الفصل الأول: قراءة في البناء القرآني للفكر العلمي

تمهيد

يقول الأستاذ فتح الله كولن في معرض ذكره لأسرار حيوية المسلمين الذين فهموا القرآن حق فهمه: "إن سر حيويتهم الدائمة فيهم كامن في الجو الذي كانوا يعيشونه، فأولئك كانوا يستمعون إلى القرآن بقلوبهم ومن غير حكم مسبق، ويؤمنون به بإخلاص تام، ويتوجهون إلى الله -سبحانه وتعالى- في نور هذا الكتاب الجليل، ويحبونه من أعماق قلوبهم. وكانوا لا يتوقفون عند حدود الحب، بل كانوا يسعون بكل شوق عميق في سبيل تحبيبه إلى كل الناس، وجعله مقبولاً لديهم يعتنون به أشد الاعتناء لئلا تتلطخ مشاعرهم وأفكارهم الإسلامية بألوان نزواتهم، ويسعون إلى الترنم بالإسلام وتمثله بذات لونه ونقوشه وبهائه. فلذلك كانوا يتلقون من المخاطبين الجواب الصواب"[1].

فكيف بنى القرآن فكر هؤلاء على هذه القيم التي نورت قلوبهم ففهموا ورأوا عظمة الحق في كل شيء، حتى قيموا الأشياء بعقولهم ومنطقهم التقييم الصحيح الذي مكنهم من تحويل المعلومة إلى قوة محركة في ذواتهم؟

ذلك ما سنحاول -وبالله التوفيق- الوقوف عليه في فصول هذا الباب.

أسس بناء الفكر العلمي في القرآن الكريم

يقول الله تعالى: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ)(الزمر:9). في هذه الآية، ذهب جمهور من العاملين في الحقل الديني، إلى إرجاع العلم المراد في الآية إلى العلوم الدينية مُقصيًا بذلك كل العلوم المكتسبة؛ كالرياضيات، والطب، والفلك، والطبيعيات، وغيرها مما هو عقلي التحصيل على اعتبار أنها من صنع العقل البشري والعقل مجبول على القصور.

بالمقابل، ذهب في الاتجاه المعاكس أهل العلوم المكتسبة إلى حد اعتبار العلم هو ما أنتجه العقل، وبالتالي فالعلوم الدينية لها مجالها الخاص بها ولا ينبغي لها أن تقحم أنفها في مجال الدنيا الذي يبقى من اختصاص أهله كما زعموا. وهذا من شأنه أن يحدث بين أهل العلوم الدينية وأهل العلوم الدنيوية قطيعة لا يقر بها الإسلام الذي لا يعرف الفصل بين العلم والدين، كما نجده واردًا في تحليل الأستاذ فتح الله كولن الذي أعلن ذلك قائلاً: "الابتعاد عن العلوم الوضعية بحجة أنها تؤدي إلى الإلحاد، تصرّف صبياني، أما النظر إليها وكأنها تعادي الدين، فهو حكم مسبق وجهل مطبق"[2].

فالمفسرون قالوا بخصوص فعل "عَلِم" في هذه الآية، أنه يحتمل أن يكون لازمًا أو متعديًا. فإذا كان لازمًا فهو يعني جميع العلوم بلا تمييز بين ما هو ديني وما هو دنيوي، أما إذا كان متعديًا فالمفعول به المحذوف سيكون هو القرآن، أي "الذين يعلمون هذا القرآن". وبالتالي في كلتي الحالتين، يُفهم أن العلم المطلوب لا يفرق بين ما هو ديني وما هو دنيوي، لأن القرآن -وإن كان هو المقصود بالعلم في هذه الآية- فإنه كما جاء بالأحكام الشرعية كذلك، جاء بالإشارات الكونية التي تستدعي المفاهيم العقلية.

وهنا نجد الأستاذ فتح الله يقول في معرض تبيانه لمعنى هذه الآية: "أي هل العلم الذي يأخذ بيد الإنسان إلى الله تعالى سواء مع الذي يسجن الإنسان في المختبر؟ وهل يستوي العلم الذي يوصل من يراقب النجوم أمام التلسكوب ناويًا أن يصعد بمدارج من نور إلى الله -سبحانه وتعالى- والعلم الذي يسمر نظره في النجوم وأنظمتها؟ وبتعبير أوضح، هل يستوي هذان اللذان يملك كل منهما زاوية نظر مختلفة عن الأخرى؟ أظن أن الفرق بينهما كالفرق بين "لا شيء" و"كل شيء". فالعلم الموصل إلى الله -عز وجل- "كل شيء"، والذي يتركك في الطريق "لا شيء"[3].

وعلى هذا الأساس، فإن نحن أدرنا عجلة الفكر فقط في العلوم الدينية وأوقفناها فيما عدا ذلك، فسنكون قد عطلنا جانبًا مهمًّا من جوانب الدين ألا وهو التفكر في يقينيات الكون. كما أننا بالمقابل، إذا حركنا آلة الفكر فقط في العلوم الدنيوية وأوقفناها في العلوم الدينية، فسنكون قد عطلنا جانبًا مهمًّا من جوانب الفكر ألا وهو الاعتبار. وعليه فلما كان العلم في القرآن يستدعي سعة في الفهم تتجدد مع تطور فكر الإنسان، جاء خطابه مؤصِّلا لفكر علمي قوامه الواقع والعقل والوحي.

فكيف أصّل القرآن الكريم على هذه الأسس الثلاثة بناء الفكر العلمي؟ وكيف جعل هذا البناء قاعدة لبلوغ اليقين؟

يعتبر الفكر العلمي أساس بناء اليقين كما نستشف ذلك من قول الله تعالى: (وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ)(الأنعام:75). ومن أصل هذا البناء تتفرع اليقينيات العلمية كتثبيتات إيمانية نافذة من مدارك الإنسان العلمية المستجلبة من الواقع والعقل والوحي إلى قلبه الطالب للاطمئنان.

فالقرآن المجيد بإدراجه لهذه المصادر الثلاثة لليقين يكون سعى إلى استنهاض روح البحث في الإنسان، لعله بكل يقينية تستقر في وجدانه يترقى في سلم الكمال الموصل إلى الله -سبحانه وتعالى-. وعلى هذا الأساس، فإن من المفروض في قراءتنا ليقينيات الكون أن نتناولها من خلال الإحاطة العلمية بالدوائر المعرفية الثلاث:

1- دائرة المحسوسات التي تشمل الواقع الذي هو عالَم الشهادة ومفتاحه الحواس.

2- دائرة المعقولات التي تشمل المغيب عن الحواس الذي لا يدرك إلا بالتفكير، وهو عالم الغيب النسبي ومفتاحه العقل.

3- دائرة الإخباريات التي تشمل المغيب عن الحواس وعن العقل، وهو عالم الغيب المطلق الذي أخبر به الوحي ومفتاحه النقل.

فقد جاء في كتاب الله -عز وجل- الكثير مما يفيد هذا التصنيف، وفي قوله تعالى: (قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)(العنكبوت:20) النموذج الأمثل لهذا النهج. فالآية دعت من خلال السياق الذي جاءت به صيغتها إلى التدرج في هذه الدوائر المعرفية الثلاث، بحيث أشار الشطر الأول منها في قوله تعالى: (قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ) إلى دائرة المحسوسات بحكم أن الأرض تمثل واقع الإنسان، والسير فيها يمكن حواسه من الإدراك المباشر لطبيعتها. كما أشار الشطر الثاني منها في قوله تعالى: (فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ) إلى دائرة المعقولات بحكم دعوته الإنسان إلى النظر، أي البحث والتفكير في أسرار بدء الخلق التي غبرت ولم يعد له عليها رؤية إلا من خلال الآثار، ثم في آفاق النشأة الآخرة التي لم تحدث بعد وليس له عليها دليل إلا من خلال الاستشعار. وبين هذه وتلك، عامل الزمن الذي بفعله تتغير الأشياء وتتسلسل الأطوار. فحتى يمكن للإنسان أن يطلع على هذا العالم الغابر بين بدء الخلق ونشأته الآخرة، كان لابد له من الاعتماد على العقل الذي كما أشارت إليه الآية يُختزل بين عبارتي "انظروا" و"كيف". أما الشطر الثالث من الآية المتجلي في قوله تعالى: (إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فقد أشار إلى دائرة الإخباريات، لأن محتواه من الغيب المطلق، أي الحقيقة التي ليس بعدها إلا الضلال والتي إليها ينبغي أن تؤول نتائج الشطر الأول والثاني حتى يتحقق اليقين العلمي، الذي من أجله جاءت الآية مخاطبة الإنسان.

