الأسس الأربعة الرئيسية التي تستند إليها "الداروينية"
ععلى ضوء بعض أوجه التشابه الموجودة بين المخلوقات وفي ضوء التأثيرات التي تلقاها من العلماء قام دارون بتاسيس نظريته على هذه الأسس الأربعة الرئيسية:
تقوم الظروف الخارجية، وأحياناً التأثيرات الداخلية بإجراء تأثير على الكائنات الحية، حيث تؤدي هذه التأثيرات إلى تغييرات كبيرة أو صغيرة فيها.
تلعب هذه التغيرات بدرجة ما دوراً مفيداً للأحياء بشكل أو آخر.
تنتقل هذه التغيرات الطفيفة عن طريق الوراثة إلى الأجيال والأنسال القادمة.
الانتخاب الطبيعي: نتيجة لشحة الغذاء بسبب التزايد السكاني فإن الأحياء تضطر للتصارع فيما بينها. وحياة الأحياء عبارة عن هذا الصراع. والطرف القوي في هذا الصراع هو الذي يبقى ويستمر في الحياة، أما الضعفاء والمغلوبون فمصيرهم هو الزوال حتماً.[1] كما أن المصائب والبلايا ستبيد الضعفاء وعديمي المقاومة، فلا يبقى على وجه الأرض سوى الأنواع القوية. وتستند هذه الفكرة إلى الرأي الاقتصادي لمالتوس والذي لخصناه قبل قليل. والآن لنأخذ هذه الأسس الأربعة للداروينية ونناقشها بالتفصيل:
1- دعوى التطور، والتشابه الموجود بين الأحياء
تنطلق الداروينية من المشابهة والتشابه الموجود في الطبيعة. فهي ترى أن بعض الأعضاء الضامرة الموجودة في بعض الأحياء الراقية هي آثار عن أسلاف بدائية كانت مفيدة لها، ولكنها أصبحت دون فائدة بعد قطع هذه الأحياء لمراحل تطورية معينة، ولكون هذه الأعضاء لا تفيد في هذه المرحلة الجديدة من التطور لذلك الكائن لذا بقيت كأعضاء ضامرة وأثرية. فمثلاً يقول دارون إن وجود الشعر في جسم الإنسان دليل على أنه ورث هذا الشعر من الشعر الموجود في أجساد الثدييات، وفي أثناء المراحل التطورية التي مر منها الإنسان تساقط القسم الأكبر من هذا الشعر ولم يبق إلا في مناطق معينة... فلماذا؟
مثل هذه الادعاءات لدارون لا تستند إلى برهان حقيقي. لأن وجود الوجه والعين والأذن في الإنسان لا يشكل دليلاً على أنه تطور من القرد. كما لا يشكل وجود هذه الأعضاء في بعض الأحياء دليلاً على أن بعضها قد تطور من بعض. لأن هناك تشابهاً كثيراً بين العديد من الكائنات الحية في العالم. لأن جميع هذه الكائنات الحية تستند إلى عناصر رئيسية أربعة هي: النتروجين، الكاربون، الأوكسجين، والهيدروجين. كما أن الإنسان والحيوان يتغذون أغذية مشتركة. والإنسان خاصة يتغذى من الأغذية نفسها، ومع ذلك فإن جميع أنواع الموجودات، وكذلك أفراد الإنسان يبدون في نواح عديدة فروقاً كبيرة فيما بينهم.
إن التشابه في المظهر الخارجي أو في البنية الداخلية لا توجب تطور الأحياء بعضها من بعض. وعلى الرغم من النشأة المشتركة، فإن الفروق الموجودة بين الكائنات تُظهر أن الغاية من الخلق ووظيفة ذلك الكائن وموقعه يأتي في المقدمة، وأن البنية المادية تنظم على هذا الأساس. فلا يمكن بناء بناية عشوائية أو بناية جميلة ثم تعطى لها فيما بعد وظيفة ما. ولا يمكن تشكل الكلمات في الذهن أو كتابة كتاب قبل وجود فكرة أو معنى في الذهن. يتكون كل بناء تقريباً من المواد البنائية نفسها. لذا فهناك تشابه كبير بين الأبنية، ولكن أي بناية ليست مثل بناية أخرى تماماً.
إن الأحرف التي تشكل الكلمات واللغات هي نفسها، ولكن كل كلام يتم التعبير عنه بتلك الإشارات والأحرف المحدودة في أعدادها. ولو كانت هناك كلمة من سبعة أحرف فإنها تختلف تماماً مع كلمات أخرى تتشابه معها في ستة أحرف، لأن اختلاف حرف واحد يبدل المعنى ويجعلها مختلفة عن الكلمات الأخرى. كما أن هناك احتمال وجود سبع كلمات مختلفات لها سبعة أحرف... ووجود ستة أحرف مشتركة بين هذه الكلمات لا يدل على أنها مشتقة من جذر واحد. لأن المعنى هو الذي يحدد ماهية كل كلمة ويحدد حروفها. ونظير هذا فإن الوظائف المتشابهة تقتضي عند الكائنات أعضاء وتراكيب متشابهة. وعلى الرغم من وجود بعض الشبه في عالم الأحياء، وعلى الرغم من استعمال مواد البناء واللبنات نفسها نرى وجود اختلافات لانهائية فيه.
