القضية الكبرى لشعبنا
إبّان تزحزح العالم كله نحو الربيع في هذه الأيام، يتفق الجميع على أن المستقبل سيكون خيراً على الرغم من معوقاتٍ بسبب الوضع التاريخي. وجدير بنا أن نطلع على حال الذين يضغطون على هذا "التكوين" العالمي بعزم وإرادة وقدرة عالية. ولا شك في أن من واجب كل مثقف أن يفكر ملياً في مستقبل وطننا وشعبنا. لكن الشك فيما إن كان الجميع يحسون بمسؤوليتهم هذه أم لا. الثابت عندي هو أن نفراً قليلاً في هذا الوطن يقومون ويقعدون منذ سنوات مديدة حالمين بالمستقبل ومضطربين، على أملٍ بأن الطرق الوعرة ستوصل إلى الممهدة في يوم آت.
هذا الوطن، وهذه الأرض، التي رويت منذ زمان بدماء ملايين النفوس المضحية، تعيش اليوم مع كثير من أبنائها الأوفياء حماس العبور من الماضي إلى الآتي... طافحين بالرجاء والأمل وممسوسين بقشعريرة حمّى الارتقاء بشعبهم. فترى إحدى يديهم ورجليهم منشغلة بالعمل اليومي، وأخراها منشغلة في تجهيز الخطط والبرامج للمستقبل، بل تجدهم قد وهبوا أحاسيسهم ومشاعرهم لإمرة فكرهم ودعواهم. ولا بأس أن نقول بأن التاريخ التليد المجيد، والشعب المحظوظ الذكي، الذي حمي وحفظ قضيته الكبرى منذ ألف عام، فطوّرها وصوّرها حُسناً وشكلا، يحس بالتهاب جذوتها في الأرواح كرة أخرى بوازع الحنين المزمن الحاد. فإن كثرة من الجيل الجديد يبدون وكأنهم رموز هذه القضية، وممثلو هذه الرسالة، بفيض مشاعر الوحدة والتضامن، والعزم على الرقي بشعبهم فوق شعوب العصر. وكأنّ مآل المستقبل إلى أن يكون سرادقاً أبدياً لهؤلاء، ما لم تهب عاصفة مضادة لا تبقي ولا تذر.
هذه القضية بسطت أجنحتها الوارفة على يد أعاظم الإسلام الأوائل، فكان الأمويون والعباسيون، ثم اكتسبت قيمة ومرتبة مختلفة مع السلاجقة، وصارت أخيراً مع العثمانيين مسألة عظيمة وسامقة، ثم أصيبت بنكبة مريرة في مرحلة معلومة. لكن اليوم نشهد سياق عودة الحياة من جديد إلى القرية والمدينة، والعائلة والدولة، والشارع والمدرسة، والفن والعلم، والعمل والأخلاق، ونرى رفرفة خمائل القضية في كل صوب وناحية منذ الآن بوفاء كوفاء الفجر، وعلى مرغمة كل عائق، وبفضل الذين حفّزوا الخارطة الروحية للوطن بخفقات قلوبهم، ولوّنوها وسقوها بدموعهم. ولئن جاز العديد من خداع الفجر الكاذب، فإن شهادة أصدق الشهود على شروق الشمس قريباً هو الفجر الصادق في الأفق نفسه.
وعلى الضد من الحرص على المادة، وحب المقام والمنصب، والرغب إلى حياة، والضعف أمام الشهرة، والخشية من فوات الدنيا، وما يشبه من العوامل التي حلت محل قضيتنا الروحية والفكرية، وعلى النقيض من تقديس كل متروك ومنبوذ، نحس اليوم بداية زحزحتها عن مكانها وإشغاله بكل ما محوره الروح والمعنى. فنرى ظهوراً واضحاً لورثة قيم الماضي كلها من الممثلين السامقين للعلم والفن والأخلاق والفضيلة، أو المرشحين لمثل هذا التمثيل، فنجدهم حضوراً محل صخابي الأمس بدعاوى إنقاذ الوطن والصعود بالبلاد إلى مستوى الغرب، ومرائي الانهماك في العمل بأفكارهم الغرة وتخيلاتهم الحالمة ولا شيء إلا الجعجعة.