وبقدر ما تتنامى هذه الدوائر الثلاث في وجدان الإنسان بقدر ما يترقى في درجات الكمال العلمي. وبقدر ما تتعاظم مجالاتها في إدراكه بقدر ما ينال من العلم اليقيني. حتى إذا تداخلت نطقها وتمازجت معالمها، شكلت بينها فضاء متجانسًا للعلم تتكامل فيه عوالم الواقع والعقل والوحي في قراءة تفكرية للكون، هدفها بناء فكر علمي وعاؤه الإنسان الكامل.

فالعلم على اختلاف أصنافه، يجب أن يتأسس على هذه الدوائر المعرفية الثلاث. فإذا انطلقت معرفة الإنسان بالكون من خلال الجمع بين هذه العوالم الثلاثة، تكاملت في وجدانه عناصر الواقع والعقل والوحي فكان من الموقنين، وإلا وقع في سوء الفهم المفضي إلى ظلام الوهم. لأنه بخوضه في عالم واحد أو عالمين من هذه العوالم الثلاثة وتركه للباقي، يكون قد وقع في الإفراط أو التفريط وذلك عين التطرف. فأصحاب العقول المجردة، أحاطوا بدائرتي الواقع والعقل إحاطة مكنتهم من تصنيف كل المصنفات والكشف عن كل المكنونات، ولكنهم لعدم اهتمامهم بدائرة الوحي حُرموا من لذة الإدراك الحقيقي لمعنى الوجود، ومن الاستيعاب الحقيقي لفلسفة الحياة والموت. فعزلتهم معارفهم عن المقومات الراقية للطبيعة، وألزمتهم التقيد بمحدودية منافعها المادية فوقعوا في المادية المهلكة. كما أن أصحاب النقول ممن أحاطوا بدائرة الإخباريات ولزموا الجهالة فيما سواها، وقعوا في ضيق الفهم لنصوص الوحي.

ومن هنا، يجب أن نوقن بأن العلم لا يكتمل إلا إذا نُزّلت دوائره المعرفية الثلاث تنزيلاً متوازيًا على الزوايا الثلاث لمثلث متساوي الأضلع (الشكل 1). أما إذا تم التنزيل على زاوية واحدة أو زاويتين من هذا المثلث، فسيختل توازنه ويميل إلى طرف واحد وذلك هو مفهوم التطرف.

 شكل 1: مثلث الدوائر المعرفية

وبما أن إدراك الإنسان يتوسع بتوسع معارفه، فالغاية أن تتمدد تلك الدوائر لتلتقي في مركز المثلث. هنالك في نقطة التقاطع بين الدوائر تبدأ الإحاطة العلمية بحقيقة الأشياء كما يبين الشكل 2.

ثم كلما توسعت الدوائر المعرفية كلما اتسع مجال التداخل بينها وتفاعلت مكوناتها بتجانس محتوياتها، بحيث يصير المغيب واقعًا، والواقع معقولاً، والمعقول مثبتًا للغيب في يقين الإنسان.

ففي عالم المحسوسات الذي مجاله الواقع وأدواته الحواس، تكون الأشياء موجودة بذاتها فتدرك بالرؤية المباشرة، وذلك عين اليقين. أما في عالم المعقولات الذي مجاله الغيب النسبي وأداته العقل، فتكون الأشياء غائبة بذاتها موجودة بآثارها فلا تدرك إلا بقوة العقل، وذلك علم اليقين. وأما في عالم الإخباريات الذي مجاله الغيب المطلق وأداته النقل، فتغيب الأشياء بذاتها وآثارها، ولا يمكن إدراك حقيقتها لا بالحواس ولا بالعقل، وإنما بالنقل لما جاء به إخبار الوحي، وذلك حق اليقين.

وهذا يدلنا، من خلال بناء العالم الذي يبدي -كما رأينا- جزءًا منه واقعًا وجزءًا ثانيًا معقولاً وجزءًا ثالثًا منقولاً، على أن الإحاطة العلمية لا تتأتى إلا من خلال توحّد هذه الدوائر الثلاث. لأن في ذلك التوحّد ستتجانس خصائص كل دائرة مع خصائص الدائرة الأخرى، مما سيفسح المجال أمام حرية تلاقح المعلومات كما هو مبين في الشكل 3، فتتزاوج عوالم الواقع والعقل والوحي، وتفتح للإنسان باب الولوج إلى عالم الكمال الذي من أجله خلق.

 يُظهر الشكل 3 أنه:

إذا كان أ= ي، و ب= ي إذن أ= ب

وإذا كان أ= ع، و ج= ع، إذن أ= ج

فإذا كان أ= ب، و أ= ج، إذن ب= ج

وهي المعادلات التي تفيد أن أ= ب= ج. وعلى أساسها يقوم مبدأ التوحد الذي فيه تتكامل المعرفة العلمية تكاملاً يضمن الإحاطة المطلوبة في الفكر العلمي.

أما إذا تقلصت هذه الدوائر المعرفية ولم تنمُ وتتداخل مجالاتها، فسيجد الإنسان معلوماته بعيدة عن التناسق، وسيؤدي به عدم الانسجام بين مكوناتها إلى البعد عن الكمال. كما أنه إذا اقتصر علمه على دائرة واحدة أو دائرتين، فسينعزل هنالك وينقطع عن كل ما سيأتيه من الأخرى. فإذا انحصر في دائرة الواقع -مثلاً- ولم يطّلع على الدائرتين الأخريين وقع في تعظيم الواقع وربما تأليهه، كما عظّمت أقوام كثيرًا من الظواهر الكونية والطبيعية إلى حد التأليه. كما أن الإنسان إذا بقي منحصرًا في دائرة العقل، فسيتيه في متاهات المادية المهلكة والفلسفات المشككة، فينحرف عن الفطرة السليمة. وكذلك إذا انزوى في دائرة النقل وانعزل عن الواقع والعقل، فسيقع في الجمود بدل الاجتهاد، والتقليد بدل التجديد.

فكل دائرة يجب أن تكوّن صلة وصل أو واسطة بين الدائرتين الأخريين. فالعقل يجب أن يصل بين الواقع والوحي، والوحي يجب أن يصل بين العقل والواقع، والواقع يجب أن يصل بين الوحي والعقل. أي بمعنى آخر، إن العقل إذا انفتح على عالم الغيب المطلق نقله بعلمه إلى يقين، فصارت أخبار الوحي من صميم الواقع. كما أن الواقع إذا تناوله العقل بمنطق التفكر، صار آيات ناطقة بأخبار الوحي. وكذلك الوحي الذي أخبر به النقل، إذا تعامل معه العقل بنظرة التذكر، صار واقعًا موجهًا للإنسان في كل تصرفاته. وهذا التصنيف نجده يتجسد في سورة التكاثر في قوله تعالى: (كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ * ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ)(التكاثر:5-8)، حيث نفهم أننا إذا استعملنا العقل (عِلْمَ الْيَقِينِ) لصَيَّرْنا المغيب المطلق (الْجَحِيمَ) محسوسًا، مرئيًّا بالعين (لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ)، أي أننا بعلم اليقين يمكن أن نصيِّر حق اليقين، عين يقين والله أعلم.

فإذا أراد الإنسان أن يترقى في درجات الكمال العلمي، تدرج في سلم المعرفة من المحسوس إلى المعقول إلى المنقول، فكان ذلك عروجًا على النمط الإبراهيمي الذي صوّر لنا نموذجًا رائعًا في الترقي من عين اليقين المتجلي في ملكوت السماوات والأرض، الذي هو الواقع الذي قال فيه ربنا -عز وجل-: (وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ)(الأنعام:75)، إلى علم اليقين المتجلي في الاستقراء التجريبي المبني على العقل كما نستشفه من قوله تعالى: (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لاَ أُحِبُّ الآفِلِينَ * فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ)(الأنعام:76-78)، إلى حق اليقين المتجلي في الحقيقة المطلقة التي قال فيها عليه الصلاة السلام كما حكى عنه ربه: (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ)(الأنعام:79).