ولو قمنا بالتعبير عن الأمر بصورة عكسية لقلنا بأن تشابه مواد البناء واللبنات الأساسية في الأحياء على الرغم من وجود اختلافات لا نهائية يدل على وجود قصد وإرادة ومعنى معين. لذا فكما تتراص الكلمات حسب معنى معين، كذلك تُخلق الأحياء حسب الوظائف التي ستكلف بها، وتعطى لها الأعضاء والتراكيب المناسبة. لذا فالتشابه الموجود بين الأحياء لا يشير إلى التطور، بل يشير إلى العكس.
ثانياً إن هناك أعداداً غير محدودة من الكائنات ومئات الآلاف من الأنواع على سطح الأرض[2] ولو كان لكل نوع وجه خاص وأعضاء مختلفة، ولو كان لكل نوع بنية مختلفة وجسد مختلف لكان من الضروري وجود أنواع لانهائية من الأعضاء ومن التراكيب والبنى. ولو تناولنا الأمر على مستوى الإنسان لكان من الضروري أن يكون لكل فرد تركيب وبنية مختلفة وشكل مختلف لأن الإنسان يشكل نوعاً فريداً في عالم الكائنات. ولا شك أن الله تعالى له القدرة على إعطاء شكل مختلف وبنية مختلفة لكل نوع. ولكن كان من الصعب في هذه الحالة تحقق التقارب والتفاهم والتعاون في عالم الأحياء وفي عالم الإنسان، ولأصبح كل نوع غريباً عن الأنواع الأخرى... أي لكان هناك عالم لا يطاق فيه العيش.
ثم إن كل شيء مشابه أو كل شيئين متشابهين ليس معناه العينية. فمثلاً هناك أنواع عديدة من السوائل، ولكن ماء الورد يختلف عن حامض الهيدروكلوريك، وحتى في الاستعمال نرى أن أحدهما يجلب الراحة، والآخر يحرق. وكذلك نرى أن الشمس والكهرباء والشمعة والخشب المحترق يعطي كل منه الضوء، ولكن لا يمكن إرجاع الجميع إلى مصدر واحد. لذا فوجود عضو واحد في الإنسان، أو عدة أعضاء مشابهة لما هو موجود في الحيوانات، بل حتى وجود أوجه تشابه عديدة بين الإنسان وبين الحيوان لا يشير ولا يبرهن على وجود تطور بين النوعين. لأن كل موجود قد أعطيت له الأعضاء المناسبة لتحقيق وظيفته في الحياة. علماً بأنه قد تبين اليوم بأن العديد من الأعضاء -التي عدت في السابق أعضاء ضامرة ولا فائدة منها ولا وظيفة لها- لها وظائف مهمة.
بجانب هذا فقد تكون هناك في الطبيعة أشياء تبدو وكأنها غير مناسبة للبيئة ولبنية البيئة العامة وتركيبها، بل هي موجودة فعلاً. ولكن يمكن البحث عن المعاني التي تشير إليها من جهة، ومن جهة أخرى فإننا لا نعرف بعد طبيعة بنية البيئة حق المعرفة، ولم نحل جميع ألغازها. أحياناً يوضع شيء في مكان غير مناسب، كعنصر من عناصر الديكور والجمال فيجلب الأنظار إليه. فإن أثار هذا الاهتمام، وقام الإنسان -استنادا إلى هذا- بإصدار حكم حول البنية العامة فإنه ينخدع تماماً. وهذه النقطة نقطة امتحان زلّت فيها كثير من الأقدام.
فإن كان هناك قصر له ألف باب اثنان منها مغلقان، فمن الخطأ الحكم بأن جميع أبواب ذلك القصر مغلقة. وكذلك لو كانت هناك شجرة لها جذور حية وقوية وجذع متين وأغصان وأوراق وثمار في تمام العافية والنضج، فإن من الخطأ الفاحش القول بأن هذه الشجرة شجرة ميتة وغير صالحة لمجرد وجود ثمرتين عفنتين على غصن منها. كذلك فإن التوصل إلى استنتاج بوجود تطور بين الأنواع من مجرد وجود عضو أو عضوين ضامرين، (وبالتالي الظن بأنهما غير مفيدين) خطأ بنفس الدرجة وتصرف غير علمي.
لقد زعم دارون -انطلاقاً من وجود التشابه- إلى أن وجود بعض الأمراض التي تصيب الإنسان تصيب الحيوانات أيضاً مما يشكل حسب رأيه دليلاً آخر في هذا الصدد (أي في وجود قرابة بين الإنسان والحيوان). ولا يسعنا هنا سوى ذكر ما سبق أن ذكرناه في هذا الأمر.