وما زالت المعارك دائرة في ميادين للسياسة، وساحات للمصالح، وممرات للمنافع... وما زال قوم يمنحون نصيباً للأطماع والرغبات ويوقعون الشعب في حيص بيص بادعاء إنقاذ الوطن وتثقيف الشعب والارتقاء بالوطن... والهذر بشعارات زائفة أخرى من أمثالها. لكن أرجوكم أن تدلوني على زمن لم يكن فيه من يشبه هؤلاء! فهم موجودون في كل زمان. وسنجدهم غداً كما نجدهم اليوم! فالتاريخ هو تاريخ الذين يتشاتمون ويفترسون وينصبون الفخاخ ويخونون ويفترون الكذب، كما هو تاريخ الصالحين والطيبين. وهل من حاجة إلى الإسهاب، إذ يكفينا أن نطلع على ماضينا القريب لنمتلئ رعبا؟ فكم من روح اغتيلت بشعار الديمقراطية! وكم من شرائح اجتماعية أوقع بينها فصارت بعضها ذئاب بعض! وكم من مرة سقيت قلوبنا بالحقد والبغض والكدر!
فلا نأمل أن تختلف أعمال شرائح من المجتمع بنوعها وطبيعتها اليوم أو غداً عن أمسها. ولن يخلو أنـزه مجتمع وأمثله طريقةً من أرواح مظلمة، خادعةٍ تفرق، ومستغلةٍ تسحق، ومُبَدلةٍ لأقنعتها المضللة تنجح في ستر أنفسها... وكما كانت في الماضي. لكن الواقع يبشر اليوم بوجود بَشَرٍ وافر وجهدٍ زاخر يفوح طيبا ملء الدنيا.
واليوم، هـذا النفير التربوي بأسمائه وعناوينه المتنوعة، وهذا الجهد المنصرف إلى الحب والتسامح والحوار، هِمّة مهمة في سبيل لملمة شعث المجتمع وتحريك مصادر قوته المعنوية... همة تفي بإنقاذ سفينة الشعب الجانحة بالساحل، على أيدي أجيال مؤمنة مشدودة الأوتار بالميتافيزيقي الغيبي. إن تلك العوائل التي فقدت فلذات أكبادها فوق مساحةٍ واسعة في زمن مضى، ممتدةٍ من اليمن إلى البلقان، ومن صحارى العرب إلى سهوب آسيا، استدركت ما فقدت بفضل كفاح الاستقلال والاستقرار، فَشَبّت آمالُها بالقرار على بناء دُنيا جديدة. لكن أجيال اليوم التي تهرأت روحاً وشخصية وانتُقِص الشيء الكثير من مجموع قيمها الإنسانية أخلاقاً وفضيلة وفكراً وفنا بصورة متشابكة، ستشهد "الانبعاث بعد الموت" في ظل الاستقلال الروحي والاستقرار الفكري.
كان القرن التاسع عشر والعشرين عصر تفككنا وتراجعنا. ولم نتحسس زمناً طويلاً الأسباب الحقيقية لهذا التفكك والتراجع، أو قل إن شئت: حُرّفت الأفكار بهذا الشأن قصداً وعمداً... ولذلك شهدنا مظاهر هائلة من الرجعية في الدين والعلم والفن والإبداع، حتى إن بعض التيارات المتنافسة في الإطار الفكري، قد تحولت إلى تيار للإلحاد والإنكار تحت تأثير أحلامها الموهومة وحيرتها وشدهها. بل ظهرت "موضة" التشدق بالعلم والسفسطة بدلاً عن الدهاء العلمي، والتمويه والتضليل بدلاً عن الثقافة، والتشويه والتلطيخ بدلاً عن الكفاح. وناضل قوم يحسبون الحيلة مهارة نضالا لا هوادة فيه من أجل هدم الحقائق التاريخية بالافتراء والتزوير والكذب.
