الفصل الثاني : فتح الله كولن.. الارتحال بالأمة من فقه النازلة إلى فقه النهضة
فهرس المقال
- الفصل الثاني : فتح الله كولن.. الارتحال بالأمة من فقه النازلة إلى فقه النهضة
- كولن.. مؤسس فقه النهضة والتعمير
- الفقه في مهب المصادرة الأيديولوجية
- كيف حدثت نكبة المسلمين في العصر الحالي؟
- تركيا من دور الحاضن إلى دور المنقلب
- على خطا نهج الفقه الأكبر
- مبدأ تداول المشترك الإنساني
- اجتهاد التأصيل والتصويب
- الفقه التمويلي
- جميع الصفحات
على خطا نهج الفقه الأكبر
في خضم الاجتياح الأيديولوجي اللائكي تعطَّل معيارُ الواقعة الشرعية، وحلّ محله معيار دفع الجائحة المدَنية، لأن الاستهداف لم يَعُدْ يعني اختراقات محصورة ومرصودة في مسائل بعينها، تشكل ما ظل الفقه الإسلامي يصطلح على تسميته بالنازلة أو النوازل، وإنما الاختراق أصبح ظواهر قيمية طارئة، ومظاهر أخلاقية مستجلبة، وأحوالا ثقافية تغربية مفروضة تزيح وضعا مدنيًّا وحياتيًّا قائما بأسسه الثقافية الأصيلة وأركانه الاعتقادية الوطيدة، الضاربة بجذورها في أرضية تاريخية وحضارية وتشريعية عتيدة، لتستبدله بنمط حياتي آخر تسعى أن تستنسخه في كلياته وتفاصيله من حضارة الغرب.
في وضع كهذا كان على المصلح أن يتحول إلى إِشهارية تنوير، تعرف كيف ومتى تعطي الضوء للمارة كي يقطعوا السبيل إلى النجاة بسلامة.
كانت مواجهة المصلحين -وما أقلّهم عددا وعدة!- للنكبة مركبة، اقتضتهم المنازلة الضارية أن يعملوا على أكثر من صعيد، بدءا باستكمال دور الأهلية في مجال التأطير والاستنقاذ الذي انبروا للنهوض به. فكان عليهم -من ثمّة- أن يثبتوا هم أنفسُهم على الجادة، وأن يتأهلوا للإمساك على الجمر في معركة التمحيص التي كانت تحف بهم وبالإسلام في تركيا الجديدة. فكم زل من قدم تحت وطأة الإغراء أو الترغيم التي عاشها العلماء الأتراك عقب الانقلاب..!
ثم كان عليهم من صدد آخر أن يعمقوا زادهم المعرفي من الشريعة ومن العلوم الأصلية، وأن يضيفوا إلى ذلك كفاءة راسخة في مجال الحداثة بتحصيل علوم العصر، ذلك لأن السجال لم يكن يخص أشخاصهم تحديدا، وإنما يخص الأمة التركية وفئاتها وناشئتها التي باتت عزلاء تتلقن فكر الإلحاد في برامج رسمية معتمدة، فكان لا بد على الصفوة من المصلحين أن يتسلّحوا بمعارف العصر، وأن يطّلعوا بعمق على الفلسفات المارقة، وعلى نظريات الجحود التي كانت تمثل جوهر المعرفة التنويرية الرسمية يومذاك. وكل ذلك لِيتسنّى لهم التأهل للمبارزة وحماية الدين واستنقاذ مَن يتمكّنون من التواصل معهم من الناشئة، وليكونوا على كفاءة في التصدّي وتحصين الشباب خاصة بالفكر الإيماني من موقع معرفي وعلمي وثيق.
وفي الآن ذاته عملت الطليعة من المصلحين على التسلّح ببيداغوجية الاستقطاب والتواصل الدينامية المناسبة للتعامل مع شتى الأصناف العمرية والأوساط الاجتماعية.
ثم كان عليهم أن يتفانوا في الدعوة وفي تقديم مزيد من التضحيات ومواجهة مزيد من المخاطر والامتحانات، وبذلك عاشوا ملاحقين ومترصَّدين ومعتقلين، بل ولقد فتِئَتْ الأعدادُ منهم تلْقى حتفها على أيدي المغتالين. ورغم تتابع النكبات والخطوب، كانت مردودية ذلك العراك المرير راجحة، إذ خرج الصادقون في الدعوة مظفرين، حيث كفلت لهم صميميتهم المستمية نيل المقبولية لدى الفئات المتزايدة من الشعب التركي، وهو ما تكرس في علاقة تلاحم عضوي مع الجماهير، إذ ترابطت الفئات بالداعية على قاعدة من التواشج والاندماج، ما أحيا من جديد ماضي المشيخة كما طفق يجسدها عبر العهود التحامُ الأقطاب الأشاوس مع الجموع من الأتباع والمحبّين.. وهو ما تحقق للداعية الفذ والمجتهد المسدد، فتح الله كولن قائد نهضة الإصلاح والخدمة التي تشهدها تركيا اليوم.
