الفصل الرابع: "الخدمة".. المفهوم النظري والإطار الفكري

المبحث الأول: حركة "الخدمة".. إشكالية التصنيف والهوية

توطئة

ما "الخدمة"، وما طبيعتها؟ وكيف تُحَدَّد هويتها؟ هذه الأسئلة وغيرها كثير تُطرَح دائما. ويرجع ذلك إلى عدة عوامل، نذكر منها المكانة التي تحتلها حركة "الخدمة" في عمق الواقع التركي باعتبارها فعالية إنسانية ذات جذور في المجتمع، وباعتبارها نسيجا من مؤسسات ومنظمات فكرية وثقافية وإنسانية واجتماعية، متكاملة في أهدافها وأنشطتها ومناهجها، قدر تباعدها واستقلال بعضها عن بعض، زيادة على سمْعتها الطيبة في تركيا وفي آسيا وأوربا وأمريكا وإفريقيا.. دون أن يغيب عن الذهن أن "الخدمة" مجرد إطار نظري بدأ في يوم من الأيام وتحوَّل بفعل ما نُفث فيه من طاقة روحية وحركية وفكرية وثقافية إلى واقع حركي متميز.. وبعبارة أخرى إن "الخدمة" مجرد فكرة تحولت إلى مشروع انبعاث حضاري يحرك أمة بكاملها ويستهوي الصديق ويثير حفيظة العدو. كل هذه العناصر تجعل من طرح أسئلة "الخدمة" أمرا ملحا، وموضوعا جديرا بالاهتمام.

إن الأسئلة المتعلقة بماهية الخدمة وخصوصياتها وطبيعة العلاقة التي تربطها بفكر الأستاذ فتح الله كولن، قضية معرفية ذات أهمية دقيقة.والإجابة على هذه الأسئلة يفتح الباب لفهم حركة اجتماعية هي اليوم من أهم الحركات في العالم.

أولا: إشكالية تصنيف "الخدمة"

قضية تصنيف "الخدمة" قضية صعبة جدا. فهي بداية لا تعتبر طائفة دينية في مقابل مصطلح (Sect) في اللغة الإنجليزية الذي يعنى "الجماعة الدينية" التي تبني لنفسها ممارسات وطقوسا دينية تميزها عن غيرها، وتكون في الغالب متمحورة حول شخصية تمتص كل الاهتمام وكل عناصر النجاح. زيادة على أن الطائفة الدينية جماعة منغلقة على ذاتها وحريصة على أن يظل عالمها الداخلي مجهولا وسريا وغامضا. لكن دعوة "الخدمة" أبعد ما تكون عن دائرة الطائفة الدينية، وعن الطائفية بصفة عامة، وهو الحكم الذي يُجمِع عليه أغلب من درس "الخدمة" من هذه زاوية من علماء الاجتماع الغربيين، إذ يؤكدون أن حركة "الخدمة" ليست طائفة دينية (Sect)، لأن بنيتها مختلفة بصورة كلية عن خصوصيات الطوائف الدينية وخاصة الطوائف السرية.

الأدبيات التي تقدم الخدمة أدبيات مستقاة من أدبيات الأستاذ فتح الله كولن ومن تراثه الخطابي ومن التاريخ الحركي لهذا "الرجل الظاهرة" كما يعتبره العديد من المثقفين الأتراك. وأهمّ ما يلح عليه فتح الله كولن في هذه الأدبيات هو تأكيد الانتماء إلى عمق التقاليد الإسلامية التي استطاعت نسج إحدى أكبر حركات التغيير التي عرفتها الإنسانية على مدى تاريخها الطويل. فالمتأمل في خطاب الأستاذ فتح الإصلاحي التغييري، والمتنعم فيه سيقف على حماس عميق ورغبة واسعة، بل وعقيدة راسخة بأن التقاليد الإسلامية كما تذوقها الرسول - صلى الله عليه وسلم - والصحابة الكرام رضوان الله عليهم جميعا، ومجمل المؤمنين، قادرة على تغيير العالم كله وليس تركيا ومنطقة الأناضول والعالم الإسلامي فحسب.

لا يريد هذا التحليل إبراز شخصية الأستاذ فتح الله عنصر مركزيا في حركة "الخدمة"، فيُظَنّ بأن الخدمة وشخصية الأستاذ فتح الله هما وجهان لعملة واحدة. والحال أن الحديث ليس عن شخصية في علاقتها بجماعة مجتمعية، بل إن الأمر يتعلق بخطاب إصلاحي تغييري انطلق منذ ما يزيد عن خمسين سنة خلت، فأحدث تغييرا جذريا في نمط تفكير فئات واسعة من المجتمع التركي ليتطور الأمر فيما بعد إلى حالة وعي حركي عم كل فئات المجتمع، أو إلى صحوة مدنية استشعرت عمق الخطاب الذي زرعه الأستاذ فتح الله كولن، فتوافق الخطاب مع آثار تقاليد دفينة في "لاوعْي" المجتمع و"لاشعوره" فانطلق يحاول تحويل الصحوة إلى حركية فعالة. فهل تمكنت الخدمة من أن تبني خطابها خاصة؟

في الواقع لا يمكن الحديث في هذا المقام عن خطاب واحد، وإنما يمكن الحديث عن خطابات كثيرة شارحة أو مفسرة أو مؤولة لخطاب الأستاذ فتح الله كولن، تبعا للمجالات الإنسانية والحقول المجتمعية التي تتحرك فيها الخدمة بمختلف مؤسساتها. بعبارة أخرى لقد أَسست مؤسساتُ الخدمة -كل واحدة على حدة- خطابا تفسيريا لخطاب الأستاذ فتح الله كولن، لكن بالحفاظ على الأصل في إطار تفاعل واسع مع هذا الخطاب.

قد يبدو مجال التربية بمستوييه "الفكري الفلسفي" أي فلسفة التربية، "والمستوى التربوي التعليمي" المجال الحيوي الذي ركّز عليه خطاب الأستاذ فتح الله كولن في بداياته الأولى. فقد كان المجال التربوي المجال الأول الذي دشن به نشاطه الحركي الإصلاحي، ولذلك يصعب الحديث عن خطاب خاص بالخدمة باعتبارها الإطار المفهومي الإصطلاحي الذي يرمز إلى الحركية التي تأسست انطلاقا من خطابه.

ولذلك يتوجب على من يشتغل بقضية هوية حركة الخدمة التمييزُ في هذه الأسئلة بين تلك الأسئلة التي يثيرها المثقف الغربي، وتلك التي يثيرها مثقف مسلم من العالم العربي أو من أي بلد إسلامي آخر. إذ الملاحظ أن المثقف الغربي عندما يتساءل عن هوية الحركة تميل أسئلته إلى التركيز على طبيعة الحركة من جهة الطائفية ومن جهة كونها ديانة جديدة. في الوقت الذي لا يثار فيه هذا الأمر بالنسبة للمثقف المسلم لمعرفته اليقينية بأن الحركة هي إحياء لتقاليد إسلامية أصيلة، وبأن خطاب الأستاذ فتح الله يؤكد بأن الكتاب والسنّة والمصادر الأخرى هي الأساس الذي يقوم عليه الفكر والحركية عنده. ثم إن قرب هذا المثقف من حقيقة الإسلام يمكّنه من أن يدرك بأن خطاب الأستاذ فتح الله أبعد ما يكون عن الخطاب الطائفي أو الخطاب الذي يريد بناء دين أو عقيدة أخرى غير العقيدة الإسلامية. وهذا هو ما يبرر وقوف هذه الدراسة طويلا عند الجانب العقدي في فكر الأستاذ فتح الله كولن وعند مصادره الإسلامية. وأما المثقف الغربي فيطرح مثل هذه الأسئلة من أجل الفهم، لأنه بعيد بصورة ما عن طبيعة المنظومة التي يرتكز عليها خطاب الأستاذ فتح الله كولن.

ما سنحاول القيام به في تحديد تعريف الخدمة، وبناء معالم هوية واضحة لها هو المزج بين ما قادنا إليه الفهم المتكون مما وقفنا عليه في السنوات الخمس الأخيرة بالاتصال المباشر بمؤسسات الخدمة، وبالتواصل المعرفي مع عدد من رجال الخدمة وأطرها الذين أجابوا على مختلف الأسئلة، بالإضافة إلى النقاشات العميقة مع عدد من المهتمين بالخدمة وبفكر الأستاذ فتح الله كولن، أو من خلال التأمل فيما بين السطور؛ زيادة على عنصر مهم في التكوين وهو محاولة الانغماس في فكر الأستاذ فتح الله من خلال ما ترجم إلى العربية، إلى جانب رصيد مهم من الوثائق والدراسات والبحوث عن الخدمة أنجزها باحثون ومهتمون من أوروبا وأمريكا، وهي الدراسات والبحوث التي استطاعت تفكيك مكونات الخدمة ونمط اشتغالها. الأمر الذي يسمح لنا بإنضاج رؤية خاصة وواضحة عن الخدمة وعن هويتها.

ثانيًا: بذور الهوية والتاريخ

إلى أي حد نستطيع وصف حركة الخدمة بالجماعة؟ وإذا كانت كذلك فهل تنطبق معايير الجماعة ومفاهيمها عليها؟

كثيرا ما نسمع من بعض المثقفين الذين يتابعون الشأن التركي، ممن تعرفوا على الخدمة يصفون الأستاذ فتح الله بأنه أبو الإسلام الاجتماعي في مقابل أربكان الذي يعتبر في نظر هؤلاء أبا الإسلام السياسي.

قد يكون هذا الوصف المتعلق بالأستاذ فتح الله صحيحا، لكنه لا يمكن أن يفصح عما قدمه المجتمع المدني -وما يزال- في إطار "الخدمة". ولا شك أن مفهوم "المجتمع المدني" مفهوم ينتمي إلى تقاليد التطور الذي آلت إليه المجتمعات المعاصرة في ظل الثورة الصناعية، وفي ظل فكر الحداثة. فهو نوع من ردة فعل تجاه الإغراق في الحياة المادية، وردة فعل ضد التهميش الذي طال فئات من المجتمع الإنساني في ظل الزحف الكبير للثورة الصناعية وخاصة في المجتمعات الأوربية. وإذا كانت هذه الحال تنطبق إلى أبعد الحدود على المجتمع الصناعي في أوربا، فإن الأمر يختلف جذريا عما كان يجري في تركيا وفي غيرها من المجتمعات الشرقية وخاصة المجتمعات الإسلامية. إذ رغم كل محاولات التحديث التي تلت الثورة ومحاولات تغيير نمط التفكير ومحاولة ربطه بنظام لائكي مستمد من النظام الفرنسي على الخصوص، مع الحرص على بناء نظام مناعة يحد من أيديولوجية الحداثة، وقادر على التحرك في دائرتها والتغذي على خلفياتها الفكرية.. رغم كل ذلك فقد ظل المجتمع التركي يخفي في أعماقه بذور الهوية والتاريخ، أو بالأحرى إن ظلال مقومات التاريخ والهوية الثقافية ظلت موجودة في عمق الإنسان التركي أو لنقلْ في عمق المجتمع بصفة عامة، بل حتى في عمق المجتمع المدني بمفهومه التركي وليس بمفهومه العلماني.. ولذلك عندما أتيحت الفرصة لمقومات الهوية والمقومات التاريخية لكي تعبر عن نفسها في مظاهر حضارية لا تتعارض مع النظام اللائكي للدولة فعلت ذلك بكل قوة مستفيدة مما أضافته السلطة المعنوية للأستاذ فتح الله كولن من صدق وروحانية وهمة.

وحتى في فرنسا التي تعتبر مهد النظام اللائكي كان الإحساس الديني يبرز بين الفينة والأخرى في صورة أشكال معقدة للصراع بين الكنيسة والنظام العلماني، بسعي الكنيسة وبعض رجالاتها إلى التعبير عن ضرورة إدراج التربية الدينية في المناهج الرسمية للتعليم والتربية، أي في التعليم الذي تتبنّاه الجمهورية الفرنسية بالمتابعة. لقد كان جزء من المجتمع المدني في فرنسا المتدثر بتقاليد الأسرة والعائلة والدين يحاول بكل قوة ألا يترك للدولة وللنظام اللائكي التفرد وحده بتربية الأجيال، بل ذهبت بعض المواقف إلى حد التشكيك في أن يكون الطفل مُلكا للجمهورية ولنظامها التربوي، ملحّة على أن الأسرة هي صاحبة الحق في هذا الطفل قبل الدولة على اعتبار الروابط الأسرية المتصلة بالدم موجودة قبل المواطنة التي تربط الناس بروابط اجتماعية فحسب.[1] ولهذا فإن المجتمع الفرنسي ظل يقاوم النظام اللائكي انطلاقا من تقاليد الأسرة والدين، وما يزال.

ويكاد يكون الوضع مشابها لما دار في تركيا، فالنظام العلماني اللائكي الذي أنتجته الثورة الكمالية (كما يطلق عليها) وجهت تركيزها إلى التربية والتعليم وإلى محتواه، مع العلم بأن الفصل بين الدين والتعليم في إطار تعليم عصري كان بدأ منذ العهد العثماني خلال مرحلة التنظيمات التي لامست قطاعات مهمة منها الجيش والإدارة وكذلك التربية والتعليم. وقبل ذلك كان نظام التعليم في عهد الدولة العثمانية موزعا إلى ثلاثة أصناف:

الصنف الأول: هو صنف التعليم الديني العتيق المعرف بـ"المدارس" (Medrese).

الصنف الثاني: هو صنف التعليم الذي يدرس المنطق والحساب وعلم الفلك، وكان معروفا بـ"المكتب" (Mektep).

الصنف الثالث: ويطلق عليه مدارس القصر، ويَتعلم فيه أبناء أطر الدولة من الأمراء وكبار قادة الجيش (Enderun Mektepleri).

وأهم تحول عرفته المدرسة باعتبارها الوسيلة الأولى لإحداث التغيير وخلق نمط تفكيري محدد هو ذلك التحول الذي وقع سنة 1927م حين ألغيت المدارس الدينية، لتجمع المؤسسة التربوية في إطار وكالة المعارف (Maarif Vakaleti) أي ما يقابل وزارة التربية. ويعتبر قانون 2 مارس 1924م قانون توحيد الدراسة، قانونًا فرَض توحيد النظم التربوية، فركّز على ضرورة أن تكون التربية تربية وطنية. والذي يُدرَك ضمنيا من هذا القانون هو اعتبار التربية الدينية تربية غير وطنية. والحال أن تركيا في هذه المرحلة كانت تريد بناء وطن تركيا على أسس جديدة مقطوعة عن الماضي التاريخي والديني.

ثالثًا: الخدمة والمجتمع المدني

لم تخرج الحكومات المتعاقبة عن هذا الإطار ولم تبتعد عنه، ولم يعمل فتح الله كولن ولا الخدمة على الوقوف في وجه هذا القانون وكل القوانين التي تسير في خطه أو تفسره، بل على العكس من ذلك لقد عملت الخدمة على تكييف حركيتها بأسلوب لا يتعارض مع التوجهات العامة لقيم النظام العلماني اللائكي ولقيم الدولة بصفة عامة، بما في ذلك قوانين التربية والتعليم. بمعنى أن الحركة قد ظلت منذ نشاطاتها الأولى تعمل على أن تكون منسجمة مع النظام القائم وعلى ألا تدخل في مواجهة معه، لذلك ظل الأستاذ فتح الله كولن منذ أنشطته الحركية الأولى حريصا على عدم الإتيان بما قد يفسَّر بأنه يريد تأسيس حركة ضد النظام العلماني القائم في تركيا. ومن هنا يُطرَح السؤال الآتي، هل حركة "الخدمة" حركة مجتمع مدني؟

سعى محمد شتين (Dr. Muhammed Çetin) باعتباره أحد المهتمين بظاهرة الخدمة من زاوية علم الاجتماع إلى أن يبين طبيعة الخدمة من خلال كون المجتمع المدني مجالا يشمل كل تلك المنظمات والنوادي والمجتمعات الناشطة إزاء نظام الحكم: على أساس أن منظمات الحركة الاجتماعية (SMO) ليست منظمات أو مؤسسات ربحية، ولكنها مؤسسات تقوم على أساس التوافق من أجل مشاريع تقدم "خدمة" للمجتمع أفرادا وجماعات، وعلى أساس التعاون من أجل هذه الخدمة المقدمة في جو من محبة الآخرين ومبدأ الإيثار. وهي منظمات ومؤسسات تحرص على تحمل المسؤولية تجاه الآخرين والمجتمع الذي ينتمون إليه موظِّفة الحيز المتاح ومحترمة له. من هنا فإن الحركة تعمل على تكييف بنيتها وفق تطلعات الجماهير خدمة للمجتمع بمؤسسات وشركات خاصة تحقق تطلعات كل أفراد المجتمع بمرونة كبيرة. بمعنى أن الخدمة توظف مؤسساتها وإمكانيتها لإقامة جو يسوده التعاون ونشر المبادرة الحرة ومساندة المشاريع التربوية، والمشاريع التي تعود بالنفع على كل أفراد المجتمع.[2]

الخدمة معروفة بمساعي إيجاد الحلول لمشاكل المجتمع في المجالات الحيوية، وتكثيف الجهد في هذا الإطار بملامسة الحاجات المشتركة بين جميع أفراد المجتمع كالتربية والتعليم.. ومن هنا تكون الخدمة عنصرا متحمِّلا لجزء من المشاكل التي تواجه الدولة، بل عنصرا مساهما في الحلول. فالخدمة هنا لا تقف على طرف النقيض مع الدولة، بل تساهم مساهمة فعالة مع الدولة في البرامج التي تهم أفراد المجتمع، لتكون من خلال ذلك العنصرَ الفعال في وضع قاطرة التنمية والنهوض على السكة. فهي حركة تصنع ما يمكن الاصطلاح عليه بالرأسمال الاجتماعي (Social Capital)، لكن دون أن تكون الخدمة بديلا عن الدولة، بل مكملا لعملها ونشاطها.[3]

الخدمة ليس لها أي أطماع أو رغبة فيما هو سياسي، فهي تحصر نشاطها فيما يصنع سعادة المجتمع وينمّي أسس الدولة على ركائز قوية على المستوى الاجتماعي والتنموي.

وهناك نقطة مهمّة جدا يتوجب التنبيه عليها وهي أن الحركة ليس فيها أعضاء ينتمون إليها كما ينتمي الأعضاء إلى الجمعيات المنغلقة على ذاتها، لأن الخدمة مجرد أفكار يقتنع بها الناس وينطلقون منخرطين فيها أحرارا في كل ما يقومون به. فالحركة تشجّع الناس على أن يظلوا منفتحين على المحافظة على علاقاتهم وعلى حياتهم الاجتماعية، بغض النظر عن طبيعة الناس الذين يتعاملون معهم.[4]

إن الخدمة من هذه الزاوية إطار منفتح لا يضع قيودا على المتطوعين في تنزيل فلسفتها. وحتى عندما يرتكب أحدهم ما يعرقل حركية الخدمة، فإن الحديث عن نظام للعقاب يبدو أمرا صعبا لعدم وجود تراتبية تنظيمية معينة. قد يكون هذا الفرد منتميا لمؤسسة من مؤسسات الخدمة، ولتكن مدرسة، فإن المدرسة هي التي تتّخذ في حقه ما يجب، ولكن في الغالب الأعم لا يمكن الحديث عن نظام للعقاب، فالمخطئ يجد نفسه خارج إطار المنظومة الفكرية ومنظومة القيم التي تحرك الخدمة. ولو لم تكن "الخدمة" مجرد فكرة معقولة انخرط الناس في تفعيلها لما تمكنت من ذهنيتهم هذا التمكن.

رابعًا: الخدمة ليست جماعة صوفية

إن الحركة أبعد ما تكون عن الطريقة الصوفية التي تستوجب شيخا وطريقة ومريدين وحلقات للذكر.. والأستاذ فتح الله كولن أبعد ما يكون عن ادعاء الولاية الصوفية، فهو -وكما كان الأستاذ بديع الزمان سعيد النورسي- حريص على ربط الناس بروح الفكر. فقد ربط الأستاذ بديع الزمان سعيد النورسي الناس بالقرآن الكريم من خلال رسائل النور، ووجه اهتمام الناس ومحبّتهم إلى رسائل النور وليس إلى شخصه، وحتى عندما مات قُدّر لقبره ألا يعرف مكانه إلى اليوم. والأمر نفسه يسير عليه الأستاذ فتح الله كولن، فهو يحرص على أن يربط محبّيه وعموم أفراد المجتمع التركي وعموم أفراد المجتمع الإنساني بالقيم النبيلة القائمة على البذل والعطاء وعلى المحبة وعلى الخدمة. وهي قيم متكاملة في القرآن الكريم وفي سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وفي سيرة صحابته الكرام رضوان الله عليهم. ولهذا اعتُبر التاريخُ وأبطاله الوسيلةَ الفعالة في بناء الإنسان الكامل في مشروع الأستاذ فتح الله الإصلاحي.

يرى محمد شَتِين أن الطريقة تقتضي قيام الشيخ بتعيين خلفه ووجود تراتبية ما، وهو أمر غير موجود في الخدمة. وإذا كانت الطرق الصوفية وخاصة الطرق المعروفة لها سلسلة شيوخ حتى تنتهي إلى شيخ مؤسس للطريقة، ويحفظ المريدون في الغالب أذكارا وأورادا يرددونها بإذن الشيخ، لا شيء مما ذُكر موجود في حركة الخدمة. لأن المنخرطين من المتطوعين في الخدمة يرتبطون بالأستاذ بعلاقة احترام وتقدير. فهم يحترمون الأستاذ فتح الله لأنه عالم ورجل صدق ضحّى بحياته من أجل أن يؤسس عالما واسعا يسوده التسامح والارتباط بالله، وتنتفي فيه الخلافات والصراعات، ولذلك كانت الخدمة بعيدة عن جو التكية وتقاليدها.[5]

لم تعمل الخدمة منذ بداياتها على تمييز نفسها بأسلوب معين في العبادة ولا في اللباس. وبقي الأستاذ فتح الله يلح على ضرورة أن يظل فرسان الخدمة أفرادا من المجتمع. بمعنى أن الانخراط في الخدمة وفي العمل التطوعي لا يعني انسلاخ الناس عن المجتمع الذي ينتمون إليه، وقطع كل علاقة مع أفراده ومؤسساته. وما يؤكد هذه الأبعاد هو حرص الأستاذ فتح الله على حصر العلاقة في الأبعاد التطوعية بغضّ النظر عن طبيعة التوجه الفكري والعقدي للمنخرط. ولذلك وجد في طائفة العلويّين على سبيل المثال من يؤمنون بأفكار الأستاذ فتح الله ويتحركون في إطار رؤيته بما يخدم مصالح الفئة الاجتماعية التي ينتمون إليها.