القرآن واستنهاض العقل

من جملة ما حمل القرآن من مظاهر، إعجازية قوته على استنهاض العقل. فكما أن آيات الكون فصلت للمتفكرين وأحكمت لهم بحيث لا تجد من خلل في ملكوت الله بحكم قوله تعالى: (مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ)(الملك:3)، كذلك آيات الكتاب فصلت للذاكرين وأحكمت لهم إحكامًا يطابق ذاك الذي يسري في الكون إظهارًا لمكانة العقل في الخطاب القرآني حيث قال -عز وجل-: (كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ)(هود:1). فشمل الكتاب بتفصيله وإحكامه قوة مستنهضة للعقل تدفع بالإنسان على قدر تجلي علومه إلى سبر أغوار الكون. وهذا الإحكام الساري في آيات الكون والمتجلي في تناسق علله، جعله الله تعالى مرجعًا تجريبيًّا للناس لعلهم يستدلون به على تصوراتهم العقلية ومفاهيمهم العلمية، فيؤسسوا على قاعدته النماذج التفسيرية المفضية بهم إلى اليقين، كما نستشف ذلك من قوله -عز وجل-: (يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ)(الرعد:2).

فالعلم مَشاع بين الناس والتزود منه حق. إلا أن المسلمين منذ فجر الإسلام اعتبروه واجبًا، لأنه ضرورة في فهم حقيقة الدين: (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ)(محمد:19)، ووسيلة للدعوة إلى الله: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ)(النحل:125). ولا غرابة في ذلك، لأن العلم كان دأب كل الرسالات السماوية منذ آدم -عليه السلام- الذي قال في حقه ربُّه -عز وجل-: (وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ)(البقرة:31)، إلى إبراهيم -عليه السلام- الذي كانت دعوته إلى التوحيد من منطلق علمي: (وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ)(الأنعام:75)، إلى خاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- الذي جمعت رسالته كل علوم الأنبياء السابقين.

ولعل في قوله تعالى: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ)(الزمر:9) ما يسلط الضوء على تفاصيل هذه الحقيقة. فـ(أُولُو الأَلْبَابِ) هم الذين وصفهم الحق تبارك وتعالى في قوله: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ)(آل عمران:190). إذن هم الذين ينطلقون من هذه المراجع الكونية التي أحكمت آياتها في السماوات والأرض، يبتغون بعقولهم استجلاء تلك الأسرار الكامنة خلف المكونات الدالة على عظمة المكون ودقة إحكامه لعالم الأكوان. فهؤلاء إذن، هم المتفكرون الذين فتح الله -سبحانه وتعالى- بصائرهم على أسرار الكون ليسترشدوا بها على وحدانية المكون. فكانوا لا يفصلون الفكر عن الذكر كما وصفهم الله تعالى في بقية الآية بقوله: (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَاْلأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)(آل عمران:191).

فهؤلاء كان تفكّرهم ذكرًا وذكرهم تفكّرًا، لأنهم ما استعملوا عقولهم في استظهار الحقائق، ولا استدلوا بوهج الأنوار المشرقة في قلوبهم على بواطن الخلائق، إلا من خلال استحضارهم لمصدر النور الساري فيها وهو الله -عز وجل-، الذي لولا نوره ما ظهر حق في ظلمة الوجود كما قال به ابن عطاء الله السكندري -رحمه الله- في إحدى حكمه: "الكون كله ظلمة، وإنما أناره ظهور الحق فيه. فمن رأى الكون ولم يشهده فيه أو عنده أو قبله أو بعده، فقد أعوزه وجود الأنوار وحُجبت عنه شموس المعارف بسحب الآثار"[4].

فكانت الدعوة إلى النظر في الكون لا من أجل الكون، ولكن من أجل المكوِّن، حيث قال -رحمه الله- في حكمة أخرى: "أباح لك أن تنظر ما في المكوَّنات، وما أذن لك أن تقف مع ذوات المكوَّنات (قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ)(يونس:101)، وفتح لك باب الأفهام، ولم يقل انظروا السماوات لئلا يدلك على وجود الأجرام"[5]. وفي تفسير هذه الحكمة يقول العارف بالله الشيخ أحمد بن عجيبة الحسني رحمه الله: "فتح لك باب الأفهام، جمع "فهم"، أي فتح لك باب العلم لتدخل بها من ظاهر القشر إلى باطن اللب، حتى تعرفه في كل شيء وتفهم عنه كل شيء. ولو قال الحق تعالى: "قل انظروا السماوات"، لدلّك على الأجرام وسدّ لك باب الأفهام"[6].

وهذا منطقي، لأنه إذا قلتُ لك "انظر هذه العلبة"، فإن نظرك سينحصر في ملاحظتها بنظرة سطحية تقع على شكلها ولونها وما إلى ذلك مما هو متعلق بنظرة الظاهر. كما أنني إذا قلت لك "انظر ما في هذه العلبة"، فإن نظرك سينفذ إلى داخلها مفترضًا من خلال صيغة الاستفهام التي جاءت بها العبارة أن قد يكون فيها شيء وقد لا يكون، وهذا القول يدفع بالعقل تلقائيًّا لوضع الفرضيات فقط. لكن إذا قلت لك "انظر ماذا في هذه العلبة"، فهنا ستُركز نظرَك على شيء موجود بداخلها، لأن اسم الإشارة "ذا" الذي جاء بين "ما" الاستفهامية و"في" الظرفية، يدل على أن شيئًا ما بداخل العلبة أطلبك لاستجلائه. فهذا القول سيستدعيك لأن تلاحظ العلبة أولاً، ثم تضع الفرضيات حول ما يمكن أن يكون هذا الشيء الذي بداخلها ثانيًا. فإذا وصلتَ إليه انكببتَ عليه تختبره من كل الزوايا محاولاً معرفة حقيقته. وتلك هي المرحلة الأخيرة في البحث بعد الملاحظة والفرضية، وهي التجربة المفضية إلى الحقيقة. وبذلك فالقول الثالث يجمع في عبارته عناصر الملاحظة والفرضية والتجربة وعليه يقوم منهاج البحث في العلوم التجريبية.

فإذا كانت الدعوة الموجهة إلينا في موضوع السماوات والأرض جاءت بمثل هذا القول الأخير، فلسر تستبطنه السماوات والأرض نحن مطالبون بالكشف عنه. وهو ما يعطي للقرآن الكريم قوته الخارقة على استنهاض العقل، ويجعله مفتاح باب الفهم لمن أراد الدخول من ظاهر القشر إلى باطن اللب. وإلا ما جاء استفهامه عن مستويات أهل العلم مختومًا بقول الله تعالى: (إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ)(الزمر:9) من اللب الذي هو أصل الشيء وخالصه وقلب الشيء لا قالبه.

ودعوة سيدنا إبراهيم -عليه السلام- خير شاهد لنا على صحة هذا النهج. فلما جاء -عليه السلام- لدعوة قومه وكان أول المسلمين، ما أرسله الله تعالى وكلفه بالرسالة إلا من بعد أن كشف له سبحانه عن أسرار الكون، فكانت دعوته -عليه السلام- أول إعلان جاء بموجب تلك الوقائع، مقرًّا بأن العلم أساس اليقين. وعلى نهجها جاءت رسالة خاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- مكمّلة لكل التفاصيل. حيث كانت أول سورة نزلت في القرآن الكريم: (اقْرَأْ)، للتأكيد على مكانة العلم ودوره في ترسيخ اليقين. فكان التوجيه الرباني، دعوة صريحة إلى الناس للتفكّر في ملكوت الله والتدبّر في آياته قصد الاستدلال على قدرته وبلوغ اليقين، وهي دعوة تُلزم كل إنسان بالنظر في ملكوت الله -سبحانه وتعالى- وتحثّه على البحث في مجالات الخلق قبل أن يفوت عليه الأوان، كما نجده واردًا في قوله تعالى: (أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ)(الأعراف:185). والملكوت هو سلطان الله -سبحانه وتعالى- وقدرته التي لا يدركها من وقف مع ظاهر الملك، وإنما من نفذت بصيرته إلى شهود النور الباطني لعالم السماوات والأرض. فمن لم يحمّل نفسه عناء الإحاطة بحقائق هذه الأشياء والعمل بمضامينها أورد موارد الجهل، فأدخل مداخل الباطل. قال الله تبارك وتعالى: (حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمْ مَاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لاَ يَنْطِقُونَ)(النمل:84-85). وفي تفسير هذه الآية قال القرطبي رحمه الله: "أي كذبتم جاهلين غير مستدلين. وأضاف أن هذا تقريع وتوبيخ من الله، أي: ماذا كنتم تعملون حيث لم تبحثوا عن الآيات ولم تتفكروا ما فيها".