لقد عكست السيرة العلمية لهذا الرباني الرشيد نوعية العدة والتجهيز التي تصدى بها للردة. فبعد أن انخرط في سلك الوظيف الديني الرسمي، باشر بطريقته المتبصرة مهمّة التنوير، مصعدا في الآن ذاته من جهود ترقيته العلمية وتحصيله الذاتي في العلوم الأصلية والحداثية على سواء، إذ لا ننس أن فتح الله غادر المدرسة وهو لم يتعدّ المستوى الثالث ابتدائي، ليتّخذ من عصاميته مطيّة السبق لبلوغ الذروة في مجال العلم والتأهيل الفقهي والاجتهادي. لقد استغرقته إلى جانب الدعوة أعمال الكتابة، وكانت مقارباته -في الواقع- بحوثا واستنجازات مهمة في مضمار التأثيث الفكري الدعوي، بحيث رأيناه كتب في السيرة وفي التاريخ وفي الفكر والدين وبيداغوجية الدعوة والإحياء، وفي استراتيجية الانبعاث والتأهل الحضاريين، بل وعالج قضايا من صميم العلم العصري[1] بتشعباته الاختصاصية وتوجهاته الابستيمولوجية، موظفا ذلك في وجهة إيمانية إثباتية تحصينية، كاشفا في كل ما كتب عن سعة تعمق وأصالة تمثل ورسوخ اطلاع على الآداب والثقافات والفلسفات العالمية.
لقد كانت مقارباته وقراءاته الفكرية مجالا حيويا للاستنباط وصوغ القيم والأحكام وتأصيل المعايير.. فكتابه الجليل عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- مثلا،[2] هو قراءة تأصيلية مدنية وفقهية واستراتيجية، استحيا فيها قيم الشرع والأخلاق والاقتصاد والعدل والحرية الإنسانية، والمساواة المرشَّدة بين الرجل والمرأة، وفن الإدارة والسياسة الداخلية والدولية، وحماية البيئة ورجاحة السلوك الروحي وتنشئة النفس والجهاد بنوعَيه الأصغر والأكبر، وفلسفة الاجتماع، وفقه التوازنات القلبية والثقافية والمدنية، والارتكازات المادية والميتافيزيقية... كلا لم يستغرقه درسُ السيرة وتقليبُ صفحاتها بقصد الاندساس والتواري عن تفسخات مدنية هذا العصر، والفرار من كوابيسها وضراوة مآسيها، إنما احتفى بالسّنة وعايشها عن عمق وبصيرة، لأجل أن يؤصل منها سجلاًّ ذهبيا مرجعيا بمنهج النهضة المتوخاة، والانبعاثة المأمولة.
أضحى المصلح كولن -وهو يرى العدوان يطبق على الأمة من كافة المستويات- يدأب في بسالة ومخاطرة متناهيتَين، سعيا لتقديم الإسعاف الروحي والدعم المعنوي والخدمة التحصينية.. فالدور العتيد للفقيه انقلب، ولم يعد لرجل الإصلاح مجلس شرعي مهيب، يطرقه أصحاب الحاجات الشرعية، يستفتونه ويستمعون إلى منطوق الشرع على لسانه في قضاياهم، بل غدا المصلح نفسه هو الذي يحدب ويسعى -في ظروف التخنيع وإحصاء الأنفاس- ويستميل الأفراد والجماعات إليه، لأجل تمكينهم من أخذ لقاح الإيمان ضد ما يتأجج في المجتمع من أوبئة وأوخام.
طفق الدرس المنبري لكُولَن يتكيف مع أحوال الرقابة وأحابيل الجَوْسَسة، ويسعى بكل رشد إلى أن يشد الأرواح إلى الإيمان. ولقد كان أمرا طبيعيًّا أن لا تستبقي برامج الردة إلا على أعداد متناقصة باطّراد ممن يرتادون الجوامع، لذلك كانت ثمار جهود الداعية المصلح محدودة، الأمر الذي اقتضاه أن يباشر مستوى من التعليم الجواري المتواري، وقد كانت مهمة شاقة وغير مشجعة، نظرا لعدم الإقبال عليها بسبب الضغوط الكثيرة، حيث إن الطالب نفسه كان يجد في مباشرة العملية التعليمية الشرعية خطرا. وما أكثر ما كانت الأسرة نفسها تعيق الابن إذا ما انتبهت إلى أنه انخرط في حلقة من ذلك النوع التعليمي المتواري.. لكن المقاصد المستندة إلى عامل الصبر والمصابرة تنتهي دائما بالإثمار، وهو ما عرفته تجربة كولن، إذ بذلك الجهد التعليمي الجواري المتحفظ، استطاع أن يهيّئ الجو البيداغوجي والتنشيطي الذي أوجد الحلقة وأنشأ النواة الأولى للطلاّب الملتزمين. وما لبث الوضع مع الزمن أن اتّسع إلى حلقات أخرى في بقاع من الوطن، من خلال تطوع الطلاب النجباء، وهكذا توثقت الرابطة الروحية بينه وبين طليعة من الشباب النوعي، وامتدّت أواصرها لتشمل بقاعا من الجغرافية التركية، بل ولتتجاوز الحدود لتستوعب الجاليات التركية في مختلف أرجاء العالم. وذلك ما سهل من سبل تدشين فقه الخدمة والدعوة إلى الإسلام من خلال إقامة مشاريع التعمير والتكوين والإحسان التي انتشرت في القارات جميعا.
من رهانات المصلح المنتخب الثابتة، العمل بلا هوادة على تحقيق الترقّى بحياته إلى مرتبة أهل الكمال، ليغدو -بحقّ- يمثل الحلقة الذهبية الرابطة بين أجيال السلف والخلف، وأن يصير روحا مكرَّمة تستمد وهجها النوراني وطاقتها وبركتها من سائر مصادر الإيمان، وتغتني بأسباب الاقتدار من خلال تمثل سيرة أهل الحق ورموزه، بدءا بمحمد -صلى الله عليه وسلم- وسنّته الْمُشرَّفَة، ومرورا بكافة الصفوف من أرباب الاجتهاد في كل عصر ومصر.. بحيث يستحيل كَينونة كبرى، لها إشعاع بسعة الأرض ورحابة الآفاق، لأن روحه كسرت -بفضل العمل الباهر- قيد المحدودية، وامتلكت صبغة الكارزْمة وهوية الإنسان الكامل.
