بكاء القلوب الحزينة
سؤال: يُقال: قد يتغمد الله تعالى العالَم كله برحمته ببكاء قلبٍ حزين؛ فلِمَ لا تشعر قلوبنا بما ينبغي أن تشعر به من همٍّ وحزن؟
الجواب: الإنسان هو مصدر كل مشكلة يمر بها الفرد أو الأسرة أو المجتمع من لدن آدم عليه السلام إلى يومنا هذا؛ وهو أيضًا عنصر أساس في الأزمات والفتن والظلم والفوضى اليوم، ولما كان الإنسان مصدر كل مشكلة فلا يمكن حل المشكلات إلا بإعادة صياغة الإنسان من جديد بأسلوبٍ مِدادُه الوحي والوجدان، فإن لم نفعل ذلك تعذر منع البغي والضلال والسفه والبؤس على وجه البسيطة.
أن يدرك الإنسان أنه في قاع البئر
يُعَدُّ إهمالُ الإنسان أعظمَ مشكلات البشرية اليوم، لكن مَن منَّا يا تُرى يشعر بهذه المشكلة في أعماقه ويغتّم لها ويتكدّر؟ إننا بكلّ أسفٍ لا نستطيع أن ندرك حجم هذا السفه والبؤس ومقدارهما، وذاك السقوط والانحراف الذي يخرّب كل البسيطة؛ لأن معظمنا يعيش الجو نفسه والبيئة عينها.
وإليكم مثالًا يبين المراد: أقمتُ مدة في المدينة ثم زرتُ أخوالي في القرية، وما إن دلَفت إلى الباب حتى شممت رائحة الروث المحروق، فقلتُ: ما أخبثها من رائحة! فأخذ أحفادُ خالي يضحكون؛ لأنني أقمت في طفولتي ما يقرب من شهر في هذا البيت، ولم أشعر فيه إذ ذاك بأيِّ ضيق أو إزعاج.
وجاء في كتاب المثنوي لمولانا جلال الدين الرومي أنَّ رجلًا عمِلَ عند دبّاغٍ، فألِفَ رائحةَ الجلود المستقذرة واعتادها، فلما زار سوق العطارين وتنسّم الروائح الزكية سقط مغشيًّا عليه.
يصف مولانا جلال الدين الرومي بهذه الحادثة حال الطبائع الفاسدة؛ أجل، أصبحنا نرى مناظر تُخجِل الإنسانَ من إنسانيته ولا نشعر بأي خجل أو ألم، ويكأننا نرى كل السلبيات من الأمور العادية؛ وما ذلك إلا لأننا نشأنا في هذه البيئة وألفناها وانسجمنا معها، كما قال الشاعر:
إذا ما شبعتُ حسبتُ الناس شَبْعَى
وذو عَوَزٍ يخالُ الكونَ قَفْرً
فإذا لم نشعر بالآلام ونحس بها فإن قلوبنا لن تنكرها ولن تبحث عن سبل الخلاص منها؛ لأن الإنسان يصطبغ بظروفه وبيئته، فتتأثر حواسه جميعًا بتلك الصبغة، بل تؤثِّر على دماغه أيضًا؛ فيكون إحساسه بكلّ شيء وتقييمه له مرهونًا بحالته هذه، وليس بمقدوره الخروج عنها قِيْد شعرة، فيتعذر عليه أن يُدْرِك أن هناك مقامًا ربّانيًّا قد تخلّف عنه وكان عليه أن يَبْلُغَهُ، ويظنّ أنه يَجُولُ في مناخٍ مفعم بالفرح والسرور والحالُ أنه في قاع البئر؛ لذا لا يحاول أن يخرج منها.
أجل، إنَّ الإنسان بمقتضَى فطرته يتآلف مع بيئته بعد مدة معينة؛ فلو أن إنسانًا عاش في مكانٍ صاخب فلا ريب أن أذنه ستألف هذه الأصوات بعد مدة؛ ثم يتعذر عليها أن تشعر بذبذبات كان ينبغي أن تسمعها؛ وعلى هذه الشاكلة نحن، فمنذ أن تفتحت عيوننا على الدنيا كنا نرى أناسًا يلهثون وراء لذّاتهم ومتعهم ولا يكترثون لشيء وهم سعداء بذلك؛ ولذا لم نستطع ألبتة أن ندرك حالنا البائس المؤسِف.