نظرا لإلحاح موضوع هوية الحركة على الباحثين والمهتمّين، ونظرا كذلك إلى الجوانب المتعلقة بما له ارتباط بالخدمة في علاقتها بالواقع الذي تتحرك فيه، فإن قضية الهوية ملحة جدا ولا تكاد تخلو دراسة تتناول "حركة الخدمة" من وقفات تعريفية. ومرد ذلك هو إلحاح القضية على الدارسين. فالأستاذ محمد أنس أركنة الباحث المتخصص في علم الاجتماع يؤكّد أن الحركة قد تمكّنت من بناء شخصيتها الخاصة إذ يقول: "إن حركة فتح الله كولن شكّلت منهجها وطريقتها المستقلّة في نشاطها الديني والاجتماعي. والملامح الثقافية التي شكلتها هذه الجماعة ملامح أصيلة نابعة من نفسها مع كونها مرتبطة بالتراث"[6].

بيّنا في مكان سابق في هذا المبحث أن الحركة مرتبطة ارتباطا قويا بروح الإسلام. فقد عمل فتح الله على مدى سنين طويلة على ترسيخ القيم الإسلامية السامية وعلى تزكية الأنفس بربطها بحقيقة الدين وصفائه الإسلامي، وعمل في الوقت نفسه على إبعاد أنظار الجماهير عن كل ما هو أيديولوجي، لأن غرضه لم يكن هو تأسيس أيديولوجية دينية أو سياسية، لأنه كان -وما يزال- يعارض بكل قوة تحويل الدين والإسلام على الخصوص إلى أيديولوجية، ولذلك يرى الأستاذ محمد أنس أركنة أنه من الخطأ النظر إلى حركة الخدمة أو دعوة الأستاذ فتح الله كولن على أنها حركة تتحرّك ضمن أيديولوجية إسلامية تقليدية. يقول مبرزا موقف الأستاذ فتح الله بخصوص هذه النقطة: "لنؤكّد أولا بوضوح أن حركة فتح الله كولن لا تملك بنية أيديولوجية، ولم تسْع إلى تأسيس أيديولوجية دينية أو سياسية. فقد عارض تحويل الدين إلى أيديولوجية سياسية، أو تفسيره على هذا النحو. لذا كان من الخطأ النظر إلى حركته كحركة دينية تتحرك ضمن أيديولوجية إسلامية تقليدية"[7].

يؤكد محمد أنس أَرْكَنَة أن الإسلام الأيدولوجي كان ردة فعل تجاه أيدولوجيا الاستشراق التي عملت على اعتبار "جميع الثقافات والحضارات خارج الحضارة الغربية نوعا من الوحشية والتخلف. وهذه الثقافة السياسية -التي تعودنا عليها منذ عصرين- كانت عملية تمييز سطحية بين الغرب و"الآخرين". وقد استند الاستشراق مدة عصرين إلى هذه الأيديولوجية في علاقته مع أقطار العالم. إن الاستشراق ليس سوى أيديولوجية سعت منذ القرن التاسع عشر حتى الآن إلى تسهيل التوسع السياسي والعسكري والاقتصادي للغرب، وتأمين التحول الثقافي الذي يستلزمه هذا التوسع. أي إن الاستشراق كان قد عمل آثار هذا الاستعمار العالمي في جيناته، وهكذا ولدت في العالم الإسلامي الأيديولوجية الإسلامية التقليدية مقابل هذا الاستعمار والاستغلال"[8].

ومن هنا يمكن القول إن أنس أركنة يلمّح إلى أن الخدمة لا تدخل في هذه الدائرة من جهة أنها ليست ردة فعل وأنها لا تنظر للغرب نظرة عداء، بالإضافة إلى بعدها الإنساني العالمي، كل ذلك يجعل الحركة بعيدة عن الأيديولوجية السياسية التي تميز حركات الإسلام السياسي. ولذلك فالأستاذ أنس يذهب إلى مَوْضَعة فتح الله ورؤيته الفكرية وحركة الخدمة في إطار التحول الذي يعرفه العالم المعاصر، من خلال ما يمكن أن نطلق عليه ما بعد الأيديولوجيا الأمبريالية والاستعمار ومركزية الثقافية الغربية، أو ما بعد أيديولوجيا الاستشراق بالنسبة للعالم الإسلامي.. وذلك من خلال توجه التفكير إلى أيديولوجية أكثر إنسانية وأكثر أخلاقية وأكثر ارتباطا بالقيم، بمعنى أن فكر الخدمة منسجم في هذا المنطلق مع ما يروج إليه في كافة المنتديات الدولية، ولذلك فالخدمة ليس لها حاجة في توظيف قيم الإسلام التي تنطلق منها في إطار أيديولوجية، يقول:"لا شك أن الوضع العالمي الحالي مختلف عن الوضع والظروف السياسية التي ولّدت الاستشراق وولّدت الأيديولوجية الإسلامية التقليدية. فقد انفصل الوضع العالمي عن الأسس الأيديولوجية التي ارتبط بها الاستشراق الكلاسيكي، واتجه نحو وضعٍ أكثر إنسانية وأكثر أخلاقية إلى قيم عالمية مشتركة. لذا فمن الخطأ الوقوع في خوف وقلق مما يجري حاليًّا في العالم الإسلامي واعتباره نتيجة للمغالبة السياسية ثم تهديدا للعلاقات الدولية، ولاسيما حركة فتح الله كولن، لأن الآلية الأساسية في هذه الحركة هي ماهيتها الدينية والثقافية والاجتماعية البعيدة عن الصبغة السياسية والأيديولوجية. وقد بقي الأستاذ فتح الله كولن طوال حياته بعيدا عن الفعاليات السياسية وعن الأهداف السياسية، ولم يقدم الإسلام في أي وقت من الأوقات كأيديولوجية سياسية، بل رأى أن هذا الأسلوب من التبليغ والدعوة، سيلحق ضررا بالدعوة الإسلامية، وكرر شرح موقفه هذا مرارا وتكرارا سواء في خطبته للجماهير أو مقالاته"[9].

وانطلاقا مما تقدم يمكن القول إن مشروع الخدمة ليست حركة دينية مثل الحركات الدينية الأخرى التي تنظر إلى الحداثة نظرة رفض وعدم قبول، هذا في الوقت الذي نجد فيه الأستاذ فتح الله ينظر إلى الحداثة من الزاوية الإيجابية. بل نلاحظ سعيا إلى نوع من المصالحة مع الفكر الحداثي مع تكييفه وفق المنظومة الإسلامية التي لم يتوقف طيلة حياته على الإلحاح على ضرورتها في كل سعي إلى النهضة والانبعاث وفي كل مشروع إصلاحي.

قد تبدو حركة الخدمة وخطاب الأستاذ فتح الله ميالين إلى نوع من حياة الزهد والتصوف، وقد كتب الأستاذ فتح الله الكثير في التصوف، لكنه في إطار الخدمة كان حريصا على ألا يميل بها جهة أن تكون جماعة بالمعنى المعروف وألا يميل بها حتى تصير طريقة صوفية تواكلية. وقد يبدو الأستاذ فتح الله في مختلف مظاهر حياته رجلا زاهدا في الدنيا وناسكا بسبب الخلوة التي ألزم نفسه بها[10]، لكنه لم يفرض مطلقا على محبّيه وتلامذته أن يكونوا مثله أو أن يعتزلوا المجتمع في زوايا وتكايا، بل على العكس من ذلك ظل دائما يحث الناس على أن يكونوا أفرادا من الناس وأن ينخرطوا في الحياة والمجتمع ويساهموا في إصلاحه وتغييره دون أن يتكلموا عن الإصلاح والتغيير. يقول أنس أركنة: "مع وجود بعض أوجه التشابه بين الآليات الرئيسية لحركة فتح الله كولن والطرق الصوفية التقليدية في استعمال بعض المفاهيم المتعلقة بالتربية الروحية والحياة القلبية، إلا أنها تختلف عنها في مجال تشكيل حركة مدنية مؤثرة، وفي طرز التثقيف، وفي منهجية سلوكيات الحركة. إن حركة فتح الله كولن حركة مجهزة بآليات الحركات المدنية، وفيها الكثير من المفاهيم التصوفية: الفكرية منها والعملية، مثل التواضع والتضحية والإخلاص، ونذر النفس للخدمة، والتوجه نحو الحق تعالى، والعيش لإسعاد الآخرين، وتقديم الخدمات دون مقابل، والتوجه نحو الحياة الروحية المعنوية والقلبية، ولكنها لا تجعل الإنسان يتقوقع على نفسه، بل يتوجه إلى الآخرين وإلى المجتمع أيضا"[11].

يؤكد أنس أركنة أن الحركة بعيدة عن أن تكون حركة صوفية، وبالأحرى أن تكون طريقة صوفية تتمركز حول شيخها وتدخل معه في علاقة شيخ بمريده، أي أن تتلقى من شيخها كل عناصر تَرقّيها من أذكار وغيرها من المظاهر التي تميز الطرق الصوفية كالتوجه "نحو العالم الداخلي الخاص والخفي للإنسان، وتحاول إضعاف علاقة سالكيها مع الشؤون الدنيوية ومع الحياة الاجتماعية ودفعهم إلى الحياة الروحية وتجاربها المختلفة وتحمّل المعاناة في هذه السبيل"[12].

يؤكد أفراد الخدمة وخاصة النخبة من الرجال الذين تربّوا في كنف الأستاذ فتح الله كولن وتلقّوا عنه مباشرة المعرفة والسلوك، أن الأستاذ فتح الله قدوة لهم في كل أمر. وأول ما يقف عليه المتابع والباحث في حديث هؤلاء التلاميذ عن أستاذهم هو ذلك التطابق الذي يجدونه في أستاذهم بين ما يقوله وما يفعله، فقوله وفعله شيء واحد ووجهان لعملة واحدة لا يمكن فصل أحدهما عن الآخر.

يؤكد تلامذة فتح الله كولن والمقرّبون منه جميعًا وتتطابق أحكامهم وأوصافهم حول مثالية تشبع أستاذهم بالقيم والأخلاق الإسلامية وزهده في الدنيا وارتباطه بالله، وتعلّقه بشخص رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، بل يؤكدون بأن تقدير الأستاذ لشخص الرسول - صلى الله عليه وسلم - واحترامه وحبه له ليس له مثيل، ويتجلى ذلك في حرصه على إحياء سنّته بتطبيقها على نفسه قبل الغير.

هذه المظاهر ومظاهر أخرى عرفانية تؤكد بأن الأستاذ فتح الله يعيش في أبعاد روحانية واسعة، لكن دون قطع علاقته بالواقع، فذهنه يقظ يتابع كل شيء من مجريات وأحداث، ويجهد نفسه في إيجاد حلول لها في ضوء اقتناعاته العقدية والفكرية والثقافية، وفي إطار التوازنات الدولية، وفي إطار يراعي روح العصر ولا يصطدم معه؛ بل هو حريص على أن تكون الخدمة هي التعبير الأرقى عن قدرة الإنسان المسلم على التكيف مع المحيط المحلي والعالمي في إطار إيجابي من خلال القفز على كل التناقضات التي يفرزها، والتركيز على العناصر الإيجابية والعمل على توظيف كل ذلك توظيفا سليما.

وأتصور بأن تعامله مع الحداثة ونظرته إليها يتم من زاوية إيجابية بعد إخضاع معطياتها للمنظور الإسلامي.

خامسًا: الخدمة نظام اجتماعي جديد

بناء على ما تقدم يُطرَح السؤال الآتي: هل تستجيب "الخدمة" للمعايير التي يضعها علم الاجتماع لتصنيف الحركات والجماعات؟

يرى الأستاذ أنس أركنة أن طبيعة العلاقات التي تنتجها الخدمة وتتحرك في إطارها تتجاوز ما يطلق عليه ماكس ويبر (Max Weber) "وضع العلاقات الدينية والاجتماعية على أساس عقلانيّ". يقول متحدثا عن طبيعة العلاقات التي تسُود حركة الخدمة: "ومن هذه الزاوية فإن العمق الديني وشعور العبودية، يحملان أهدافا اجتماعية أكثر شمولية وتكاملا. ويطلق "ماكس ويبر" على هذا الأمر -حسب المصطلحات والمفاهيم التي طورها- تعبير "وضع العلاقات الدينية والاجتماعية على أساس عقلاني". ولكن هذا التعبير لا يستطيع الإحاطة بديناميكية حركة فتح الله كولن الاجتماعية والثقافية والعقلية إحاطة تامة"[13].

على هذا الأساس يتأكد أن حركة فتح الله كولن هي نظام جديد أو بنية جديدة نابعة من عمق المنطلق الفكري والعقدي الذي تنطلق منه. ولذلك فإن النموذج التفسيري الذي يفسرها ينبغي أن يكون نابعا من ذاتها، إذ ينبغي مساءلة الخدمة من الداخل باعتبارها ظاهرة وُلدت دون أن يكون للفكر والرؤية وأوجه التطبيق والتنزيل أدنى مساحة تفصل بينهما. فالخدمة هي حركية رجل جعل من عدم الفصل بين المعتقد والسلوك اليومي منهجا للإصلاح، مع اشتراك الناس في همّ الإصلاح والبعث الذي حمله بين جوانحه، بل لنقلْ إنه قد احتفظ لنفسه بكل الإخفاقات والصعوبات التي تواجه كل مشروع خلال مرحلة البناء وأثناء رحلة التشييد الطويلة، لكنه أشرك في الوقت نفسه الناس في النجاح، ولم يستأثر به ليصنع سلطة لنفسه ونفوذا، إدراكا منه أن النجاح لا بد أن يكون رأسمال يوحد الوطن ويوحد العالم دون أن يكون في الخطاب ما يشير إلى هذه الرؤية الموحدة. فقد ظلت الوحدة وحدة معنوية افتراضية تلتقي عند حقيقة واحدة هي القيم الإنسانية السامية.

يلحّ أنس أركنة على بناء معالم هوية حركة الخدمة، بتنفيذ ادعاءات علم الاجتماع الذي تأسس في ظل الفلسفة الوضعية وفي ظل التطور الصناعي، ويلح على أن ظاهرة الجماعة في تركيا وفي العالم الإسلامي لا ينبغي تفسيرها بمعطيات غريبة عن الوسط الذي نشأت فيه.[14] وفي ضوء ذلك يناقش أنس أركنة تفسير "تونيس" الذي حلل الجماعة والمجتمع فخلص إلى أن السلوك الإنساني ينبغي تناوله من زاويتين: الزاوية الأولى هي زاوية طبيعة الروابط التي تكون الجماعة والمجتمع. والزاوية الثانية هي زاوية كيفية تغير إرادة الإنسان في الجماعة وفي المجتمع. ورصد ثلاثة روابط تطبع الجماعة، هي صلة القرابة أي الدم، وصلة الجوار، وصلة الصداقة، وتبدو العائلة أهم مظهر يطبع الجماعة، وأهم ما كانت تتميز به هذه الروابط قبل الحداثة هو أنها كانت روابط قوية ودافئة وحميمية، وكانت قائمة على أساس من التعاون والتلاحم والترابط، وكانت تنتج الأعراف والتقاليد المشتركة، "لكن كلما توسّعت المجتمعات ذات الطابع الصناعي وسيطرت على الحياة، تقلّصت أشكال الجماعات الريفية وانحلّت الواحدة بعد الأخرى وبدأت الروابط العقلية بالحلول محل الروابط والتقاليد الريفية، أي يظهر في المدينة شكل آخر من الروابط والجماعات الاجتماعية"[15].

تبرز الروابط العقلية في نظر تونيس علاقة متحكمة في نظام الجماعة والمجتمع في ظل المجتمع الصناعي وفي ظل الحداثة، في مقابل الروابط الطبيعية أو العاطفية أو ما يطلق عليه الإرادة الطبيعية في مقابل الإرادة العقلية. ومن هنا فإن المجتمعات المدنية وليدة الإرادة العقلية للإنسانية، وهي نتيجة مباشرة للحداثة والثورة الصناعية حين "حلّت روابط عقلانية في هذه المجتمعات محل الروابط القديمة المتمثلة في التعاون والتساند. إن الأفراد في مجتمع المدينة غرباء بعضهم عن بعض، والروابط بينهم منقطعة، وبالتالي فالعلاقة بينهم ليست دافئة كما كانت في الجماعات التقليدية في الريف، بل هي روابط ومخططة وموضوعة على أسس عقلانية. الفرد هنا موجود لنفسه فقط ومعزول عن الباقين، والعلاقات قائمة على المصالح المتقابلة، وتسند إلى المنافسة وإلى البيع والشراء، ونرى هنا نموذج الإنسان التاجر الساعي دائما وراء الكسب والربح، بدلا من الفرد والإنسان العاطفي الباحث عن الصداقة والمستعد للبذل"[16].

ألحّ في إطار تناوله لمفهوم الجماعة والمجتمع على دينامكية المجتمع وعلى ديمومته، لأن الناس يكونون جماعات عندما يكون هناك مصالح مشتركة. والرغبة في تكوين مجتمعات وخدمات وُجدت قبل الحداثة، لكن الجماعة المتكونة وفق هذا النمط فقدت هويتها. فـ"ويبر" يعتقد أن الفعالية الاجتماعية تظهر من خلال الجماعة التي تتحكم فيها الروابط العاطفية في مقابل المجتمع الذي تتحكم فيه الروابط العقلانية، ويعلّق أنس أركنة على ذلك بالقول: "على الرغم من التحليلات العميقة لـ"ويبر" فقد أظهر الزمن أن ظاهرة "الجماعة" تستمر في الوجود حتى في أكثر المجتمعات حداثة وعقلانية ولكن على أشكال وصور مختلفة"[17].

وانطلاقا مما تقدم وعلى أساسه نلاحظ بأن محمد أنس أركنة يخرج بملاحظة مركزية وهي أن الذين حللوا مظاهر الجماعة حللوها من زاويتين مختلفتين: الأولى علمية معرفية قد لا تنسحب جميع معطياتها على طبيعة الجماعة في العالم الإسلامي عموما وفي تركيا.. وأما الزاوية الثانية فهي زاوية توظف مفاهيم علم الاجتماع من منطلقات أيديولوجية أو توظف مفاهيم علم الاجتماع من أجل الترويج لقضايا ورؤى أيديولوجية تذهب على حد اعتبار الإسلام والجماعات الإسلامية خطرا يهدد الحداثة وقيمها، بل تعتبرها تيارا يسير في تيار معاكس لتيار سير الحداثة، خاصة في ظل اقتناع فكري مطلق بأن العالم يسير بخطوط حديثة نحو ترسيخ قيم الحداثة.

يقول أنس أركنة بأن العديد من علماء هذا التيار يؤمنون بأن "الإسلام أكبر خطر وأكبر عدو للمدينة الغربية. وهذا التصرف تصرف أيديولوجي تماما، فهم لا يحاولون الفهم، بل يحاولون "خلق أعداء". كما أن هذا التصرف تجديد لعملية خلق "الجهة الأخرى" أو "الطرف الآخر" المعادي الذي قام به المستشرفون في القرن التاسع عشر. ويسهل هنا فهم السبب وراء محاولة العديد من التحاليل الاجتماعية، وبإصرار نجد تكوين الجماعات أمرا سابقا للحداثة، والحداثة عندهم تشكل أفضل وأنضج صفحة في التاريخ الإنساني، ولم يبلغ الإنسان وكذلك المجتمع مرتبة الكمال إلا بفضلها، وأن نموذج الدولة والمجتمع وطرز الحياة والصناعة وصلتْ بفضلها إلى المرحلة الأخيرة والنهائية التي يمكن للإنسان أن يصل إليها. لذا فكلّ حركة وكلّ تنظيم اجتماعي لا يتقبل هذه الحداثة فهو رجوع إلى الوراء"[18].

لا يقف أنس أركنة هنا في موقع المدافع عن الخدمة ولكنه يعمل على إبراز المعطيات التي تتيح تصنيف الحركة أو تصنيف الخدمة تصنيفا سليما ودقيقا وموضوعيا. وأكثر من ذلك يحرص على أن يكون التصنيف علميا.. وفي هذا الإطار يعمل على إثبات الصفة الدينية للخدمة، إذ يعتبرها حركة دينية، بل يعتبر الدين عنصرا أساسيا في الخدمة. وهي باعتبارها حركة معتدلة، حركة تُسقِط بعض ادعاءات علم الاجتماع الذي يميل إلى القول بأن الدين يسير نحو الانحسار في ظل الحداثة وبأن تأثيره سينزوي بعيدا، بل إن علم الاجتماع يعتقد أن الدين في ظل الحداثة يعيش مرحلة الاحتضار ويعيش سنواته الأخيرة.[19]

بنت الفلسفة نظرتها الفلسفية على أساس عقلي واعتبرت الدين جزء من العهود البدائية للإنسانية، وروجت لفكرة أن الإنسان "عندما ينتقل إلى عهد التنوير وعهد العلم، فإن الدين سيزول حتما ويختفي، وأن الدين ليس سوى خرافة من الخرافات"[20].

الشاهد فيما تقدم هو أن حركة الحداثة كما يتم تبنيها في المعتقدات الأيديولوجية تعتبر الدين عنصرًا لا مكان له في ظل المجتمع الصناعي. لكن هذه الرؤية لا تستطيع أن تُثبِت صلابَتها مع نموذج حركة الخدمة، باعتبار الدين العنصر المركزي الذي ينطلق منه الأستاذ فتح الله كولن في بناء الفعالية الإنسانية في العصر الحديث دون أن يكون لهذه الفاعلية أي تصادم أو تعارض مع قيم العصر.. بعبارة أخرى إن الأستاذ فتح الله كولن عمل على تأكيد أن قيم الإسلام هي فوق قيم العصر وبإمكانها طيّها ووضعها تحت جناحها.