الجهد التحولي الذي يكابده الرباني، يراهن على بناء هوية استمدادية إمدادية، فهو لا يفتأ دائبا على تلقّي الحظوظ الماسية، يغترفها من النبع القدسي، كتابا وسنّة، ويستلهما من الاقتداء بسيرة الواصلين، ليعود بكل الغنائم المجتناة في ذلك السبيل الجهادي، ويضعها بين يدي العالمين.
إن حبّ احتلال الصدارة الذي نراه يحتدُّ لدى أهل الدنيا، يتحول عند أهل الكمال إلى إصرار على التماهي في نماذج الكمال من السلف، والتَّأَحُّدِ[3] معهم، والإمعان في تمثُّل مآثر الكاملين ومناقبهم، وتزكية الروح والقلب والوجدان بنفحاتها، وهو ما يجعل من المقتدي مكافئا للمقتدَى بهم، ومن الفرع أصلا، ومن المتدرج مثلا ونموذجا وقواما.
كل أداء للفرض أو للنافلة تكون الحافزية العروجية فيه هي إرادة تحصيل التوفيق ومساماة أهل الكمال.
إن الجهد المبذول لجهة إِناطة الذات بالنماذج العليا من أهل الكمال، هو النهج الصعب الذي يمضي عبره العبد الصالح وهو يؤدي دَوره في قيادة الأمة.. إذ التربية التي يمارسها المصلح تبدأ لديه، بالنفس -نفسه هو- والاعتلاء بها، لتشارف القمم، ولتجاور أهل الذرى.. فإذا تأتَّى له بلوغ ذلك المستوى، تهيّأ له عندئذ أن يرود الفئات بلا عناء، فلكأن القوة التي أضحى يبذلها في القيادة والزحف، هي من جنس قوة الأبرار ومن صنف نفاذية أهل الصُّلاَّحِ الخالدين.
إن مستويات القراءة والتمثل والاستلهام التي يمارسها الداعية المصلح، هي بعض عوامل الشحذ الروحي والسيكولوجي التي يداومها ليلحق بأهل العزم.
إن قراءة كولن للسنة الشريفة هي قراءة طافحة بالمواطن التي تكشف مدى عمق تهيامه بشمائل السمو والسلوك التي طفق الرسول يحرِّض عليها ويرغِّب فيها. وإن عكوف كولن على مدارسة السنة، كان مبعثه الإرادة الجارفة لتمثل تفاصيل تلك السنة، وهضم مفردات ذلك الخلق العظيم، والأخذ به قلْبيًّا وحياتيًّا ودعويًّا.
إن مستوى الاستبطان الاستيعابي الذي قرأ به الأستاذ كولن وقائع السنة الشريفة، وتفحص به أحداثها ومواطن الاعتبار فيها، هو الأساس الذي بنى عليه فهمه للدين، وأرسى فوقه دعائم فقه التيسير والاعتدال الذي يدعو إليه وينادي به.
يُسر المبادئ الشرعية وجوهرها التخليقي
ليس دافع الدعوة إلى التيسير -على نحو ما تنادي به منهجية كولن- هو تنزيل مسطرة الشرع إلى مستوى من التساهل تقتضيه الواقعية التصحيحية كما هو حال بعض الديانات المتعالية عن الواقع (إشكال الزواج والطلاق في المسيحية مثلا).. ولكن الدافع إلى ذلك هو الرغبة في الرجوع إلى مسطرة الدين الحق؛ إذ شعار الإسلام كما تنص على ذلك حزمة من الأحاديث الشريفة، المعززة بسيرة المصطفى -صلى الله عليه وسلم-، هو «يَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا، وَبَشِّرُوا وَلَا تُنَفِّرُوا»[4]، و «أَمَا وَاللهِ إِنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ، لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي»[5]، و«إِنَّ الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، فَاقْرَءُوا مِنْهُ مَا تَيَسَّرَ»[6].
ومما لا شك فيه أن الرسول عاش الدين بمستويين، مستوى أهل الاصطفاء والعصمة، فكانت عبادته مثالية، كاملة، لا يدانيها أحد.. وعاش من صدد آخر العبادة بمستوى إنساني، بحيث ظلت وصاياه تؤكد الصبغة الواقعية والعملية والاعتدالية التي أراد أن تكون عليها الأمة في استمساكها بالشرع وتطبيقها لمبادئه فروضا وتعاملات: «إِنَّ هَذَا الدِّينَ مَتِينٌ، فَأَوْغِلُوا فِيهِ بِرِفْقٍ»[7].
والجنوح إلى التشدد في العبادة جائز، لأنه عزيمة فردية، لكن الدعوة إليه لن تسلم من مخاطر حمل الناس على ما لا يطاق. من هنا رأينا الداعية كولن يشدد على يسرية الشرع: "التيسير هو روح الدين، فمن أراد جعل الدين صعبا لا يطاق انسحق هو تحت هذا الثقل، بينما الدين المعيش في دائرة الاستقامة سهل ويسير يقول -صلى الله عليه وسلم-: «ِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ»[8]"[9].