إن الهمّ مصدرٌ مهم للإلهام؛ فهو يوحي للإنسان بكثير من الطرق والسبل المتنوعة للخلاص من الحال الخانق الذي يعيشه، فمثلًا لو سقط إنسان في بئرٍ، وأدرك أنه في القاع، فاغتمّ وتكدر لذلك، وبحث عن مخرج من هذه البئر، فسيجد بفضل الله وعنايته مخرجًا، وسيخرج؛ حتى وإن لم تكن في يده مجرفة أو معول فسيتخذ من يديه مخلبًا ليحاول الخروج، ويظل يكابد ويقاسي حتى يشقّ تجويفين في ناحيتي البئر يضع عليهما قدميه، فإذا استقلّ على قدميه شقّ تجويفين آخرين؛ وبمثل هذا السعي والتخطيط سينجح ويخرج من قاع البئر؛ لكن مَن لا يُدرك أنه في القاع، ويرضى عن حاله، فلا شك أنه لن يسعى إلى الخلاص مما هو فيه ألبتة.
حالة الاستضعاف تستنزل الرحمات
ولو أنَّ الإنسان استشعر الهمَّ والقلق تُجَاه التردي والانحراف الذي يعيشه وتوجَّهَ كليةً إلى ربِّه سبحانه وتعالى لتجلّى له -كما قال الأستاذ النورسي رحمه الله في كتابه "اللمعات"- سرُّ الأحدية من خلال نور التوحيد الخالص إذا ما انقطعت الأسباب بالكلية.
ومعلوم أن سيدنا يونس بن متى عليه السلام لما ابتعله الحوت اجتمعت عليه ظلمةُ بطن الحوت وظلمةُ أعماق البحار وظلمةُ الليل الحالك، فتوالت عليه الظلمات وأحاطت به من كلّ مكان، فتضرع هذا النبي الكريم إلى ربه سبحانه وتعالى قائلًا: ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾(الأَنْبِيَاءِ:87)، فاستمطر بذلك الرحمة الإلهية، ونجا من بطن الحوت؛ رغم أنّه كان يكابد ظلماتٍ ثلاثًا بعضُها فوق بعض؛ يقول إبراهيم حقي رحمه الله[1] في هذا المقام:
تَرى كلَّ حجاب ينكشف بغتةً إذا تَقَطَّعت بك السبل
ولكلِّ آلامنا لدى المولى دواء أفعالَه فلْنرتقب فما أجمل كل ما فَعَل
والآن انظروا إلى حالنا البائس اليوم، وقولوا لي بربكم: ألسنا في حالة أشدّ من تلك التي كان عليها سيدنا يونس بن متى عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام عندما كان في بطن الحوت؟
يصف الأستاذ النورسي هذه الحالة فيقول: "إن نفسنا هي حوتنا"، أي إن أنفسنا هي التي تبتلعنا اليوم، فها نحن نلهث وراء الدنيا وأصبحنا أسرى لهوى النفس، والأنكى من ذلك أننا لا نعي أنَّا قد تردينا إلى تلك الحالة؛ لذا نبدو كأننا بلا حسّ ولا قلب ولا ضمير تُجاه ما يقع في مختلف أرجاء العالم اليوم من ظلم وجور وبغي؛ فلا بدّ إذًا أن نسأل أنفسنا: "أين كنّا، وأين أصبحنا؟"، ثم نحاول أن نعقد صلة بين عصرنا وعصر السعادة، فنقارن بين هذين العهدين؛ بل ينبغي أن تمتد أنظارنا إلى عصر الأيوبيين والزنكيين والسلاجقة والعثمانيين، تلك العصور التي اقتبست نورها من عصر السعادة، لنتعرف على أصحاب هذه العصور الأقوياء ذوي الإرادة والعزيمة أمثال: صلاح الدين الأيوبي، ونور الدين زنكي، وآلب أرسلان، والملك شاه، وقليج أرسلان، والسلطان محمد الفاتح، ثم نفكر كيف ردّ وقاوم هؤلاء عدوانَ هذا العالم الوحشي عديم الرحمة، وما الوصفات التي وضعوها لمشكلات كادت عقولهم تنفجر من كثرة التفكير فيها؟
أجل، علينا أن نقارن بين عصرنا وهذه العصور الزاهرة لنتأمل حجم حالتنا البائسة وشناعتها؛ وأظنُّ أن تفكيرًا كهذا سيقودنا إلى طرْق باب رحمة الله سبحانه وتعالى حتى نستشعر الألم ونجد الدواء، ويدلنا عز وجل على سبل النجاة والخروج من حالة الشؤم هذه؛ أما من رأى هذه الحالة الشنيعة أمرًا مألوفًا فلا سبيل له للوصول إلى سبلٍ بديلة أو طرق جديدة للخلاص.
بذور الهموم التي تنتثر في القلوب
لا يمكن للإنسان أن يكون محمَّلًا بالهموم والمكابدة إلا بعد أن يتعرفَ العصورَ الذهبية التي كان يُطبَّق فيها الإسلام على أحسنِ وجهٍ، ويُدركَ ما مُنِيَ به المسلمون اليومَ من ذُلٍّ ومسكنة.
