقت وحين في عالم المعنى الذي تبدو ارتباطات الأستاذ به أكثر قوة من ارتباطه بالعالم المادي.
يخبر جميع من عاشر الأستاذ أنه يعيش حالات روحانية قلّ نظيرها، تقوم على مجاهدة النفس وتصفية الروح والابتعاد بهما عن كل ما يكدر صفاءهما من هموم الدنيا والأهواء... وذلك بإلزام نفسه بضروب من العبادة لا يستطيعها الآخرون، فهو يعتبر العبادة بكل مظاهرها والإكثار منها من خلال النوعية والكمية هي مفتاح التوفيق والنجاح. فالأستاذ فتح الله كولن -كما يذكر ذلك تلامذته المقربون منه- كثيرا ما تنتابه حالات حزن شديد يخرج بعدها وقد امتلأت روحه. ودخول الأستاذ في مثل هذه الأحوال مرتبط بحالات استشعار قصوى باقتراب أزمات الواقع.
لا شك أن هذه الرياضة الروحية تحتاج إلى عقيدة قوية وإلى ضرورة تجديد معانيها في القلب والروح، فلا يقدم أمرًا، ولا يوجه الناس أو ينصحهم أو يحثهم على عمل وإنجاز دون أن يكون للعقيدة أثر في ذلك، بعد أن تختمر وتنضج في معمل الروح.
2- روح العقيدة روح الإصلاح والانبعاث
إن مشروع الأستاذ الإصلاحي يستمد قوته من حضور مقومات العقيدة السليمة في كل مراحل بنائه. وهنا مكمن التميز في فكر الأستاذ فتح الله.
فما مقومات العقيدة عند الأستاذ فتح الله كولن؟
وما القضايا الأكثر إلحاحا عليه؟
الأستاذ فتح الله مسلم سنّي ماتُريديّ العقيدة، لكنه عندما يتكلم في العقيدة الأشعرية تحسبه أشعريا كما يخبر بذلك بعض تلامذة الأستاذ.. فالأستاذ وإن كان ماتريدي العقيدة يعمل على بناء رؤية عقدية تنسجم مع روح المشروع الإصلاحي الذي يتبنّاه، وهو المشروع الذي يتطلب أن تكون قضية العقيدة فيه أمرا يسهل استيعاب العموم له، خاصة إذا استحضرنا أن الأستاذ فتح الله يخاطب عموم الناس، وإن كان يخص المقرّبين منه بمستويات خطاب عالية في الجلسات الخاصة، لكنه في مواعظه وفي الخطب المنبرية وفي المحاضرات وفي غير ذلك من المناسبات التي يكون العموم أكثر حضورا، يحرص على يكون الخطاب في مستوى إدراك العموم.
وبغضّ النظر عن طبيعة المنطلق العقدي للأستاذ فإنه لا يخرج عن دائرة أهل السنة والجماعة. فمنهجه في علم الكلام وفي العقيدة هو منهج أهل السنة الذي يبتعد عن الخوض فيما لا يجوز في حق ذات الله تبارك وتعالى.
منهج الأستاذ فتح الله في باب العقيدة منهج متجدد يستفيد من مصادر كثيرة من بينها الأستاذ بديع الزمان سعيد النورسي الذي كان موضوع التوحيد والعقيدة من أهم ما ركز عليه في رسائله من خلال رفعه لشعار "إنقاذ الإيمان". شيد النورسي في رسائله منظومة عقدية حية تخاطب العقل والروح، وتوظف من أجل ذلك الحقائق العلمية والكونية، بل يمكن القول بأن رسائل النور كتاب في علم الكلام جعل موضوعه الأساسي إثبات وحدانية الله وإثبات قدرته ووظف من أجل ذلك عددا كبيرا من الدلائل الوجودية وغيرها، ولا شك في أن جوانب من منهج النورسي ظاهرة في منهج الأستاذ فتح الله.
فإذا كان النورسي هو متكلم العصر الحديث -كما يذكر ذلك الدكتور محسن عبد الحميد- فإن فتح الله قد استفاد كثيرا من أفكار النورسي، لكنه طبعها بشخصيته، وصبّها في قالب خاص يمزج بين المقاربة العقلية، والحقيقة العلمية وضوابط الإقناع والحوار مستفيدا في ذلك من الخطاب القرآني ومنهجه في ذلك، ومسترشدا بالمنهج النبوي في إضاءة هذا الخطاب، دون أن ننسى أن انتماء الأستاذ إلى المذهب الحنفي يجعله أكثر قربا إلى استعمال الفكر والعقل في باب الاجتهاد، وذلك لأن المذهب الحنفي وخاصة في باب الفقه أكثر المذاهب الأربعة توظيفا للعقل والفكر.[49] وإذا كان المذهب الحنفي أكثر المذاهب الأربعة توظيفا للعقل، فإن المذهب الماتُريديّ في العقيدة يتموقع في موقع وسط بين المذهب الأشعري والمذهب الاعتزالي. وتكمن دلالة ذلك في كون الأستاذ فتح الله ميالا إلى الرؤى الفكرية التي تستطيع توحيد مختلف التصورات الفكرية في مجال العقيدة، بالإضافة إلى أن هذا التوسط يتيح لفتح الله المتكلم التوقف عند حدود الرؤية التي تقف عند حدود الفكر العقدي القديم الذي كان يضع حدودا معينة لا يجوز تجاوزها تأدّبا مع الله.
كتب فتح الله الكثير في باب العقيدة، بالإضافة إلى خطبه المنبرية ومجموع فتاويه وإجاباته على مختلف الأسئلة المتعلقة بالعقيدة وبالقدر والتي جمعت في كتب، لكن لم يترجم من هذه الكتب إلى العربية سوى كتابين: الجزء الأول من سلسلة "أسئلة العصر المحيرة" وكتاب "القدر في ضوء الكتاب والسنة".. وهناك كتب في هذا الموضوع مطبوعة باللغة التركية مثل "في ظلال الإيمان" و"البُعد الميتافيزيقي للوجود" إلا أنها لم تترجم إلى العربية بعدُ.. ولذلك فإن الذي نقف عليه لا يمثل سوى جزء يسير من الرؤية الكاملة لفلسفة العقيدة والقدر في رأي الأستاذ فتح الله.
