الفصل الثاني : فتح الله كولن.. الارتحال بالأمة من فقه النازلة إلى فقه النهضة
فهرس المقال
- الفصل الثاني : فتح الله كولن.. الارتحال بالأمة من فقه النازلة إلى فقه النهضة
- كولن.. مؤسس فقه النهضة والتعمير
- الفقه في مهب المصادرة الأيديولوجية
- كيف حدثت نكبة المسلمين في العصر الحالي؟
- تركيا من دور الحاضن إلى دور المنقلب
- على خطا نهج الفقه الأكبر
- مبدأ تداول المشترك الإنساني
- اجتهاد التأصيل والتصويب
- الفقه التمويلي
- جميع الصفحات
كولن.. مؤسس فقه النهضة والتعمير
يحتل كولن اليوم مقدمة الصفوف بين صفوة العلماء والمفكرين الأتراك الذين جعلوا من قضية الإصلاح والانبعاث همَّهم الأوكد، وشاغلهم الرئيس، يحدوهم إلى ذلك حس ديني يملأ الصدور، وإرث حضاري شواهده العينية الفخيمة لا تفتأ تستنهض الإرادات، وتُذكِّر أهل النعرة بأمجاد الماضي، وتُشرِّع في وجوههم آفاقَ مستقبلٍ معالِمُه مرسومةٌ، إذ هو طريق مهيّأ لأن يمضي بلا انقطاع ولا انحراف، ويسترسل وفيا للروح التي كفلت للأمة العزة التاريخية والريادة الحضارية في العالم، على مدار عشرة قرون.
لا يزال كولن يعلن في كتاباته بأنه يمثل حلقة ضمن سلسلة ذهَبية من الأسلاف المباركين انبثّوا عبر العهود والمراحل، وعاشوا متفرّغين للكدح والتنسك والدعوة إلى الله، وإرساء أسس الإحسان وخدمة الأمة.
وإن وثاقته الروحية المعلنة مع سلك أسلافه الأعلام والأقطاب الأتراك العاملين، لتُعَدُّ أولَ شاهدٍ على أصالة الوجهة الإصلاحية التي ينهجها، إذ هي وجهة تحرص على أن تكون ضمن المد الإحيائي الذي طفق أولئك الأخيار من بني قومه يضطلعون به، كل في مرحلته واختصاصه، ينهضون بواجب الدعوة، حاديهم الإيمان والاحتساب والغيرة على الدين المحمّدي.
إن الطابع الاتباعي الصريح الذي يصدر عنه كولن في نهجه الإصلاحي، ينسجم مع روح التجرد التي تميز سيرته، فهو من السادة العاملين الملتزمين بقواعد السلوك الذين يعيشون الامّحاء، فلا يشغلهم شاغل النفس ووسوسة الأنا النازعة -فطرة- إلى الظهور والبروز، عن الانخراط الكلي في السعي وتسديد خطط الخدمة وبرامج النهوض، إذ لا ينتج عن الحرص على تحقيق التميز الشخصي والظهور الذاتي الذي يطبع جهود الكثير من الدعاة اليوم، إلا الترهل الروحي وانحسار الفاعليات والجهود، فلا تصب في النهر المشترك، وهو ما يجعل الهمم تعجز عن بلوغ الأهداف العليا، لأنها منوطة بالفردية والزعامة والعنوانية.
لذلك ألْفَينا كولن لا يفتأ يؤكد التنبيهات على المخاطر التي تتهدد العمل البنائي متى ما داخلت القائمين به روح الذاتية، وتراجعت في نفوسهم ضوابط التسامي والتجرد. بل إنه لواضح أن الداعية كولن، لَيَحرص الحرص كله على ألا يترتب عن جهود الإحياء التي يبذلها العاملون أي تشرذم لصفوف المجتمع، إذ إنه يعي مدى الهدر الذي يحدثه الانقسام والفرقة والتشتت حين تتوزع الأمةَ التياراتُ والطوائفُ، وتتقاسمها التحزُّباتُ الفكرية والتعصباتُ الروحية، وتأسرها شتى الجاذبيات، وتَحُدُّ بذلك من انطلاقة الأمة، إذ تفقدها فرصة التركيز والتسديد الجماعي النافذ والحاسم.
فانخراطية كولن في المحج الإصلاحي تعتمد خطة واعية ومؤسسة على اعتقاد راسخ بأن كل جهد صادق رصين لا ينبغي أن يخرج عن نطاق المسار العام الذي أعطى محمد -صلى الله عليه وسلم- دفعته الأولى وشارة انطلاقه البدئية، ذلك لأن كولن يؤمن أن كل هبَّةٍ تتحقق للأمة، وكل وثْبة تتمكن من تسجيلها، في أي عهد أو عصر، إنما هي صدى واستجابة لروح دعوة محمد -صلى الله عليه وسلم-، وتوفيق أتيح للعاملين، وإسهام منهم، وحظ لهم، لا ينبغي أن يسيئوا له بإخراجه عن أصله، وعزله عن طبيعته الاستراسالية المحمدية ضمن حركة التاريخ وانعطافات مسيرة الأمة.
فكل اشتغال جماعي تطغى عليه الحسابات الضيقة والاعتبارات الشخصية، جهد تستفرغه تلك الاعتبارات والحسابات من جدواه، وتزيل عنه البركة والتأييد الإلهيَيْن، وتدرجه في عداد الظواهر التي لا طائل من ورائها ولا ثمرة لها، فأَجْرِيّته -إن كانت له أجْريّة- هي ما تحقق للقائمين عليه من ظهور صوري، وعنوانية عارضة، لا غير.
- تم الإنشاء في