وهنا يجب التنبيه إلى شيء مهم تبرزه صيغة الآية التي جعلت عدم العلم بالآيات معطوفًا على التكذيب بها، وذلك بواسطة "واو" الحال: (أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا). فهذا يفيد أن التكذيب بالآيات إنما نتج عن عدم الإحاطة بها علمًا "كذبتم والحال أنكم لم تحيطوا بها علمًا". ولهذا جاء التقريع منه سبحانه في قوله: (أَمْ مَاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) للتأكيد على أن هذا الكون بكل مكوناته الظاهرة والباطنة التي كان الإنسان يعيشها بحواسه ومداركه، إنما هو آيات ناطقة بعظمة مبدعها، وبصائر تعصم الناس من الجهل حتى لا يقعوا في التكذيب. يقول ربنا -عز وجل-: (قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ)(الأنعام:104). وقد فسر القرطبي -رحمه الله- "البصائر" بجمع "بصيرة" وهي الحجة والبيّنة الظاهرة. وذكر أن "الحق سبحانه وصف الدلالة بالمجيء لتفخيم شأنها، إذ كانت بمنزلة الغائب المتوقع حضوره". ثم أضاف -رحمه الله- أن "من لم يستدل، صار بمنزلة الأعمى وعلى نفسه يعود عماه".

فهم القرآن في ضوء تجدد معارف الإنسان

يقول أستاذنا الجليل فتح الله كولن: "كلما مر الزمان تجدّد شبابُ القرآن، فكما يزداد نضج الإنسان وقدرة ذهنه على التحليل والتركيب -وإن ضعفت قدرة ذاكرته- وتزداد تجاربه وخبرته بمرور الزمن، كذلك الأمر بالنسبة للجماعات؛ أي كلما شاب الزمن وشاخ، انفتحت قنوات جديدة وعروق جديدة وتوسعت، وزاد سعي الإنسان وظهرت علوم جديدة تشرح لنا أسرار الكون وغوامضه. فعلم الفيزياء يظهر أمامنا وكأنه العلم الذي ينمو على الدوام في عروق الزمن ويغذيه ويتوسع ويعكسه. والأمر نفسه وارد أيضًا بالنسبة لعلوم الكيمياء والفلك وفيزياء الكون والطب والعلوم الأخرى، أي إن كل علم يتناول ضمن سير الزمن سرًّا من أسرار الكون، ويشرحه ويعرضه أمام الأنظار. إذن فكلما خطا الزمن خطوة نحو يوم القيامة كلما تكاملت الدنيا ونضجت أمام أعيننا. فكأن العلوم هي الشعرات البيض على هامة الدنيا رمزًا للنضج والكمال، أي كلما اقتربت نهاية الدنيا زادت الدنيا كمالا"[7].

وهذا حقًّا، أمرٌ وارد، لأنه كلما جرت الدنيا إلى أجلها المحتوم كلما زاد كمال الإنسان بمعرفة خباياها، وكلما نضج هذا الكمال بزيادة المعرفة في الإنسان كلما ظهرت معالم التحدي المعجز في كتاب الله، إذ من مظاهر إعجاز القرآن تجلي معانيه مع تجدد علم الإنسان. إلا أن تساؤلات كثيرة تبقى قائمة حول ما يمكن للعلم البشري أن يقدمه بخصوص فهم القرآن في ضوء استعماله لمعطيات قابلة للخطأ ومحتملة الزيادة والنقصان. كما أن التوجسات تثير تحفظًا لكون القرآن حقًّا مطلقًا، وأن قراءته بمعطيات علم نسبي، قد ينزله إلى مستوى علم البشر فيمس بقدسيته!

فهل صحيح أن العلم البشري -نظرًا لنسبية تصوراته وتغير معطياته- لا يصلح لتفسير القرآن؟ وإلا فكيف يمكن له في ضوء تجدد معارفه أن يُسهم في توسيع الفهم الصحيح لمعاني الآيات، ومن خلالها في تدعيم علاقة التفاعل القائمة بين الفكر والذكر، دون المساس بالقواعد الشرعية والثوابت الفكرية؟

لا غرو أن القرآن الكريم هو كتاب معجز لا يمكن تفسير كلامه التفسير المطلق، لا بالعلم ولا بالبلاغة ولا بالمنطق ولا بالبيان ولا بأي إدراك معرفي بشري، اللهم إلا بصحيح الإسناد المتصل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأنه كان موصولاً بالوحي. وما عدى ذلك -مهما كان فيه من التنوير- لا يمكن وضعه إلا في موضع التفسير النسبي، نسبة إلى مستوى الإدراك المعرفي للمفسر الذي تصوغه ظروف ومعطيات الزمان الذي كان فيه.

أما ما يمكن أن يقدمه العلم البشري بخصوص فهم القرآن، فليس بالضرورة تفسيرًا علميًّا بقدر ما هو توسيع في الفهم ببيان ما تحمله آياته من إشارات علمية وأسرار لم تكن لتظهر لولا استجلاء العقل لها، واستظهاره في كل زمان لمدى التوافق الباهر بين حقائق العلم التي يصل إليها الإنسان، ودلالاتها في الإشارات التي جاء بها القرآن. وكأن لسان حال العلم البشري -بتطوره العقلي وتقدمه المعرفي- يقول إن تلك الإشارات الكونية التي تنزّل بها القرآن، والتي فُسرت في ذلك الزمان بمعطيات علومه، كانت منذ ذلك العهد تحفل بأسرار ما كشفت عنه علوم هذا الزمان، إلا أنها كانت في دائرة الغيب النسبي نظرًا لاحتجاب الحقائق العلمية آنذاك، فأصبحت في الزمان الذي نحن فيه نظرًا لرفع الحجُب في دائرة عالم الشهادة. وذلك سر إعجاز هذا الكتاب.

فإعجاز القرآن كما ذكرته مصادر كثيرة وأذكر منها كتاب "الشفا"، أدركه الإنسان على أوجه متدرجة مع تطور مداركه المعرفية عبر الزمان. فأول ما أبهر الإنسانَ في القرآن إعجازُه البلاغي، وهو المتعلق بفصاحة كلامه ودقة بيانه نظرًا لما كان عليه لسان العرب آنذاك من بلاغة وفصاحة. ثم انبهر الشعراء بإعجاز القرآن البنائي، حيث أبهرهم بروعة نظْمه وإحكام وزنه ورقة أسلوبه. ثم ما لبث أن التفت الإنسان إلى إعجاز القرآن الإخباري، حيث انبهر أهل الكتاب لوجه إخباره بأسرار كتبهم وأخبارهم وأخبار من قبلهم، وبقصص ما كان من القرون السالفة منذ بدء الخلق إلى الأمم البائدة إلى الحضارات الهالكة مما بقي أو لم يبق منه أثر. بل وحتى بقصص أشخاص ذُكرت أسماؤهم ولم يبق من آثارهم شيء. ثم وقعت أحداث هامة ووقائع طبعت التاريخ فجاء وقوعها على تمام ما أخبر به القرآن، فانبهر الناس لإعجازه الغيبي وإخباره بمغيبات لم تكن وقعت بعدُ، ثم حدثت كما أخبر بها القرآن كفتح مكة وغلبة الروم وباقي الفتوحات التي عرفها المسلمون. بل وحتى بما سيقع لبعض الأفراد وهم يشهدون، كإخبار أبي لهب بإصلائه نارًا ذات لهب وهو على قيد الحياة، حيث ما كان منه إلا أن مات على ما أخبر به القرآن. وإخبار الكفار والمنافقين بأنهم لن يتمنوا الموت أبدًا، وأنهم لا يقاتلون إلا في قرى محصنة أو من وراء جدر وكان كذلك ونحن نشاهده اليوم على التمام والكمال. كما تعهد سبحانه بإظهار آياته في الآفاق وفي الأنفس، مصداقًا لقوله تعالى: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ)(فصلت:53)، فكان كذلك حيث كلما صاح العلم بحقيقةِ كشفٍ جديد في بواطن الأنفس أو في آفاق الكون المديد، إلا ووُجِدت دلالتُها سابقةً بإعجازٍ في كتاب الله المجيد. دون أن نذكر أوجه الإعجاز في الجذب والهيبة التي تعتري سامعيه وحال النفور والصدود التي تحصل للمكذب به. وكذلك وجه الحفظ الذي تكفّل الله تعالى به للقرآن، حيث لم يمسسه أي أذى منذ نزل رغم تطاول أيدي المبطلين.

وجاء زمن العلم والتكنولوجيا والذرة وغزو الفضاء، ليجد الإنسان نفسه أمام ظواهر علمية بالغة التعقيد لا يوجد كتاب أحكمُ في الإشارة إليها ولا أدق في التعبير عنها من القرآن المجيد. بحيث كلما صاح العلم بجديد مكتشفاته، إلا ووجد في القرآن ما يشير إلى دلالاته، بل ووجد الباحثون ما وصفوه وصنفوه في بحوثهم من تلك الظواهر قد استوعبه القرآن واختزله في إشارات غاية في الإيجاز والإعجاز وبالغة في الدقة ومحكمة في التركيز.