3- منهج بسط العقيدة عند الأستاذ فتح الله
إن منهج تلقين العقيدة عند الأستاذ لا يخرج عن منهج أهل السنة والجماعة كما سبقت الإشارة إلى ذلك. ففتح الله المربّي والمعلم لا يفتأ ينبّه إلى عدم الاشتغال بما لا فائدة من الخوض فيه، وخاصة القضايا ذات البعد الكلامي، بمعنى أن الأستاذ يميز بين القضايا العقدية التي تربط الإنسان بالخالق وفائدتها في تقوية هذا الإنسان، حتى يكون كائنا يحسن معرفة الخالق من خلال كل مكونات الكون والوجود. ولذلك عندما تطرح عليه أسئلة متعلقة بذات الله أو متعلقة بأمور الغيبية يعتبر كل ذلك نوعا من سوء الأدب مع الله تبارك وتعالى، يقول في أسئلة العصر المحيرة جوابا على سؤال وُجّه له عن جوهر الله وماهيته: "أجل، فنسبة ما يراه الإنسان في هذا العالم يبلغ فقط خمسة في المليون تقريبا، وكذلك نسبة ما يسمعه. فمثلاً لا يستطيع أن يسمع صوتًا اهتزازه 40 تردد في الثانية. كما إذا تجاوز هذا التردد الآلاف فلن يسمع أيضًا. إذن فحاسة السمع عند الإنسان محدودة، ولا تدرك هذه الحاسة إلاّ نسبة صغيرة في المليون. كما أن مجال بصره وسمعه محدودان جدًّا. إذن كيف يستطيع هذا الإنسان المحدود في علمه وبصره وسمعه أن يتجرّأ ويسأل: لماذا لا يرى الله؟ وكيف هو؟ إن طرح الإنسان مثل هذا السؤال ومحاولته نَسبَ الكمية والكيفية لله تعالى أو محاولة التفكير في ذاته جرأة وتجاوز للحد"[50].
لا شك أن الجواب يحمل في طياته الكثير من الأبعاد التربوية التي تقوم على توظيف المنطق العقلي، حيث نلاحظ حرص الأستاذ على تقديم أجوبة علمية منطقية قريبة من مستوى إدراك الإنسان. وضمنيا فالأستاذ فتح الله كولن عندما يقف على مثل هذه القضايا، إنما يوجه انتباه الناس إلى أن المنهج الأسلم هو منهج السلف ومنهج أهل السنة والجماعة.
ومن الأمور الجديرة بالاهتمام في تحليلات الأستاذ هو إلحاحه على الأسلوب الذي يتوجب به تناول القضايا الكبرى كقضايا العقيدة. فعلى الرغم مما نلمسه من دراية معرفية وعلم في أجوبته في مختلف الحقول المرتبطة بالإنسان وحقل العقيدة والقدر ضمنها، فإنه يبدو حذرا في كل إجاباته. وهذه ناتجة فيما نرى عن رغبته في إظهار التواضع العلمي رغم علمه الواسع. ومما هو معلوم فإن العديد من المهتمين والباحثين يجمعون على أن الأستاذ فتح الله مجتهد، بل هناك من يعتبره أحد مجتهدي القرن ومجدديه، لكنه لتواضعه يرفض اعتبار نفسه مجتهدا ومجددا. ومن يقف على فتاويه يكتشف قدرة كبيرة على استخراج الأحكام وجعلها متماشية مع روح العصر، لأن علمه يتيح له ملاحظة بعض ما وقع فيه بعض الفقهاء من مجانبة للصواب، والرد عليهم بتواضع جم.[51]
4- غاية العلم في ضوء العقيدة الصحيحة
قضية العقيدة والقضاء والقدر عند الأستاذ فتح الله كولن قضية تحفيز وشحذ همم، ولا يشتغل بها لذاتها وإنما يشتغل بها من أجل إعلاء الهمة وبعث الحياة في الروح وشحنها بالطاقة التي تسعفها في التعامل مع الواقع وقضاياه بكل قوة وبكل ثقة في الله تبارك وتعالى، لأن الأصل في الإنسان -كما يتصور الأستاذ فتح الله- هو مدى همّته في القيام بالواجب الذي أمره به. يقول مبرزا بتركيز كبير هذه الرؤية: "لا تظهر إنسانية الإنسان واضحةً إلا عند محاولته التعلم ثم تعليم غيره وتنويره. والذي لا يحاول التعلم -مع كل جهله- ولا يفكر بذلك ولا يجدد نفسه بما تعلمه ولا يكون قدوة لغيره هو إنسان بالصورة فقط وليس بالسريرة. أما الأمور التي يجب تعلّمها ثم تعليمها للآخرين فيجب أن تكون متعلقة بكشف ماهية الإنسان وأسرار الكون. وكل علم لا يكشف أسرار النفس الإنسانية ولا ينير النقاط المظلمة في الوجود ولا يحلّ العقَد المستعصية لا يعد علمًا.
إن الغاية من تعلم العلم هو اتخاذ المعرفة مرشدًا وهاديًا للإنسان ولتنوير الطرق التي ترقى بالإنسان نحو الكمالات الإنسانية. لذا فالعلوم التي لا تتناول الجانب الروحي للإنسان تكون عبئًا على صاحبها. وكل معرفة لا توجه الإنسان إلى الأهداف السامية ليست إلاّ عبئا للقلب والفكر لا فائدة منها. (....) يُعد العلم الذي وضحت غايته وهدفه وسيلة بركة دائمة لصاحبه، وكنـزا لا يفنى. والذين يملكون مثل هذا الكنـز يكونون بمثابة نبع ماء سائغ شرابه يرِده الناس طوال حياتهم وبعدها، ويكونون وسيلة خير. أما الفرضيات الجوفاء التي تلقي الشكوك والريب في القلوب، وتعتم الأرواح والتي لا تملك أهدافا واضحة فهي كومة من المزابل التي تطير حولها الأرواح الكدرة واليائسة وتكون فخا ومصيدة للأرواح"[52].
ولا شك أن تعلم أمور العقيدة وما يلزم من أمور التوحيد، ومعرفة الخالق وشروط التأدب مع الله، كلها عناصر تندرج فيما يتوجب على الإنسان معرفته. ولذلك فإن اشتغال الإنسان بصفة عامة[53] بعلم الكلام قد لا يعود بنفع كثير، بالإضافة إلى أن هذا الأمر ليس هو مدار التكليف الإلهي للإنسان.