ولا شك أن السيرة الشرعية التي يحياها كولن في واقعه ومعيشه وعلاقاته، هي من الانضباط الحدي البليغ.. فهو يعيش التبتّل في أزكى صوره، وهو حري بما بات عليه من منزلة ومكاسب قلبية أن يدعو إلى التشدد، لكننا رأيناه يرسم فلسفة روحية تجعل الدين السمح، المزكي، المتوازن، قاعدة للحياة، ومجلى للالتزام الإيماني.
وليس لكونه طليعة في مجال الدعوة إلى عالمية الإسلام، يكون اختار شعار اليسر والاعتدال كسبا لمسلمين جدد.. كلا، فإن رؤيته الدعوية تضع من خطتها أن تكون سلوكات المسلم بذاتها دعوة، ويكون مستواه المدني والعلمي والأخلاقي دعوة، وأن تضحى ردة فعله إزاء المحيط الذي هو فيه، والأحداث التي تطرأ على المجتمع الذي يستقر به، دعوة.. فالقدوة محكٌّ مناسب للفت الناس إلى حقيقة الشريعة الإسلامية، ولم يهيّئ الله هذه الشريعة لأن تكون رحمة للعالمين إلا لأنها كاملة الأركان، لا تحتاج إلا إلى الجماعة التي تتقمصها وتخرجها للناس في صورة سلوكات وتعاملات، حتى تلقى القبول والانتشار تلقائيًّا.. ذلك لأن النموذج السلوكي الأكمل، يجد في الأغلب طريقه إلى القلوب دونما حاجة إلى دعاية أو إشهار.
إن صلاحية الإسلام تتمحص اليوم بشكل خطير وسافر ودقيق، وسيتصاعد التحدي للإسلام غدا أكثر وأكثر بما يطرأ على الحياة من تجديدات تمس في جلها الثابت من القيم، والراسخ من المعتقدات، والوطيد من المسلمات. إن الإعلام الذي تديره وتحتكره قوى عالمية وتستلب به وعي المجتمعات والشعوب، باتَ هو المعلِّم والموجه والسلطة، بل وبات هو الأسرة ورابط العُشرة.. فشخوص المسلْسلات وأفلام الكرْتون مثلا، هي شخوص حميمة، ولصيقة بمواجدنا، وأكثر قابلية لاستدرار مشاعرنا من كثير من الشخوص الواقعية التي نتواصل معها بالدم والمساكنة.. إن ثقافة وفكر وأخلاق عالم السمعي البصري هي التي باتت تنْفذ إلى بواطن الشعور واللاشعور لدَينا.. من هنا تزعزعت المنظومات القيمية التي ظلت المجتمعات تتوارثها، وبات تأثير تلك المنظومات العتيقة متراجعا، بعد أن حلت محلها منظومات افتراضية يسكها ويصبها يوميا في دواخلنا السرد السمعي البصري.
وإن دور الإسلام هو أن يكفل الوقاية والمناعة للمجتمع، فليس في وسع الأسرة المسلمة أن تعيش بمنْأى عن الانْتَرْنيت وأخواتها من وسائط الاتصال.. فإذا لم تتوفر هذه الوسائط في البيت، فهي وافرة في الشارع والمؤسسة وعند المعارف والجيران، ولن يحول بين فظائعها ومهالكها وبين الناشئة، بل وبين الأوساط عامة، إلا التحصن بالدين الذي من خاصيته -عند التفعيل- أن ينمي في النفس إرادة الغض والتعفف والرقابة الذاتية.
حقا إن الأمة المتطورة علميا ومدنيا تستطيع أن توفر لمواطنيها البرامج المتوزانة، تصنعها وتملأ بها فضاء المواطنين، وتلبّي شتى الأذواق، وتسدّ مختلف الحاجات، وتغطّي سائر المناحي. إنما الأمة المسلمة -في جل أقطارها- ما زالت في الرغام، غير قادرة حتى على مجرد مباشرة التجريب التصنيعي والتعميري الحيوي والفعال، الأمر الذي يجعل البيئات المسلمة عرضة لاختراقات وتأثيرات ثقافة الآخر بكل مفاسدها.. من هنا يتأهل الدين -إذا ما فُعِّلَ- للتصدي، بحيث تكفل الثقافة الدينية النيّرة للمجتمع أن يتحكم في ما يتلقى من مدونات، وأن يعمل على تصفية ما يصله من إعلاميات، واختيار ما يعرض عليه من سرديات. بهذا الدور الدفاعي الحيوي تبرز حقيقة صلاحية الإسلام لكل زمان ومكان.
والخطورة نفسها قائمة في ثقافة المؤسسات وفي التعاملات وفي النظم. إذ العالم قرية، والمجاميع المسلمة لا تفتأ تستهلك النظم والبرامج والأساليب التعاملية الوافدة، فهي من ثمة مطالبة بالتحصن بالعامل الشرعي، فإذا كان هذا العامل الشرعي متشددا وغير مرِن، تعطّلت مصالح المسلمين.. وبالمقابل إذا تُجُووِزَ وتَعَطَّلَ العاملُ الديني أو تُسُوهِلَ فيه، طَمَّ الخطْبُ وعم الضرَر وتهالكت الجدر.
إن الدعوة إلى التيسير كما ينادي بها الأستاذ كولن، تجعل من أهدافها أن الجهد ينبغي أن يبذل بأقصى ما يمكن من الإصرار من أجل بناء البيئة والمجتمع الإسلامي المتكامل الذي لا يحتجز الأمة عن العالم، وإنما يقيم الكيان الذي يكون له من قوة الاستقطاب والمنعة والاكتفاء ما يجعل الآخرين يقبلون على الإسلام أفواجا.