فالإنسان لم يفهم دلالة كثير من الإشارات الكونية الواردة في القرآن، إلا من بعد ما جاءت الاكتشافات العلمية مبيّنة تفاصيلها. بحيث تكلم كتاب الله -سبحانه وتعالى- عن "فتق الرتق" عند بدء خلق السماوات والأرض، وعن "بناء السماء" وجعلِها سقفًا محفوظًا، وعن ظاهرة "التوسع" فيها، وعن وجود "الحبك" فيها، وعن "تزيين السماء الدنيا بالمصابيح"، وما إلى ذلك مما أقرّتْه أحدث الدراسات العلمية لأكبر وكالات الاستكشافات الفضائية. بل واستعملت في تقاريرها نفس المصطلحات التي وردت عن تلك الظواهر في القرآن. وهي المصطلحات التي لم يكن للإنسان أن يفهم معانيها لولا تبيان هذه البحوث العلمية لها؛ بحيث لم يتبين الإنسان -مثلاً- مغزى قوله تعالى: (وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا)(الشمس:4) والكلام عن الشمس، إلا من بعد ما غزا الفضاءَ ورأى الشمس كنقطة ضوء يغشاها ظلام الكون الحالك. كما أنه حار -مثلاً- في فهم معنى قوله تعالى: (وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ)(الطور:6)، علمًا بأن الماء والنار ضدّان لا يلتقيان، فكيف بالبحر أن يُسجر بالنار! إلا من بعد أن صورت له الرحلات الاستكشافية لأعماق البحار، قيعانَ المحيطات وهي مشتعلة بفوران البراكين، التي تتدفق بالحمم النارية عند أحزمة الصدع الفاصلة بين قطع سطح الأرض المتجاورات. هنالك تَبيَّن له معنى قوله تعالى: (وَالأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ)(الطارق:12)، وقوله كذلك: (وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ)(الرعد:4)، فتجلى له من خلال ذلك مشهدُ تسطيح الأرض كآيات دالة على إعجاز هذا الكتاب الذي أورد الاستفسار عنه منذ زمن التنزيل في قوله تعالى: (أَفَلاَ يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ)(الغاشية:17-20)، وكأن ذلك الاستفسار كان موجهًا لأهل هذا الزمان.

وجاءت الدراسات الجيوفيزيائية -الجد معقدة- بتفاصيل ما لم يتمكن الإنسان من إدراكه، لتُجسِّد لنا الجبال أوتادًا تمامًا كما ذكرها الله في قوله تعالى: (أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ مِهَادًا * وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا)(النبأ:6-7)، تلك الإشارة التي نزلت في مجتمع بدائي، وفي زمن لم تكن لأهله من مقومات العلوم حتى أبجدياتها. مما يعني أن تلك الإشارات القرآنية ومثيلاتها، كانت منذ ذلك العهد -وما تزال- مجالات بحث مفتوحة لمعطيات كل زمان لا تنقطع عجائبها ولا تنقضي غاياتها، بل تتجلى على كل زمان بقسط معلوم من أسرارها. فهل بعد كل هذه التجليات العلمية يستطيع أحدٌ اليومَ، أن يلجم العقل ويمنع العلم من الإدلاء بإسهامه في توسيع فهم آي القرآن وتجديد معانيها بقواطع الحجة ودلائل البرهان؟

لا شك أن الحقائق العلمية التي وصل إليها العقل البشري، تُشكّل أرضية صلبة وأساسًا قويًّا قي بناء الفهم السليم للقرآن الكريم. بل وحتى النظرية العلمية لا يمكن الاستهانة بها، لأنها منطلق الأساس في بناء الحقيقة العلمية. والقرآن، لمّا فتح باب البحث أمام الإنسان أوّل ما دعاه إليه، النظر: (قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ)(يونس:101)، (قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ)(العنكبوت:20) في إشارة إلى أن النظرية التي هي أوّل ما ينتجه البحث المتمخض عن خطوات الملاحظة والفرضية والتجربة، ما تلبث أن ترقى إلى مستوى الحقيقة بعد إثباتها بالبراهين ووقوع الإجماع العلمي عليها. كقانون الجاذبية، أول ما تم اكتشافه -وكان ذلك على يد إسحاق نيوتن، علمًا بأن ابن طفيل من خلال نظرته التكاملية بين العقل والوحي قد سبقه إليه بقرون- كان مجرد نظرية منبثقة من ملاحظته سقوط تفاحة من شجرة، ثم ما لبث أن ارتقى بإجماع أهل الاختصاص إلى مستوى الحقيقة العلمية، فصار قانونًا معتمدًا لكل الدراسات الفيزيائية المهتمة بمجالات القوى. والقرآن سبق الإشارة إليه منذ زمن الوحي في قوله تعالى: (أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ كِفَاتًا * أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا )(المرسلات:25-26)، حيث تعني كلمة "كِفَاتًا" كما جاء في التفاسير؛ ضامة وحاضنة لكل ما عليها، أي كل ما على الأرض منجذب إليها.

مما يُظهر أن الحقائق العلمية هي أدوات رزينة، تمكّن الدارس لكتاب الله من تجديد الفهم لمعاني الآيات بتجدد المكتسبات العقلية وتوسّع التجليات الفكرية. ويُظهر من جهة أخرى، أن القرآن الكريم هو كتاب علم لكن ليس دليلاً علميًّا، لأنه بدعوته إلى البحث والنظر يكون فتح لنا باب الفهم الذي يشغّل العقل، ولو أنه شمل الإجابة عن جميع الأسئلة العلمية، لكان سد باب العقل وفتح باب النقل وهو ما لا يتفق مع دعواته المتكررة التي جاءت في صيغ (أَفَلاَ تَعْقِلُونَ)، (أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ)، ومع حثه الإنسان على البحث والتنقيب في أسرار السماوات والأرض كما جاء ذلك مقررًا في كثير من الآيات.

فابن كثير الذي يعتبر مرجعًا في تفسير القرآن، فسّر كثيرًا من الآيات الكونية باجتهادات عقلية وتصورات فكرية. ولا أدل على ذلك من تفسيره لقول الله تعالى: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلاَ يُبْصِرُونَ)(السجدة:27)، حيث ذكر -رحمه الله- أن أرض مصر مُرادة في هذه الآية، لأنها كما قال: "أرض  رخوة غليظة تحتاج من الماء ما لو نزل عليها مطرًا لتهدمت أبنيتها، فيسوق الله تعالى إليها النيل بما يتحمله من الزيادة الحاصلة من أمطار بلاد الحبشة وفيه طين أحمر، فيغشى أرض مصر وهي أرض سبخة مرملة محتاجة إلى ذلك الماء وذلك الطين أيضًا لينبت الزرع فيه. فيستغلون كل سنة على ماء جديد ممطور في غير بلادهم وطين جديد من غير أرضهم، فسبحان الحكيم الكريم". هذا التفسير كما يظهر من مضامينه، يدل على أن المفسر استند إلى معطيات علمية منبثقة من اجتهاد عقلي متجدد، لأن فهم أثر الماء على مختلف هذه الجوانب يحتاج إلى معرفة علمية واسعة. كما أن الماء ليس وحده الأساس في إنبات الزرع، بل الطين أيضًا -كما جاء في التفسير- بما يحمله من مواد معدنية مخصِّبة مجلوبة من تعرية الأراضي التي يمر عليها الماء. وهو ما يثبته العلم حاليًّا بعدما تكشّف منبع النيل من بحيرة "فيكتوريا" المحاطة بأعلى القمم البركانية لوسط أفريقيا التي تُمد النيل بشتى أنواع المعادن. مما يُظهر أن المفسر لم ينحصر علمه فيما جاء به النقل فقط، بل تعدّاه إلى استعمال العقل والبحث في علوم زمانه على اختلاف أنواعها.

وهذا نجده كان السائدَ في معظم القرون المشرقة من تاريخ الأمة، حيث كان تفسير القرآن يرمي -بالإضافة لإقرار المأثور- إلى بيان معاني الآيات بتوظيف مدارك العصر العلمية مما لا يتعارض مع القواعد الشرعية. فالآيات المكية التي تنزلت متضمنة ذكرَ الخلق وأطواره، والكون وأسراره، والحياة وحقيقتها، والأرض ومكوّناتها، والبحار ومكنوناتها، فرضت على العقل التحرر من رواسب الجاهلية وتصوراتها الخرافية، ودفعت به في اتجاه توسيع المدارك العلمية قصدَ تأسيس فكر علمي قادر على فهم القرآن فهمًا يتناسب ومستجدات الزمان.