يهتم الأستاذ كثيرا بقضية العلم في ضوء قضية العقيدة، ولذلك دلالته في منهجه. القائم على ضرورة محاربة أعداء الإنسان الثلاثة: "الجهل" و"الفقر" و"التفرقة".. ولا يقف الأمر عند الأستاذ عند هذه النقطة بل يتجاوز ذلك إلى بيان الأمر بالقول: "من المهم تخليص العلوم الحالية من الجمود والخمود ومن العبثية، وهذا يساعد على فهم مسألة المواضيع التي يهتم بها العلم بوضوح. كما يؤدي إلى قيام الإنسان بأداء ما يقع ضمن حصة إرادته وذهنه، ويستطيع آنذاك مشاهدة مكتسبات أحاسيسه وقلبه مشاهدة باطنية. عندئذ ينقلب المثقف إلى لسان فصيح وإلى قلب يستطيع قراءة الكون الموجود والموضوع أمامه ككتاب مفتوح سطرا سطرا. علما بأن من المستحيل تجاهل أن الكون لا يختلف عن كتاب، ولا سيما في الأوامر التكوينية، أي أوامر الخلق، حيث أن "القلم" كان أول ما خُلق، لذا كان أول أمر في القرآن المنـزل هو (اِقْرَأْ)"[54].
يلح الأستاذ فتح الله كولن في هذا النص الجميل على عدة مسائل أساسية أهمها قضية العلم الحديث وما يطرحه من إشكالات في دائرة أن العلم الحقيقي هو العلم الذي ينفض عنه غبار الكسل والإهمال ويقود إلى إدراك الكون وقراءته قراءة الكتاب بغاية الاستفادة منه في تحصيل العلم الصحيح والعلم الحقيقي الذي يدل على الخالق ويزيد تعريفا بعظمته وقدرته. فالكون من هذه الزاوية يدل -كما يرى الأستاذ فتح كولن وكما بين ذلك بديع الزمان سعيد النورسي- على الخالق ويهدي إليه، بمعنى أنه كلما زادت قابلية الإنسان لإدراك العلم الحقيقي زادت مساحة التوحيد وإدراكه لذات الله تعالى، وهذا هو ما يريد فتح الله كولن الإشارة إليه في بيانه لمفهوم (اِقْرَأْ) باعتباره أول ما نزل من الوحي على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "الأمر الإلهي (اِقْرَأْ)(العلق:1) أمر ودعوة ووظيفة إلهية وجهت إلى أشرف المخلوقات -صلى الله عليه وسلم- الذي تجلت فيه جميع الكمالات، ومن ثم إلى البشر أجمعين. وهذا الكون المعروض أمام أنظارنا لنتأمله ونفهم معناه ومحتواه، والشاهد على النظام الذي أنشأه الخالق، وعلى قدرته وعظمته وجماله... هذا الكون ليس إلاّ تجليا من تجليات اللوح المحفوظ. لقد جعل الله كل شيء في هذا الكون من أحياء أو جماد -عدا الإنسان- "قلمًا" لكي يقوم كل موجود بوظيفة تسجيل ما أُودع فيه من تجليات وحكم"[55]. "إذن فإن (اِقْرَأْ) رمز للتوحد وللتكامل وللتكميل، ورمز للمشاهدة والتقييم والرؤية إلى جانب الحدس، وتعبير لساني عن هذه المعرفة الباطنية، وهو يحمل دلالات كبيرة لنا لكونه أول أمر موجه إلينا"[56].
فعدم الاشتغال بقضايا علم الكلام تبرره جملة مبررات منها أنه فوق مستوى إدراك الإنسان، ولأن الاشتغال بهذه القضايا ليس هو الغاية من خلق الإنسان، بالإضافة إلى أن الخوض فيها لا يعود بالفائدة على المجتمع والإنسان. يقول: "فمن أنت أيها الإنسان، وماذا تعلم أصلاً لكي تتجرأ وتحاول إدراك الله تعالى؟ إن الله تعالى منـزَّه عن الكيف والكم، وهو منـزه عن أن تحيط به مقاييسك الناقصة. فلو سافرت بسرعة الضوء تريليون سنة إلى عوالم أخرى ثم راكمت تلك العوالم بعضها على بعض لما بلغ ما شاهدتَه بالنسبة إليه تعالى ذرة أو هباءة"[57].
ولا ينبغي أن نظن أن الأستاذ ينادي بضرورة ترك علم الكلام، بل إننا نتصور أنه يعتبر الاشتغال به فرض كفاية، إذا اشتغل به البعض سقط عن البعض الآخر.. لكنه ضروري للثقافة الذاتية لأنه الوسيلة التي يدافع بها عن "منظومة المعتقدات الإسلامية بالأدلة العقلية والنقلية، والحفاظ على استقامة فكر المؤمنين، ورد الشبهات والشكوك التي تثار أو يحتمل إثارتها ضد الدين، وحراسة "العقائد الإسلامية الحقة" في إطار السنة السنية إزاء بعض التيارات الفلسفية الخاطئة"[58].
فإذا كان الغرض هو حماية الدين الذي هو أساس الميراث الثقافي فإن الاشتغال بقضايا علم الكلام يصير ضرورة، لكن شريطة البقاء في إطار الكتاب والسنة. ولا يرى الأستاذ بأسا من الانفتاح على مختلف أبواب العرفان شريطة ألا يدخل الفكر في قضايا ضالة، يقول: "وقد حرص قسم من المفكرين والعلماء على البقاء في إطار الكتاب والسنة ولم يسوقوا رأيا منهم في هذه المسائل، في حين أن البعض الآخر لم ير بأسًا في مد البيان بالبرهان وإثرائه بالعرفان، وتوسيعِه بالمحصلات الصوفية والفلسفية، بل رأوا أن الاشتغال بها على هذا الوجه خدمة للدين. صحيح أن التوسع على هذا النحو قد أَدخل إلى النظام الفكري الإسلامي أفكارا ضالة من رواسب الميراث القديم، لكن الواقع أيضًا أنه فَتَحَ أمام المسلمين آفاقًا عظيمة وواسعة"[59].
فهو يدعو إلى الاشتغال بما يدل على الله تعالى ويشير إلى عظمته من تأمل في مخلوقاته وفي الكون وفي الذات الإنسانية نفسها، لأن كل ذلك جزء من علمه تعالى.. "وجودنا ظل من نور وُجوده، وعلمنا نفحة من العلم الإلهي المحيط بكل شيء. أجل هناك في مستوى ما طريق لمعرفة الله تعالى والوصول إلى اكتساب مرتبة العرفان، ولكن هذا الطريق ليس الطريق الاعتيادي لمعرفة الأشياء، بل طريق مختلف تمامًا. والذين يحاولون معرفة الله بسلوك طريق منحرف هم قسم من البؤساء الذين لم يستطيعوا التغلب على غرور النفس، ولم يعرفوا الإلهام الباطني، ولم يذوقوه. لذا تراهم يقولون: "لقد فتّشتُ عن الله فلم أجده". وهذا تعبير عن ضلال كبير وقول زائف باسم العلم والفلسفة"[60].