صلابة الإسلام صلابة ذاتية، كامنة في سهولة تطبيقاته وفي طابعه العملي والالتزامي، الفردي والجماعي، إذ هو فرائض وأخلاق بارزة للعيان، فلكأن الشأن في هذه الفرائض والأخلاق منوط بالجماعة والمجتمع، أو لكأن الجماعة هي المسؤولة على تفعيلها.. فالفرد المسلم -من بعض الوجوه- مسوق إلى الدين بالشرط الجماعي، ففي ترجيح كفة صلاة الجماعة (والجمعة) إِلزام له بحضور الصلاة، وإلا شذ عن الجماعة.. وإن روح تبادل المصالح والتشارك والتعاون والتراحم التي تشرط الفرد المسلم في محيطه الاجتماعي، تملي عليه أن يكون مندمجا في دائرة الجماعة، ليس فقط بدافع اجتماعيته وإنسانيته، ولكن أيضا ضمانا لمنافعه ومصالحه، وإلا فاتَتْه ثمرة المكاسب (المادية والمعنوية) التي يجْنيها الفرد من الروابط التي يولدها التجمع والجماعة، وإن المسجد ليفتح المجال واسعا في وجه تمازج الفرد مع المحيط، الأمر الذي يجعل من واجب تأدية الصلاة الجماعية مدخلا كريما وميمونا ومؤهلا لتحقيق الاندماج.[10]
ونفس التبعات تلحق المسلم عندما تتوطد اندماجيته في الجماعة، إذ إن بقية الأركان الشرعية تدفع إلى التواصل، وتعمل جميعا على تقوية الأواصر بين الفرد ومحيطه. فمبدأ إيتاء الزكاة (أداء أو نيلا)، والقيام بالحج، وكذا إِحياء المواسم الدينية، فضلا عن أنواع المداخلات والمشاركات التي تنشأ بين الفرد والجماعة بحكم التعامل وبفضل روح التضامن والترابط التي تزيدها -حتما- أطوار الحياة واقتضاءات الواقع والتقارب قوة واستحكاما.. إن ذلك كله يُفتِّح المسلم على الجماعة، ويكيّفه مع الدين الذي هو أبرز لاحم بين الأفراد.. وإن جماعية العقيدة الإسلامية تتميز بصبغة الاستقرار والثبات، إذ لا ينبغي أن يطرأ على الشعائر، وبالتالي على روح العقيدة، أيّ طارئ يزيحها عن أسسها، وإلا حصل التحلل من ربقة الشريعة.. الأمر الذي يجعل من الدين الإسلامي الدين العملي الذي لا يأتيه الباطل، باطل الانزياح والتحوير المبدئي، لا من بين يديه، ولا من خلفه. فهو بهذا الطابع الجماعي (المشهود)، والصبغة العملية، التطبيقية، دين ذاتي القوة، وذو روحية قائمة على التيسير، والاستدراك، والقضاء[11] عند الاضطرار.
ولما كان كولن إنساني الرؤية، ذا فلسفة دعوية كونية، فقد أرسى مسطرة منهجه على شعار اليسر والتيسير الذي يراه جوهر العقيدة الإسلامية، ومميزها، وطابعها الأصيل الذي إذا ما حادت عنه، تعطلت الدعوة، وتأجل موعد تلاقي الأمم مع الدين الذي شاءه الله أن يكون دين البشرية قاطبة.
كان على كولن أن يعمل على إعادة توطين الإسلام في بلاده من جديد، بعد أن جهدت قوى الردة في إطفاء مصابيح الدين في المجتمع وبين الأوساط، واختلقت نخبا وطبقات أهلية متفرنجة، مجافية للدين تماما.
تَبْـيِـيـئُ القيمِ الإسلامية كان أفقا ظل كولن على مدى عقود يُصعِّد من الاستراتيجيات لبلوغه. لم يكن متاحا له في تلك العقود أن يباشر النقاش العلني، وعقْد حلقات الجدال والإقناع التي كان في إمكانها أن تبصر الناس، وأن تسهل من مهمة إعادتهم إلى العقيدة.
لم تكن قوى التغريب تتوفر على الاستقلال الذهني الذي يؤهّلها للمواجهة الفكرية، إنما كان كل عدتهم أنهم يردّدون -ببَغائيًّا- أحكاما ومقولات حاقدة على الدين، تلقنوها -في الأغلب بالسماع والاحتذاء الأعمى- عن الغرب الذي ناهضت فلسفاته المادية الشرائع السماوية، لعلل تاريخية معروفة.
وإن ازدواج معاناة كولن في عراكه مع الفاشيين، أنه كان يواجه قوى الاستلاب التي لم تكن تتوفر على وجاهة الحجة وقوة الإقناع والسجال الفكري الموضوعي، إلا شعارات أيديولوجية سخيفة تبنَّتْها عقيدةً ظنّت أن الاعتداد بها سيحقق للإنسان التركي الجنة الأرضية. لقد لبثت الفلسفة الجحودية تمثل مصدر ثقافة النخب المستلبة المتسلطة على الحكم، تلك النخب التي لقفت عن الغرب روحيته الحاقدة على الإسلام حصرا، فجعلت في صدارة أهدافها اضطهاد الدعاة وإخراسهم، ومحاربة قيم الأصالة، وتعميم ثقافة أجنبية في البيئة والمجتمع التُّرْكيّين.