فكان تفسير القرآن بالقرآن، حيث فهِم الناس كثيرًا من الظواهر العلمية بالقرآن، وفسّروا كثيرًا من الآيات من منطلق ما فَتَح اللهُ عليهم بالقرآن، فأشرقت أنوار المعارف في قلوبهم بسلامة الفطرة وتلاقى عندهم العقل مع النقل، بحيث -ورغم احتجاب معظم الحقائق العلمية في تلك القرون- لم يته المفسّرون في فهمهم للآيات، بل توافقت تفاسيرهم قياسًا على ما رأوا من المخلوقات والظواهر، وما وصلهم من أخبار الوحي مع كثير مما جاءت به علوم هذا العصر، لا لشيء إلا لكون القرآن هو نفسه يعطي الإنسانَ المفاتح الضرورية لفهمه، مصداقًا لقوله تعالى: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ)(الإسراء:9)، إذ يُحدث تدبّرُ آياته تفتّقًا للعقل يجعله يندفع بتلهف للبحث في معانيها. وذلك ما تعهّد به ربنا الكريم في قوله -عز وجل-: (فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ)(القيامة:18-19).

أما اليوم وقد رُفعت عن كثير من الحقائق الحجبُ وانجلت عن مفاهيمها السحبُ، بات لزامًا علينا أن نزداد فهمًا للقرآن بأن نقرأه قراءة معنى لا قراءة لفظ، لأن اللفظ ميّت مع الزمان، ولكن المعنى حي متجلي مع تجدد علم الإنسان. وأن نقرأه بعيون الحاضر لا بعيون الماضي، محاولين من خلال ذلك ألا نحصر معانيه في زاوية أسبابٍ نراها ارتبط نزول الآيات بها وقد لا تكون إلا من قبيل الملابسات التي أحاطت بجوانبها. فذلك يحصر آيات القرآن بين سطور التاريخ، وهو ما لا يتفق مع إعجازه الذي -كما رأينا- لا يحد بزمان ولا بمكان. وأن نستشعر قوته على استنهاض العقل، ملتمسين من خلال ذلك الوصول إلى المعنى الذي أراده الله، ذلك المعنى الذي لا تكتمل حقيقته إلا بتجميع الدلالات من متفرق الآيات، كشأن الصورة المشتتة أجزاؤها في مواضع متفرقة، لابد لكي نعيد تشكيلها على وجهها الحقيقي من أن نجمع أجزاءها كلا في موضعه المنسجم مع الآخر والمكمل له. فالله تعالى لمّا فتح باب الفهم للإنسان، أراد سبحانه -من خلال ذلك- أن يبيّن له أن هذا الكتاب الذي هو معجزة كل زمان، لا تنقطع أسراره مهما سبر العلمُ أغوار الأكوان، وأن ذلك الكون الذي هو دليل الإنسان، إنما جعله سبحانه مرجعًا تجريبيًّا له لعله يصل من خلاله إلى فهم مضامين القرآن.

وهذا ما يجب أن يستحضره كل متطلع بعلم إلى فهم القرآن، لأن العلم هو في الحقيقة حلقة مغلقة كلما دار الإنسان في فلكها بعقله متفكرًا، أرجعتْه شوارق أنوارها إلى القرآن متذكرًا، وكلما جال في آفاق القرآن بوجدانه ذاكرًا، أحاله ذكره على الأكوان متفكرًا. فكان ذلك دليلاً له على أن هذا القرآن الذي فُصّلت آياته محْكماتٍ، يستدعي فهمُه سبرَ أغوار الأكوان، وأن هذا الكون الذي خلقه الله -سبحانه وتعالى- محكمَ البناء متناسقَ العلل، إنما جعله سبحانه مرجعًا تجريبيًّا للإنسان لعله يستدل به على تصوراته الفكرية ومفاهيمه العلمية فيؤسس على ضوئها النماذج التفسيرية والنسق البيانية الموصلة إلى فهم المعنى الذي أراده الله -سبحانه وتعالى- من القرآن، لا المعنى الذي يريده الإنسان.

ومن هنا يمكن للبحث العلمي أن يسهم في توسيع فهم كتاب الله -سبحانه وتعالى-، ليس من باب الخوض فيما جاء به السلف نسْخًا أو تعرّضًا، ولكن من باب تحديث ذلك الموروث فهمًا وتجددًا، لأن المسلم في خضم الجدل القائم في هذا الزمان بين دعاة العقل وأهل النقل، وفي دوامة ما يعيشه العالم اليوم من تفجر للمعلومات وتصادم بين الأفكار والمعتقدات، لا يمكن له أن يجد موقعه للدعوة إلى الله -سبحانه وتعالى- إلا من منبر فكر عقلاني متنوّر بمستجدات العصر. ففي زمان أصبح فيه العقل عنوانًا للتحدي، لا يمكن للمسلم أن يحسن فن الأداء في معرض انفتاحه على الآخر ومحاورته له، إلا من باب إجادته لغته بتبني نظرة عقلانية قائمة على سلاح العلم وقوة الإقناع.

كمال المنهاج العلمي في القرآن الكريم

مِن تمام ذكر المؤمن، تفكره في ملكوت الله، ومن تمام فكره، ذكره لآلائه -عز وجل-. هذه هي القاعدة التي أراها مقررة في الآيات التي تطرقت إلى ظواهر الكون في القرآن الكريم، وهي الأرضية التي يجب أن يؤسس عليها بناء الفكر العلمي عند المسلم. فلئن كان العلم المراد في الإسلام والذي أعلى الله به مرتبة حامله هو الموصل إلى معرفة الله وذلك هو عين الصواب، فإن أشراطه تبقى كامنة مهما تطورت مدارك الإنسان وتفرعت مقاصده بين صفحات الذكر ويقينيات الفكر.

فالظواهر الكونية هي يقينيات علمية، أي تثبيتات إيمانية للقلب يخاطب الله تعالى بها العقل من خلال أمثال يضربها سبحانه للإنسان في نفسه، أو في آفاق الظواهر الطبيعية المحيطة به من قريب أو بعيد، لعله بكل يقينية تستقر في قلبه يترقى في مراتب الخشية من الله -سبحانه وتعالى- كما جاء ذلك في قوله تعالى: (إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءٌُ)(فاطر:28). والعلماء كما قال ابن عباس رضي الله عنهما في تفسيره لهذه الآية: "هم الذين يعلمون أن الله على كل شيء قدير". فهؤلاء -كما يتضح من سياق الوصف القرآني السابق لهذه الآية- هم الذين ينطلقون من مراجع الكون المنظور ليثبّتوا في يقينهم آيات الكتاب المسطور. حتى إذا تكونت الصورة في عقل الناظر، نفذت أنوارها إلى القلب فحصل هنالك اليقين بأن الله على كل شيء قدير.

وعليه فلما كان الله -سبحانه وتعالى- في كل شيء يراه الإنسان أو لا يراه، وكان هو الكل متجليًا نوره في كل مكونات الكون، وجّه سبحانه المتعرفين عليه إلى النظر والتفكر في هذه المكونات العاكسة لنور ضيائه. لعل هذا الإنسان المكرم بالعقل إذا نفذ إليه ذلك الشعاع الساطع من نور هذه المكونات، ارتقى من خلال تلك المدارك في درجات الكمال الموصلة إلى الانسجام مع كمال الكون. فجاء الخطاب القرآني من أجل ذلك، موجّهًا الإنسانَ إلى الجمع بين القراءتين؛ قراءة المسطور وقراءة المنظور، على اعتبار أن الكتاب المسطور يقدم للإنسان قواعد العلاقة التفاعلية بينه وبين الكون، وأن الكون الذي هو الكتاب المنظور، يشكل المرجع التجريبي لوضع النماذج التفسيرية لهذه العلاقة في ظل وحدة بنائية متكاملة تتكامل فيها عناصر الواقع والعقل والوحي.