ربط الأستاذ فتح الله علم الكلام وقضاياه بالسلوك الذي يتوجب أن ينعكس في كل عمل وفي كل مشروع، بل ينبغي أن يكون الشعار المركزي في جميع المشاريع الحضارية التي أوحى بها لمحبيه فانطلقوا يحققونها بكل حماس وثقة في نجاحها، وفي كونها ستبني المستقبل بتوفيق الله. و"الخدمة" باعتبارها حركة مجتمعية نابعة من عمق حاجات المجتمع التركي على أساس كونه مجتمعا ينتمي إلى العصر الحديث، دون أن يكون منسلخا عن أصوله الثقافية، وتركيز الأستاذ فتح الله كولن على العنصر العقدي في الفعل والحركة وجعل ذلك محركا للخدمة، فيه اعتراف ضمني بأن كل شيء متّصل بالله. فالتوفيق والحركة من الله وبالله.. فالله باعتباره الخالق المتحكم في كل شيء والمتصرف في الكون والوجود بكل حرية، وباعتباره المهندس الأول الذي خط خارطة الكون والوجود بكل توازن ودقة متناهية، يستطيع أن يجعل من حركة الإنسان وخدمته الخالصة لوجهه تعالى جزءا لهذا التوازن. وكأن الخدمة باستحضارها لحقيقة التوحيد تدخل في إطار الهندسة الكبرى التي يريد خالق الوجود لوجوده السير عليها. بعبارة أخرى إن الخدمة جزء من هذا التوازن ما دامت تتحرك في ضوء العقيدة الصحيحة وفي ضوء روح الإسلام.
فالخدمة -من مقترب آخر- هي البوتقة التي يتآلف فيها "الإنسان-الكائنات-الله"، لأنها تجتهد في أن تعيش روح الإسلام. وما يقصده الأستاذ بروح الإسلام ليس الحال التي يوجد عليها الإسلام في الوقع الحاضر، بل هو شيء آخر، يقول: "وإذ نقول "روح الإسلام" لا نعني حاله الذي يبدو في واقعنا الحاضر ومن زاوية نظرنا ووِجهةِ تقويمنا له، باهتا وذاويا وفاقدا بَريقَ جاذبيته السماوية. بل بألوانه ورقوشه البراقة، وكما كانت -ولا زالت- أرواحٌ طاهرةٌ تستشعره فتتذوقه، وكما أحسَّه إنسانُ عصرِ السعادة وعاشه. هذا الروح لا يزال كالبحر الذي لا تسكن أمواجه، طاهرًا أبدًا، نديًّا، عميقًا لا يتكدّر قط بالأوساخ الفكرية لأي زمانٍ أو مكانٍ. لكنَّ الوصولَ إليه وتمامَ الاستفادة منه يتطلب تثبيتا للنية وتسديدا لزاوية الـنظر، وعلوا في الهمة وثباتا في المثابرة، وصدقا في التوجه وثقة بالأصل الذي ينتمي إليه"[61].
لقد قدم فتح الله كولن علم التوحيد والعقيدة الإسلامية وفق نمط منسجم مع المشروع المركزي، وهو بناء الإنسان روحيا ووفق نمط يجعل من هذا الإنسان مخلوقا فاعلا في الكون والوجود، ووفق نمط تتجلى فيه حقيقة "الإنسان العبد لله" المكلف بمهمة إعمار الأرض ونشر الفضيلة. على أن الفارق بين العبادة والإعمار فارق إجرائي، وإلا فإن العبادة لا تنفصل عن الإعمار.
لا يتردد فتح الله كولن في الإجابة عن القضايا التي يراها ضرورية والتي تحتاج إلى التوضيح مخافة وقوع الناس تحت تأثيرِ جاهلٍ يفسد من حيث يريد أن يصلح. ولذلك فهو يوظف أجوبته في إطار تربوي عندما يسأل سؤالا من مثل "لماذا تستحيل رؤية الله؟ وكيف يجاب على من يطرح مثل هذه الأسئلة؟".
يؤمن الأستاذ فتح الله بأن ترك السؤال معلقا دون جواب قد يحدث بلبلة فكرية لدى السائل. ولكي يمنع ذلك يجيب إجابة عقلية منطقية تعتمد الإقناع وتراعي التبسيط حتى يتسنى لكل الفئات إدراك المراد. يقول باسطا جوابه على السؤال السالف: "الرؤية مسألة إحاطة. فمثلاً هناك جراثيم في جسم الإنسان، وقد توجد ملايين من البكتريا أسفل سنّ واحدة، وهذه البكتريا تستطيع بما أُوتيت من قابليات وإمكانيات نخر سن الإنسان وتخريبها. ولكن الإنسان لا يستطيع سماع صوتها أو ضجيجها كما لا يحس بها ولا بوجودها. كما أن هذه البكتريات لا تستطيع رؤية الإنسان ولا الإحاطة به. ولكي تستطيع الإحاطة به عليها أن تكون في موضع مستقل وخارجي عنه، وتملك في الوقت نفسه عيونًا تلسكوبية. إذن فعدم قدرتها على الإحاطة بالإنسان تمنعها من رؤيته، وهي لا تستطيع سوى رؤية ما موجود أمامها فقط. بعد هذا المثال من العالم الأصغر، لنعط مثالاً من العالم الأكبر: تخيّل أنك جالس أمام تلسكوب كبير يستطيع رؤية أمكنة على بعد أربعة مليارات سنة ضوئية. ومع ذلك فمعرفتنا حول الكون وحول المكان تعد قطرة في بحر. قد نستطيع معرفة بعض النظريات غير الواضحة تمامًا حول المجال أو الساحة التي يغطيها ذلك التلسكوب وبعض المعلومات أيضًا، ونسعى انطلاقًا من هذه الفرضيات والمعلومات لنصل إلى فرضيات ومعلومات أخرى كذلك. ولكننا لا نستطيع الإحاطة الكاملة بالكون ولا بماهيته ولا بإدارته ولا بشكله العام ولا بمحتواه، لأننا مثلما لا نملك إحاطة كاملة في العالم الأصغر، كذلك لا نملك مثل هذه الإحاطة التامة في العالم الأكبر"[62].