لقد سعى الأستاذ فتح الله كولن على مدى سنوات طويلة إلى بناء حركة على أساس هوية جديدة لست هوية أزمة أو ردة فعل على أزمة العلاقة مع الحداثة، بل هوية اجتماعية ذات أهداف اجتماعية. يقول أنس أركنة: "إن الوعي الإسلامي مشترك عام فوق الجماعات والفرقاء، ولا يمكن إرجاعه إلى مصلحة جماعية معينة أو فريق بعينه. وإذا كنّا نعني بالوعي عدم الاكتفاء بتديّن بسيط فهذا صحيح، وهو يتماشى مع أسس الإسلام القرآن والسنة والاجتماع، وهو يشكل جوابا أو حلا لهوية المسلم التي تعرضت للتخريب بسبب الانحدار الاجتماعي - الاقتصادي، والاجتماعي - الثقافي. وهذا لا يعني بالضرورة أن يكون هذا الوعي بديلا ضد الأزمنة الاجتماعية والثقافية وإنتاج الهوية السياسية هو من وظيفة الأحزاب السياسية. ولا يمكن اختصار أهداف الدين الإسلامي على نطاق الفرد والمجتمع إلى مجرد وعي سياسي. ثم إن أبسط الأهداف الدنيوية ومثلها مرتبطة بشكل مباشر أو غير مباشر مع الحياة الأبدية ومع السعادة الأخروية. ولا يمكن للأهداف الدنيوية الضيقة والعقيمة والأهداف السياسية استيعاب أهداف الإسلام الممتدة إلى اللانهاية واحتضانها، فليس من الصحيح قراءة تصاعد الوعي الإسلامي على ضوء الأهداف الدنيوية والسياسية البحتة لأن هذا يعني هدم مثل الإسلام اللانهائية والأبدية، وهذا ما لا يقبله حتى المسلم الاعتيادي"[21].

انطلاقا مما تقدم نستطيع القول إن الأستاذ فتح الله كولن قد عمل على بعث القيم الإسلامية الأصيلة كما عاشها الصحابة الكرام وجيل السعادة في كنف الرسول - صلى الله عليه وسلم -. لكنه أثناء الحركية المرتبطة بالإنسان كانت معالم حركة جديدة تتأسس، حركة لا تستطيع مناهج علم الاجتماع ولا علم السياسة ولا كل نظريات العلوم الوضعية، ولا فكر الحداثة أن تفسر نظامها الداخلي وأن تخضع مكوناتها لمصطلحها وتفسيراتها، وذلك لأنها استطاعت أن تبني لنفسها نموذجها الخاص أو لنقلْ إنها قد أعادت بعث نموذج ناجح وجد من قبل، من خلال العودة إلى التاريخ. فصنعت الحركة نموذجها الذاتي.. ولذلك فإن السعي إلى فهم حركة الخدمة ينبغي أن يكون انطلاقا من الداخل، أي انطلاقا من نموذجها الداخلي الخاص. ومن ثمة ففهم هوية حركة الخدمة يحتم الدخول إلى عالمها الذاتي الخاص وتحليلها وفهمها على هذا الأساس.

سادسًا: نموذج حركي جديد في ظل نموذج بشري

من أهم ما يميز "الخدمة" هو أنها تمكّنت أن تبني نموذجها البشري الخاص وفق صورة طلبت في التاريخ. فالتاريخ عنصر فعال في هذا النموذج البشري. وفي مقال الأستاذ فتح الله كولن بعنوان "حركة نماذجها من ذاتها" ترجم إلى اللغة العربية (في سنة 2008) نلاحظ أن الأستاذ فتح الله كولن يلفت الانتباه إلى طبيعة النموذج الإنساني الذي يؤثث "الخدمة" التي استطاعت أثناء شق طريقها من أن تبني نموذجًا بشريا في رحمها. لقد تكوّن هذا الإنسان في رحم ولادة هي رحم إسلامية منطلقا وقلبا وقالبا، وفي رحم مرتبطة بالخالق وبالإسلام وبالقرآن والسنة وبالتاريخ. ولذلك استحقت هذه النماذج البشرية صفة "الإنسان الجديد"[22].

يؤكد الأستاذ فتح الله على ضرورة أن يتم الاهتمام بهذه الحركة وأن يعتنى بها، يقول: "إن هذه الحركة ظاهرة يجب أن تشرح ويتم الوقوف عندها بشكل جدي. فقد قررت فئة قليلة ملَكَ الحبُّ قلبَها أن تنطلق لنيل رضاه تعالى إلى المشرق وإلى المغرب وإلى أرجاء الأرض جميعًا في وقت لم يخطر فيه هذا بخاطر أحد.. انطلقت دون أن تهتم بآلام الغربة وبفراق الأحبة، ملؤها العزم والثقة... طوت في أفئدتها بعشق خدمة الإيمان لواعجَ الفراق، وَحُبَّ الوطن، وآلامَ فراق الأهل والأحبة... قليل من الناس شعروا مثلهم وعاشوا الجهاد في سبيل الله مثلهم وقالوا وهم ينتشرون في المغرب وفي المشرق مثلما قال حواريّو الرسل "خضْنا دروب الحب فنحن مجانين..." (الشاعر نيكاري). ذهبوا وهم في ميعة الشباب يحملون آمالاً وأشواقًا دنيوية تشتعل في قلب كل شاب والتي لها جاذبية لا تقاوَم، فضلا عن هذه الفترة النضرة من مرحلة الشاب.. ذهبوا في عصر طفت فيه المادية والأحاسيس الجسمانية على المشاعر الإنسانية، وهم يكبتون تلك المشاعر والآمال المشتعلة في صدورهم باشتياق إلى وصال آخر أقوى منها وأكثر التهابًا وتوهجًا وهم ينتشرون في مشارق الأرض ومغاربها ويسيحون حاملين في أفئدتهم تلك الجذوة المشتعلة من نشوة الرعيل الأول"[23].

يثير الأستاذ الانتباه إلى تلك الحركة القوية التي نشأت في رحم الخدمة ثم انطلقت نحو الآفاق البعيدة تحمل رؤية وعمل حركة تحمل قيما إنسانية جديدة، تحمل حضارة وعمرانًا، تحمل محبة تبشر بميلاد إنسان جديد. لقد كان "هدفهم المرسوم في آفاقهم سعادة الإنسانية ورضـوان الله تعالى وحظوظهم كحظوظ الربانيين والصحابة"[24].

يعتبر الأستاذ فتح الله كولن أن الخدمة فضاء يساعد الإنسان على أن يعيد اكتشاف ذاته، ويعيد اكتشاف هويته وماضيه وتاريخه، لأن هذه النماذج البشرية التي تحرك الخدمة هي نماذج لم تستعر لنفسها هوية ولم تبحث لنفسها عن قدوة في تربة غير التربة التي توجد فيها وولدت فيها، وبذلك كان هذا الجيل هو الجيل الذي ستكتشف الإنسانية بهم نفسها من جديد وستأخذ مكانها الصحيح في كيان الوجود. لذا كان هؤلاء هم الجيل المرتقب، وهم الجيل الذي تنتظره الإنسانية في كل مكان... إنهم جيل المستقبل وأبناؤه.. أيا كان تقييم الناس إيّاهم، فالمستقبل المنور حامل بأسرارهم"[25].

إنهم صناع الإنسان وصناع المستقبل الإنساني المشرق من جهة ما يحملونه إلى كل إنسان في هذا العالم من عناصر إيجابية يحاصرون بها العناصر السلبية، يقول الأستاذ فتح الله: "فهم ينيرون القلوب الظامئة أينما حلّوا أو ارتحلوا، وينبّهون الفطر السليمة والظاهرة إلى ما وراء أستار الأشياء والحوادث، ويسقون السجايا السليمة القيم الإنسانية"[26].

إن معالم عالم جديد تلوح في الأفق وستبنى ركائزه بسواعد هؤلاء. وليس هذا فحسب فإن هذه النماذج قادرة على أن تصحح ما أفسده الإنسان، ولن نبالغ إذا قلنا إن نماذج الخدمة ستعيد توجيه الحداثة في الاتجاه الصحيح من خلال إعادة العلاقة الوثيقة بين القلب والعقل وبين القلب والعلم، "فيكون كل من الوجدان والمنطق أحدهما بعدا مختلفا للآخر، وتوضع نهاية للنزاع بين ما هو مادي وما هوي ميتافيزيقي، حيث ينسحب كل منهما لساحته ويجري كل شيء في طبيعته وماهيته، ويجد إمكانية التعبير عن نفسه وعن صور جماله بلسانه، ويتم اكتشاف التداخل بين الأوامر التشريعية والأسس التكوينية من جديد، ويشعر الناس بالندم على ما جرى بينهم من خصام وعداء لا موجب له. وسيسود جوّ من السكينة والهدوء -الذي لم يتحقق تماما حتى الآن- في الشارع وفي السوق وفي المدرسة وفي البيت، ونصب نسائمه على جميع البشرية لن ينتهك عرض، ولن يداس على شرف، بل سيسود الاحترامُ القلوبَ، فلا يطمع إنسان في مال إنسان آخر، ولا ينظر نظرة خيانة إلى شرف آخر، سيصبح الأقوياء عادلين"[27].

يظن البعض إن هذا خطاب مثالي حالم، وهو فعلا حلم الأستاذ فتح الله وحلم الخدمة، لكنه حلم آخذ في التحقق. وكل يوم يمر على الحركة هو حلقة تضاف في سلسلة الوصول إلى الهدف المرسوم دون أن تكون الخدمة حركة حالمة أو حركة طوباوية. فقد نجحت على مدى أربعين سنة، واستطاعت أن تكوّن لنفسها تراثا قويا مفعما بثقة الناس فيه. إن الرأسمال الحقيقي الذي استثمرت فيه الخدمة واستثمر فيه الأستاذ فتح الله كولن هو الإنسان المؤمن بضرورة أن يقدم لغيره ولمن في حاجة إليه منفعة عامة دون ربطها بمصلحة دنيوية أو مصلحة سياسية. النماذج البشرية التي صنعت الخدمة صنعت أهم عنصر في الخدمة وهو أن صناعة الخير وصناعة الحضارة ليس لها غاية إلا الفوز بالآخرة، ثم انْسَ ما صنعت من خير وانْسَ أنّك نيست كذلك.

وقد يُظَنّ أن هذا الخطاب المثالي يبشر بإنسان مجرد من إرادته ومجرد من حريته وأنه مجرد بطل يؤثث فصول رواية خيالية، لكن هذا النموذج البشري صورة فعلية وحقيقية. فهي صورة إنسان يتحرك في الواقع، يتواجد حيث لا يخطر على بال أحد أن يصل إليه إنسان.

يقدم الأستاذ فتح الله في مقالة بعنوان "الإنسان الجديد"[28] خصوصيات هذا الإنسان الذي صنع "الخدمة" وصنعته "الخدمة". فهو نموذج إنساني مختلف عن إنسان القرن الثامن عشر وإنسان القرن التاسع عشر الذي انجرف خلف مختلف الفانتازيات واصطدم بماضيه ومقوماته التاريخية. وهو ليس غريبا عن نفسه كإنسان القرن العشرين ولا منكرا لهويته، لأن هذا الإنسان الجديد سيكون في القرن الواحد والعشرين، صاحب الكلمة الفصل.

والجدير بالذكر في هذا الصدد أن هذا الإنسان الجديد الذي يتحدث عنه الأستاذ فتح الله كولن ليس حكرا على "الخدمة" ليتأكد الطابع الفكري للخدمة؛ أي إن الخدمة مجرد فكرة جرى تنزيلها في الواقع، بالنظر إلى الدور الذي قام به أبناء الخدمة في العقود الأخيرة وما يزالون من نشر لروح التسامح والحب والسلام، وأخْذ الوجود وخالق الوجود بعين الاعتبار، وارتكاز العلاقات الإنسانية على المستوى الفردي والجماعي. فإن روح "الخدمة" تتحرك في اتجاه الجريان في أوصال المجتمع الإنساني حيث يقول فتح الله: "سيولد إنسان جديد كل الجدة، إنسان يفكر ويحاسب، ويوازن ويدقق، ويعتمد على التجربة قدر اعتماده على العقل، ويثق ويؤمن بالإلهام والوجدان قدر اهتمامه بالعقل والتجربة.. إنسان يحاول دوما بروحه وبدنه الوصولَ إلى الأفضل، ويرغب في الوصول إلى الكمال والتكامل في كل شيء.. إنسان يسمو بالموازنة بين الدنيا والآخرة، ويوفق إلى الجمع بين عقله وقلبه فيصبح نموذجا جديدا لا مثيل له. ولا شك أن ولادة هذا الإنسان الجديد ليس بالأمر السهل، فلا بد من آلام مخاض وتوجّع وأنين. ولكن حين يئين الأوان فسوف تتحقق هذه الولادة المباركة حتما، ويظهر هذا الجيل الذهبي بيننا فجأة -كالخضر - عليه السلام -- بوجهه النوراني الذي يشعّ كالبدر. فكما تنهمر الرحمة الإلهية من خلال الغيوم المتراكم بعضها فوق بعض، وكما تتفجّر المياه من ينابيع الأرض، وتتفتح زهرات الثلج وتنتشر في مواقع ذوَبان الثلج والجليد، وكما تتلألأ قطرات الندى وتتربع على الأوراق، سيسطع نور هذا الإنسان في سماء البشرية البائسة الحزينة لا محالة، ربما اليوم أو غدا أو بعد غد"[29].

ومن أهم مواصفات هذا الإنسان الجديد الذي بدأت مقدماته تلوح في الأفق أنه نموذج إنساني ثابت الرؤية راسخ القدم فيما يعتقد.. ليس من السهل زحزحته عن مكانه قيد أنملة أو أقل من ذلك، وفوق كل ذلك فإن "الإنسان الجديد رجل حرّ في تفكيره، حر في تصوّره، حر في إرادته، وحريته هذه مرتبطة بقدر عبوديته لله سبحانه وتعالى. ثم إن الإنسان الجديد لا يتشبه بالآخرين ولا يتمثل بهم، بل يحاول جاهدا أن يتزيّا بهويته الذاتية ويتزيّن بمقوماته التاريخية"[30].

إن الإنسان الذي تقوم حياته على هذه المواصفات الخاصة النابعة من عمق واقعه التاريخي والاجتماعي والثقافي والديني يملك قدرة كبيرة على التفاعل الكلي والتام مع عصره ومع معطيات العصر.. ومن هنا تبدو الحداثة بالنسبة له عالما يستطيع دخوله وإعادة توجيهه وتصحيح مساره وطبعه بطابعه الخاص. ولذلك كانت الخدمة ورجالها أكثر الناس انفتاحا على ما أوجده العصر من وسائط نفسية وتكنولوجية ووسائل إعلامية متقدمة. بل يمكن القول بأن الأستاذ فتح الله كولن كان سبّاقا إلى توظيف الإمكانات التي أنتجها الواقع المعاصر ووسائل النشر والإعلام ووسائل تكونولوجية حديثة، يقول الأستاذ فتح الله: "الإنسان الجديد سيقدم جميع وسائل الاتصال الحديثة، كتبا وجرائد ومجلات، وإذاعة وتلفازا ومنشورات للولوج إلى القلوب والنفوذ إلى العقول والدخول إلى الأرواح. ويثبت جدارته من خلالها مرة أخرى، بل ويسترد مكانته المسلوبة في التوازن العالمي من جديد"[31].

لقد أنجزت الخدمة نموذجها الإنساني انطلاقا من سبقها الخاص كما يطلق عليها أنس أركنة، فهي لم تستعن بأيّة إيديولوجية داخلية أو خارجية، لقد استمدت طاقتها من قوة شخصية الأستاذ فتح الله كولن المعرفية والدعوية والعلمية، ومن خطبه الحماسية وحركته المدنية ونشاطه الاجتماعي ومن الثقافة الذاتية ومن التاريخ الذاتي.

ولا شك أن أوساطا كثيرة من المجتمع التركي كانت تجد في شخصية النورسي وفي رسائله ما يجعلها مهيأة لاستقبال خطاب يوظف البعد الروحي لرسائل النور بمنهج جديد وبروح جديدة، إذ لم يكن الأستاذ فتح الله كولن بما أوتي من ذكاء وحصانة رأي وحكمة وعلم وبُعد نظر وروحانية أن يقف عند الشعار الذي رفعه الأستاذ بديع الزمان سعيد لنورسي وهو "إنقاذ الإيمان". لقد كان عليه أن يتقدم بهذه القيمة السامية خطوات إلى الأمام حتى يجعل منها رأسمال حقيقي يغير وجه الواقع وينطلق نحو المستقبل. لم تكن مساهمة رسائل النور في صناعة الخدمة لنسقها الخاص مساهمة عضوية، بل كانت مساهمة روحية ومعنوية وفكرية.[32] لقد كانت الحركة في حاجة إلى روح فذة ذات خصوصية كبيرة تستطيع فهم الأسس بروح قابلة لأن تتوجه إلى روح الحضارة.[33]

سابعًا: حركة الخدمة وحركة النور

كثيرا ما توصف حركة الخدمة على أنها امتداد لحركة النور أو لنقل لجماعة النور التي تأسست حول رسائل النور، وحول أفكار الأستاذ بديع الزمان سعيد النورسي. وهنا يُطرح السؤال "إلى أي حد يمكن اعتبار الأستاذ فتح الله كولن تلميذا للأستاذ بديع الزمان سعيد النورسي، واعتبار حركة الخدمة تفسيرا لرسائل النور وتأويلا لأفكار بديع الزمان سعيد النورسي؟".

علما بأن الأستاذ فتح الله كولن لم يلتق بالأستاذ بديع الزمان سعيد النورسي، ولم تربطه بالتنظيمات التي تكونت بعد وفاته على يد كبار تلاميذه.

إن الأستاذ فتح الله كولن مؤمن بفكرة الاجتماع حول مائدة الإيمان من خلال رسائل النور، لكنه عمل على بناء منهجه التربوي الخاص، وسهر على تطويره وفق الآمال التي كان يطمح إليها. والدليل على ذلك هو الرعيل الذي تربّى في كنفه، والرجال الذين عبروا معه ساحل التجربة، وهم اليوم من أعمدة الخدمة وأُطُرها الذين يسهرون على تطبيق منهج الأستاذ الحركي والتربوي، ويسهرون على تطوير المنهج والتفكير مع الأستاذ فتح الله وفي تكييف هذا المنهج وفق معطيات الواقع الزمانية والمكانية.

لقد استطاع الأستاذ فتح الله كولن من خلال فكرة الخدمة التغلغل في عمق المجتمع دون أن يكون للحواجز الطبقية والفكرية والأيديولوجية والسياسية أي تأثير، أو أن تكون حائلا يمنع الناس من الاقتناع برؤيته. ولذلك فالخدمة اليوم مزيج من الناس والرؤى تلتقي عند فكرة الخدمة وروحها، "فكتل الجماهير التي تستند إليها حركة فتح الله كولن ليست طبقة معزولة -سياسيا أو اجتماعيا أو اقتصاديا- عن المجتمع، بل تكتسب التأييد والعون من الفئات والجماهير المختلفة الريفية منها أو الحضرية. إن قاعدتها الجماهيرية متكونة من الطبقات الدنيا والوسطى والغنية في الريف وفي المدن. أما جهاز الحركة فيسير من قبل أفراد متعلمين ومثقفين قد تخرجوا من الجامعات الراقية في المدن المختلفة. ولا تتصرف هذه الفئات المختلفة للحركة بدافع من مشاعر العزلة عن القيم الاجتماعية والسياسة المركزية للبلد، ولا تحمل أي ضغينة أو حقد للطبقة المنتجة التي تدبر البلد، ولا للأوساط الاجتماعية والاقتصادية الحاملة للقيم الغربية"[34].

وبالاتصال بهذه القضية -أي قضية بناء الخدمة لنموذجها الخاص- تثار قضية الإمكانات المادية التي تتوفر عليها الخدمة، والتي اعتبرت مدخلا لاتهام الأستاذ فتح الله والخدمة بكونهما يتلقيان الدعم من جهات خارجية نافذة وقوية. وهو الشيء الذي ما توقف الأستاذ فتح الله كولن على تكذيبه وعلى بيان أن من أسباب نجاح الخدمة في نشر أفكارها وتمكنها من الانتشار في العالم كله هو ابتعادها عن أن تكون أداة في يد جهة ما رسمية أو مستقلة محلية أو عالمية.

أما اعتماد الحركة على إمكاناتها الخاصة، فقد استطاعت على مدى خمسين سنة من أن تبني لنفسها سلطة مادية مستقلة. والمصدر الأول لأعبائها المادية هو كتل الجماهير التي آمنت بفكر الخدمة، وتأكدت بأن ما تتطوع به من جهد مادي أو معنوي يوجه التوجيه السليم الذي يعود بالنفع على الوطن وأهله. فالإنسان التركي والمنخرط في الخدمة ينفق بسخاء بكل حب ورضى وإخلاص، لأنه يعلم بأن لا شيء يذهب إلى جيب الأستاذ فتح الله كولن، ولا إلى جيوب المقربين منه. إذ من المعروف أن أيا من مؤسسات الخدمة سواء التربوية منها والإعلامية والاقتصادية والثقافية، لا تربطها بشخص الأستاذ أي رابط عضوي، بل هي مؤسسات مستقلة عنه، ومستقلة بعضها عن بعض.. بعبارة أخرى لقد أوجدت الخدمة نظاما مؤسساتيا يتحرك بعيدا عن الأشخاص، فالشخص يأتي ويذهب لكن عمل المؤسسة نفسها يبقى مستمرا.

يمكن إدراك هذه الأبعاد من خلال عملية التغيير لأطر الخدمة المستمر، فلا أحد يستمر طويلا في مهمة من المهام، وذلك من خلال مفهوم الهجرة التي اكتست في ظل فكر الأستاذ فتح الله كولن بعدا آخر جديدا ومتجددا باستمرار.

ومما لا شك فيه أن الواقع التركي المتأثر إلى حد بعيد بالظروف التاريخية التي أحاطت به والمتأثر بالتحولات القوية التي عرفها المجتمع، قد ساهم إلى حد بعيد في تكوين أنماط من الجماعات والحركات السياسية والدينية. حيث تبرز بعض الحركات الدينية التي يعتبرها المهتمّون ردة فعل ضد التحولات المجتمعية والسياسية.. الأمر الذي يسمح بالقول إنها متطابقة إلى حد بعيد مع توجهات نظريات علم الاجتماع العملية منها والأيديولوجية، لكن حركة الخدمة أو جماعة الخدمة -كما يسميها علي بُولاَج- ليست كذلك،[35] يقول عن جماعة الأستاذ فتح الله كولن "هي جماعة تعتمد في مرجعيتها على الفكر والقائد معا، أهم ما تتميز به هذه أنها اجتماعية متنظمة، لديها استعداد للانفتاح على العالم. ليست طريقة صوفية، فغالبا ما يتم الخلط بين الجماعة والطريقة، وقائد الجماعة لذلك ليس بشيخ. إن النمط التنظيمي للجماعات تاريخي. ومن ثم فإن الظاهرة الجماعية التي تشكّلت على ضوء رؤى فتح الله كولن وأفكاره واحتوت على عدد كبير من التجار والصناعيين وأرباب الحرف لهو أعظم ميراث ورثه من التاريخ"[36].