كان السبيل الوحيد أمام كولن أن يستمر في العمل بحذَر، وأن يوسع من دائرة المتنورين، واضعا في حسابه حتمية حصول التغير في الوضع الأيديولوجي والجيوسياسي من حوله، إذ كانت تعاليم القرآن تعزز لديه اليقين من أن دولة الإلحاد آيلة إلى الانهيار، وإن طال بها العمر.
لم يكن نظر كولن يترصد سياسة بلاده فحسب، ولم يكن يضع في الاعتبار أحوال السياسة التي كانت تديرها أقلّية من السلطوية التركية وصنائعها من طوائف اللائكيّين المتشدّدين.. تلك السياسة التي كانت تجعل من محق كل مَنْشَطٍ ديني أهلي هدفها الأول.. بل لقد كان كُولن يترصد خريطة الأيديولوجيات والترابطات الجيوسياسية التي كانت تقسم العالم إلى معسكرات، وتملي وصاياها على البسيطة، وتمتد بتحالفاتها عبر الأقطار والقارات، وتقوي من النظم المستلبة المتحالفة، وتوفر لها الحماية وأسباب القوة للاستمرار، وتمكِّنهم من القدرة على بطش المعارضة الداخلية.. وكانت تفاقمات الأيديولوجيات الداخلية والخارجية لا تزيده إلا إيمانا بقرب أوان الانفراج، فكان ذلك يقوي لديه أكثر فأكثر من حمية المرابطة ومواصلة السعي.
لقد ظل الإيمان يُمثِّل مصدر الخطر والصدد الذي يؤرق نظام الأقلّية السلطوية في تركيا. من هنا كان حجم تلك الشراسة التي ظل الفاشيون يلاحقون بها رموز الصمود، ولقد كان كولن طليعة أولئك الرموز المستهدفين الذين نالهم ما نالهم من ألوان الشر على أيدي هؤلاء، ولقد أيقنت تلك الفئة المتشددة مدى المخاطر التي بات نشاطُه يمثلها لمصالحهم الذاتية، فقطعوا بالحكم بتصفيته الجسدية.
بقي الإيمان قوة كامنة يتعهدها كولن والمصلحون، كل في جبهته وبما تُتِيحه له ظروفه.. ورغم المحن فقد لبثوا يراهنون على انبعاثه لا محالة، ورجعته بكل تأكيد. ولم يخلف الله وعْده المؤمنين، إذ انهارت الشيوعية، وها هي الرأسمالية اليوم تمضي في حال من العرج والترنح، وسيكون مصيرها لا محالة مصير الشيوعية.
انقشع الوضع بعد انهيار الشيوعية، وأذّن كولن في المؤمنين الأتراك، فانبعثت كتائب التثمير إلى الخدمة، وباشروا الدعوة على صعيد فقه التعمير كما أرسى مسطرته وفلسفته كولن.
كانت عقود الجهاد والتزكية قد أثمرت وهيأت له الصيت الروحي الذائع، والمكانة الاعتبارية الراسخة بين أوساط المجتمع التركي، لقد تحول كولن إلى رمز بفضل صبره وديناميته وحكمته وثباته على الطريق، وتكيفه الموفق مع الوقائع، واقتداره على التعامل معها بالدقة والفطنة التي مكّنته من النجاة وتحقيق الفاعلية.. وبذلك أضحى يمثل ظاهرة إصلاحية تسجّل الفتوح باستمرار، وتكسب الأشواط باطراد، وتستقطب الأتباع المتطوعين على الدوام.. بل لقد أضحى واجهة حراكية بارزة، ومفاعلا معنويا راسخا، يؤثر في الأوضاع الاجتماعية ويساهم في توجيهها بفضل ما بات له من رصيد الإكبار، ومن وجاهة انتزعها بالكدح ومداومة التزكية. لقد أتاحت له عقود التمحيص والاحتساب أن يضحى قمرا منيرا في سماء تركيا، ورقما اعتباريا على خريطة الوطن.. وما لبث أن تفتّحت له أبواب الدواوين والمؤسسات الحكومية، وتهيأت له طريق التواصل مع النخبة من رؤساء أحزاب ومن رموز سياسيين بشتى التوجيهات، ظّلوا يديرون سياسة تركيا ويتداولونها عقودا متتالية.. وهكذا صار محاورا مع القوى التي ظلّت تحاربه وتناهض توجهه الإيماني، وبذلك تمكَّن من أن ينشئ جو حوار وطني لم تشهده تركيا المعاصرة من قبل، وترتب عن ذلك الحوار المثمر، والتواصل المرشَّد، إنشاءُ مؤسسات ثقافية وفكرية عمومية مفتوحة على التيارات بمختلف مشاربها.. وبذلك غدا كولن يشارك بطريقة أو أخرى في صميم الأداء السياسي لبلاده، رغم إمساكه المبدئي عن الخوض في السياسة بصيغتها الحزبية السفسطائية المعروفة.
لقد يَسّر عليه أن يبلغ ذلك المستوى الباهر من النفاذ والمقامية في تركيا وبين المحبّين، سيرتُه الإيمانية المفعمة بالإصرار، ونهجُه الروحي والبيداغوجي الميمون، وكارزميتُه الصميميّة التي لا مراء فيها.