يرسم الأستاذ فتح الله من خلال جوابه هذا معالم منهج تربوي يقوم على الإقناع بالمنطق والعقل، وعلى دعم المتلقي بكل ما يقرب الأفكار من خلال ذكر الأمثلة العقلية التي لا يختلف حولها العقلاء من الناس، بالإضافة إلى توظيف منهج المقارنة الضمنية التي تحتاج العقل والدليل الملموس، ولا يعارض المنطق العلمي وقواعده.
بالتحليل العقلي الملموس يدرك كل عقل متوازن أن السؤال في حد ذاته أكبر من أن تدرك حقيقته. وبهذا تبرز أداة ناضجة من أدوات الأستاذ في تطبيق منهج عرض العقيدة وترسيخها. فلسان حاله يدعو كل واحد إلى تصور ذاته في دائرة الإحاطة الإلهية بالقول: "وأنتم... أنتم الذين تُعدون بالنسبة لهذه الأكوان أجزاء ميكروسكوبية كيف تستطيعون ادعاء إحاطتكم بالكون والمكان؟ بينما الأماكن كلها والأكوان كلها تعد أشياء ميكروسكوبية بالنسبة إلى عرشه تعالى الذي هو مجرد محل تنفيذ الإرادة والأوامر الإلهية... أليس هذا اشتغال بالعبث؟ فإذا كان الأمر هكذا فقسْ أنت درجة العبث في محاولة الإحاطة بالله تعالى"[63].
أشرنا سابقا إلى أن الجانب العقدي في فكر الأستاذ فتح الله مرتبط بمنهجه الدعوي بصفة عامة. وهو وسيلة دعم لرؤيته الفاعلة في الواقع. ولذلك كان هذا المنهج منفتحا على كل النماذج الإنسانية باعتبار ما فيها من خيرية. وبقدر انفتاحه يسعى بكل الوسائل الفكرية إلى منع انتشار الفكر الإلحادي والرد عليه. فإذا كان الإنسان هو العنصر المركزي الذي يحظى باهتمام الأستاذ فإنه يجتهد من أجل تحصينه. بعبارة أخرى إن الأستاذ فتح الله كولن عندما يركّز على العقيدة الصحيحة في تعالمه مع الإنسان، يركز على المرامي الإصلاحية والحضارية والإنسانية التي يتطلع إلى الوصول إليها، وكأن الإنسان المهزوز العقيدة لا يمكنه السير بمشروع الأستاذ الإصلاحي نحو أهدافه ومراميه القريبة والبعيدة. ولذلك نلاحظ كثرة إلحاحه على هذه الجوانب، والدليل على ذلك هو استمراره في الإلحاح على أبناء الخدمة ومتطوعيها ورجالاتها على قتل الأنانية الذاتية والجماعية. إنها فلسفة التسفير عند الأستاذ، أي "تَسْفِير" النفس وجعلها سفْرا، وليس صفرا، لأن الصاد صوت مجهور إيقاعُه مرتفع لا يوحي بالتواضع.
5- الإلحاد والسقوط
لفهم الأبعاد المتحكمة في رؤية الأستاذ بخصوص العقيدة، يلزم الرجوع إلى ما قبل سقوط الدولة العثمانية. فقد كان من بين أسباب سقوطها انتشار الفكر الإلحادي والتنكر للدين. وقد وصف الأستاذ بديع الزمان سعيد النورسي هذه الوضعية من خلال حديثه عن المذهب الطبيعي الذي كان انتشر آنئذ، وهو سبب من بين الأسباب التي جعلت الأستاذ بديع الزمان سعيد النورسي يعلن مشروعه الكبير "إنقاذ الإيمان". ولم تكن الفترة التي تبعت قيام الجمهورية وإعلان العلمانية بأحسن حالا في هذا الباب. لقد عاصر الأستاذ فتح الله كولن استمرار انتشار الفكر الإلحادي والفلسفات التي قدمت للشباب على أنها فلسفات تقدم الوجه الحقيقي للإنسان، فهرع الشباب إليها دون تعقّل أو تدبّر ودون أن يجدوا مرشدا يرشدهم.. وكأنهم قد نُوّموا تنويمًا، فانتشرت أولا فلسفة فرويد تحت مصطلح "اللبيدو" الذي جرح مفهوم الحياء لدى الناس، ثمَّ طغت الفلسفة الوجوديَّة لـ"جان بول سارتر" و"كامو" فجردت حصون الحياء وجعلتها أثرا بعد عين. حتى غدا الشاب يستيقظ صباحا فيصفق للفوضوية، وفي الظهر يقف احتراما للنظام الماركسى اللينينى، وفي العصر يحيّي الوجودية، وفي العشاء قد ينشد نشيد هتلريا. ولم يعد هناك شاب يلتفت أبدا إلى جذور روحه، ولا إلى شجرة أمته، ولا إلى ثمار هذه الشجرة.[64]
رأى فتح الله بعينه كل هذا الفساد الروحى والتدني الأخلاقي، فسعى جاهدا يحمل سيف الكلمة والقلم والتوجيه والوعظ والإرشاد، شارحا ومبيّنا فساد هذه الفلسفات الإلحادية وأثرها الخطير وأنها لا تصلح منهجا ينتهجه المسلم في حياته من أجل إحياء عصر نهضته.. بل لنقلْ إنّ تصدّي الأستاذ فتح الله كولن للإلحاد يرجع إلى إيمانه العميق بأن هذا الوباء غريب عن التربة وعن الواقع وعن أصوله، لأن التربة التي هي هدف الأستاذ فتح الله تربة لا تحيى إلا بالتوحيد وبالإسلام. ولذلك فهو يعتبر أن أحد معوقات الانبعاث والإحياء والانطلاق من جديد هو أن يتوهم المجتمع أن عوامل النهوض تكمن بالدرجة الأولى في التنكر للثقافة الذاتية والتمسك بثقافة غيرية هي ثقافة الغرب الذي جعل من الفلسفة الإلحادية سببا من أسباب التقدم والعصرنة، حيث يقول: "لنضع جانبا بلبلة التكوينات الجديدة في العالم. نحن لا نصدق بولادة شيء جديد من الهندام الرأسمالي القديم أو أحلام الشيوعية، أو تكسيراتها الاشتراكية أو هجين الديمقراطية الاجتماعية، أو خرق الليبرالية البالية. الحقيقة أنه إن كان ثَمّ عالم مشرع الأبواب لنظام عالمي جديد، فهو عالمنا نحن، وسيتناوله الجيل القادم على أنه عصر نهضتنا نحن"[65].