ثم انظروا ما أروع جلوة القدر، إذ إن تلك المحركات التاريخية وجذور الشعب المعنوية لا زالت قائمة على قدميها ومتانتها، والذين سقطوا وولوا الأدبار هم أولئك!
فإن هذا الشعب الذي يستيقظ مرة أخرى على استقامة خط النبي صلى الله عليه وسلم، يترنم بأنشودة الصيرورة والتواجد الجديد مع أنسام الربيع الغض، كالزنابق إذا انبثقت من الأرض رقعة فرقعة، وإذا استولت على الأرجاء ناحية فناحية. نحن اليوم نرى أنفسنا -وإن كان إلى حدٍ معين- أمضى عزماً وأرصن قراراً، إذ نستمد من الرجاء والانشراح الحاصل بالعودة إلى الذات والعثور عليها. ورجائي أن يكون كل جهد وهمة، وكل قطرة دمع، بعد الآن كما كان من قبل، شفاءً لجروحنا التي بدت مستعصية على الدواء، وضياءً للمستقبل الذي بدا مظلما في عيون البعض منا.
وإذ ندخل إلى عتبات القرن الحادي والعشرين، فإن مستقبل بلادنا والبلاد المرتبطة بشؤوننا منوط بعُقبان جيش النور ذات أجنحة الضياء الذين يُعَدّون ممثلين سامقين للعلم والفضيلة والأخلاق في أيامنا، والذين نذر أكثرهم نفسه للتربية والتعليم. وستكون هذه الأجيال المباركة الرائدة -إن شاء الله تعالى- أصواتاً من النور وأفكاراً من الضياء تصفي حساب شعبنا مع العصر، زيادة على ريادتها في اكتساب قيمنا التاريخية مجدداً.
إن قضيتنا وغايتنا في الصيرورة والتواجد لا تماس لها ولا تلامس مع القوة العمياء مطلقاً. فنحن بملاحظتنا لحكمة وجود القوة المستسلمة للحق، لنا مفهوم لإحقاق الحق يتفق مع فكرنا الذاتي الرحب، ومتلقياتنا الفنية الأَنفس من النفيس، وتدقيقنا الأدق الذي يشطر الشعرة أربعين شطرا. هذا إلى جانب احترامنا لضرورة التكنيك والتكنولوجيا، وألزمية الصناعة وعاجليتها، وعلو قيمة العلم فوق القيم، وإيماننا بالأهمية المطلقة لتغذية وطننا بكل ذلك، وبضرورة تحفيزه وإعانته في هذه المهمة الصعبة. ولذلك نحن اليوم في أمس الحاجة إلى مرشدين ذوي أدمغة متأهلة وأفكار رحيبة وآفاق واسعة، يقيمون هذه الموازنات لإنساننا، ويرتقون بشعبنا إلى ذرى الفكر، ويقودوننا إلى جذور معنوياتنا الذاتية، ويطلقون أرواحنا المشتاقة إلى المعالي نحو اللانهاية.
إن هذا الوطن بحاجة إلى أبطال شجعان من حواريي العلم والأخلاق والفضيلة المحصنين بالإيمان والأمل، الطافحين بالعشق والحماس، المنسلخين من الأغراض المادية والمعنوية والدنيوية والأخروية، أكثر من حاجته إلى الأحزاب والتعصب الحزبي. وإلى حين التقائنا بهم واستسلامنا لهم، أظن أن غربتنا وأسرنا المتمازجين سيستمران، وإن كان بشكل نسبي. أدعو الرحمن الذي لا نهاية لرحمته أن يغيثنا بأولئك الخالدين الناهلين من منابع "الخِضْر"، الحاملين كؤوس الحياة لنا في أيديهم، والذين وجدنا السلوان بأَماراتهم وعلاماتهم البادية في الآفاق، ونحن نترقبها منذ سنين.
المصدر: مجلة "ياني أميد" التركية، أبريل 1996؛ الترجمة عن التركية: عوني عمر لطفي اوغلو.
- تم الإنشاء في