يركز علي بولاج على ثلاث ملاحظات تميز فكر فتح الله كولن وتطبع الخدمة:

•   الملاحظة الأولى هي أنه شديد التشبث بالقرآن والسنة. وهو يوظف خطابا ولغة أصيلة وقوية وراقية وليس علمانية كتلك التي توظف في كليات الالهيات في تركيا. فهي لغة الإسلام -كما يقول علي بولاج- أي أن الإسلام في عمقه لا يمكن تقديمه إلا بلغة مثل لغة الأستاذ فتح الله كولن.

•   الملاحظة الثانية هي أنها معروفة بتشبثها بالتقاليد والعادات، في وقت لا تترك فيه التطور والتقدّم بل تعتبر ذلك أمرا صحيا وضروريا. فهي حركة إحيائية كما يقول علي بولاج.

•   الملاحظة الثالثة في نظر علي بولاج هي أن الأستاذ فتح الله كولن لم يقم بإصلاحات في صميم الدين، بل هو متشبث بالأصول الإسلامية، وبالأحكام والأفكار الأبدية العالمية، ولذلك فهو "يعارض القراءة التاريخية للقرآن الكريم والهرمينوطيقا"[37].

وإذا كان علي بولاج يرى أن الأستاذ فتح الله لم يقم بإصلاحات في جوهر الدين لأنه متصل شديد الاتصال بالأصول ويعتبرها أصلا قويا في كل إصلاح وتغيير حقيقي، فإن هذا لا يعني بأن الأستاذ فتح الله كولن ليس مجدّدا. فلقد جدد في الروح التي يقدم بها القرآن الكريم والسنة النبوية المشرفة. هذا هو ما يؤكده الذين بحثوا في شخصية الأستاذ فتح الله كولن المفسر، وفي شخصية الأستاذ فتح الله المحدث. فهو ينهج منهج التوفيق بين العديد من الآراء التفسيرية، خاصة فيما يتعلق بالآيات التي تحتاج إلى تأمل كبير دون أن يكون ذلك مانعا لأن تكون له رؤى تفسيرية خاصة. فقد انتقد آراء المعتزلة وعارض آراء الخوارج من خلال تقديم ما يراه ضروريا من ملاحظات بخصوص بعض الآيات وخاصة تلك الآيات المتعلقة بالذات الإلهية والحساب وغيرها.[38] الشاهد عندنا أن الأستاذ فتح الله كولن مجدد جدد في الروح، وجدد في منهج تنزيل أسس الإسلام بما يتلاءم وظروف العصر الحديث.

ثامنًا: إضافات نوعية في العمل الدعوي

يرى أنس أركنة أن الإضافات التي أضافها الأستاذ فتح الله كولن في فهمه للإسلام والدعوة هو أهم ما يميز حركة الخدمة باعتبارها جماعة تختلف في فلسفتها وفي منهجها عن باقي الحركات والجماعات.

ونذكر بعض الإضافات فيما يلي على سبيل المثال لا على سبيل الحصر داعين الباحثين للحفر والتنقيب في هذا المجال الواسع الرحب.

1-البذل والإنفاق

فلقد جاء الأستاذ فتح بعمق آخر لمفهوم الزكاة والإنفاق، فالزكاة كما يرى الأستاذ فتح الله كولن في حدود ما نص عليه الشرع هي "الحد الأدنى من الإنفاق"، ولذلك فإن تفسيره لقوله تعالى (وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ)(المؤمنون:4) تفهم على أنها فتح لباب الإنفاق على نطاق واسع، وفي إطار ما يطلق عليه أنس أركنة "الفداء" الذي يعني العطاء دون حدود كما كان حال الرعيل الأول في العهد المكّي. فحدود الإنفاق مفتوحة، وهذا العنصر من أهم ما أضافه الأستاذ لمفهوم الجماعة، إذ ارتبط الفعل الحركي عند عدد واسع من الناس بالإنفاق.

2-هيئة المتولي

ارتباطا بالنقطة السابقة أوجدت الخدمة عنصرا آخر له أهمية دقيقة وهو "هيأة المتولي"، أو "مؤسسة المتولي" التي كونت العمود الفقري للخدمة. تحمّلت هذه المؤسسة مسؤولية إنشاء شركات مستقلة عن الأفراد وتتمتع بالمسؤولية المعنوية وفق أسس مستلهمة من نظام الوقف. لكنها أكثر تنظيما من نظام الوقف وأكثر اتساعًا في نشاطها،[39] بل إن هذه الشركات قد تحولت بفضل مؤسسة المتولي إلى مؤسسات عالمية يُنهَج في تدبير شؤونها أكثر المناهج والأفكار تطورا في مجال الاقتصاد والتدبير. وتمثل هذه المؤسسات اليوم الواجهة الاقتصادية القوية للخدمة وهي تتحرك دون أي ارتباط عضوي يربطها بالأشخاص بما في ذلك الأستاذ فتح الله كولن نفسه.

3-الاهتمام بالتربية والتعليم

ولعل أهم إضافة أضافها الأستاذ فتح الله كولن هو تلك الروح التي زرعها في التعليم وفي نظام التربية. فقد ألحّ على ضرورة توجيه الناس وتوجيه الخدمة إلى الاهتمام بالتعليم واعتبار ذلك اختيارا إستراتيجيا. وقد نجح الأستاذ فتح الله كولن والخدمة في ابتكار أنماط جديدة للرفع من مستوى جودة التعليم والتربية وتكوين الأجيال، بينما كانت القطاعات الإسلامية بصفة خاصة أبعد القطاعات عن التعليم حيث كانوا يرونه مجالا دنيويا تشتغل به الدولة.

ظل الأستاذ يوصي بالتعليم ويحرص على إبراز أهميته، حتى صارت كل الاتجاهات الفكرية بما في ذلك الاتجاهات الإسلامية وغير الإسلامية تتطلع إلى فتح المدارس وتتنافس في ذلك. لقد جعل فتح الله كولن من التربية والتعليم هاجس كل أسرة تركية، لأنه ظل يلح في كل دروسه ومواعظه على أهمية هذا الموضوع وخطورته. لقد أعاد الأستاذ فتح الله صياغة المدرسة والمعلم والتعليم والعائلة كأسرة واحدة، وصاغ هذا النموذج في المعاهد التي أسسها، منتجا فلسفة تعليم تتداخل فيها المدرسة والأسرة، وفقا لنموذج وفلسفة تعليم وتنشئة إنسان يتحمل كل أنواع تضحيات سلك التدريس. هذا النموذج ربى عددا كبيرا من كوادر المدرسين الذين يخدمون ويمارسون التعليم بإخلاص في كل مكان في العالم.

4-القطاعات المهنية

ومن الإضافات الأخرى التي أضافها الأستاذ فتح الله لمفهوم الخدمة تنظيمه لقطاعات المهنيين، وهو القطاع الذي يعتبره أنس أركنة أكثر مجالات الخدمة توفيقا، وأكثر المجالات توفيقا لدى الأستاذ.. لقد أعاد الأستاذ فتح الله تنظيم هذه القطاعات وأعاد توجيهها في الاتجاه الأفضل بعد أن انحرفت عن الأهداف والقيم التي كانت تقوم بها في القديم من خلال ما كان يعرف بتعاونيات الفتوّة وجمعيات الأخوّة باعتبارها مسلكا صوفيا يقوم على قيم دينية سامية مثل الفداء والتكافل والصدق والعطاء دون انتظار البديل، وعلى التواضع والإيثار.

كل هذه القيم النبيلة عمل الأستاذ فتح الله كولن على إحيائها في أوساط المهنيين ودفعهم إلى تنظيم أنفسهم، ولعل أهم شيء يميز هذه القطاعات المهنية وأهم إضافة ميزت الخدمة هي تمكنها من امتصاص كل الاختلافات الفكرية والأيديولوجية والمذهبية والدينية في مجتمع حمل السلاح وأراق الدم من أجل اختلافاته وحزبيته سنين طويلة.

لقد نجحت حركة الخدمة في أن توحّد المجتمع التركي حول الجوانب المشتركة، وأن تقيم جوا من التعاون والتكامل بين جميع فئات المجتمع.

 

المبحث الثاني: التربية والتعليم مجال الخدمة الحيوي

أولاً: التربية والتعليم من المهد إلى اللحد

الأسس التي يقوم عليها مشروع الأستاذ فتح الله كثيرة ومتعددة، ولكن التربية والتعليم هما المرتكزان المحوريان في رؤية فتح الله الشمولية. فهو عندما يتحدث عن التربية والتعليم يستحضر فكر بديع الزمان سعيد النورسي الذي يذكر بأن الأعداء المعنويين للإنسان هم: الجهل والفقر والفرقة، وبأن لكل مرض من هذه الأمراض علاج، فالفقر يعالج بحث الناس على ممارسة التجارة والعمل والكسب الحلال والاجتهاد. وأما الفرقة فيتغلب عليها بالحوار، وبث ثقافة التسامح، وحسن إنصات الأطراف بعضها لبعض، والاقتناع بأن هناك دائما حيزًا للالتقاء والتفاهم، ومجالاً مشتركًا في الرؤى والأفكار يمكن الاشتغال حوله وعليه. وأما الجهل فيداوى بالتربية والعلم والمعرفة، على أساس أن التربية والتعليم هي المكون الذي يسبق جميع المكونات الأخرى.

حافظ فتح الله على الترتيب نفسه عندما كان يؤسس فكر الحركية والعمل، ولذلك جعل من محاربة الجهل المنطلق الأول لكل عملية بناء وتشييد. ومن يتتبع خطواته في محافظة "إِزْمِير" على الخصوص سيلاحظ كيف كان حريصا على تأسيس ضوابط تربوية وقواعد تكوينية، تستهدف إيجاد جيل من الرجال حملة المشروع وحملة الأمل في المستقبل.. رجال مرتكزين على التزكية الروحية وإشباع العقل والفكر، مجهَّزين بكل ما يحتاج إليه من زاد يمنح المناعة والقوة. ولكي يكون هؤلاء الرجال في مستوى طموحاته كان لا بد من أن يشحنهم بروحانية مرحلة تاريخية بعينها هي مرحلة عصر السعادة. لقد رسخ في روح فتح الله وعقله أن الذين سيحملون مشروع البحث والإحياء هم نماذج إنسانية تشبه الصحابة رضوان الله عليهم جميعا.

وما تميز به الأستاذ وكان سببا في تحقق حلمه هو أنه لم ينعزل في برج عال ينتظر ويحلم وحده، بل قرن النظرية بالتجريب والتطبيق، ولا شك في أن هذا النظام الذي تأسس على مدى خمسين سنة لم يكن ليصل إلى ما هو عليه الآن من النضج والانسجام لو لم يكن الأستاذ نفسه قدوة لهؤلاء الرجال في التفاني والتضحية وفي استحضار السنة النبوية في شخصه وسعي حثيث لتجسيد أخلاق القرآن في شخصه.

لا شك في أن رؤية الأستاذ فتح الله في تفعيل رؤية بديع الزمان سعيد النورسي قد عرف الكثير من التحولات وإعادة النظر في بعض عناصرها المطبقة، خاصة إذا تم استحضار التحولات التاريخية والسياسية والاجتماعية التي مرت بها تركيا في القرن الماضي. لكن مشروع إيجاد منظومة تستطيع تجاوز الجهل ظلت تتحرك دون أن تتوقف، إذ لا يجوز الظن بأن مؤسسة التربية والتعليم عند الأستاذ قد وُلدت ناضجة مكتملة منذ البداية.

وبعبارة أخرى إن نظام محاربة الجهل في منهج فتح الله الإصلاحي، قد مر بالكثير من مراحل التجريب والتعديل قبل أن يستقيم وفق الصورة التي هو عليها اليوم، والتي تتيح للدارس وصفها بالمشروع المتكامل والناضج.

إن تركيز فتح الله على التعليم والتربية يأتي من اقتناع فكري ومنهجي هو استحالة تصور النهضة والبناء و التأسيس دون إصلاح منظومة التربية والتعليم. ولذلك يبدو الأستاذ فتح الله متشبّعا بشعار "طلب العلم من المهد إلى اللحد"، بل إن الإنسان بالنسبة للأستاذ فتح الله يأتي إلى العالم عاجزا ومحتاجا، وهو لا يستطيع تجاوز عجزه وحاجاته إلا بالتربية والتعلم، إذ يقول: "نولد عاجزين وجاهلين لضوابط الحياة، ونضطرّ إلى إصدار صراخ من أجل الحصول على المساعدة. وبعد عام بالكاد نستطيع الوقوف على قدمين والخطو بضع خطوات، والمفروض أن نميز بين الخير والشر، وبين ما فيه مصلحة وما فيه مفسدة، ونحتاج إلى عمر كامل لتحصيل النضج المعرفي والروحي. فدورنا الأساسي هو الوصول إلى الكمال وصفاء الفكر والتصرفات والمعتقد... والغاية هي الارتقاء إلى مقام الإنسانية الحقيقية التي تستحق الحياة السعيدة والأبدية في العالم الآخر"[40].

الإنسان في عرف الأستاذ ليس مجرد جسد وعقل، بل هو روح كذلك. وروحه تحتاج إلى أن تتغذى وأن تشبع. والإشباع يتم بمعرفة الله تبارك وتعالى، والاعتقاد به.[41] أي تحتاج إلى التربية بصفة عامة والتربية الدينية على الخصوص.

التربية واجب مقدس، فهي تعكس اسم "الرب" أي المربّي والمرشد، وهي تتحقق بالقدوة الحسنة.. فالتربية الحقة والتعليم الصحيح يرفع الإنسان إلى مصاف الإنسانية، وتجعل من الفرد عنصرا مفيدا للمجتمع ونفسه وللعالم كله.[42]

التربية والتعليم مسألة حيوية بالنسبة للفرد والمجتمع، لكن إذا كان الجميع يستطيعون تلبية رغبات أجسامهم، وتربيتها، فإن القلة هي التي تستطيع تربية الروح والمشاعر. ولذلك كان رفع مجتمع من المجتمعات وإعلاؤه متصلاً برفع الأجيال إلى مصاف الإنسانية الحقة. والوصول إلى هذه النتيجة السامقة، ليس له سبيل إلا سبيل الرؤية التربوية الواضحة الجلية، كالرؤية التربوية المتصلة بدين سماوي كامل متكامل.

ثانيًا: التربية والتعليم نشاط الخدمة المركزي

سبق أن أشرنا في مكان سالف أن قطاع التربية والتعليم هو القطاع الحيوي بالنسبة لـ"الخدمة" بل يمكن القول بأن التربية والتعليم هي المجال الحيوي الذي تعرف به "الخدمة"، ولذلك يغلب على الأستاذ فتح الله كولن صفة "رجل التربية" أو كونه مربيا وعالم تربية بالمفهوم المعاصر، لأن الأستاذ فتح الله كولن صاحب نظرية تربوية عميقة تجمع بين عدة جوانب، أخلاقية وفكرية وفلسفية، بالإضافة إلى جوانب أخرى تطبيقية.

نظرية التعليم عند الأستاذ فتح الله ترتكز على أسس أهمها المربِّي والمربَّى أو المتعلم، ثم المدرسة باعتبارها مجالا لا باعتبارها مصطلحا. فقد تحولت هذه المكونات عند الأستاذ فتح الله كولن إلى مجال لإحداث التغيير. فنظرية التربية تبدأ في الحقيقة من البيوت، أو المحاضن الصافية التي تحقق التميز النوعي والتميز التربوي. إن الأستاذ فتح الله بما أوتي من بعد نظر وطاقة روحية ورصيد معرفي حوّل هذه البيوت التي استلهم فكرتها من نموذج دار الأرقم بن أبي الأرقم في العهد المكي من المدرسة النبوية المحمدية إلى فضاءات تربوية ومساحات نورانية من أجل إحداث التغيير والبناء المنشود. لقد جعل من هذه البيوت وسيلة لتغيير الناس وتغيير واقعهم، فكانت هذه البيوت بمثابة المعمل الذي يصنع اللبنات الضرورية لكل بناء، أو لنقلْ إنه قد ساعد الناس على إدراك الطاقة الكامنة فيهم. ودفَعَهم إلى توظيفها التوظيف الحسن بما يعود بالفائدة على المجموع وفي المقدمة المجتمع والوطن.

ركز الأستاذ بديع الزمان سعيد النورسي في قضية التغيير على الفرد، وجعل منه المنفذ لتحقيق التغيير والإصلاح. وإذا كان الأستاذ بديع الزمان سعيد النورسي قد ركز على النخبة، فإن الأستاذ فتح الله ركز على الجماهير الواسعة وعلى عموم المجتمع. بعبارة أخرى إذا كان النورسي قد ركز على التغيير الذاتي الفردي من أجل الوصول إلى المجتمع، فإن الأستاذ فتح الله كولن قد ركز على المجتمع كله باعتباره بوتقة واحدة متكاملة لا يمكن لأي مشروع حضاري وعمراني أن يسير دون أن تكون هذا الوحدة منسجمة ومتجانسة في الحد الأدنى. ولذلك بيوت الحدمة محاضن تشع بالنور والحياة لما كانت تقوم به من إعداد لرجال يطلق عليهم الأستاذ فتح الله "فِدائيُّو المحبّة" إذ يقول: "إن فِدائيِّي المحبّة ينظمون أنفسهم بشعور المحبة تجاه بيئتهم، وحتى حدتهم وغضبهم له طابع المهابة والجدية، لأنه يسعى للتنظيم والتقويم، أي يكون على الدوام مقيدا وبناء"[43].

لقد أطلق على هؤلاء الكثيرَ من التسميات والكثير من الأوصاف. فقد اعتبرهم إنسانا جديدا "ومجانين" لما يثورون عليه من قيم فاسدة وينشرونه من قيم إيجابية تتجاوز كل المقاييس المألوفة،[44] وهؤلاء لا يمكن تكوينهم ولا إيجادهم إلا من خلال مكون تربوي مدروس، تعتبر محاضن النور أحد أهم أسسه.

جذور المنهج التربوي وأسسه عند الأستاذ فتح الله كولن ينبغي البحث عنها في المراحل الأولى لحياته، وخاصة في المرحلة التي قضاها الأستاذ مشرفا على وقف "كستانة بَازَارِي" (أو سوق الكستانة). لقد بدأت معالم الرؤية والمنهج الإصلاحي عنده تتخلق في هذه المرحلة. وقد كان من الممكن ألا يكون لهذه المرحلة الجنينية ثمار إيجابية لو لم تجد رجلا نجيبا يستطيع أن يمد التجربة بروحانية وطاقة عرفانية أخذت في التكون هي الأخرى. لقد وجد الأستاذ فتح الله نفسه أمام معطيات واقعية متناقضة، وتاريخ مليئ بالتجارب الإنسانية العميقة والخالدة ومستقبل يلوح في الأفق واعد المعالم، لكنه متلاطم الأمواج في الوقت نفسه. لقد كان الأستاذ فتح الله يلمس بعقله وروحه أن هذه المعطيات كلها تبدو متناقضة وأنه -لكي يفك التوتر بينها ويجعلها عناصر للبناء- لا بد من إيجاد الخيط الرابط والناظم لها حتى تحقق آمال الإنسان في كل مكان. كان النورسي رحمه الله يدرك بعينيه الثاقبتين أن العالم الإسلامي يحمل في أحشائه ثقافة أوربا وعلومها وبأنه سيلدها يومًا ما، وأن أوربا حامل بقيم الإسلام وبأنها ستلدها يومًا من الأيام. أما فتح الله كولن فقد كان يرى الإصلاح الحقيقي يبدأ أولا باستيعاب حقيقة العصر وبفهم حاجاته ووضع اليد على أمراضه، وتوظيف علومه للمصلحة وليس للمفسدة، يقول الأستاذ فتح الله مبرزا هذه الحقيقة: "إن من لا يعرف مجريات عصره كمن يعيش في دهليز مظلم، عبثا يحاول أن يبلغ شيئا عن الدين والإيمان إلى الآخرين، فعجلات الزمن والحوادث ستُفقده التأثير إن عاجلا أو آجلا"[45].

وليس فقط معرفة حقيقة العصر بل معرفة ثقافة العصر، إذ كيف يمكن التصدي للثقافة المنحرفة وكيف السبيل إلى معرفة مدى انحرافها أو عدمه إن لم تكن هنا معرفة دقيقة بثقافة هذا العصر.[46]

لا شك في أن الأستاذ هنا يتحدث عن المبلّغ ووظيفته، لكن أليس المربي والمعلم مبلّغا، أو ليس المربَّى مشروع مبلغ في المستقبل، لأن العبرة هنا ليست بالمهمة التي يقوم بها الإنسان والوظيفة التي سيؤدّيها في مستقبل حياة، بل العبرة بما يبلغه عن لسان الحال. فإذا كان الداعية والخطيب والعالم والمعلم يبلغون بلسان المقال -كل حسب مجال اهتمامه- فإن هناك مبلغين آخرين يبلغون بلسان الحال، وهؤلاء هم أفراد المجتمع المثالي فردا فردا، أو الجتمع الإيجابي فردا فردا. لقد أدرك الأستاذ فتح الله كولن انطلاقا من وعي ذاته أولا ووعي واقعه ثانيا أن المنفذ الأساسي إلى الإصلاح والتغيير هو التربية والتعليم، حيث يقول: "مستقبل كل إنسان متعلق بما تأثر به وانطبع عليه في طفولته وشبابه من دروس التربية والسلوك. فإن كان قد قضى طفولته وشبابه في جو إيجابي يربّي المشاعر العلوية توقعنا كونه إنسانا يُحتذَى به من الناحية الفكرية والخلقية"[47].

ويقول مبرزا المسار الوحيد للإصلاح وبناء الأمة وبناء الحضارة: "إن إصلاح أي أمة لا يكون بالقضاء على الشرور، بل بتربية الأجيال تربية صحيحة، ورفعها إلى مستوى الإنسانية الحق. وعندما يبذر البذور المقدسة التي هي عبارة عن خليط من الشعور الديني والتاريخي والأعراف في أرجاء الوطن، فسترى نبتات وشتلات عدة وهي تنبث في موضع كل شريحة"[48].

وبكلام أدق إن التربية مهمة خطيرة وعنصر فعال في الإصلاح والتغيير، ولذلك فإن من لا يفقه ولا يعرف دقائقها وخصوصياتها وخلفياتها ومنطلقاتها فلن ينجح في بناء هذا المجتمع الصالح. وأتصور أن البحث في موضوع التربية وفلسفتها عند الأستاذ فتح الله يحتاج إلى دراسات خاصة وبحوث مستقلة من أجل إدراك كل الأبعاد الظاهرة والخفية في فلسفته التربوية مع ربطها بجانبها التطبيقي الذي تجسّده حركة الخدمة في كل أبعادها. وحسبنا في هذا المقام العمل على مقاربة المعالم الأساسية في مشروعه التربوي.