فإذا انطلقت معرفة الإنسان العلمية من وحدة هذه العناصر الثلاثة، تكامل في يقينه عالم الشهادة مع عالم الغيب فترقى بذلك في مراتب الكمال التي من أجلها خُلق. أما إذا انطلقت معرفته من قراءة تجزيئية لا تعتمد النظرة التكاملية الجامعة بين المسطور والمنظور، فإن الإنسان يبقى بعيدًا عن هذا المنال ولا يمكن له أن يصل إلى كمال المعنى المراد من الإشارات الكونية بقدر ما يقع في توظيف اللفظ القرآني أو الظاهرة الكونية فيما شاء من تآويل. فالقرآن والكون بوحدتهما التكاملية بين الواقع والعقل والوحي، يذكّر كلٌّ منهما القارئَ بعلاقة التلازم القائمة مع الآخر، إذ لا يمكن فهم أحدهما إلا من خلال حسن قراءة الآخر. فكان بناء الكتاب المسطور متناظرًا مع بناء الكون المنظور في العوالم الثلاثة: عالم الشهادة وهو الواقع المشهود مما نلمس ونحس، وعالم الغيب النسبي وهو المغيب المدرك بقوة العقل، وعالم الغيب المطلق وهو الوحي الذي نزل بعلم الله وحده وليس لنا إلا أن نؤمن به.

ومن هنا يجب أن تكون الوحدة التكاملية بين القرآن والكون، المدخل لكل قراءة علمية تهدف إلى الإحاطة بحقائق الأشياء وفق منهاج القرآن، الذي رسم للعقل البشري الطريق الواضح الذي يجب أن يسلكه في بناء الفكر العلمي. فالقرآن لمّا دعا الإنسان إلى النظر في الكون: (قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ)(يونس:101)، اختزل في ذلك النظر كما رأينا، كل المنهاج التجريبي الذي وصل إليه العقل البشري من ملاحظة وفرضية وتجربة. ولا أدل على ذلك مما جاءت به الآية الأخرى في قوله تعالى: (قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)(العنكبوت:20)، التي تستوعب كل المنهاج التجريبي بين كلمتي (انْظُرُوا) و(كَيْفَ) اللتين تجمعان خصائص الملاحظة والفرضية والتجربة، بل وتتجاوزها إلى حد التوثيق الزماني والمكاني لموضوع البحث بإقرار السير في الأرض كعنصر دال على البعد المكاني والفارق بين بدء الخلق ونشأته الآخرة كعنصر دال على البُعد الزماني. وذلك لإضفاء صفة الدراسة المقارناتية على ظواهر الخلق بالتنقل بين أرجاء الأرض، ثم الربط الزمني بين مراحلها على اعتبار أن عامل الزمن مؤثر في تطورها.

فالآية بإقرارها لعلاقة التلازم القائمة بين بُعدي المكان والزمان في موضوع النظر هذا، إنما تكون أقرت بنسبية كل واحد منهما للآخر، إذ لا يصير لأحدهما مدلول إلا إذا أخذ من مفهوم وحدته مع الآخر. وهو ما كشفت عنه حديثًا دراسات الفيزيائي الألماني "ألبير أينشتين" في نظريته للنسبية التي أصبحت اليوم أساسًا لكل الدراسات العلمية الدقيقة، حيث قال في كتابه مبادئ النسبية: "إن المكان في حد ذاته والزمان في حد ذاته هما متغيران محكوم على كل منهما بالاضمحلال كما يضمحل الظل. ولا يمكن لأحدهما أن يُبقيَ حقيقته إلا من خلال توحده مع الآخر"[8]. ونحن نعرف أن الظل ليس شيئًا ماديًّا، بل مجرد أثر في المكان لجسم مادي متغير مع الزمان. فإذا غاب أي من الزمان أو المكان، زال مفهوم الظل الذي تبقى نسبيته من نسبية بُعدي الزمان (الشمس والقمر اللذين هما مصدر الضوء المحدث للظل، واللذين بهما نعلم عدد السنين والحساب) والمكان (الأرض التي هي البساط الذي عليه يقع الظل). وهذا يعني أن المعالجة لا يصير لها مدلول، إلا من خلال هذه الوحدة الزمكانية التي تقوم عليها نسبية كل من الزمان والمكان بعضهما لبعض.

فكان التوجيه الرباني في هذه الآية، منهاجًا تجريبيًّا شاملاً سطر الحق سبحانه فيه مجال البحث وفق محورين متلازمين: محور أفقي وهو المكان الذي تدل فيه عبارة (فِي الأَرْضِ) على شمولية المجال لكل النطق التي ترتفع أو تنخفض عن مستوى سطح الأرض، ومحور عمودي وهو الزمان الذي تدل فيه عبارتا "بدْء الخلق ونشأته الآخرة" على فعل الزمان، كأداة يغير الله بها خصائص الخلق ويرتب بها أطواره وفق سنة التطور التي أقرها سبحانه في خلقه. وعلى سكة هاذين المحورين تُنزّل قاطرة البحث، لتسير بخطى حثيثة تطلب -بوسائل البرهنة والاستدلال- الحقائق العلمية المفضية إلى الحقيقة المطلقة الكامنة خلف كل هذه الحقائق النسبية، وهي اليقين بأن (اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) كما جاء في آخر الآية.

وهذا ما تستبطنه الإشارات الكونية في القرآن الكريم، التي غالبًا ما تأتي الآيات بها في سياقات مهيأة للتعامل مع المنهاج التجريبي بالدعوة إلى النظر، أي الملاحظة وافتراض التساؤلات ثم إخضاع الظاهرة للتجربة والاختبار (كَيْفَ). والغاية من كل ذلك تحريك عقل الإنسان لسبر أغوار الكون والكشف عن أسراره، من أجل تقويم فكره على درب الاستقامة الكونية التي هو جزء منها.

دعوة فتح الله كولن إلى تبني النهج العقلاني

إن اهتمام الأستاذ فتح الله كولن بتجديد قنوات التواصل العلمي والثقافي على المستوى المحلي والعالمي، وتقريب الرؤى بين العلماء والمفكرين، جعله يتبنى مشروع خدمة الكلمة الطيبة المفعمة بالعلم والحكمة من منطلق نهج عقلاني معتمد على منهاج القرآن والسنة. وفي هذا الصدد يصرح قائلاً: "لقد تبدل تقويم الأشياء والنظر إلى الحوادث في وقتنا الحاضر تبدلاً كليًّا. فالمنطق والعقلانية في مقدمة الأمور، وقد حازتا أهمية كبرى في التقويم، حيث إن الكفر والإلحاد يتكلمان باسم العلم والفلسفة، ومن هنا يضطر المسلم إلى مقابلتهم بالأسلوب نفسه، وهذا وثيق الصلة بمعرفة ثقافة عصره. وما العلم والعرفان اللذان لا ينفكان عن المسلم، إلا هذا الأمر"[9]. وهذا كلام يحمل من التوجيهات ما تضطرنا مضامينه إلى الوقوف والتأمل لعلنا نستخلص منه ما يمكّننا من تمثيل ديننا وحضارتنا حق التمثيل.

فقد قال الأستاذ بهذا الصدد في معرض تبيانه لضرورة معرفة الواقع المعاصر: "إن من لا يعرف عصره، لا يختلف عن من يعيش تحت الأرض، بينما المبلغ أو الداعية يجوب في الفضاءات. وعندما يجول بين النجوم بعقله يعاين بقلبه وبلطائفه الأخرى رياض الجنان. أي عندما يحجزه عقله في المختبر جنب "باستور" ويسيّره برفقة "أنشتاين" في أعماق الوجود، تراه واقفًا بروحه بكل إجلال وتوقير أمام الله سبحانه وأمام رسوله الكريم -صلى الله عليه وسلم-، فينصبغ بصبغة الله مرات ومرات في اليوم الواحد... وأعتقد أن المرشد الحقيقي هو هذا. ويكفي للإنسان أن يدرك حكمة الوجود وروحه فينسّق ما يريد أن يبلّغه وفق ذلك"[10]. ثم يضيف موضحًا أن الأمر كان كذلك عند الصحابة ومن تبعهم ومن جاء بعدهم من الوارثين. مما جعل كلمتهم تحظى بقوة هائلة في التأثير. فهؤلاء كما يقول: "أدركوا مدارك عصرهم فدام تأثيرهم إلى يومنا هذا"[11].