فالأستاذ في هذا المقام يعطي لموضوع الإلحاد أهمية خاصة ويوظف من أجل دحض الأفكار الإلحادية كل الوسائل العقلية والمنطقية، بل لا يتوانى عن مخاطبة الملحدين بأوصاف تبين قيمتهم في نظر المجتمع، ولا يتوانى عن بيان تدني رؤاهم بالنسبة لمستقبل الأمة والمجتمع، مرجعا السبب المباشر للإلحاد إلى "الجهل" باعتباره آفة كبيرة تنخر كيان المجتمع، ولذلك توجب التصدي بكل الوسائل، يقول: "إن أوّل بيئة ينمو فيها الإلحاد هي البيئة التي يسود فيها الجهل ويغيب عنها القلب. فكتل الجماهير التي لا تتلقى تربية وتغذية روحية وقلبية ستقع -إن عاجلاً أم آجلاً- في براثن الإلحاد. وإذا لم تتدخل العناية الإلهية فإنها لن تستطيع إنقاذ نفسها. إذا لم تبذل الأمة عناية خاصة في تعليم أفرادها ضرورات الإيمان ولم تظهر الحساسية اللازمة في هذا الأمر وتركت أفرادها في ظلام الجهل، فإن هؤلاء الأفراد يكونون قد دفعوا لتقبل كل إيحاء معروض عليهم"[66].
الإلحاد عند الأستاذ مجرد انحراف نفسي وعناد فكري مسبق ومزاح طفولي، لكن بعض الشباب لم يتمكنوا من التخلص من تأثير أفكاره التي أكل الزمن عليها وشرب، متوهمين أنها حقائق علمية وهي أبعد ما تكون عن ذلك، ومرد ذلك هو أن هؤلاء الشباب لم يتلقّوا تربية روحية كافية[67].. فالإلحاد "من الناحية الفكرية هو إنكار الله وعدم قبوله. وفي مستوى التصور هو حالة الحرية بلا حدود. أما في مستوى العمل والسلوك فيتبنّى الإباحية ويدافع عنها"[68].
ونظرا لأهمية موضوع الإلحاد نلاحظ أن الاستاذ فتح الله لا يقف عند حدود إثارة الانتباه إلى خطورته بل يذهب إلى حد تحليل أسباب انتشار وبيان العوامل التي تساعد على انتشاره في المجتمع، وهي تتلخص في عاملين:
العامل الأول، هو انهدام الحياة القلبية للإنسان. ومن هنا يفهم السبب الذي يجعل الأستاذ فتح الله كولن كثير الإلحاح على جانب الحياة القلبية وعلى الجانب الروحي في اهتمامه بالإنسان، بل إن أحد أهم الأسس التي يركز عليها الأستاذ في حركته الإصلاحية هو ضرورة تقوية الحياة القلبية للفرد والجماعة، يقول: "بما أن الإلحاد يعني الإنكار، فإن انتشاره متعلق بانهدام الحياة القلبية وسقوطها. طبعًا يمكن الإشارة إلى أسباب أخرى كذلك. الإلحاد من الناحية الفكرية هو إنكار الله وعدم قبوله. وفي مستوى التصور هو حالة الحرية بلا حدود. أما في مستوى العمل والسلوك فيتبنّى الإباحية ويدافع عنها. انتشر الإلحاد فكريًّا نتيجة إهمال الأجيال الشابة ونتيجة سوء التطبيق في دور العلم ومعاهده، إضافة إلى اكتسابه السرعة والقوة بتلقّيه المساعدات من جهات كثيرة"[69].
ويقول أيضًا: "إن الحوادث التي انبثقت كل منها من يد القدرة الإلهية والتي كل منها رسالة إلهية، هذه الحوادث -أو بتعبير آخر قوانين الطبيعة هذه- أصبحت في يد الإلحاد وسيلة لاستغفال الأجيال وساحة لبذر بذور الإلحاد. مع أنه سبق وأن كتب آلاف المرّات في الشرق والغرب وذكر أن قوانين الطبيعة هذه ليست إلا آلية تعمل بدقة واتساق واطراد ومعملا ذا انتاج وفير. ولكن من أين أتت هذه القدرة على الإنتاج ومن أين أتى هذا النظام؟ أيمكن أن تكون هذه الطبيعة الجميلة التي تسحر النفوس والأرواح مثل شعر منظم ونغم موسيقى نتيجة مصادفات عمياء؟ إن كانت الطبيعة -كما يُتوهم- قوة قادرة على الإنشاء والخلق، فهل نستطيع إيضاح كيف استطاعت الطبيعة الحصول على مثل هذه القدرة؟ أنستطيع أن نقول أنها خَلقت نفسَها؟ أيمكن تصديق مثل هذه المغالطة المرعبة؟! أما إن كان القصد من ذكر الطبيعة هو الإشارة إلى القوانين الفطرية، فهذا أيضًا خداع آخر؟ ذلك لأن القانون -بتعبير القدماء- عرض من الأعراض، والعرض لا يقوم إلا بوجود الجوهر.. أي أنه إن لم يتم تصور جميع الأعضاء والقطع التي تكوّن شيئا مركبا أو جهازًا حيويا ما، فلا يمكن تصور مفهوم القانون المتعلق بهذا الجهاز. وبتعبير آخر فإن القوانين قائمة بالموجودات، فقانون النمو يظهر في البذرة، وقانون الجاذبية يظهر في الكتل وفي الحيز (المكان)...الخ. إذن فإن التفكير في القوانين قبل التفكير في الموجودات والزعم بأن هذه القوانين هي منشأ الوجود ليس إلا خداعا"[70].
وأما العامل الثاني، فيكمن في فطرة الشباب. إذ إن رغبات الشباب لا تعرف الشبع. ورغباتهم في حرية مطلقة لا قيد عليها. هذه الميول الغير المتوازنة تكون قريبة من الإلحاد. "فمثل هذه النفوس تقول: من أجل درهم من اللذة العاجلة فإني أتقبّل أطنانا من الألم في المستقبل، وهكذا يهيّئون عاقبتهم الأليمة، وينخدعون باللذة الموهومة التي يقدمها لهم الشيطان ويقفون في شرك الإلحاد مثلما تقع الفراشات التي تحوم حول النار"[71].