يظهر جليا أن الأستاذ فتح الله يعتبر أن التربية والتعليم من خلال "الخدمة" عصب البناء والتشييد والعمران والحضارة. إنه هو السباحة في المجال الحيوي كما يطلق عليها سمير بودينار.[49]

يميز الأستاذ فتح الله بداية بين التربية والتعليم، فالتربية هي الإطار الكبير الذي يحتوي التعليم، لأنه كما يفهم من مضمون كلام الأستاذ فتح الله كولن لا يمكن لمهمة التعليم أن تنجح إذا لم يتم رعايتها بنظرة تربوية دقيقة، يقول: "المربيات والمربون الذين لم يتتلمذوا على يد خبيرة، ولم يتلقوا التربية من مصدر موثوق يشبهون العمي الذين يحملون المصابيح لإنارة الطريق أمام الآخرين. والوقاحة وعدم التربية المشاهدة عند الصغار تدل على عدم صفاء النبع الذي يتلقون منه التربية. وعدم التوازن الموجود في العائلة من ناحية التصرف أو الفكر ينعكس في روح الطفل ويتضـاعف هنـاك. ومنه يسـري طبعاً إلى المجتمع"[50]، "يجب أن تولى أهمية لدروس التربية والثقافة الدينية في المدارس بقدر الأهمية المعطاة للدروس الأخرى في الأقل، حتى تتربى أجيال قوية في خلقها وسلوكها وروحها فيحولوا ربوع هذا الوطن إلى جنة والتعليم شيء والتربية شيء آخر. فمن الممكن أن يكون أكثر الناس معلمين، ولكن القلة فقط منهم يستطيع أن يكون مربيًا."[51]

يكشف عمقُ هذا الكلام عن تمييز الأستاذ بين التربية ومهمة التعليم، وذلك بجعل التربية أساسًا للتعليم.. لأن التعليم مسألة تقنية، وباستطاعة كل الناس ممارسة التعليم، لكن القادرين على التربية قلّة. وقد كان الأستاذ يلاحظ بأن الدولة تبذل ما في وسعها من أجل التعليم، لكنها كانت تبدو عاجزة عن تربية الأجيال. كما أن التربية التي قد تقدم في هذا التعليم تربية تفسد أكثر مما تصلح أو تفسد ولا تصلح، ولذلك كانت التربية أسبق على التعليم، لأنه إذا كان التعليم مسألة تقنيات، فإن التربية هي الطاقة التي تحركه وفق مرام محددة ينبغي الوصول إليها.

يؤكد فتح الله كولن في الكثير من كتاباته أن أهم هدف في حياة الإنسان هو البحث عن المعرفة الحقة. والمجهود الذي يبذله الإنسان في هذا الاتجاه يسمى تربية. وهي مسلك للارتقاء والوصول إلى المكانة التي يستحقها باعتباره كائنا كاملا، وباعتباره أرقى المخلوقات، بل إن الإنسان يحتاج إلى عمره كله لكي يصل إلى الكمال، وإلى مرتبة الإنسان الكامل، أو أن يصل إلى مرحلة الكمال الروحي والمعرفي.[52]

يرى الأستاذ فتح الله أن المهمة الأساسية التي يتوجب على الإنسان القيام بها هي أن يحاول الوصول إلى صفاء الفكر والمنهج والمخططات والمعتقد، والقيام بدور العبودية للخالق، والعمل على إدراك دوره في نظام الوجود، وصولا إلى إدراك حقيقة الإنسان الحقيقي الذي يستحق منحة الخلود في الحياة الأخرى، فكل هذه المقومات لا يمكن أن تدرك إلا بالتربية.[53] فإنسانية الإنسان متصلة شديدة الاتصال -في رأي الأستاذ- بمدى صفاء المشاعر، علما بأن الإنسان الممتلئ بمشاعر سيئة هو في الحقيقة شبه إنسان، وإنسانيته تحتاج إلى إثبات. وإذا كان الجميع يستطيع تربية وبناء الجانب الجسدي المادي، فإن قلة هم الذين يستطيعون تغذية الروح والمشاعر، ويملكون القدرة على الوصول إلى المصدر الذي تصدر منه، ويستطيعون بلورة المناهج التي تمكّن المتلقين من اكتساب روح التربية والتعليم.

ثالثًا: كيان الإنسان في ظل الحياة المعاصرة

لقد أغرقت المدنية المعاصرة في فصل الإنسان عن جانبه الروحي وحصرت نظرتها له في الجانب المادي، بل إن الفلسفة قد جعلت الكيان الإنساني مجرد مادة، وعلى أساس ذلك بنت فلسفتها المرتبطة بالإنسان في كل مجال بهدف واحد هو إشباع رغباته المادية.. وظلت فلسفة التربية منحصرة في الإجابة عن أسئلة الجسد وكيفية إشباع رغباته التي لم يعد لها حد، وصار الإنسان من هذه الزاوية مجرد وسيلة تستهلك ما طوره التقدم الصناعي من حصيلة تستجيب لهذا الجانب.

فالأستاذ فتح الله كولن عندما ينظر حوله لا يجد سوى هذه الحقيقة. وما حصله من معارف، وخاصة اطلاعه على أفكار الفلسفة الحديثة بما فيها الفلسفة المادية قد جعل منه مفكرا واعيا بما يحيط بإنسان العصور الحديثة. وعلى عادته فهو لا ينتقد لأجل النقد، ولكنه ينتقد من أجل البناء، ولا ينتقد إلا من خلال إعطاء البديل الفكري أو النظري، بل والبديل العملي.

قد تكون أفكار الأستاذ فتح الله كولن في مجال التربية أفكارا متداولة وأفكارا سُبق إليها، لكن ما يميز التربية عنده هو اقترانها بفعل عملي. لقد أدرك الأستاذ فتح الله كولن منذ وقت مبكر أن لا بد من وجود مجال حيوي تطبق فيه الأفكار وتنزل فيه، فكانت المدرسة بمفهومها الشامل.

رابعًا: التربية مدرسة ومدرس

أغلب من تحدث عن المستقبل ربط ذلك كله بالتعليم وخاصة تعليم الشباب وتربيتهم، لأن الشباب هم مستقبل كل أمة، ومن لا يهتم بشبابه لا يعنيه مستقبل أمته في شيء، ولذلك يقال إذا حددت الحال التي تريد لشبابك أن يكونوا عليها في المستقبل أقول لك طبيعة المستقبل الذي تريد لأمتك والحال التي ستكون عليها هذه الأمة في المستقبل.

ومن هذه الزاوية فالأستاذ فتح الله كولن أكثر مفكري العصر الحديث اهتماما بهذه الحقيقة، إذ لم يتوقف عند باب التنظير بل تجاوز ذلك إلى الفعل والتطبيق، إنْ من خلال الممارسة الفعلية لعملية التربية والتعليم، أو من خلال وضعه لمنهج عملي بتعهد الشباب في المنامات وبيوت الطلبة، أو من خلال إقناع الناس وخاصة أهل المال والاقتصاد ببناء مدارس ومعاهد من مستوى راق، في الشكل وفي طريقة التدبير والتسيير وفي طبيعة مخرجاتها. وفي هذا الإطار ينبغي الإشارة إلى أن من أهم ما يتصل بالعملية التربوية هو إعداد الإطار الكفء للقيام بهذه المهمة الخطيرة، وهم المدرسون؛ فهذه الفئة تقع على عاتقها مهمة توجيه النشء توجيها سليما وفق مبادئ تحدد مسبقا.

فالمدرسة عند الأستاذ مختبر يمنح الإكسير ويمنح الحياة، ويداوي أمراض الناس. والذين يقومون بذلك هم المربون والمعلمون. فالمدرسة هي المكان الذي نتعلم فيه كل ما يتعلق بالحياة الدنيا والحياة الأخرى، إذ تشرح الضروري من الأفكار والوقائع، وتتيح للمتعلم فهْم محيطه وحقيقة إنسانيته، وتمهّد السبيل لإدراك معاني الأشياء والوقائع، لتنقل المتعلم بذلك نحو الانضباط الفكري والأخلاقي، ونحو الصلاح والقدرة على النجاح وعلى الفعل الإيجابي. إن المدرسة بالنسبة للأستاذ فتح الله كولن معبد أو بيت عبادة، ورجال الدين فيه هم المعلمون والمربون، وأما المصلون فهم هؤلاء الذين يأتون من أجل تحصيل التربية والمعرفة.

المربي الأصيل هو الذي يزرع البذور الصافية الطيبة ويعتني بها كما تعتني الأم بصغارها، لأن من أهم مهام المربي هو الاعتناء بكل طيب وجميل؛ فهو يوجه المتعلمين والأولاد في حياتهم ويساعدهم على مواجهة الأحداث والوقائع، وعلى مواجهة العالم.[54]

العملية التعليمية قد تكون مرتبطة بتلقين مجموعة من المهارات والكفايات التعليمة والتقنية، وقد تكون نقلا لمجموعة من المعلومات.لكن التربية أعمق بكثير، لاسيما إذا ارتبطت برؤية تربوية سامية، فإن المخرجات ستكون من مستوى قوي جدا.

هذا هو عمق ما يراه الأستاذ حين يميز بين وظيفة التعليم ومهمة التربية. فهما شيئان مختلفان، لأن الكثير من الناس يستطيعون تعليم الآخرين، لكن قلة منهم يستطيعون تربيتهم. وأفضل منهج في نظر الأستاذ في مجال التربية هو التربية الدينية.[55]

خامسًا: مفهوم المدرسة عند الأستاذ فتح الله كولن

كانت المدرسة حاضرة في كل مراحل تكوين الخدمة. وهنا لا نقصد المدرسة بمفهومها المادي، ولكن نقصد المدرسة بمفهومها العام والمعنوي. فالمدرسة بمفهومها المعنوي أو المؤسسي ظلت هي الإطار القوي الذي تتمحور حوله الخدمة. فقد نتصور تخلي الخدمة بصفة عامة عن مؤسساتها أو أن تترك بعض المجالات، لكنها حتما لن تترك مؤسسة المدرسة. فهي حاضرة بصورة مباشرة وغير مباشرة في كل محطات الخدمة.

وعلينا التمييز في هذا الإطار بين ما تقدمه مؤسسة المدرسة من معطيات أخلاقية وقيم، وبين ما تقدمه من معطيات علمية ومعلومات وأفكار. فقد يكون المستوى الثاني -القائم على المعلومات والمعارف والكفاءات التي تؤهل المتعلم للقيام بدوره داخل المجتمع في حدود الجوانب العملية- قويا وضروريا، لكن هذا الجانب المعرفي والمعلوماتي إنما هو مجرد مجال تقني يحتاج إلى عنصر أهم مرتبط بعمق الإنسان الذي يحمل هذه المعطيات، وهذا هو ما تقوم به المدرسة في المستوى الأول، أي إنها تعد الجانب الروحي والمعنوي في هذا الإنسان، وتعد الأرض التي ستنبت فيها المعلومة والفكرة لكي تثمر جنات وارفة الظلال، وتلد انبعاثا ونهضة.

والمتأمل في حياة فتح الله كولن، وفي تاريخ الخدمة بصفة عامة سيلمس أنه في عمقه تاريخ مسلك مدرسي بالمعنى الأول، ومؤسسة المدرسة حاضرة في كل شيء. ألم يكن مسجد الشرفات الثلاث مدرسة حاسمة في حياة الأستاذ، وفي الثكنة العسكرية وأثناء التجنيد، وفي السجن؟! ألم تكن مرحلة الإشراف على مدرسة "كَسْتَانَة بَازَارِي" مرحلة مدرسية بكل ما تحمله الكلمة من معنى؟! ألم يكن الأستاذ فتح الله يرضى بالقليل وينفق راتبه على طلبته؟! ألم تكن المخيمات مدرسة؟!

لقد كانت مؤسسة المدرسة حاضرة في جميع مراحل البناء الحركي للخدمة. وقد تبدو بيوت الطلبة والمبيتات والمخيمات، والسكن الداخلي، ومجالس الصحبة ومحاضن التربية التي طوّرها الأستاذ أوجهًا مختلفة ومتنوعة للمدرسة.. فالمدارسة في عرف الخدمة بسيطة في صورها وأشكالها، لكنها دقيقة في أبعادها وفي منهجها؛ فهي تدين لرؤية الأستاذ وحركيته بالشيء الكثير، فقد طور منهجا بنفسه وغذّاه بروحه وعاش جميع تفاصيل نجاحه وفشله، بل عاش بنفسه أهم مراحله مطاردته عندما كانت السلطة الحاكمة ترى في بيوت الطلبة وفي المنامات والداخليات خطرا يهدد مستقبل البلد.

في هذه المؤسسة يترقى المربَّى -وليس المتعلم- روحيا، ويُربَّى على القيم والأخلاق، وتجعل منه القدوة الحسنة صورة نموذجية لما ينبغي أن يكون عليه الإنسان المتحمل لمسؤولية كبرى، وهي مسؤولية إعداد الأجيال القادمة في المدرسة بالمفهوم العام.

استفاد الأستاذ فتح الله كولن من ملاحظات الأستاذ بديع الزمان سعيد النورسي الذي وقف على الاختلالات الخطيرة التي ميّزت المدرسة من شكلها التقليدي، وفي شكلها الأوربي الحداثي الوضعي، حيث لاحظ بأن المدرسة التقليدية عاجزة بما تقدمه عن أن تكون مدرسة للعصر، وأما المدرسة الحديثة بسبب إغراقها في الوضعية وحصر نظرها في المعرفة المقطوعة عن النظرة الدينية لم تكن قادرة على أن تقدم النموذج القادر على البناء والتشييد. ولذلك فقد عاش بديع الزمان ردحا من الزمن على أمل أن يُقنع من يستطيع إنشاء مدرسة أطلق عليها اسم "مدرسة الزهراء" حيث تجمع بين العلوم الشرعية والعلوم العقلية لكي تكون دليلا على أن لا تَعارُض بينهما بل يكمّلان بعضهما البعض. ولمّا يئس من ذلك وأمام ضغط الواقع وأحداثه قرّر التضحية بحياته وسعادته الخاصة. واعتزل العيش في وسط المجتمع يهيّئ أرضية لمن يتواصل معه روحيا ويحوّل أفكاره إلى منجز حقيقي. وأظن أن الأستاذ فتح الله كولن كان هو العقلية الفذة التي كان النورسي يحلم بأن تسير برؤيته الإصلاحية وتجعل منها قاعدة لتوسيع دائرة الفكر الإصلاحي. لقد مكّنته كتابات النورسي من أن يسلك مسلكا معرفيا وحركيا ذي توجهات متعددة، وليس طريقا أحادي الاتجاه.[56]

إن المدرسة وفق المنظور الذي يؤمن به الأستاذ فتح الله الذي سيصنع الخدمة تحتاج إلى بنية تحتية، وهذه البنية التحتية تقوم على الإنسان. لقد ركّز الأستاذ فتح الله في منهجه التربوي على دفع الناس إلى إعادة اكتشاف هويتهم في أعماقهم وبعثها من كمونها وإحيائها من جديد. بعبارة أخرى لقد ركّز على دفع الناس إلى اكتشاف ذواتهم من خلال الإسلام ومن إعادة بعث إشراقات الدولة العثمانية.[57]

لقد عمل الأستاذ على بعث إسلام نابع من الخصوصية التاريخية لتركيا باستحضار روح التقاليد الإسلامية في الدولة العثمانية ومزجها بمفهوم الوطنية التي أعاد شرحها بالقول إنها ليست استحضارا لجانب الدم والجنس، بل باستحضار تاريخ البذل والعطاء والتكافل والتسامح والعيش جنبا إلى جنب.

لقد كان الأستاذ فتح الله كولن قبل البدء بتنفيذ مشروعه أو حلمه البعثي في حاجة إلى ماض صلب يكون الإسلام أصلا فيه وأصلا له. كانت عودته إلى التاريخ العثماني بمختلف تجلياته الروحية والمادية، وخاصة روح الفتوة والدروشة. لقد آمن فتح الله بضرورة بعث تلك الروح المتسامحة والمتعاونة التي كانت تعم كل الفئات التي تعيش تحت سلطة الدولة العثمانية. وأما الإسلام الذي يعتقد الأستاذ فتح الله كولن أنه يستطيع القيام بهذه المهمة السامية فهو "الإسلام" في صفائه الأول كما تلقّاه الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن ربّه ، وكما بلّغه إلى صحابته الكرام. ولذلك لم يوظف قيم الإسلام توظيفا أيديولوجيا.

لقد كانت بيوت الطلبة والمنامات والصحبة والأقسام الداخلية هي الوسائل الموظفة من أجل غرس قيم البذل والعطاء والتضحية والتفاني والفتوة وتحمل المسؤولية، ولم تكن الأبعاد الأيديولوجية التي كانت حركات أخرى في المرحلة نفسها تحاول غرسها في بعض الأوساط. لقد عمل الأستاذ على غرس هذه القيم باعتبارها قيما تقدم خدمة، وهذا من أجل التمهيد للثورة التربوية الكبرى.

سادسًا: مرتكزات التربية عند فتح الله كولن

ترتكز الرؤية التربوية عند الأستاذ فتح الله كولن على ثلاثة مرتكزات هي: غرس القيم، وتلقين العلوم والمعارف، ثم الانضباط الفردي.. على أن لكل هذه العناصر ارتباط متين بعنصر أمتن وهو نيل رضى الله تبارك وتعالى. فالتربية التي يريد الأستاذ والتي اجتهد وعمل من أجلها تتغيا إيجاد إنسان له شعور بالمسؤولية تجاه ذاته والآخرين وواقعيه.. ودليل ذلك هو استعداده للتضحية من أجل الآخرين، أي أن ينفي ذاته من أجل الآخرين.. لأن من شأن هذه القيمة أن تصنع إنسانا زاهدا فيما عند الآخرين حيث يطمع أن ينال رضى الله تبارك وتعالى. ولذلك فهذا الإنسان لا يركض خلف ما يركض خلفه الذين تشبّعوا بقيم من أجل أهداف أيديولوجية. فهذا النموذج الإنساني لا يمكن أن ينخدع بشعارات السياسة والسياسيين، لأن السياسة حسب منظور الأستاذ سياسات، وأخطر ما فيها هو أنها تفرق وتصنع العداوة، حيث يقول: "السياسة موجودة في كل أمر. أما سياسة الذين يهيّئون لإيقاظ الأمة وبعثها من جديد فهي إيثار أمر الأمة على كل شيء وتقديمها على كل شيء وعدم التفكير في أي مصلحة شخصية واستفراغ الجهد في مصالح الأمة"[58].

ما يزال الأستاذ إلى اليوم وهو في أمريكا يقوم بدور المربي والموجه في إعداد الأطر المهيأة أفضل تهيئ للقيام بالمهام العامة للخدمة. ولذلك فإن محيط الأستاذ فتح الله اليوم محيط جامعي، أو بالأحرى لقد فتح كولن جامعة للتربية العليا وليس للتعليم العالي، وهي جامعة لا يدخلها سوى من توفرت فيه شروطٌ أهمُّها الاستعداد المعنوي والروحي لاستقبال الواردات العرفانية، بالإضافة إلى الاستعداد الذهني والفكري والمعرفي الذي يؤهّل لأن يكون الإنسان على استعداد للتجاوب معرفيا وعلميا مع أفق الأستاذ.

وما يزال إلى اليوم يقوم بدور الأستاذ المربّي وفق نمط تقليدي متجدد، إذ يتحلق حوله طلبته ويطلب إليهم واجبات محددة هي عبارة عن قراءات دقيقة في أمّهات الكتب والمصادر يُتوّجُها الأستاذ بتعليقات وإضافات. والمتأمل فيما درّسه الأستاذ من مصادر في مجالات مختلفة من العلوم الشرعية، يرى أنه يرمي إلى هدف محدد، وهو بناء رجال على دراية دقيقة بالعلم الأصيل. علما بأن جامعة الأستاذ هذه لا يلتحق بها سوى المتفوّقين من خرّيجي الجامعات، فالقضية تتعلق ببناء مجتهدين قادرين على ربط روح الشريعة بما سيلحقون به من حيثيات الحياة العامة.

ظلت جهود الأستاذ فتح الله لعقود تتبلور تحت نار هادئة، في هدوء تام دون أن تثير حولها الضجيج عكس ما كانت تفعل العديد من الحركات الإسلامية ذات التوجه الأيديولوجي والسياسي. ورغم محاولات التضييق على حركة فتح الله ورغبة جهات معينة من داخل دواليب الحكم والمجتمع المدني جر فتح الله كولن والحركة إلى ميدان الصراع والتطاحن، فقد أبى فتح الله والذين تربّوا في مدرسته إلا أن يحافظوا على الظهور بمظهر الحركة المسالمة التي تريد مصلحة الوطن دون أن تكون لها مطامع وتطلعات سياسية. لقد كانت هذه المرحلة مرحلة حاسمة في تاريخ الحركة، لأنها هي التي مكّنت الأستاذ من أن يمدّ خيوط الثقة بين حركة الخدمة وبين مختلف فئات المجتمع، لأن الأستاذ فتح الله كولن يؤمن بأنه لكي يكون للأفكار صدى ولكي يكون لأي مقترح استجابة، ينبغي جعل الناس يثقون فيما يفكر فيه وفيما ينجزه من أفعال على أساس الفكر والعلم والبحث عن مصلحة الوطن والأمة، بل ومصلحة الإنسانية كلها. كانت هذه المرحلة مرحلة حاسمة في تاريخ المشروع الإصلاحي ومشروع البعث والنهضة، وبعبارة أخرى لقد كان الأستاذ فتح الله يهيئ الكادر البشري "الجيل الذهبي"[59] وينتظر الفرصة المواتية لكي ينطلق في المجال الحيوي الذي هو التعليم.

يرى الأستاذ الدكتور "رجب قَايْمَاقجَان" أن العهد الجديد في تركيا وفي العالم والتحولات التي جاءت بها العولمة قد أحدثت تغييرات جوهرية فى فلسفة التعليم حسب الحاجات التي تحددها الدولة أو نظام الحكم، ووفق التوجهات العامة المراد الوصول إليها، يقول: "لا يمكن أن يقال إن مفهوم التعليم الإلزامي والتعليم للجميع الذي تشكل مع الدولة القومية الحديثة هو نشاط بعيد التقييم. إن تنشئة المواطن المناسب للدولة القومية كان أحد الأهداف الأساسية للتعليم. ومع العهد الجديد حدثت تغيرات جوهرية في فلسفة التعليم. والآن أصبحت تنشئة الأفراد الذين يتبنّون القيم الديمقراطية وحقوق الإنسان إحدى الأهداف الأساسية للتعليم في المدارس"[60].