 وهذا النهج -نهج المنطق العقلاني بإدراك مدارك العصر- كان دأب جميع الأنبياء والمرسلين، والنموذج في سيدنا إبراهيم -عليه السلام-، إذ لمّا أراد الله -سبحانه وتعالى- أن يقر في قلبه اليقين سلك به سبحانه هذا النهج، فقال عز من قائل في حقه: (وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ)(الأنعام:75)، ذلك بأن جعله يجول بخاطره -في خضم ما كان يطغى على عصره من تأليه للكواكب والنجوم- بين أجرام الكون ملاحظًا عظمة مكوناته ودقة نظمها. فوضع -عليه السلام- فرضية تأليه الكوكب ثم بعده القمر ثم الشمس. فلمّا أخضعها لمنطق العقل وجدها كلها تأفل، فخلص بعقله -من خلال ذلك- إلى حقائق نسبية تفيد عدم استحقاق هذه المكونات التأليه، ومن خلالها إلى الحقيقة المطلقة التي جاءت مقررة في قوله تعالى على لسان نبيه إبراهيم -عليه السلام-: (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ)(الأنعام:79). وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن سيدنا إبراهيم -عليه السلام- وإن كان نهجه عقلانيًّا، فإن منطلقه كان إيمانيًا، لأنه ما استدل بالكوكب الذي رآه ولا بالقمر ولا بالشمس على الله -سبحانه وتعالى-، وإنما استدل بالله عليها بدليل قوله -عليه السلام- كما حكى عنه ربه -عز وجل-: (لاَ أُحِبُّ الآفِلِينَ)(الأنعام:76). فما جعل -عليه السلام- هذه الظواهر الكونية إلا حقائق نسبية، أقام بها الحجة على قومه حتى يوصلهم عن طريق المنهج العقلاني، إلى الحقيقة المطلقة التي جاءت مقررة في خطابه كما رأينا.

وبذلك يتضح أن عالم الشهادة الذي نعيشه بحواسنا، هو مادة خصبة للعقل من أجل الخوض في عالم الغيب النسبي. فإذا أحسن الإنسان التعامل معه، ارتقى بالاطمئنان القلبي في عالم الغيب المطلق فكان من الموقنين. وهو ما نستشفه من حقيقة طلب سيدنا إبراهيم من ربه رؤية كيفية إحياء الموتى في قوله تعالى: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)(البقرة:260).

وقد يختلف الناس حول مغزى هذا السؤال كما قال القرطبي رحمه الله: "اختلف الناس في هذا السؤال، هل صدر من إبراهيم عن شك أم لا؟ فقال الجمهور: لم يكن إبراهيم -عليه السلام- شاكًّا في إحياء الله الموتى قط، وإنما طلب المعاينة". وذلك لأنه لو لم يؤت العلم من ربه بمنهاج المشاهدة والمعاينة، لمَا تمكّن من تثبيت اليقين في مواجهة التحديات الفكرية والعقدية لذلك الزمان. قال تعالى حاكيًا عن نبيه إبراهيم -عليه السلام-: (قَالَ بَل رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ)(الأنبياء:56).

ولاستيعاب المقصد من طلب إبراهيم -عليه السلام- رؤية كيفية إحياء الله -سبحانه وتعالى- الموتى، ذكر ابن كثير -رحمه الله- في معرض تفسيره لقول الله تعالى: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى) "أن إبراهيم بعد ما قال لنمرود: (رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ)(البقرة:258)، أراد -عليه السلام- أن يترقى بذلك من علم اليقين إلى عين اليقين وأن يرى ذلك مشاهدة". فأراد إذن بسؤاله (كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى) أن يرى الكيفية، أي الطريقة التي تمكّنه معاينةُ تفاصيلها من طمأنة نفسه بعدما لاحظ قدرة الله -سبحانه وتعالى- على الإحياء وافترض افتراضات لذلك. فكان أن هيأ الله تعالى له ذلك المختبر الطبيعي، الذي ستكون فيه التجربة العلمية على نطاق البعد المكاني بصر الطير وتوزيع أجزائها على قمم الجبال المتباعدة ثم دعوتها، حتى يوصله سبحانه عن طريق المعاينة التجريبية بالبرهان والدليل، إلى الإحاطة بحقيقة الإحياء حسًّا ومضمونًا.

وهكذا يتضح أن القرآن الكريم يقر المنهاج العقلاني كأساس لبلوغ اليقين. فهو عين المنهاج ونبع الاستقامة العلمية، إذ يستوعب بتوجيهاته كل وسائل الملاحظة والفرضية والاختبار، بل ويهيمن عليها بالتوثيق الزماني والمكاني لموضوع البحث، حتى يفضي من خلال حقائق الكون النسبية إلى الحقيقة المطلقة التي ليس بعدها إلا الضلال. وذلك ما يجعل من القرآن كتاب علم لا تحد علومه، كما يقول الأستاذ فتح الله كولن: "إن القرآن الكريم ذا البيان المعجز، هو الذي يجب أن يتكلم، وهو الذي يجب أن يصدر أحكامه ويختم الموضوع بختمه. والقرآن بآياته التي لم تفهم حق الفهم إلا مؤخرًا، يشير إلى الأفق الأخير لما يستطيع العلم بلوغه، وسيجد العلم عندما يتقدم في أي ساحة من ساحاته، راية القرآن وهي ترفرف في الأفق البعيد لتلك الساحة، ومن المحتمل أنه في بعض الساحات لن يستطيع بلوغ تلك الراية"[12].

وهذا ما ينبغي أن يستوعبه كل متطلع لبناء فكر علمي وكل مقبل على تبليغ فكرة عن دينه، لأن القرآن آيات تهدي إلى الحق، والكون بصائر تعصم الناس من الخطأ، فمن لم يستدل بها على الحق، حُجبت عنه كل الحقائق. وفي ذلك نجد أستاذنا يقول: "إن من لا يعرف مجريات عصره، كمن يعيش في دهليز مظلم. عبثًا يحاول أن يبلّغ شيئًا عن الدين والإيمان إلى الآخرين. فعجلات الزمن والحوادث ستُفقده التأثير إن عاجلاً أو آجلاً. ومن هنا فعلى المؤمن أن يفهم ويبلّغ ما ينبغي أن يُفهم، بأسلوب ملائم ومنسجم مع المستوى الفكري والعلمي والثقافي لعصره"[13]. نعم ذلك ما يجب أن يتبناه كل داعي إلا الله -سبحانه وتعالى- في هذا الزمان، لأن عنوان التحدي في هذا العصر هو العقل، وسلاح المواجهة فيه هو العلم. وعلى أساس ذلك النهج جاء هذا البحث يفتح آفاق التفكر في يقينيات العلم التي أصبحت اليوم تشكل أهم الوسائل المجدية في الدعوة إلى الله -سبحانه وتعالى-. وذلك ما سنعمل على استظهاره في الأبواب الآتية، معتمدين في ذلك على الله -سبحانه وتعالى-، ومستأذنين أستاذنا بفتح هذه الأبواب التي -كما سنرى- تفضي مسالكها إلى حيث يجد الذاكر والمتفكر نفسيهما على اتصال مباشر بيقينيات هذا الكون التي هي معيار توازنهما مع مكوناته ودليل انسجامهما مع نظامه وحقيقته.

 


[1]     مجلة حراء، العدد:26، ص:3.

[2]     الموازين أو أضواء على الطريق، لمحمد فتح الله كولن، ص:99 

[3]     طرق الإرشاد في الفكر والحياة، لمحمد فتح الله كولن، ص:90 

[4]     الحكم العطائية، شرح وتحليل الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي، ج:1، ص:197، دار الفكر المعاصر، 2001، بيروت. 

[5]     إبعاد الغمم عن إيقاظ الهمم في شرح الحكم، لأحمد بن عجيبة الحسني (ت 1266هـ)، ص: 222، دار الكتب العلمية، 2009، بيروت. 

[6]     إبعاد الغمم عن إيقاظ الهمم في شرح الحكم، لأحمد بن عجيبة الحسني (ت 1266هـ)، ص: 222، دار الكتب العلمية، 2009، بيروت. 

[7]     أسئلة العصر المحيّرة، لمحمد فتح الله كولن، ص:71.

[8]1.  Albert Einstein in Garaudy R. (1985) - Biographie du XX° siècle. Edition Tougui, Paris, p.184.

[9]     طرق الإرشاد في الفكر والحياة، لمحمد فتح الله كولن، ص:94-95. 

[10]    طرق الإرشاد في الفكر والحياة، لمحمد فتح الله كولن، ص 94-95. 

[11]    طرق الإرشاد في الفكر والحياة، لمحمد فتح الله كولن، ص 94-95. 

[12]    حقيقة الخلق ونظرية التطور، لمحمد فتح الله كولن، ص:111. 

[13]    طرق الإرشاد في الفكر والحياة، لمحمد فتح الله كولن، ص:94-95.

Pin It
  • تم الإنشاء في
جميع الحقوق محفوظة موقع فتح الله كولن © 2024.
fgulen.com، هو الموقع الرسمي للأستاذ فتح الله كولن.