إن فتح الله في إطار نظرته إلى الشباب يقترب من نظرة الأستاذ بديع الزمان الذي ركز على القضية نفسها ووصف للشباب الدواء الذي يحميهم من هذه المزالق. لكن وصفة الأستاذ فتح الله تبدو أكثر أهمية، لأنها لم تقف عند حدود الوصف، بل تجاوزت ذلك إلى ممارسة العلاج. ويلمس ذلك كله من خلال منهج التربية الذي حرص الأستاذ على تطبيقه منذ أن كان مشرفا على مدرسة "كَسْتَانَة بَازَارِي" بإزْمير، حيث بدأت معالم بيوت الطلبة تتشكل وتتكون، إذ صارت هذه البيوت محضنا يفتح أبوابه للشباب ويرعاهم ويربطهم بالخالق. الأمر الذي وقاهم من الوقوع في براثين الكفر والإلحاد وغيرها من المخاطر التي تهدد الشباب في هذا العصر المفتون.
مسك الختام
وعلى العموم فإن أفكار الأستاذ في مجال العقيدة يمكن اعتبارها مدرسة جديرة بالدرس والاهتمام. يضاف إلى ذلك أن منهج تناول العقيدة منهج يعتمد على الإقناع بالحجة العقلية والتذكير الروحي. وفي هذا الإطار نلاحظ أنه مستوعب لكل ما كتبه علماء الكلام القدامى وغيرهم، فتراه يستحضر الكثير من الأفكار الخاصة التي تحتاج إلى كفاءة علمية دقيقة وإلى قدرة كبيرة على الفهم والاستيعاب. وما أروع تمييزه بين واجب الوجود وممكن الوجود حيث يعبر أن مسلك علماء الكلام يؤدي إلى التوحيد، لكنه يستطرد موضحا أن هناك مسلكًا آخر أسهل وأقرب، حيث يقول: "والحقيقة أن علماء علم الكلام عندما حكموا عن طريق مفهوم "الدوْر والتسلسل" بنفي الأسباب وإسنادها إلى مسبب الأسباب أي إلى الله تعالى، ذكروا أن كل شيء "ممكن الوجود" وأن كل الأسباب والعلل تستند إلى "واجب الوجود"، ففتحوا بذلك منافذ إلى التوحيد. غير أن من الممكن الوصول إلى هذه النتيجة عن طريق أسلم. أجل! ففي كل أثر من آثار الخالق جل جلاله نرى ختمه وسكّته وآيته. لذا فليس هناك دليل واحد بل آلاف الأدلة على وجوده. فمنذ بدأت العلوم بمحاولة الكشف عن أسرار الكون، كان كل علم يشير بلسانه الخاص إلى وجوده ويعلن عنه بأجلى صيغة. وهناك كتب قيمة جدًّا كتبت في هذا الموضوع"[72].
[1] وإلى هذا المعنى يشير بديع الزمان سعيد النورسي إذ يقول: "فالكائنات والموجودات بما فيها الإنسان حروف خاوية حائرة تجوب كتاب العالم، فلا تقرُّ أو تجد لها مكانا فوق سطور هذا الكتاب الكبير ما لم تستمد معانيها من أسماء الله الحسنى، وما لم يمسها مدد من أمدادها، وينسكب فيها مداد من مداد بحر القدرة.. فلا شيء موجود على الحقيقة مالم يعطه الله شيئيته، ويمنحه كيانه، ويقدر وجوده. فإذا وصل الإنسان إلى هذه النقطة من الإدراك، ولاسيما بعد عظيم المعناة، فقد وصل إلى التوحيد الخالص، وتشرب جوهر الإيمان والإسلام، وعرف جدوى الوجود ومعناه". (المثنوي العربي النوري، بديع الزمان سعيد النورسي (تحقيق: إحسان قاسم الصالحي)، دار النيل، ط:1، القاهرة 1430هـ / 2009م، ص:38).
[2] ونحن نقيم صرح الروح، فتح الله كولن، ص:13.
[3] سلطة الكلمة وقوتها-1، محمد جكيب، مجلة حراء، العدد:31 (يوليو-أغسطس 2012م) ص:42-45.
[4] انظر:
M. Fethullah Gülen, Parole Et Pouvoire Déxpressiom, Du langage, de lésthétique et de la coyance, Tra: Jean-Louis Baur, ED: DU NIL Izmir- turquie, p:1-2.
[5] ونحن نبني حضارتنا، فتح الله كولن، دار النيل، القاهرة 2011م، ص:77.
[6] ونحن نبني حضارتنا، فتح الله كولن، ص:78-79.
[7] ونحن نبني حضارتنا، فتح الله كولن، ص:51.
[8] ونحن نبني حضارتنا، فتح الله كولن، ص:79.
[9] ونحن نبني حضارتنا، فتح الله كولن، ص:79.
[10] أتصور أن كل ما يقوله الأستاذ هو عبارة عن تجارب يعيشها في كل لحظة وحين، فكلما وجدت رؤية أو موقفا أو تصورا إلا ووجدت له ما يقابله من فعل وممارسة، ولا تجد نموذجا واحدا بل تجد نماذج متعددة تقابل صورة ذهنية واحدة، فعلى سبيل المثال يمكن ذكر ما عاشه الأستاذ مع طلبته أغلب أيام عمره، من خلال ما يمكن أن يطلق عليه جلسات " الدور الخامس" فروح هذه الجلسات قادمة من الماضي ومن تراثنا الثقافي والتربوي لكن الثوب الذي لبسته هذه الجلسات المباركة هو ثوب ينتمي إلى العصر.
[11] المقصود هو الأستاذ فتح الله كولن. وهي صفة يطلقها الأتراك على الأستاذ فتح الله، ومعناها "السيد الأستاذ".
[12] يشترك في رؤية إصلاح التعليم عدد من مفكري الإصلاح في العالم الإسلامي على أساس أن التعليم المرتكز على أسس واضحة تراعي الخصوصية الدينية والثقافية، وتراعي خصوصيات العصر (من انفتاح على العلوم الطبيعية وعلوم العصر) هو المنهج السليم للتعليم. و اعتبار ذلك الممهد المنطقي لكل انبعاث ونهضة، وعلى أساس استحضار هذه الرؤية دعا العالم الجليل بديع الزمان النوسي في تركيا في بداية القرن الماضي إلى ضرورة إصلاح منظومة التعليم، بل عمل على إقناع بعض السلاطين وأهل السياسة بأهمية فكرة تأسيس "جامعة الزهراء" التي كان يريدها جامعة تجمع في مناهجها بين العلوم الشرعية وعلوم الطبيعة.. وفي الجزائر ركز زعماء الإصلاح على ربط الناس بالتعليم الأصيل.. وأما في الغرب الأقصى فكانت الدعوة إلى إصلاح التعليم خجولة تصطدم بمعارضة أفكار بعض المحافظين وجماعات المصالح التي كانت ترى في إصلاح التعليم إضرارا بمصالحها. وأما فتح الله كولن فيعتبر مشروعه الحضاري خطوة متقدمة، وسنخصص حيزا في هذه الدراسة لهذا الموضوع في مكان لاحق.