سابعًا: التربية الشمولية

ومن هذا المنطلق فإن الأستاذ فتح الله كان مستعدا فكريا وحركيا لتحويل التغيير إلى فرصة تاريخية لا يجود بها التاريخ والعصر إلا قليلا. ولذلك يرى "رجب قَايْمَاقْجَان" أن حركة الخدمة تأتي "في المقدمة في تحويل التغيير إلى فرصة مقارنة مع منظمات المجتمع المدني الأخرى. أما المجال الأكثر فاعلية في استفادة كولن من الإمكانات التي أتت بها العولمة فهو "التربية". كان واضحا تأثير الأهمية التي أعطتها رؤية كولن للتعليم المدرسي الجيد بصفة خاصة في إطار قراءة روح العصر قراءة جيدة وتحويل التغيير إلى فرصة. وبالتالي يمكن أن يطلق على هذه الحركة أنها "ظاهرة تربوية""[61].

لم يكن الأستاذ فتح الله والذين تربّوا على يديه في البدايات أو طلائع الجيل الذهبي يمتلكون إعدادًا وعدة كافية، بل كانت عدة الأستاذ فتح الله كولن ورجال الخدمة آنذاك الرؤية الواضحة في مجال التربية والتعليم. لقد كان الأستاذ يؤمن بما يمكن أن يُطلَق عليه كما يقول "رجب قائماق جان "التربية الشمولية".

لم تكن هذه التربية الشمولية مجرد رؤية أو نظرية، بل كانت مسلكا تربويا شرع فيه الأستاذ فتح الله عقودا قبل ظهور الفرصة الذهبية. وذلك لأن الأستاذ فتح الله كولن كان يدرك أن المشكلة المركزية في وطنه تركيا وفي العالم الإسلامي وفي العالم كله هي مشكلة التربية والتعليم، وأن أسباب مشاكل العالم كله وفي تركيا على الخصوص متصلة بطبيعة النظم التربوية وبطبيعة المدرسة. رأى الأستاذ فتح الله أن المدرسة التقليدية التي كانت تدرس العلوم الدينية وتدرس علوم الآلة بالإضافة إلى علم الكلام والمنطق والحساب والأصول، كانت عاجزة عن تقديم هذه العلوم وفق نمط يبث فيها الحياة ويبعث الحياة فيمن تلقاها.. أجل، كانت تعاني من عجز تام في طريقة تبليغ المعرفة وفي المبلِّغ الذي يبلِّغ وفي المتلقي أو المبلَّغ إليه، نظرا لوجود هوة عميقة بين ما تقدمه المدرسة التقليدية وبين التحولات التي كان الواقع الاجتماعي قد دخل فيها، ولم يكن بمقدور المتخرج من هذه المدارس مواجهة تحديات الواقع.

أهم انتقاد وجهه الأستاذ للمدرسة التقليدية هو أنها أوصدت أبوابها أمام العلوم الطبيعية، رغم كونها عنصرا حتميا في تكميل أبعاد العلوم الشرعية والعلوم الدينية، يقول "رجب قايماقْ جان": "يرى فتح الله كولن أن مشكلة التربية مشكلة جوهرية في العالم المعاصر وليس في تركيا فحسب، ويرى أن أساس أزمة المجتمع الحديث هو تمزق روابط التكامل بين العقل والقلب في التربية والفكر العلمي، إذ يقول أن الفكر العلمي الحديث والنظام التعليمي قطع الصلة بين جميع الوشائج الإنسانية والاجتماعية والفكرية وبين المقدسات بطريقة وضعية منذ عدة عصور. ومن ثم فهما يمثلان لدى الأستاذ أهم الأسباب في الأزمات الأخلاقية والمعنوية والفكرية التي تتعرض لها المجتمعات الحالية. كما يرى كولن أن الحل لهذه المشكلة يكمن في تحقيق التكامل بين العقل والقلب في التربية وفقا لرؤيته الشمولية حول إلى العلاقة بين الإنسان-الكون-الله"[62].

يرى قايماق جان أن رؤية الأستاذ فتح الله كولن أو مشروع الخدمة في الأصل "حركة تربوية"، لكن منظورها التربوي يقوم على جملة إضافات مركزية في أصل التعليم. ومن هذه الإضافات التي تعتبر اليوم القيمة المضافة التي تقدمها المدرسة بمفهومها المؤسسي في إطار الخدمة، اعتبارها القلب والعقل عنصرين متكاملين على أساس أنه لا ينبغي الفصل بينهما ولا ينبغي التركيز على جانب دون آخر، بل ينبغي التركيز عليهما معا. وهو ما يطلق عليه التربية الشمولية، وهي شمولية من هذا الجانب، أي من جهة نظرتها للإنسان على أنه كيان متكامل، لأن الإنسان يحتاج إلى إشباع الجانبين المتضمنين في أصل تكوينه، حيث يقول الأستاذ فتح الله كولن: "إنسـانية الإنسان لا ترتبط بجسده المادي الفاني فحسب، بـل ترتبط بروحه المشتاق إلى الأبدية والخلود كذلك. وهذا هـو السبب الكامن وراء عدم وصـوله إلى الإشـباع والرضا أبـدًا، حيث يعامَل وكأنه جسد فقط"[63].

ولا نستهدف بالتربية الشمولية التي يتحدث عنها "قايماف جان" تمكين المتربي والإنسان بصفة عامة من أن يتعرف على حقيقته وهويته، ويدرك ماهيته، ويتأهل لمعرفة خالقه فحسب.. بل بالتربية نتمكن كذلك من الحد من "التأثير الطاغي لهذا التوجيه من الأحاسيس التي استقرت في الطبيعة البشرية لتحقيق مقاصد وأهداف معينة، ولكشف الطرق الموصلة إلى الكمال أمام هذه الأحاسيس التي تبدو وكأنها ضارة. وذلك بتوجيهها إلى كل ما هو جميل وطيب، وتعمل على تقوية شعور الفضيلة وقوة الإرادة والقدرة على التفكير وحب الحرية لدى الفرد، وحب الحرية يعني العبودية الحقيقة لله"[64].

إن النموذج الذي يقتبس منه، ويسترشد به الأستاذ فتح الله، ومن خلال إرشاده مؤسسةَ المدرسة، هو سيرة النور الخالد - صلى الله عليه وسلم - وسيرة الصحابة الكرام خلال فترة عصر السعادة. في هذه المرحلة يكمن النموذج الذي تُقتَبس منه الصورةُ التي تحقق هذه التربية الشمولية، أو لنقل التربية المتكاملة. وفي هذه الدائرة فإن المعرفة التي يحصّلها المتربي في مؤسسة المدرسة يجب أن تكون وسيلة لإضافة ما يتيح له الاتصال مباشرة مع الخالق سبحانه. يقول الأستاذ محددا صفة الإنسان الذي يستحق وراثة الأرض: "التوجه إلى العلم بميزان العقل والمنطق والشعور.. هذا التوجه الذي يشكّل جوابًا عن تمايل البشر وحَيْدهِ في انسياق البشرية بفرضيات سوداء في مرحلة زمنية معينة، سيكون خطوة مهمّة باسم الخلاص الإنساني. ولقد أشار بديع الزمان النورسي إلى أن البشرية تتوجه في آخر الزمان بكل طاقتها إلى فنون العلم والمعرفة، فتستمد كل قوّتها من العلم، ويمتلك العلم مـرة أخرى الحكم والقوة، وتصير الفصاحة والبلاغة وقوة البيان موضوعا في سبيل قبول الجمهور للعلم، وموضع اهتمام الجميع.. وذلك يعني عودةُ الحياة إلى العلم والبيان. ولا نرى سبيلاً غير هذا، يخلصنا من أجواء دخان الأوهام وضبابها المحيط ببيئتنا، ويوصلنا إلى الحقيقة، بل إلى حقيقة الحقائق. فإن عبورنا لفراغ قرون، وبلوغنا حدّ الإشباع في المعرفة، وإثبات وجودنا وثقتنا بأنفسنا مرة أخرى بتعمير خراب حس الانسحاق المزمن في شعورنا الباطن، لا بـد له من إمرار العلم في منشور الفكر الإسلامي، وتمثيله والإفادة عنه. وقد شهدنا في تاريخنا القريب خللاً ملموسًا في الفكر العلمي وتزلزلاً في توقير رجال العلم يصعب تعميره، بسبب تشتت التوجهات والأهداف حينا، أو اختلاط المعلومة بالعلم، والعلم بالفلسفة حينًا آخر"[65].

يبدو انتقاد الأستاذ للمدرسة الحديثة أو للمدرسة في صُورتها الغرْبية التي حطت رحالها في عالمنا شديدا. فقد كوّنت هذه المدرسة أجيالا من الشباب والرجال تعلقت عقولهم وقلوبهم بالمادة وبالطبيعة، فكانت أن قادت الأمة إلى الهاوية وإلى الانهيار.. ولتجاوز هذه الأزمة وما صنعته من ويلات لا بد من التجديد الذاتي للذات "في ظل الفكر العلمي الذي نشحن به شبابنا، وبتمازجهم تمازجا كاملا بالعلم والفكر، كما فعلنا ذلك قبل الغرب بقرون مديدة"[66].

وبكلام دقيق إن الأستاذ فتح الله يؤمن بأن الأجيال التي ستربّى في مؤسسة المدرسة، ويُراعَى في تربيتها العلاقة التكاملة بين القلب والعقل ستكون أجيالا ذهبيّة غير مغتربة عن ذاتها وهويتها.

ثامنًا: من المدرسة النظرية إلى المدرسة العملية

أهم ما يميز الأستاذ فتح الله كولن باعتباره رجل تربية وباعتباره معلما ومدرسا مارس وما يزال يمارس أشرف مهنة وهي مهنة التدريس. هو أنه قرن النظرية بالتطبيق، وربط النقد بإعادة البناء. ولذلك حث رجال الخدمة والمؤمنين بفكره بضرورة الإقدام على فتح المدارس. فكانت الانطلاقة من إِزْمِير في سنة 1982م مع فتح أول مدرسة وفق المناهج التي تحددها الدولة والجهات الرسمية المشرفة على قطاع التعليم. لكن على أساس الرؤية التي عمل الأستاذ على مدى أكثر من ثلاثة عقود على إيجاد البنية التحتية الفكرية والبشرية المؤهلة لكي تقوم المدرسة بدورها. وبالموازاة مع المدارس أنشئت العديد من الأقسام التحضيرية أو "الدرْس خانات" التي كانت تقوم بتأهيل الطلبة لدخول الجامعة، من خلال حرص الأستاذ المربي على تلقين التلميذ أو المتربي العديد من المهارات وتمكينه من جملة من الكفاءات العلمية والمعرفية التي تؤهله لأن يكون متفوقا في دروسه.

يؤكد الأستاذ فتح الله في كل مرة أنه لا علاقة عضوية تربطه بالمدارس، وأن ما يسمّى اليوم اصطلاحا بـ"مدارس فتح الله كولن" أو "المدارس التركية" المنتشرة عبر ما يزيد عن 160 دولة، والتي يتجاوز عددها 2000 مدرسة، ليست على علاقة مباشرة بالأستاذ فتح الله كولن، إلا فيما يتعلق بالفكرة والرؤية التي أقنعت مجموعة من رجال الأعمال بجدوى الاستثمار في مجال التربية.[67] والاستثمار المراد هنا هو الاستثمار في الإنسان الذي سيصير عنصرا إيجابيا لذاته ولوطنه وللإنسانية كلها دون إهمال جانب الربح والاستفادة الاقتصادية، علمًا بأن الربح والاستفادة الاقتصادية في مؤسسات الخدمة ليس هو الهدف الأولى أبدًا.

كثيرا ما يُتساءل عن علاقة هذه المدارس بعضها ببعض وعما إذا كان هناك من إطار يجمع كل هذه المؤسسات، سواء تلك التي في تركيا أو التي توجد خارج تركيا.. جواب هذه القضية ليس متيسرا أو سهلا لأن هذه المدارس في أصلها مجموعات، وكل مجموعة منها تابعة عضويا لشركة من الشركات التي تنشط في مجال التربية.. بمعنى أن كل مؤسسة تتمتع بالاستقلال المادي وتدبّر أمورها باستقلالية تامة. يضاف إلى ذلك أن ما تحصله أو تحققه هذه المؤسسات من أرباح يتم استثماره داخل الشركة نفسها ويوظف في الغالب في تطوير أداء المؤسسة وفي بناء مدارس أخرى في تركيا أو في الخارج.

وما يؤكد هذه الاستقلالية هو تلك المنافسة الشريفة القائمة بين مختلف هذه المؤسسات في إطار تطوير أدائها وتقوية فرص نجاحها في مهمتها الأساسية المتمثلة في التربية والتعليم. وبعبارة أخرى لقد تحولت التربية في إطار الخدمة إلى مجال للاستثمار. وفي هذا يمكن أن نقف في تركيا على مجموعة من الشركات التي أنشأت في الغالب أقساما إعدادية، ففي إسطنبول اشتهرت مجموعة فيم (FEM) ومجموعة أنافن (ANAFEN)، ومجموعة الفاتح (FATİH)، ومجموعة جوشكون (COŞKUN)؛ وفي محافظة إزمير اشتهرت كُورْفَز (KORFEZ) ويامانْلر (YAMANLAR)، وفي أنقرة العاصمة اشتهرت مَالْتَبَه (MALTEPE) سامانْيُولو (SAMANYOLU)... وتفتح كل مؤسسة من هذه المؤسسات مدارس لها أو فروعا في أكبر المدن التركية، وتحظى هذه المؤسسات باحترام كبير لدى العائلات نظرا لجودة التعليم الذي تقدمه، ونظرا للعناية التي تجدها من الأطر التربوية. ولا يعني هذا أنه لا يوجد هناك هيأة استشارية وتوجيهية تقوم بالتنسيق على مستوى المناهج وتبادل التجارب واقتسام نتائج النجاح الذي تحققه.. ويبدو أن هذا الحقل ذا خصوصية كبيرة، ولذلك فهو يحتاج إلى دراسة خاصة، نرجو أن تتاح لنا فرصة القيام بها لاحقا.

تعتبر المدينة الساحلية "إِزْمِير" مهد الخدمة، فهي المدينة التي مارس فيها الأستاذ فتح الله الخطابة والوعظ في مساجدها الكبيرة. وقد كانت المدينة معروفة منذ العهد العثماني بانخراط أهلها في إطار جمعيات وتجمعات مهنية.

كان "وقف المعلمين الأتراك" أو "وقف معلمي تركيا" أهمّ وقف أسّسه محبّو الأستاذ فتح الله كولن وتلامذته في إزْمير حيث استهدف جمع الأطر التعليمية تحت إطار واحد، ولما كان هؤلاء أنفسهم آباء فقد كان الغرض كذلك هو دعم أبنائهم في تمدرسهم. بعد مدة من إنشائه شرع الوقف في إصدار مجلة سِيزِنْتِي (Sızıntı) 1979م قبل الانقلاب العسكري الذي حدث في 1980م، والذي غير الواقع السياسي التركي إلى حد بعيد. ستصير هذه المجلة فيما بعد أهم مجلات الخدمة. وأسندت كتابة المقال الافتتاحي للمجلة للأستاذ. عملت المجلة على إرساء ضوابط المنهج الذي تتبنّاه في مجال التربية. وما كان يميزها هو تلك المقالات العلمية التي كانت تنشر بجوار المقالات الأخرى في مختلف مجالات العلوم الإنسانية، وخاصة في المجالات الدينية والإسلامية. وتعتبر المجلة اليوم من أهم المجلات في تركيا، بل هي اليوم مؤسسة قائمة بذاتها ولها أنشطة مهمة. ولا شك أن "وقْف المعلّمين" هذا والهيئات التي صدرت عنه يمكن أن تعتبر المحطة التي يلتقي عندها أغلب المدارس التي تعرف بـ"مدارس فتح الله".. فهي التي تقوم برسم الإطار النظري والفكري الديداكتيكي بهذه المدارس. ومن ثم يمكننا أن نقول بأنه إذا لم تكن هناك علاقة عضوية وإدارية واقتصادية تربط بين هذه المدارس فإن الإطار النظري والفكري من أجل تطوير أداء هذه المؤسسات التربوية بصفة عامة هو الموحد القوي والعنصر والأساسي والمركزي.

أنشأت الخدمة -أو المُقتنعون بفكر الأستاذ- العديد من المدارس وقاعات الدرس والجامعات في المدن الكبرى وفي الولايات البعيدة، إضافة إلى وجود ملحوظ على المستوى الخارجي خاصة في منطقة آسيا الوسطى ومنطقة البلقان. ومنذ أن استقر الأستاذ فتح الله كولن في أمريكا للعلاج زاد النشاط التربوي والتعليمي في مناطق مختلفة من العالم، بما في ذلك أوربا وأمريكا.

وكما أشرنا سالفا فإن مفهوم المدرسة عند الأستاذ فتح الله كولن يرتكز على الجمع بين القلب والعقل أو بين المعرفة والقيم، في إطار ما يطلق عليه التربية الشمولية. وإذا كانت مدارس "الخدمة" تلحّ على قضية القيم، فإن هذه القيم لا تقدم بصورة جافة أو تدرَّس كما تدرس المواد الأخرى، لأن الغاية من هذه المدارس هو تكوين نموذج إنساني متشبّع بالقيم وله كفايات معرفية وعلمية تؤهله لأنْ يُساهم في بناء وطنه. ولذلك فإن القيم تقدم بصورة انسيابية من خلال القدوة الحسنة وفي إطارٍ تبرز فيه شخصية المعلم المربي الذي هو أهمّ عنصر في المنهج الذي وضع ضوابطه الأستاذ فتح الله كولن نفسه.

فقد كان باعتباره معلّما ومدرّسا هو أول من ربّى تلامذته بالقدوة الحسنة. فتاريخ الأستاذ فتح الله كولن قد وضع أهم خطوات هذا المنهج، من خلال الأساليب التي عامل بها الأستاذ تلامذته في المنامات أو في البيوت وفي المخيمات، لتنتقل هذه التجربة إلى القدر الواسع من الأطر التربوية. ومن هنا فإن للمعلم جملة من المميزات يجب أن يتحلى بها لكي يقوم بمهمته على الصورة المثلى. فالمربي شخص له استعداد لمرافقة المتعلم، وهو إنسان يقوم ببناء شخصية المتربي الأخلاقية وبناء سلوكه من أجل الوصول إلى استيعاب حقيقة خلقه، حتى يكون قادرا على تحمل المسؤولية وعلى التسامح.[68] وليس معنى ذلك أن علاقة المربي بتلميذه تقف عند حدود المدرسة وحجرة الدرس، بل هي علاقة تستمر في البيت ومع العائلة. وذلك لأن هذا المربي يعتبر نفسه مسؤولا عن تلميذه في المدرسة وخارج المدرسة. فعلى المربي تقع مسؤولية كبيرة جدا، ألا وهي إنشاء "الجيل الذهبي" وإنشاء "جيل الأمل"، وهذه المهمة تحتاج إلى مربّ يعي دوره على أكمل وجه. ولذلك كانت المدرسة بمفهومها الشامل عند الأستاذ فتح الله كولن مختبرا لا يقوم بتقديم المعلومات والكفايات المعرفية فحسب، بل هي مؤسسة تعلّم المربي كيف يثير أسئلته الوجودية وأسئلة خلقه ودوره في هذا الوجود. ففي المدرسة يتعلم المتربي كل ما يتعلق بالحياة الدنيا والحياة الأخرى. ولكي تكون المدرسة مؤسسة ذات جودة عالية فإن المتعلم يجب أن يجد في المدرسة كل ما يريده من اهتمام وحب، ويجب أن يتقن لغته الأم، وأن يلقن التربية الروحية والقيم السامية، فالهوية الاجتماعية يجب أن تتأسس على هذه الأسس.[69]

يقول "رجب قَايْمَاقْ جَانْ": "مدارس كولن هي مدارس خاصة، لذلك يحق لها اختيار معلميها من كافة الزوايا. فإن أعظم الفروق التي تراعيها هذه المدارس عند اختيار معلميها هو توظيف الناجحين في تخصصاتهم، والذين يجيدون تربية الإنسان تربية شمولية."[70].

المعلم أستاذ مقدس يصوغ الحياة ويرشد الأمة ويعلو بأخلاقها وشخصيتها، إنه هو من يعجن الأم والأب معا. وكل عجين لم يخرج من يديه فلا طعم له. إنه بطل المحبة والتسامح الذي يعرف طلاّبه بجميع صفاتهم ويشاركهم أفراحهم وأحزانهم.

وعلى العموم فإذا كان الأستاذ فتح الله يتحدث على أن غاية وجود الإنسان هو التبليغ، فإن المعلم وفق المعايير التي يضعها التصور الإسلامي هو أهمّ المبلغين. وإذا كان الأستاذ يؤكد بأن التبليغ هو غاية وجودنا، فإن ما يقوم به المربي والمعلم هو عمق التبليغ. ولذلك فإن روح التبليغ ومعاييره هي نفسها المعايير التي تؤطر مهمّة المدرس في رؤية الأستاذ. ومن أهم تلك العناصر نجد عنصر "التضحية". لقد انبنى المشروع التربوي للخدمة في كليته على التضحية بالمال والنفس والوقت وأشياء كثيرة. لقد نجح الأستاذ بفضل تأثير خطابه من أن يغرس في عروق المعلمين حب التضحية، فهاجروا إلى المناطق النائية وتركوا الأهل وبذخ العيش ويسر الحياة، وغامروا بأرواحهم عندما اختاروا عن طواعية السفر إلى مناطق تعاني من الحروب ومن صعوبة الطقس والجغرافية القاسية للقيام بالمهمة المقدسة، وهي إنشاء "الجيل الذهبي".

المبحث الثالث: إنسان الحوار والتسامح في ضوء رؤية الأستاذ فتح الله كولن التربوية

أولاً: الخدمة وثقافة الحوار

الحوار والتسامح ليس مجرد شعار يرفع، أو جملة جميلة ينمق بها الخطاب أو يرصع بها كلام المنتديات، بل هو تربية وقيم ملتصقة بأجيال الأمل التي تربّت في كنف فتح الله كولن وفي كنف الخدمة. والمتنعم في خطاب فتح الله سيجده خطابا ينطلق من الأمل في المستقبل، بل هو خطاب يقيني بخصوص هذا المستقبل، وهي ميزة تميّز الأستاذ فتح الله عن غيره من مفكّري الإصلاح في العالم العربي والإسلامي (على حد علمي). إذ لا نجد في خطابه نبرة يأس ولا شك في أن جميع الشروط قد اجتمعت من أجل انبعاث حضاري جديد، وبأن أفراد الأجيال المقبلة ستكون لهم كلمتهم، وبأن الإسلام سيحمل البلسم الشافي لكل مشاكل العالم، ولكل فرد من أفراد المجتمع الإنساني.