العَلمُ أو الإيقون، حين يستوي اسما استقطابيا مكينا، ومرجعية إحالية راسخة، يكتسب من الخصوصيات الروحية والاعتبارية ما يجعل منه قوة مؤثرة ومفاعلة للمجتمع والجماهير من خلال العلاقة السحرية الاستثنائية التي تنشأ بين القطب والفئات.. بأدنى الإيماءات تتحرك الكتل إلى الفعل، وتتنافس وتتفنن في التنفيذ.. إن شخصية القطب تتحول في مواجد الناس إلى ماهية عليائية طافحة بالأسرار والمعاني والإيعازات الروحانية.
وإن التفوق الذي يبلغه رجال الدعوة (رجال الله) في ذلك السبيل الشاق من التزكية والشفوف، والذي طفقنا نقرأه في سيرهم خوارقَ وكراماتٍ، إنما تترجمه هذه العلاقة الإشعاعية التي تصل بين الداعية الروحاني وبين الجماهير. إن الأوساط لا تفتأ تقرأ في سيرته العامرة بالبر والمحامد، المعاني اللدّنية (أي القرب من الله)، الأمر الذي يجعل القلوب تتشرع لمحبته (الداعية)، بل والتناهي في تلك المحبة، فيشتحنون نتيجة لذلك بالقوة، ويستمدون منه، بالتأثر، وبما ينشأ لديهم من قابلية، مدود العزم والنفاذ، وينعكس ذلك على كثير مما يفعلون وينْجزون، وهو ما يجعل معنى البركة والتوفيق يظهر عيانا للناس عن ذلك السبيل.
لقد تجلّت هذه الحقيقة الروحية في علاقة كولن بالمجتمع التركي، فنتج عن ذلك قيام دينامية بناء وتجهيز كبرى. لقد أرسى منظومة قطاعات نهضوية حيوية متكاملة، شملت حقول التربية والإعلام والاسثمار والخدمات وحتى ميدان البحث العلمي.
بل وهيأ مجالا للتفتح الخارجي ومد دينامية الدعوة والخدمة إلى كافة القارات، بما في ذلك تخصيص منح للطلاب الأجانب، سواء من الدول الإسلامية أم من غيرها. ويدخل ذلك التوجه في إطار برامج الدعوة وفلسفة التبليغ كما يرسم لها الأستاذ كولن في مرحلة الانفتاح والعولمة.
ومما لا شكّ فيه أن كولن يرى أن هذا الانحطاط الشنيع الذي آلت إليه الأمّة إنما كانت علّته انحرافها عن الجادة، وإخلالها بحقوق الله، إذ بمراعاة حقوق الله تنكفل حقوق العباد، وتستمر شروط جدارتهم بالتكريمية وطيدة.
وأبرز ما تظهر عليه أحوال التردّي الحضاري هو هذه الوصمة الانهزامية الوخيمة التي مني بها المسلم، فأضحى مستكينا، مهين النفسية، عرضة للعسف الأممي، بلا شخصية ولا توق، محصورا في رقعته مكبل الإرادة، محتلاًّ في موطنه مستسلما للحطة، تطبق عليه حال الغباء حتى لا يكاد يستشعر واقع الكارثية الذي يحياه، وإنها لأوضاع تقتضي التعديل والتجاوز.. من هنا كانت إحيائية كولن ترى لزوم استهداف الكيان الداخلي للفرد المسلم، وإعادة بنائه من جديد، على الأسس الأصلية ذاتها التي أنجز بها الأماجد المحمّديون ماضينا الحافل بالعظائم.
ومما لا شكّ فيه أنه لا استحقاقات في الحياة لأمة فرطت في رصيدها القيمي، وهدرت مخزونها من العزة، وباتت عطلا، شوهاء، سادرة في الخمول، توطّنت فيها المهانة، بحيث لا تستجيب لتقريعات الزمن إلا بما يزيد من وهنها، "لا يتصور أن يتحقق نجاح عظيم أو الحفاظ على نجاح قد تحقق على يد أناس فقراء في قيمهم الإنسانية وضعفاء في شخصياتهم"[12].
وإن أساس النهضة وعمارة الأرض يتم بتفعيل الإنسان، وترميم شروخ روحيته، وإعادة صياغته نوعيا، على ذات الطراز النوعي الذي أرست معاييره البعثة النبوية، وجسّدت نفاذيته منجزات الصحابة ومَن لحق بهم من أجيال القرون الذهبية الأولى.
إن عُدّة النهضة في مخطط كولن وقوامها يتشكل من النخب والطلائع العاملة في ميدان الدعوة. وإن دورهم في بث ثقافة التنوير والانبعاث لحاسمة. من هنا طفق كولن يشدد على خصوصية المثال المتكامل من السموّ الروحي والمعنوي الذي ينبغي أن يكونوا عليه، حتى يتأهّلوا للمهام الإحيائية التي يضطلعون بها.
إنه يطمح إلى أن يكون الصفوة من الساعين على طراز أصيل من المتانة الروحية ومن التبتّل والخلوص القلبي. إن أعظم خَدَمَةِ الحياة هم مَن طلّقوها، وعملوا فيها لا لأنفسهم، وإنما وُكلاء عن الحق، مالك الملك -جل جلاله-، وبذلك نالوا السلطنة، وتوجتهم الجماهير ملوكا أبَديّين، وكلّلتهم سجلات التاريخ، بالقار والمجادة.
وإن الجهوزية المثمرة، القادرة على التجاوز بالأمة وضع السقوط المزمن الذي تعيشه، لا تتم إلا بالتسلح بالعلم ومعه الأخلاق المتوجة بالتزكية واكتساب حس الآخرة.