وفي مثل هذا المشهد يُعرِب الأستاذ النورسي عن همِّه وقلقه بما معناه: "ليس عندي وقت أضيّعه في التفكير فيما يعرِض لي من تعب ومشاق؛ ليته حلّ بي ألف ضِعف من هذا العناء ويسلمَ مستقبلُ قلعة الإيمان"؛ وذكر رحمه الله أنه راضٍ بالتقلّب ولو في نار جهنم إذا ما كان إيمان الأمة في أمن وسلام؛ وهذه المبادئ هي من مقتضى كونك إنسانًا حقًّا؛ فلو أنَّك إنسانٌ حقًّا ورأيت البشرية تسلك طريقًا إلى جهنم، فلا بدّ أن تصيبك الرعشة والرِّعدة أمام هذا المشهد؛ والحقيقة أنّه قد لا يستشعر كل الناس هذه المسائل بهذا القدر من سموّ الضمير.
وقد لا يكون من المناسب أن يتعرف الجميع على كل مشكلة وكل قضية؛ لأن منهم من لا يتحمل فيروس نزلة برد خفيفة ويموت به، أما ذوو الجهاز المناعي القويّ فإنهم إذا ما هاجمتهم الجراثيم نفسها لم يهتزوا لها إلا لِمامًا، وليس لكل من يسعى في الخدمة الإيمانية والقرآنية جهاز مناعةٍ على نفس المستوى؛ لذا فلو أنكم حدثتموهم عن الآلام والمشكلات كلها فلربما حطّم ذلك قواهم المعنوية؛ أجل، قد يقع هؤلاء في اليأس والقنوط إذا حدثتموهم عن شيء من المشكلات الخطيرة.
دعوني أَبوح لكم بمشاعري: لو أن آبائي وأجدادي أحياء وماتوا فجأة معًا، فوالله إن ألمي من أجلهم لا يبلغ ما أشعر به في نصف يوم من همّ وألم من أجل مستقبل الإسلام؛ حتى إنني أخرج أحيانًا من غرفتي ليلًا وقد قصم ظهري القلق والهم، فأغدو وأروح في الممرات كالمجنون، ورغم هذا أتحاشى في أحاديثي ذِكر ذوي المقاصد الخبيثة ممن يكيدون ويسعون بالدسائس والمؤامرات وغدَوا كالبعبع يخوَّف الناس بهم في كل مكان؛ لأن مثل هذا الأمر قد يوقع الناس في اليأس ويضعف عزيمتهم؛ لذا أحاول أن أُخفيَ عن الناس ما بي من غمٍّ وكدرٍ، وهمومٍ وأحزانٍ.
ولو أني أعلم أنهم قادرون على تحمّل الآلام والمشكلات لأوقدتُ الجمرات ونثرتُ بذور الهموم في قلوب كل مَن تبلغهم كلماتي ليتألموا بآلام البشرية، فيجافي النوم عيونهم ويأخذوا في التجوال هنا وهناك كالمجانين حتى يجدوا الدواء الناجع؛ وقد قيل: "لا يكمل إيمان أحدكم حتى يقال إنه لمجنون"؛ أي إنه لا بدّ عندما ينظر الآخرون إلى حالكم أن يقولوا: لماذا يُشغَل هؤلاء بهذه الأعمال وكان بوسعهم أن ينعموا بكل ما في هذه الدنيا الفاتنة من بساتين وحدائق وزهور مونقة وجو ماتع بديع؛ إن مثل هذا الجنون لهو -كما يقول يونس أمره[2]- تعبيرٌ عن بذل العبد كلّ ما يملكه في سبيل الله.
وهل يصح أن نقول: إن من لم يكن هكذا فقد خاب وخسر؟ معاذ الله، فقد أخبرنا صاحب الشريعة صلى الله عليه وسلم أن «مَنْ لَقِيَ اللهَ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا دَخَلَ الجَنَّةَ»[3]؛ فليس أحد منّا نائبًا عامًّا، وليس لأحد أن يصادر على دخول أحد الجنة، فهذه مسألة أخرى، أما ما نحن بصدده فهو مسألة احتضان البشرية بأسلوبٍ نبوي، والاغتمام والتكدر من أجل ما تعانيه الإنسانية من مشكلات والتفكير في إيجاد الحلول لها.
[1] إبراهيم حقي (؟ – 1194هـ/1780م ): عالمٌ تركي جليل وزاهدٌ متصوف، عاش في القرن الثاني عشر الهجري، له عدة مؤلفات أشهرها “مَعْرِفَتْنَامَه”.
[2] يونس أَمْرَه (؟ – 720هـ/1320م ): شاعر تركي شعبي وزاهد وصوفي، ترك أثرًا كبيرًا في الأدب التركي منذ وقته إلى عصرنا هذا.
[3] صحيح البخاري، العلم، 49؛ صحيح مسلم، الإيمان، 152.
- تم الإنشاء في