إن فكر فتح الله كولن مقبول في الغرب، وهذا عنصر يميز حركته عن أغلب الحركات الإسلامية في العالم الإسلامي والعربي.. إذ إن خطابها عليه خطوط حمراء، فالحركة التي تعرف باسمه والتي أخذت في الالتفاف حوله في ستّينيات القرن الماضي لا تعتبر تنظيما مهيكلا له إدارة ومجالس كما قد يظنّ البعض، بل هي مجرد فكرة آمن بها الناس وآمنوا بمعقوليّتها، وشحنهم خطاب الأستاذ بروحانية خاصة، فانطلقوا ينفّذون آماله التي هي في الحقيقة آمالهم -هم أنفسهم- الدفينة في أعماقهم.. حملوها جيلا بعد جيل، وسقاها الأستاذ كولن وتعهّدها بالرعاية كي تحيا وتنضج.

إن دعوة الخدمة نموذج يحتذى به في مجالات عديدة، منها مجال الانفتاح على العالم، لأن خطاب الخدمة خطاب مبشر وليس خطابا منفرا. ولذلك حث الأستاذ منذ الثمانينيات الأتراك على الهجرة إلى مناطق مختلفة من العالم. كانت البداية بآسيا الوسطى بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، ثم إلى أمريكا وأوربا وإفرقيا. وقد كانت المدارس والتعليم أهمّ الوسائل التي انفتحت بها الخدمة على كل هذه المناطق. فمؤسّسة المدرسة بكل هياكلها وسيلة فعالة في ربط روابط الحوار والتقارب بين الشعوب والثقافات من أجل مصلحة مشتركة واحدة.

ثانيًا: منطلق الحوار، حيز مشترك

يرى الأستاذ أن جميع أفراد الإنسانية يشتركون في نقاء المشاعر وصفائها، إذ لا يختلف الناس حول حقيقة القيم السامية وحول تفسيرها. فالصدق هو الصدق في كل مكان، والأمانة هي الأمانة لا يختلف مفهومها عند كل الناس مهما اختلفت دياناتهم وعقائدهم وفلسفاتهم. فإن جميع أفراد الإنسانية يلْتقون حول هذه القيم النبيلة السامية، ولا يختلفون حولها ولا يختلف تأويلهم لها كذلك. ولذلك وجب الاشتغال على هذا الحيز المشترك. فالقواسم المشتركة تشكل بالنسبة للأستاذ فتح الله رصيدا مهمًّا يُفتَح الحوار انطلاقا منه وفي إطاره.

إن التربية والتعليم يبنيان منطق الحوار والتسامح، إذ لا وجود لحوار دون حضور لرؤية الحوار والتسامح في صلب السلوك الإنساني وفي أصل ذهنيته، ولا سبيل إلى ترسيخ ذلك كله دون رؤية تربوية وخطة تعليمية واضحة.

القضية هنا هي قضية إنسان، فالإنسان هو الأساس.. والأستاذ فتح الله يعتقد بأن الأزمات التي عرفها العالم في القرون الأخيرة تَسبّب فيها الإنسان نفسه، لأنه انحرف عن المنهج الصحيح من خلال حصر زاوية النظر في الجانب المادي وفتح المجال أمام إشباع الرغبات المادية والجسدية، دون التفكير في إشباع الجانب الروحي.

في مقارنة لها بين كونفشيوس وأفلاطون والأستاذ فتح الله كولن تبين الأستاذة الدكتورة الأمريكية "جِيل كارول" أن القاسم المشترك بين جميع الثلاثة هو اشتغالهم على الإنسان. وهم من خلال بحثهم عن هذا النموذج المثالي قد ركّزوا على التعليم والتربية من أجل الوصول إلى مبتغاهم هذا، فتقول: "التعليم هو القاعدة العامة التي يرتكز عليها أيّ جهد لتحقيق الإنسانية الكاملة أو المثالية... إلى درجة أنهم يقولون: إنه من دون العنصر التعليمي فإن صرح النظام بأكمله سينهار، بل والأكثر من ذلك أن كلاًّ منهم يحدد نوعا من التعليم هو الذي سيحقق أقصى إمكانية للحصول على نوعية التهذيب للشخصية الإنسانية التي يسعى إليه كل منهم باختصار. يتّفق كونفشيوس وأفلاطون وفتح الله كولن على أن التعليم القوي الموجه هو حجر الزاوية في تنمية الإنسان المثالي الأرقى. ومن ثم يجب صياغة الأطر الاجتماعية في الأساس حول آليات ذلك التعليم حتى يتمكن المجتمع من تكوين أعلى وأفضل زعمائه من داخلــه هـو"[71].

وقد يكون بين هؤلاء بعض عناصر الالتقاء، لكن يبقى لكل واحد منهم عناصر تميزه عن الآخر. وأتصور بأن العنصر الذي يميز فتح الله كولن هو أن المهتم يستطيع الحكم على التجربة وتقييمها من خلال الملاحظة الواقعية المتمثلة في حركية الخدمة، وفي المدارس المنتشرة في كل مكان، ومن خلال النماذج البشرية المتحركة والمتفاعلة واقعيا، وهي نماذج لم تنزل من السماء، بل هي نتيجة منهج تربوي محدد. لكننا لا نستطيع محاكمة التجارب الأخرى نظرا لأننا لا نستطيع الحكم على ما قام به كل من كونفشيوس وأفلاطون تطبيقيا. ولهذا تبقى تجربة فتح الله تجربة حيّة تُجيب على كل الأسئلة المعرفية نظريا وعمليا، وتجربة كونفشيوس وأفلاطون رصيدها النظري لا يسمح بتقييمها تقييما سليما.

ومن أهم عناصر الاختلاف هو نظرة الأستاذ فتح الله كولن للإنسان.. إذ الإنسان بَوْتقة مكوَّنة من جوانب مادية ونفسية وعقلية ثم روحية. فهو كيان متكامل من خلال تكاثف كل هذه العناصر. وكل مكون من هذه المكونات يحتاج إلى بناء خاص دون تنافر مع العناصر الأخرى، لأن عملية البناء تسير متساوقة في كل الجوانب. وهذه العناصر كلها لا يمكن الوصول إليها إلا من خلال تربية وتعليم قائم على رؤية دينية، إذ يقول الأستاذ فتح الله: "إن الإنسان ليس مخلوقًا يتكون من جسم فقط أو عقل أو مشاعر فقط أو روح فقط، بل هو عبارة عن مزيج منسجم من كل هذه العناصر. فكل واحد منّا له جسم ينطوي على مجموعة متشابكة من الحاجات، وكذا عقل له حاجات أكثر دقة وحيوية من الجسم. وتسيطر على العقل مخاوف بشأن الماضي والمستقبل... كما أن كل إنسان هو مخلوق مكون من مشاعر وروح نكتسب من خلالها هويتنا الإنسانية الفعلية، فكل فرد هو هذا كله معا. وعندما ينظر الإنسان -رجلا كان أم امرأة- باعتباره مخلوقا يحمل كل هذه الجوانب، وعندما يتم تلبية كل حاجاته فإنه سيصل إلى السعادة الحقيقية. وفي اللحظة الراهنة لا يمكن تحقيق التقدم والتطور الإنساني الحقيقي إلا بالتعليم"[72].

وعلى العموم فإن الأستاذ يعتقد اعتقادا راسخا أن الإنسان يرقى بالتعليم، فأول واجبات الإنسان هو إدراك المعرفة، فالتربية والتعليم هي الوسيلة التي يرتقي بها الإنسان في مدارج الكمال، لأن الإنسان هو أرقى المخلوقات استعدادا.

ثالثًا: الحوار والتسامح تربية لا مبادئ

وبناء على ما تقدم فإن قيم الحوار والتسامح وقبول الآخر هي مهمة التربية، ولذلك كانت التربية مقدسة وخطيرة في الوقت نفسه. فكما سبقت الإشارة إلى أن طبيعة القيم المنقولة إلى المتلقي بواسط التربية تحدد طبيعة المخرجات، خاصة إذا تعلق الأمر بالطفولة التي هي في الأصل صفحة بيضاء يمكن للمربي أن يكتب عليها ما شاء.. ومن هنا فإن فكر التسماح والحوار وقضية زرع القيم في النشء من أجل المستقبل ترتبط شديد الارتباط بالإطار البشري القادر على نقل قيم هذه التربية. لأن القيم ليست معلومات تلقّن، بل هي اقتناعات توجد في أصل الشخصية. وبكلام آخر لا يمكن تصور وجود قيم الحوار في عقول وقلوب أفراد المجتمع الإنساني إذا لم يرتبط ذلك كله بالإطار التربوي المؤمن بهذه القيم، والمؤمن بضرورة أن تسود.. هذا هو أساس ما تنبني عليه رؤية الأستاذ.

رابعًا: أنوار تركيا تشع على العالم

ومما تجدر الإشارة إليه في هذا الباب هو أن أفكار الأستاذ قد انطلقت وجُرِّبت في تركيا ونجحت، رغم كل ما كان هذا الواقع يعرفه من تناقضات وصراعات أيديولوجية وسياسية. لقد كان شعار الأستاذ دائما هو نبذ الخلاف. وفي شرح قوله تعالى (وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا)(الأنفال:46) يقول: "تُخاطب هذه الآية المؤمنين فتوصيهم قائلة لا تدخلوا في أي نزاع مادي أو معنوي، بل حاولوا الاتحاد حول نقطة مشتركة ولا تقعوا في نزاع حتى لو كان حول أمر إيجابي، ولا تدَعوا الحسد ولا التنافس ولا الغبطة أن تقودكم إلى النزاع، وإلا فشلتم وذهبت قوَّتكم. إنَّ ثمرة العمل الفردي تبقى في مستوى الفرد، أمَّا الأعمال المنفَّذة في ظلّ وحدة الجماعة فتكافأ برحمة الله تعالى، وهكذا يكتسب كلّ فرد ثوابَ جماعة كامِلَةٍ"[73].

بفضل هذا التصور الحركي المتميز استطاع فتح الله أن يجمع ما يستحيل جمعه. إذ لو تعلق الأمر برؤية تتعصب لذاتها وتنطلق من منطق المركزية لما استطاعت التجربة أن تحقق ما حققته من نجاح. ولذلك فإن نجاح التجربة محليا أعطاها المشروعية لتجرّب خارجيا. وهنا ينبغي الوقوف عند ملاحظة مهمة وهي الدعوة التي ووجها الأستاذ إلى المجتمع التركي وخاصة ما يطلق عليهم في اصطلاحات الخدمة "الأصناف" ورجال المال والاقتصاد بأن يتوجهوا إلى مختلف مناطق العالم من أجل نقل رسالة سامية هي رسالة القيم الأخلاقية الإنسانية السامية، وقيم الحب والتسامح والسلام. كان هؤلاء بمثابة العنصر الممهد لمرحلة أخرى زاهرة هي مرحلة وضع أسس بناء مجتمع إنساني متسامح.

يؤكد الأستاذ فتح الله أن موضوع التربية يتشكل من ثلاثة جوانب؛ الجانب الأول إنساني نفسي، والجانب الثاني وطني اجتماعي، والجانب الثالث جانب عالمي. ومن خلاله يعتبر الأستاذ أن الشرق المتشبع بثقافته الأصيلة والمتشبع بهويته الذاتية يستطيع تقديم قيمة إضافية للغرب الذي أعلن القطيعة منذ زمن بعيد مع الدين ومع القيم، وأعلن الولاء للأنانية الفردية، وأعلن المادية شعارا، والانفصام بين الدين والعلم مذهبا، واعتبر العلم قضية مادية صرفًا ليس للدين فيها أي دخل.

يؤمن الأستاذ بأن أهم ما يمكن للمسلمين بكل موضوعية تقديمه للغرب ولثقافته هو نظرة الإسلام للإنسان على أساس تكوينه المركب.فالقرآن الكريم باعتباره خطابا للناس لا يتعارض مطلقا مع العلم، وبعبارة أخرى كما يقول الأستاذ الوجود أو الكون هو قرآن واسع، وأما القرآن فهو من زاوية أخرى كون جرى ترميزه (أي تحويله إلى رموز كتبت) على الورق أو في المصحف.[74]

كل هذا يؤكد بأن لا تعارض بين القرآن -أو الدين بصفة عامة- والعلم، ومن هنا يتأكد كذلك أن لا تعارض بين العلم والعقل. ولما كان العلم غير متعارض مع الدين، فإن الدين لا يتعارض مع العقل، بمعنى أن الحقيقة الدينية تساند الحقيقة العلمية وتدعمها. إضافة إلى أن الحقيقة العلمية إذا كانت سليمة فلن تكون متعارضة مع القرآن.

على هذا الأساس ينبغي أن تتأسس التربية ويتأسس التعليم والمدرسة.فكل من التربية والتعليم والمدرسة مطالبون عند الأستاذ بالأخذ بهذه الرؤية في القيام بمهمّتها المقدسة، أي بأن تجعل المؤسسة التعليمية بكافة مكوناتها القيم والأخلاق محركا لكل ما تمثله المدرسة، وأن تحرص في الوقت نفسه على جعل المتعلم يتذوق حقيقة العلاقة التي تربط الدين بصفة عامة بالعلم والمعرفة. ولهذا فإن القيمة المضافة للمدرسة هي إنشاء أجيال متعلمة مسلحة بالقيم والأخلاق معترفة بعلاقة الوجود بخالقه، ومسلحة في الوقت نفسه بالعلم.

للمدرسة دور آخر مهم وهو دور نشر التسامح والتعايش وقبول الآخر. فهذه المدارس المنتشرة عبر مناطق مختلفة من العالم والتي يزيد عددها عن الألفي مدرسة، تراهن على التسماح والحوار. ويقوم بذلك إطار بشري ينظر للحياة نظرة إيجابة، ونظرة إصلاح وتصحيح. فهذا النموذج الإنساني نموذج يقدم المصلحة العامة على المصلحة الخاصة، ويلغي ذاته في سبيل المجموع، بل مستعد لأن يهاجر في سبيل هذا الأمل، وهو قبل كل شيء متطوع من أجل إنجاز مهمته. وهنا تبرز بصورة قوية فلسفة التبليغ عند الأستاذ وعند النموذج الإنساني الذي تكوّن في المدرسة الفكرية لفتح الله كولن. هذا النموذج الإنساني يعلم جيدا بأنه مسؤول بمهمة سامية ونبيلة هي مهمة إصلاح العالم وحمل إكسير المحبة والأخوة الإنسانية إلى كل مكان. ولذلك فإن الأجر الحقيقي هو أن ينجح في مهمّته وأن ينال أجر خالقه. فكل مدرسة تُفتَح في أي مكان من العالم هي لبنة تضاف إلى هذا المشروع الإنساني النبيل الذي بدأ الأستاذ فتح الله يبني قواعده وأسسه منذ ما يزيد عن خمسين سنة.

خامسًا: صورة مثالية لمهاجر التربية

يبدو هذا الكلام مثاليا وبعيدا عن الواقعية، ولكنه في الحقيقة مثالي في واقعيته، لأنه قطع مراحل طويلة في طريق تحويل الفكر إلى منجز حضاري يتجاوز المحلية إلى العالمية مبشرا بعالم جديد، وتتجاوز فيه الخلافات والنزاعات، يقول الأستاذ فريد الأنصاري رحمه الله: "لولا أنّي رأيتُهم لقلتُ إنه مجرّد وهمٍ أو هُراء أو خيال.. ظلال نورية لجيل الصحابة الكرام، جمعوا بين خصلتين عظيمتين من خصالهم الكبيرة: الهجرة والنصرة. فلم يكن منهم مهاجرون وأنصار، بل كانوا مهاجرين أنصارًا، وللصحابة فضلهم الذي لا يبارى!. الهجرة إلى الله - سبحانه وتعالى - ورسوله - صلى الله عليه وسلم - كلمات تتلفظ بها الأفواه، ولكن قلّما تعيها القلوب. فأن يترك الفتى حياة الراحة والدعة وبريق المدينة الجذاب، ثم يضرب في الأرض ليغوص في غربة بعيدة، يحمل في يده قنديلا من نور، بحثًا عن المستضعفين في بقاع الأرض من أجل إطعامهم جرعة من رحيق الحياة، فيتحمّل في سبيل ذلك فناءَ نفسه وذوبان ذاته ونسيان دنياه. فتلك تجربة روحية لا يعرفها حقًّا إلا من عاناها، وإنها لعقبة دونها عقبات، تنتصب في مدارج المجاهدات"[75].

هذا و"لن تجد عند أمثال هؤلاء شعارات تُفَرِّقُ ولا تجمع، وتشتت ولا توحد، وتقود إلى النزاع من أمثال "هم" و "نحن" أو "أنصارنا" و"أنصارهم". ولا توجد عندهم أي مشكلة ظاهرية أو خفية مع أحد. ليس هذا فحسب، بل تراهم في سعي دائم ليكونوا ذوي فائدة لكل من حولهم، ويبدون عناية فائقة لعدم إثارة أي مشاكل أو حساسيات في المجتمع الذي يعيشون فيه. وعندما يرون سلبيات في مجتمعهم فلا يتصرفون كمُحاربين غِلاظ، بل كمُرشدين رحماء.. يقومون بدعوة الأفراد إلى الأخلاق والفاضلة، ويسعون في هذه السبيل سعيا حثيثا، ويبذلون ما بوسعهم للابتعاد عن فكرة الحصول على نفوذ سياسي أو الوصول إلى مناصب مختلفة مهما كان الثمن وأيًّا كان الأسلوب"[76].

تعطي هذه الصورة القلبية لهؤلاء الانطباع بأننا أمام قصص خيالية، فأن يترك رجال وطنهم بنيّة الهجرة التي لا عودة بعدها، وأن يهاجر إلى أبعد المناطق وأخطرها من أجل فكرة آمن بها، وأن يهاجر رجل أعمالٍ ليُساهم في بناء مدرسة ويكون الراعي لها، لهو ضرب من الخيال لكنه واقع حاصل، ولهذه الأسباب ينبغي دراسة الظاهرة وتحليلها. يقول الأستاذ فتح الله كولن في هذا الصدد: "إن هذه الحركة ظاهرة يجب أن تُشرح ويتم الوقوف عندها بشكل جدي.. فقَدْ قررت فئة قليلةٌ ملك الحب قلبها أن تنطلق لنيل رضاه تعالى إلى المشرق وإلى المغرب وإلى أرجاء الأرض جميعًا في وقت لم يخطر فيه هذا بخاطر أحد.. انطلقت دون أن تهتمّ بآلام الغربة وبفراق الأحبّة، ملؤها العزم والثقة... طوت في أفئدتها بعشق خدمة الإيمان لواعجَ الفراق، وَحُبَّ الوطن، وآلامَ فراق الأهل والأحبة... قليل من الناس شعروا مثلهم وعاشوا الجهاد في سبيل الله مثلهم وقالوا وهم ينتشرون في المغرب وفي المشرق مثلما قال حواريّو الرسل "خُضْنا دروب الحبّ فنحن مجانين"(الشاعر نِيكَاري)... ذهبوا وهم في ميعة الشباب يحملون آمالاً وأشواقًا دنيوية تشتعل في قلب كل شاب والتي لها جاذبية لا تقاوَم فضلا عن هذه الفترة النضرة من مرحلة الشاب.. ذهبوا في عصر طفت فيه المادية والأحاسيس الجسمانية على المشاعر الإنسانية، وهم يكبتون تلك المشاعر والآمال المشتعلة في صدورهم باشتياق إلى وصال آخر أقوى منها وأكثر التهابًا وتوهجًا، وهم ينتشرون في مشارق الأرض ومغاربها ويسيحون حاملين في أفئدتهم تلك الجذوة المشتعلة من نشوة الرعيل الأول. لم تكن هذه السياحة من ذلك النوع الذي يهيم به الشاب في مرحلة مراهقته خلف حلم ملكة جمال مزيفة ويعيش طوال عمره بسذاجة في أوهام وخيالات آلام الفراق، مبتعدًا عن ذاتيته ولا يستطيع الوصول أبدًا إلى مبتغاه. بل إن سياحة هؤلاء الأفذاذ سياحة واعية ملؤها المشاعر الصادقة والإرادة الحازمة والإخلاص الصادق العميق... ويمكنكم أن تعبّروا عن هذا بأنهم المستعلون على كل حبّ سواه تعالى، المجاهدون في سبيل دعوتهم، ديناميكيتهم الإيمان دومًا، وأحوالهم الطبيعية العشق، ومبتغاهم نذْر أنفسهم لله تعالى، وأسْوتهم النور الخالد - صلى الله عليه وسلم -. أجل!.. لم يتعثر هؤلاء لطبع أنفسهم ولم يستسلموا أمام العراقيل. الحب الوحيد الذي لم يبهت في أفئدتهم كان حب الله ومحاولة كسب رضاه، والوصول إلى الحق تعالى. لذا شدّوا رحالهم إلى أبعد زوايا العالم. ساروا في هذا الطريق، فافتخر بهم الطريق، وسعد بهم الربّانيون، وشقي بهم الشياطين.. ساروا دون خيل ولا عربة، لا سلاح لهم ولا ذخيرة... الإيمان العميق الذي كان يعمر قلوبهم ويتفجّر فيها كالحمم كان منبع قوتهم وقدرتهم.. وهدفهم المرسوم في آفاقهم سعادة الإنسانية ورضوان الله تعالى.. حظوظهم كحظوظ الحواريين والصحابة.. وصلوا في عفّتهم وطهرهم إلى عفة الملائكة الأطهار، وسجلوا ذكريات ملاحم لا تنسى ولا تمحى"[77].

تدل هذه الأوصاف على مدى قيمة هؤلاء الرجال عند أستاذهم الذي يعترف لهم بالفضل، وهي خصلة نادرة لا يتصف بها سوى العظماء الذين يحترقون كالشمعة من أجل أن تنير قلوب الآخرين. فالأستاذ لا يُرجِع الفضلَ إليه بل يُرجِعه لهؤلاء الذين انطلقوا يجوبون الآفاق. فهم صورة من أستاذهم حينما ينكرون ذاتهم ويسندون الفضل لغيرهم، وبذلك يتأكد أن ما آمن به هؤلاء هو فعلا مجرد فكرة معقولة أطلقها رجل رباني فأحدثت أثرا بليغا هو هؤلاء الرجال وهذه المؤسسات وهذه المدارس..وهؤلاء هم الذين سيشيدون صرح الحضارة الإنسانية بالحوار والتسامح، وسيجدون من أجل تحقيق ذلك في كل مرة ألف وسيلة ووسيلة.. وكما نجحوا في غرس فسيلة المدارس في كل مكان في هذا العالم واستطاعوا التكيف مع واقع وثقافة كل بلد على حدة، دون الحياد عن الجوهر الذي يسترشدون به رغم المصاعب والعراقيل، سينجحون في ميادين أخرى.