لقد بنى كولن تصوره للنهضة على تشكيل صفوة طليعية تستوفي شروط التكوين، من خلال اتصافها بالفتوة، وبالعلمية وبالاحتسابية. فالقاطرة التي تجر العربات هم النخبة التي تلقّت تكوينا عميقا في العلم الشرعي على يد الداعية، وتزوّدت بالاستنارة المعرفية العصرية، وتدرّبت على التمرس على التريض القلبي الذي يجعلها تستعذب الأداء وتستذيق ذاتيا مراءة البذل والتضحية. إذ ليس كمثل الدافع القلبي ضامنا لاسترسال الجهد والمواظبة على البناء وتقديم الخدمة.
يدرك كولن أن الأيديولوجية السياسوية إيمان عرضي لا يدوم ولا يَسلم من الانتكاسات لدى العثرات أو الصدمات والخيبات؛ فالأيديولوجية نار هشيم لا تتجدد ولا تبقى.. لذا يعول على استزراع القيم الروحية في مواجد الطليعة المتنورة، وحقن مفردات الروحانية في قلوب العاملين، وإن كتاباته[13] في ذلك الاتجاه هي داعم تربويّ وبيداغوجي يندرج ضمن الرؤية التكوينية والترشيدية (الرسكلة) التي يراها لازبة، ولازمة، لإدامة عامل الاشتحان والحيوية والمضاء.
ولا غرابة والحال هذه، أنْ نراه يؤكّد أن صفة "العالم" لا يحوزها بجدارة واستحقاق إلا عالم الشرع، ذلك لأن كولن يدرك أهمّية الدين في تجهيز الفيالق، وفي إدارة المعركة، وحسم جولاتها، لذا تترجح عنده الأهلية الشرعية على ما سواها؛ فالعالم القمين بهذه الصفة، هو عالم الشريعة والدين، ولا ريب أن هذه النظرة هي التي سادت قديما عند المسلمين، فالعلم الحق كان يعني عندهم الفقه وثقافة الفتوى، ولئن بدا لنا اليوم ضيق وانحسار هذه الرؤية، فلأنها لم تراع التوازن في منظومة المعارف، الأمر الذي ترتب عنه التفريط في علوم الدنيا، والاستخفاف بعلوم المدَنية، وهو ما أودى بالحضارة الإسلامية، ذلك لأن الاعتداد بعلم الشرع وحده، جعل يتراخى باطراد هو أيضا، لأن الرثاثة التي سرت في المدنية بانبخاس المعارف، انتهت إلى المعرفة الشرعية، ونالت منها، فأضحت تتراجع وصارت نظميات ومختزلات، وضمرت روحية الأمة بجفاف معينها العاطفي والأخلاقي والقيَمي، وتعمّقت هوة الانفصال بين الإسلام والمسلمين، وبذلك حصل الخسران.
من هنا يلحّ كولن على وجوب إعادة اللحمة بين الدين والدنيا، ولهذا فإن دَور العالم الشرعيّ يغدو اليوم دورًا أساسيًّا، بالنظر إلى أن الأمّة بصدد تدشين مرحلة من الوثوب والفكاك النهائي من نائرة التردّي، لأن الإصابة التي أودت بالأمة أضرّت بالروح، وإن العلاج ينبغي أن يكون روحيا بالأساس، لأن العقيدة هي العامل. الإطار الذي يهيّئ الأرضية التي تقام عليها دعائم النهضة. فإذا تعافت الروح، تيسّر على الأمة أن تستدرك كل ما فاتها في حقول المعرفة الدنيوية والمهارات المدنية.
واستراتيجية كولن تترقى إلى أهدافها بمنطق التدرّج. فالأمة التي عاشت طيلة أجيال متلاحقة تحت وطأة الإلحاد والجحود، لا يمكن أن نركّز -ونحن نرشدها إلى مبادئ دينها وفلسفة عقيدتها- على الجوانب التي تبدو ثانوية قياسا بالركنيات والأساسيات.. من هنا رأيناه يعتمد خطّة تقديم الأهم على المهمّ، ليس لأنه يرى أن العقيدة تفاريق وإقطاعات تؤخذ بالتجزئة، كلا، إنما همّه أن يسلك بالجماهير والنخب التي طالما غيّبتها الأيديولوجية الإلحادية عن الشرع، المنهج التذْويقي المفيد. فبدلاً من أن تستثار أمامها قضايا ذات طابع استكمالي، توضع أمامها المبادئ الروحية التي -حين يتحقق استيعاب الجماهير لها-، فإن قابلية الاستكمال تتهيّأ لدى تلك الجماهير. وعندئذ تجد الناس يسعَون هم بذواتهم إلى استيفاء شروط تديّنهم.. ومن ثم فلا ينبغي أن يتهوّر المسلمون فيجعلوا من نقاط الخلاف المعلن نقطة الانطلاق إلى بناء الغد ونشدان النهضة. ذلك لأن كولن يرى أن تعميم قيم العقيدة وإشاعة ثقافة الدين على نطاق جماهيريّ واسع يقتضي التدرّج بالناس (وإِخراجهم من تغريبيتهم بحكمة التيسير) والسير بهم برشد عبر منهج يتيح لهم أن يكتشفوا عظمة دينهم من خلال التعرّف على أسسه الإنسانية وأركانه الأخلاقية، فإذا ما تم لهم حظٌّ من ذلك، انقلبوا بأنفسهم إلى التفاصيل الشرعية يحتضنونها، وإلى التفاريق العقدية يعتصمون بها، ويستكملون كلية إيمانهم.
- تم الإنشاء في