[13] تاريخ الإمام الأستاذ محمد عبده، محمد رشيد رضا، 1/614.
[14] رغم كونها وظفت من أجل طبع الكتاب المقدس فقد سمحت فيما بعد بطبع العديد من الكتب، وإخراج بعض كتب التراث العربي إلى الوجود.
[15] ونحن نبني حضارتنا، فتح الله كولن، ص:79-80.
[16] ونحن نبني حضارتنا، فتح الله كولن، ص:80.
[17] ونحن نبني حضارتنا، فتح الله كولن، ص:77.
[18] ونحن نبني حضارتنا، فتح الله كولن، ص:78-79-80.
[19] ونحن نبني حضارتنا، فتح الله كولن، ص:78.
[20] ونحن نبني حضارتنا، فتح الله كولن، ص:79.
[21] ونحن نبني حضارتنا، فتح الله كولن، ص:79-80.
[22] ونحن نبني حضارتنا، فتح الله كولن، ص:79.
[23] ونحن نبني حضارتنا، فتح الله كولن، ص:81-82.
[24] ونحن نبني حضارتنا، فتح الله كولن، ص:82.
[25] ترانيم روح وأشجان قلب، فتح الله كولن (ترجمة: أورخان محمد علي)، دار النيل، ط:1، إسطنبول 2004م، ص:21.
[26] بيرينة: سلسة جبال بين فرنسا وإسبانيا. وقازان: عاصمة جمهورية تاتارستان ذات الحكم المحلي في روسيا، والمدينة على نهر الفولغا. وبواتييه مدينة في فرنسا اشتهرت بمعركة بلاط الشهداء.
[27] ونحن نقيم صرح الروح، فتح الله كولن (ترجمة: عوني عمر لطفي أوغلو)، دار النيل، ط:2، القاهرة 2006م، ص:10.
[28] ونحن نبني حضارتنا، فتح الله كولن، ص:83.
[29] ترانيم روح وأشجان قلب، فتح الله كولن، ص:16.
[30] ترانيم روح وأشجان قلب، فتح الله كولن، ص:18-19.
[31] ترانيم روح وأشجان قلب، فتح الله كولن، ص:59.
[32] ترانيم روح وأشجان قلب، فتح الله كولن، ص:61-62.
[33] ترانيم روح وأشجان قلب، فتح الله كولن، ص:63.
[34] ترانيم روح وأشجان قلب، فتح الله كولن، ص:67.
[35] ترانيم روح وأشجان قلب، فتح الله كولن، ص:68.
[36] انظر: الموازين أو أضواء على الطريق، فتح الله كولن، (ترجمة: أورخان محمد علي)، دار النيل، ط:5، القاهرة 1430هـ/2009م، ص:142.
[37] الموازين أو أضواء على الطريق، فتح الله كولن، ص:142.
[38] ونحن نبني حضارتنا، فتح الله كولن، ص:87.
[39] النور الخالد، محمد - صلى الله عليه وسلم - مفخرة الإنسانية، فتح الله كولن (ترجمة: أورخان محمد علي)، دار النيل، ط:5، القاهرة 2009 م، ص:610.
[40] النور الخالد، فتح الله كولن، ص:610.
[41] ونحن نبني حضارتنا، فتح الله كولن، ص:87-88.
[42] الموازين أو أضواء على الطريق، فتح الله كولن، ص:72.
[43] التلال الزمردية نحو حياة القلب والروح، فتح الله كولن (ترجمة: إحسان قاسم الصالحي)، دار النيل، ط:1، القاهرة 2005م، 1/13.
[44] التلال الزمردية، فتح الله كولن، 1/25-26.
[45] التلال الزمردية، فتح الله كولن، 1/22-23.
[46] انظر: التلال الزمردية، فتح الله كولن، 1/25.
[47] التلال الزمردية، فتح الله كولن، 1/24.
[48] التلال الزمردية، فتح الله كولن، 1/30.
[49] Ismail Acar, A classical Scholar with a modern outlook: Fethllah Gülen and his legal thought, in mastering knowledge in modern times, Edited by Ismail Albayrak, copyright 2011 by dome press, pp 65 - 84: p71.
[50] أسئلة العصر المحيرة، فتح الله كولن (ترجمة: أورخان محمد علي)، دار النيل، ط:2، القاهرة 2006م، ص:17.
[51] Ismail Acar, A classical Scholar with a modern outlook: Fethullah Gülen and his legal thought, in mastering knowledge in modern times, pp: 74-75.
[52] الموازين أو أضواء على الطريق، فتح الله كولن، ص:11-12.
[53] ربما يكون الاشتغال بهذه المواضيع فرض كفاية، لا ينبغي أن يشغل الناس جميعا.
[54] أسئلة العصر المحيرة، فتح الله كولن، ص:16.
[55] أسئلة العصر المحيرة، فتح الله كولن، ص:13.
[56] أسئلة العصر المحيرة، فتح الله كولن، ص:16.
[57] أسئلة العصر المحيرة، فتح الله كولن، ص:17.
[58] ونحن نبني حضارتنا، فتح الله كولن، ص:93.
[59] ونحن نبني حضارتنا، فتح الله كولن، ص:93-94.
[60] أسئلة العصر المحيرة، فتح الله كولن، ص:18.
[61] ونحن نبني حضارتنا، فتح الله كولن، ص:98.
[62] أسئلة العصر المحيرة، فتح الله كولن، ص:20.
[63] أسئلة العصر المحيرة، فتح الله كولن، ص:21.
[64] انظر: أسئلة العصر المحيرة، فتح الله كولن، ص:27.
[65] ونحن نقيم صرح الروح، فتح الله كولن، ص:28.
[66] ونحن نقيم صرح الروح، فتح الله كولن، ص:31.
[67] أسئلة العصر المحيرة، فتح الله كولن، ص:33-34.
[68] أسئلة العصر المحيرة، فتح الله كولن، ص:31.
[69] أسئلة العصر المحيرة، فتح الله كولن، ص:31.
[70] أسئلة العصر المحيرة، فتح الله كولن، ص:32.
[71] أسئلة العصر المحيرة، فتح الله كولن، ص:35.
[72] أسئلة العصر المحيرة، فتح الله كولن، ص:27.
- تم الإنشاء في