هؤلاء هم فسائل "الإنسان الجديد" الذي بشر به الأستاذ في مقالته التي تحمل العنوان نفسه، وهنا يتبادر إلى الذهن السؤال الآتي هل هؤلاء هم "الإنسان الجديد" أم هم مجرد مقدمة له؟ والجواب هو أن الأستاذ يقصد في مقالته هؤلاء الرجال، ولأنهم ثمرة طيبة تؤتي أُكُلَها كل حين، فإنهم بما يحملونه من صفات ومميزات سيساهمون في بناء "الإنسان الجديد" بما سيغرسونه من قيم ومبادئ في قلوب من يذهبون إليهم ومن يستقبلونهم في مدارسهم ومن سيزورونهم في بيوتهم. إنهم بناة العهد الجديد، يقول الأستاذ: "نحن اليوم على مشارف عهد جديد في مسيرة تاريخ الإنسانية، متفتح على تجليات العناية الربانية. لقد كان القرن الثامن عشر، بالنسبة لعالمنا، قرن التقليد الأعمى والمبتعدين عن جوهرهم وكيانهم؛ وكان القرن التاسع عشر، قرن الذين انجرفوا خلف شتى أنواع الفانتازيات واصطدموا بماضيهم ومقوماتهم التاريخية؛ والقرن العشرون، كان قرن المغتربين عن أنفسهم كليا والمنكرين لذواتهم وهويتهم، قرن الذين ظلوا يُنقّبون عن مَن يرشدهم وينير لهم الطريق في عالمٍ غير عالمهم. ولكن جميع الأمارات والعلامات التي تلوح في الأفق تبشر بأن القرن الواحد والعشرين، سيكون قرن الإيمان والمؤمنين، وعصر انبعاثنا ونهضتنا من جديد."[78]

لقد تحقق على يده هؤلاء كما يرى الأستاذ بناء صروح الحوار. ولذلك تلمس في خطابه أن عهدا جديدا يلوح في الأفق ملؤه المحبة والتآخي والحوار والعمل من أجل مصلحة الإنسان في كل مكان. فعلى الجميع أن يكون متيقنا كيقين الأستاذ فتح الله بأنه قد "تم تجاوز العراقيل الموجودة بين القارات بفضل القرآن، وتحقق حوار مستند إلى الحب وإلى التوقير.. وتأسست وستتأسس أرضية لتفاهم جديد بفضل هؤلاء الربانيين. لقد عرفت الإنسانية في الماضي أمتنا بأنها أمة مستبشِرة قد ضحك لها حظها، فما المانع أن تكون اليوم أيضًا كما كان الحال من قبل؟ بينما نرى أن شلالاً من الحب بدأ يهدر فعلاً بين الناس في كل مكان وصل إليه هؤلاء المهاجرون في سبيل غايتهم. ففي كل مكان، وفي كل موضع يهب نسيم من الطمأنينة والسكينة يشعر به الجميع. والأكثر من هذا فقد تكونت في كل ناحية وجانب ما نطلق عليه وصف جزر السلام والمحبة على أسس مستقرة ومتينة. مَن يدري فقد يتحقق في المستقبل القريب بفضل هؤلاء المخلصين الناذرين أنفسهم لفكر البعث والإحياء تأسيس الصلح بين العقل والقلب مرة أخرى. فيكون كل من الوجدان والمنطق أحدهما بُعدًا مختلفًا للآخر، وتوضع نهاية للنـزاع بين ما هو مادي وما هو ميتافيزيقي، حيث ينسحب كل منهما لساحته ويجري كل شيء في طبيعته وماهيته، ويجد إمكانية التعبير عن نفسه وعن صور جماله بلسانه. ويتم اكتشاف التداخل الموجود بين الأوامر التشريعية والأسس التكوينية من جديد، ويشعر الناس بالندم على ما جرى بينهم من خصام وعداء لا موجب له، وسيسود جو من السكينة والهدوء -الذي لم يتحقق تمامًا حتى الآن- في الشارع وفي السوق وفي المدرسة وفي البيت، وتهب نسائمه على جميع البشرية. لن يُنْتَهَكَ عرض، ولن يُداسَ على شرف، بل سيسود الاحترام القلوبَ، فلا يطمع إنسان في مال إنسان آخر، ولا ينظر نظرة خيانة إلى شرف آخر. سيصبح الأقوياء عادلين، وسيجد الضعفاء والعاجزون فرصة في حياة كريمة. لن يُعْتَقَلَ أحد لمجرد الظن.. لن يتعرّض مَسكن أحد ولا محل عمله لهجوم.. لن تُرَاقَ دَمُ أي برئ.. لن يبكي أي مظلوم. سيبجّل الجميعُ اللهَ تعالى وسيحبُّ الناسَ... حينذاك فقط ستكون هذه الدنيا التي هي معبر للجنة فردوسًا لا يُمَلُّ العيشُ فيه"[79].

إن أهم ميزة يتميز بها هؤلاء الأبطال المهاجرون هي أنهم قد اختاروا عن طواعية أن يكون مكان هجرتهم هو مكان قبرهم لا يتراجعون عن ذلك وهم لا يتزحزحون عن هذا الاختيار الذي هو سبب وجودهم. ولذلك فهم لا ينتظرون الأجر الدنيوي، بل غاية المنى عندهم هي أن يكون عملهم خاصًّا لوجه الله تعالى، يقول الأستاذ فتح الله: "إن أهمّ جانب يستدعي النظر ويجلب التقدير والإعجاب عند الأبطال الذين أحبّوا الله تعالى ونذروا حياتهم في سبيل رضاه وارتبطوا بغاية مثلى هي نيل محبته.. إن أهم جانب لدى هؤلاء الأبطال وأهم مصدر من مصادر قوّتهم، هو أنهم لا يبتغون ولا ينتظرون أي أجر مادّي أو معنوي. ولن تجد في خططهم وحساباتهم أنهم يعيرون أهمية لأمور يسعى طلاب الدنيا للحصول عليها كالأموال والأرباح والثروة والرفاهية... هذه الأمور لا تشكل عندهم أي قيمة، ولا يقبلون أن تُشكل عندهم أي مقياس"[80]. لأن المقياس الوحيد عندهم هو نجاحهم في مهمّة السفارة التي كلّفوا بها، ليسوا كسفراء الدول المعتمدين الذين يبذلون ما في وسعهم من أجل الحفاظ على مصالح بلادهم ويجتهدون أيما اجتهاد من أجل النجاح في مهامهم فيرجعون في يوم من الأيام إلى وطنهم، بل هؤلاء لا يرجعون، لأنهم هاجروا، ولأن دولتهم الحقيقية دولة معنوية ترتفع فوق الدولة بمفهومها المادي.. إن دولتهم هي المحبّة والأخوّة ومبادئ التسامح والحوار والاحترام المتبادل، فيسعون "نحو سلطنة القلوب"[81].

والحديث عن الحوار والتسامح والنظر إلى الإنسان باعتبار إنسانيته لا باعتبار دينه ولونه وجنسه في حالة هؤلاء ليس مجرد شعار بل هو حقيقة، تشهد عليه العديد من التجارب في مناطق مختلفة من العالم معروفة بمشكلاتها العرقية والإثنية وحتى الصراعات ذات الطابع الديني، لكن هذه المدارس استطاعت جمع المتناقضات واستطاعت دمج الكل في بوتقة واحدة. وهذا هو ما تبيّنه إحصائية قديمة لعدد المدارس وعدد الطلبة ونسِبَ حضور غير المسلمين فيها.

اسم البلد

عدد المدارس

عدد الطلاب

نسبة المسلمين

نسبة غير المسلمين

كازاخستان

29

8284

80%

20%

أفغانستان

6

2141

100%

 

الفِلبين

5

694

45%

65%

تايْلاند

4

1191

10%

90%

إندونيسيا

5

1216

99%

1%

أستراليا

10

2655

94%

4%

مقدونيا

4

400

44%

26%

نيجيريا

4

1446

65%

45%

السنغال

4

640

90%

10%

النيجر

4

450

99%

1%

المغرب

5

844

100%

 

كِينيا

4

946

25%

45%

أفريقيا الجنوبية

4

1020

45%

65%

موغولستان

5

1024

20%

80%

السودان

4

285

100%

 

ألبانيا

14

2833

94%

4%

باكستان

14

4445

99%

1%

 

تبين هذه الإحصائيات التي تعود لتاريخ 2004-2008 أن هذه المدارس تراعي الخصوصية المحلية، إذ تجد فيها المسلمين مع غير المسلمين بل في بعض المدارس تجد أن المسلمين هم أقلّية. فوجود طلبة مسلمين إلى جانب طلبة غير مسلمين يؤكد ما أشير إليه سالفا.

سادسًا: المدارس في البحث العلمي

وفي الختام لا بد من أن نشير إلى أن العديد من الدراسات والبحوث والندوات قد تعرضت لتجربة المدارس ومساهمتها في الحوار وفي نشر فكر التسامح بين الناس، خاصة في المناطق التي تعاني من مشاكل وصراعات طائفية وعرقية ودينية. فعلى سبيل المثال تعطي "المدرسة التركية الفلبينية للتسامح" نموذجا حيًّا لما يمكن للمدرسة تقديمه، وتؤكد بعض الدراسات نجاح التجربة في بناء صرح من الحوار والتعايش بين التلاميذ وهو ما انتقل بعد ذلك إلى الأولياء فصارت المدرسة إطارا يتناسون فيه صراعاتهم ويقبلون فيه بعضهم البعض. ونجحت مثل هذه المدارس في تحويل الصراعات والخلاف الأيديولوجي في شمال العراق إلى بحث عن القواسم المشتركة بدل البحث عما يفرق.[82]

ولا يفوتني التذكير بتجربة "شارتر سكول" في الولايات المتحدة الأمريكية التي تحتاج وحدها إلى وقفة خاصة أتمنى أن تتاح الفرصة للقيام بذلك في وقت لاحق.

 

 



[1]     Missionnaires de l’islam en Asie centrale. Les écoles turque de Fethuillah Gülen: PP Bayran Bolai. 

[2]     The gulen mouvement, p:111-112. 

[3]     The gulen mouvement, p:114. 

[4]     Muhammed CETIN, Hizmet, p:109 

[5]     Muhammed ÇETİN, Hizmet, 2012, p:109-110 

[6]     فتح الله كولن جذوره الفكرية واستشرافاته الحضارية، محمد أنس أركنة، ص:40.

[7]     فتح الله كولن جذوره الفكرية واستشرافاته الحضارية، محمد أنس أركنة، ص:46.

[8]     فتح الله كولن جذوره الفكرية واستشرافاته الحضارية، محمد أنس أَرْكَنَة، ص:47.

[9]     فتح الله كولن جذوره الفكرية واستشرافاته الحضارية، محمد أنس أركنة، ص:47-48.

[10]    ننبه إلى أن الأستاذ كولن كان متوثبًا كثير النشاط والحركية أثناء شبابه. أما بعد أن تقدمت سنه وشغلته الأمراض عن الحركة فقد خفف من حركته وآثر التدريس والوعظ والكتابة حيث إقامته.. آثر الخلوة بدنًا، لكنه ظل جوّالاً متحركًا عبر أفكاره التي ذاعت في الآفاق.

[11]    فتح الله كولن جذوره الفكرية واستشرافاته الحضارية، محمد أنس أركنة، ص:49-50.

[12]    فتح الله كولن جذوره الفكرية واستشرافاته الحضارية، محمد أنس أركنة، ص:50.

[13]    فتح الله كولن جذوره الفكرية واستشرافاته الحضارية، محمد أنس أركنة، ص:50.

[14]    انظر: فتح الله كولن جذوره الفكرية واستشرافاته الحضارية، محمد أنس أركنة، ص:61.

[15]    فتح الله كولن جذوره الفكرية واستشرافاته الحضارية، محمد أنس أركنة، ص:62.

[16]    فتح الله كولن جذوره الفكرية واستشرافاته الحضارية، محمد أنس أركنة، ص:64.

[17]    فتح الله كولن جذوره الفكرية واستشرافاته الحضارية، محمد أنس أركنة، ص:64.

[18]    فتح الله كولن جذوره الفكرية واستشرافاته الحضارية، محمد أنس أركنة، ص:66-67.

[19]    انظر: فتح الله كولن جذوره الفكرية واستشرافاته الحضارية، محمد أنس أركنة، ص:70.

[20]    فتح الله كولن جذوره الفكرية واستشرافاته الحضارية، محمد أنس أركنة، ص:70.

[21]    فتح الله كولن جذوره الفكرية واستشرافاته الحضارية، محمد أنس أركنة، ص:89-90.

[22]    انظر: مقال "الإنسان الجديد"، فتح الله كولن، مجلة حراء، العدد:11 (أبريل-يونيو 2008).

[23]    "حركة نماذجها من ذاتها"، فتح الله كولن، مجلة حراء، العدد:14(أكتوبر-ديسمبر 2008).

[24]    "حركة نماذجها من ذاتها"، فتح الله كولن، مجلة حراء، العدد:14(أكتوبر-ديسمبر 2008).

[25]    "حركة نماذجها من ذاتها"، فتح الله كولن، مجلة حراء، العدد:14(أكتوبر-ديسمبر 2008).

[26]    "حركة نماذجها من ذاتها"، فتح الله كولن، مجلة حراء، العدد:14(أكتوبر-ديسمبر 2008).

[27]    "حركة نماذجها من ذاتها"، فتح الله كولن، مجلة حراء، العدد:14(أكتوبر-ديسمبر 2008).

[28]    انظر: "الإنسان الجديد"، فتح الله كولن، مجلة حراء، العدد:11 (أبريل-يونيو 2008).

[29]    "الإنسان الجديد"، فتح الله كولن، مجلة حراء، العدد:11 (أبريل-يونيو 2008).

[30]    "الإنسان الجديد"، فتح الله كولن، مجلة حراء، العدد:11 (أبريل-يونيو 2008).

[31]    "الإنسان الجديد"، فتح الله كولن، مجلة حراء، العدد:11 (أبريل-يونيو 2008).

[32]    انظر: فتح الله كولن جذوره الفكرية واستشرافاته الحضارية، محمد أنس أركنة، ص:94.

[33]    انظر: فتح الله كولن جذوره الفكرية واستشرافاته الحضارية، محمد أنس أركنة، ص:94.

[34]    فتح الله كولن جذوره الفكرية واستشرافاته الحضارية، محمد أنس أركنة، ص:97-98.

[35]    الدين في تركيا، والتغيرات الاجتماعية وفتح الله كولن، علي بولاج،  مؤتمر مستقبل الإصلاح في العالم الإسلامي، القاهرة، 19-21 أكتوبر 2009، ص:284-294.

[36]    الدين في تركيا، والتغيرات الاجتماعية وفتح الله كولن، علي بولاج،  مؤتمر مستقبل الإصلاح في العالم الإسلامي، القاهرة، 19-21 أكتوبر 2009، ص:291.

[37]    نظرة عامة على الحركات الإسلامية في تركيا وتجربة كولن، محمد أنس أركنه، مؤتمر مستقبل الإصلاح في العالم الإسلامي، ص:294-314.

[38]    انظر:

      Ismail Albayrak. Fethullah Gülen’s Approach to Qur’anic Exegesis, in, Mastering Knowledge in Modern times, Fethullah Gülen As an Islamic Scholar, pp: 42-47. 

[39]    نظرة عامة على الحركات الإسلامية في تركيا وتجربة كولن، محمد أنس أركنه، مؤتمر مستقبل الإصلاح في العالم الإسلامي، ص:294-314.

[40]    M. Fethullan Gulen, Essais, Perspectives et Opinions, Publié par Light, Inc, Izmir- Turquie/2006, p:72 

[41]    انظر:

      M. Fethullan Gulen, Essais, Perspectives et Opinions, Publié par Light, p:72. 

[42]    M. Fethullan Gulen, Essais, Perspectives et Opinions, Publié par Light, p:75. 

[43]    الموازين أو أضواء على طريق، فتح الله كولن، ص:105.

[44]    يقول الأستاذ فتح الله كولن واصفًا هؤلاء: " مجانينَ أريد، حفنةً من المجانين! يثورون على كلِّ المعايير المألوفة، يتجاوزون كلَّ المقاييس المعروفة. وبينما الناس إلى المغريات يتهافتون، هؤلاء منها يفرُّون وإليها لا يلتفتون. أريد حفنةً ممن نُسبوا إلى خفَّة العقل لشدَّة حرصهم على دينهم، وتعلُّقهم بنشر إيمانهم؛ هؤلاء هم "المجانين" الذين مدَحهم سيِّد المرسلين r، إذ لا يفكِّرون بملذَّات أنفسهم، ولا يتطلَّعون إلى منصبٍ أو شهرةٍ أو جاه، ولا يرومون متعةَ الدنيا ومالها، ولا يُفتنون بالأهل والبنين... يا ربِّ، أتضرَّع إليك... خزائنُ رحمتك لا نهاية لها، أعطِ كلَّ سائل مطلبه، أمَّا أنا فمطلبي حفنةً من المجانين... يا ربِّ، يا ربِّ" (مجلة "حراء"، العدد:14 (يناير-مارس 2009)).

[45]    طرق الإرشاد في الفكر والحياة، فتح الله كولن (ترجمة: إحسان قاسم الصالحي)، دار النيل، ط:2 القاهرة 1424هـ/2006م، ص:92-94.

[46]    انظر: طرق الإرشاد في الفكر والحياة، فتح الله كولن، ص:111-112.

[47]    الموازين أو أضواء على الطريق، فتح الله كولن، ص:77.

[48]    الموازين أو أضواء على الطريق، فتح الله كولن، ص:77.

[49]    انظر: فلسفة التعليم: السياحة في المجال الحيوي، د. سمير بودينار، مؤتمر مستقبل الإصلاح في العالم الإسلامي، القاهرة، 19-21 أكتوبر 2009. دار النيل، 1432هـ/2011م، ص:241-449.

[50]    الموازين أو أضواء على الطريق، فتح الله كولن، ص:78.

[51]    الموازين أو أضواء على الطريق، فتح الله كولن، ص:78-79.

[52]    M. Fethullan Gulen, Essais, perspectives et opinions Publie par The light, inc Izmir turquie 2006, p:72-74. 

[53]    M. Fethullan Gulen, Essais, perspectives et opinions Publie par The light, inc Izmir turquie 2006: p:72. 

[54]    M. Fethullan Gulen, Essais, Perspectives et Opinions, p:80-81. 

[55]    M. Fethullan Gulen, Essais, Perspectives et Opinions, p:81. 

[56]    Turkish Islame and the secular state, p:21-22.

[57]    Turkish Islame and the secular state, p:22-24. 

[58]    الموازين أو أضواء على الطريق، فتح الله كولن، ص:129.

[59]    "الجيل الذهبي"، مفهوم اصطلاحي عند الأستاذ فتح الله يحيل على مخرجات المراحل الأولى للانبعاث والنهوض. فهذا الجيل هو الذي سيعيد للأمّة وللإنسانية قيمتها الحقيقية، من خلال ربطها بالخالق، وجعلها أكثر تفاعلا مع الوجود والكون، باعتبارها مظاهر تدل على الخالق.

 [60]    مفهوم التربية الشمولية لكولن وانعكاسه على المدارس، رجب قايماقجان، مؤتمر مستقبل الإصلاح في العالم الإسلامي، القاهرة، 19-21 أكتوبر 2009. دار النيل، 1432هـ/2011م، ص:450.

 [61]    مفهوم التربية الشمولية لكولن وانعكاسه على المدارس، رجب قايماقجان، مؤتمر مستقبل الإصلاح في العالم الإسلامي، القاهرة، 19-21 أكتوبر 2009. دار النيل، 1432هـ/2011م، ص:451.

 [62]    مفهوم التربية الشمولية لكُولَن، د. رجب قَيْماقْجَان، مؤتمر مستقبل الإصلاح في العالم الإسلامي، ص:350-368.

 [63]    الموازين أو أضواء على الطريق، فتح الله كولن، ص:75-76.

 [64]    مفهوم التربية الشمولية لكُولَن، د. رجب قَيْماقْجَان، مؤتمر مستقبل الإصلاح في العالم الإسلامي، ص:350-368.

 [65]    ونحن نقيم صرح الروح، فتح الله كولن، ص:46-47.

 [66]    ونحن نقيم صرح الروح، فتح الله كولن، ص:48

 [67]    انظر:

Understanding FETHELLAH Gulen. Journalist and writers Foundation P:64

[68]    انظر:

Understanding FETHULLAH GULEN, p:52.

[69]    M. FETHULLAH GULEN, ESSAIS, perspectives et opinions, p:80-81.

[70]

 [71]    محاورات حضارية، جيل كارول، ص:106.

 [72]    Essais,Perspectives et Opinions, p:84-85

[73]

 [74]    Essais,Perspectives et Opinions: p:87. 

[75]    "رجال ولا كأي رجال"، فريد الأنصاري، مجلة حراء، العدد:13، (أكتوبر-ديسمبر 2008).

[76]    "أرواح نذرت نفسها للحق"، فتح الله كولن، مجلة حراء، العدد:19 (أبريل-يونيو 2010).

[77]    "حركة نماذجها من ذاتها"، فتح الله كولن، مجلة حراء، العدد:14 (أكتوبر-ديسمبر 2008).

[78]    "الإنسان الجديد"، فتح الله كولن، مجلة حراء، العدد:11 (أبريل-يونيو 2008).

[79]    "أرواح نذرت نفسها للحق"، فتح الله كولن، مجلة حراء، العدد:19 (أبريل-يونيو 2010).

[80]    "أرواح نذرت نفسها للحق"، فتح الله كولن، مجلة حراء، العدد:19 (أبريل-يونيو 2010).

[81]    مقال "نحو سلطنة القلوب"، فتح الله كولن، مجلة حراء، العدد: 28 (يناير-فبراير 2012)

[82]    للتوسع في هذا الموضوع يمكن الرجوع إلى العديد من الدراسات منها:

      Islam And Peacbulding, Gülen Movement, Edited By John L. Esposito And Ihsan Yilmaz. Blue Done Press 2010

Pin It
  • تم الإنشاء في
جميع الحقوق محفوظة موقع فتح الله كولن © 2024.
fgulen.com، هو الموقع الرسمي للأستاذ فتح الله كولن.