فالأمراض المكتشفة تبلغ العشرات، بل المئات إن أخذنا بنظر الاعتبار الأمراض الثانوية المتشعبة عن الرئيسية. ولو كانت هناك أمراض متعددة لكل نوع من الأنواع لكان من المفروض وجود عدد لا يعد ولا يحصى من الأمراض. ثم إن وجود أمراض مشتركة بين الإنسان والحيوان شيء طبيعي جداً ومتوقع طالما أن بنية الإنسان والحيوان مؤلفة في الأغلب من لبنات متشابهة وتؤدي مهمات متشابهة، لذا فلا يشكل هذا الأمر دليلاً له أي قيمة في أن الإنسان متطور من الحيوان. علما بأن معظم الأمراض التي تصيب الإنسان ليست هي نفس الأمراض تماماً التي تصيب القرود. على العكس من هذا تماماً فبعض هذه الأمراض تظهر في أنواع أخرى من الحيوانات، فمثلاً يظهر مرض (amfizem) المزمن عند الخيول، ومرض سرطان الدم في القطط والثيران، ومرض العضلات (ditrofisi) في الدجاج والفئران، وتصلب الشرايين في الخنازير والحمام، ومرض سوء التخثر ومرض التهاب الكلية في الكلاب، ومرض قرحة المعدة في الخنازير، ومرض (anevrizma) في الديك الرومي، وحصاة الصفراء في الأرانب، والتهاب الكبد في الكلاب والخيول، وحصاة الكلية في الكلاب والثيران، ويظهر مرض السُّد (إعتام العين cataract) في الكلاب والفئران. وفي الطيور والدجاج أيضا.
فهل نستطيع انطلاقاً من هذا الادعاء أن نقول بأنّ أصل الإنسان فأر، أو أنه تطور من الكلاب؟ أو أنه ترقى من الثيران؟ إن من الطبيعي أن يصيب الإنسان والحيوان النوع نفسه من الفيروس والبكتريا، ولا يدل هذا على كون منشأ الإنسان والحيوان واحداً. وهناك أمراض تصيب الإنسان كما تصيب الطيور والدجاج التي تعد من الناحية البيولوجية بعيدة جداً عن الإنسان. فإن أرجعنا الإنسان -بواسطة هذه الأمراض- إلى الدجاج فسيكون هذا ابتعاداً عن النظرة الداروينية. لأن دارون ربط الموضوع بالتطور ووضع القرد بين أنواع الحيوان والإنسان.
2- التكيف ومسألة الأعضاء المستعملة وغير المستعملة
بعد أن أوضحنا بأن مسألة التشابه -التي هي من منطلقات دارون- لا يمكن أن تكون أساساً للتطور، علينا أن نبين بأن أساساً آخر من أسس الداروينية وهو زعمهم بأن الأعضاء غير المستعملة ستضمر بمرور الزمن، وأن الصفات المكتسبة فيما بعد عند الأحياء تنتقل إلى ذرياتها وأنسالها حسب نظرية لامارك... فلقد تبين بان هذا الزعم لا يملك أي مصداقية. صحيح أننا نرى أن بعض الأعضاء ولاسيما العضلات عندما تستعمل كثيراً تتضخم. ورافع الأثقال تتضخم عضلات ساعده وتنمو بشكل جيد. ولكن ابن حامل الأثقال لا يأتي إلى الدنيا بعضلات ضخمة. ولكي يملك مثل هذه العضلات عليه أن يتمرن على رفع الأثقال. ونظير هذا المثال نجد أن اليهود يُختنون منذ أربعة آلاف سنة. وعلى الرغم من مضي كل هذه السنوات الطويلة فلا يولد طفل يهودي وهو مختون. كما أن المسلمين يُختنون منذ 14 قرناً، ومع هذا لم نر من ولد مختوناً. لذا فإن قبول انتقال الصفات التي يكتسبها جيل من الأحياء إلى ذرياتها عن طريق الوراثة، واعتبار هذا الأمر قضية مسلماً بها لا يتلاءم مع العلم ولا مع الكرامة العلمية.
ومثيل هذا خرافة أخرى وهي أن الأعضاء غير المستعملة تضمر بمضي الوقت، وتنتقل ضامرة إلى الأجيال القادمة، أما الأعضاء المستعملة فتقوى وتتطور. وقد ادعى "لامارك" بأن عنق الزرافة أصبحت طويلة أكثر من الاعتيادي، لأنها كانت تضطر لمد أعناقها لأكل أوراق الأشجار العالية، وأنها شعرت بضرورة كون أعناقها طويلة. فأي حيوان لا يرغب في أكل الأوراق الموجودة في أعلى أغصان الأشجار؟ ولماذا طال عنق الزرافة ولم تطل أعناق الحيوانات الأخرى؟ من المعروف أن العنـز تتغذى من أغصان الأشجار وأوراقها على الدوام إلى درجة أنها تعد من أعداء الغابات. ولكن لكون أعناقها لم تطل فهي مضطرة على الدوام لبذل جهد كبير لتسلق الأشجار. ألم تكن الثعابين ترغب في أن تكون لها أرجل تمشي عليها بدلاً من صعوبة الزحف بين الأتربة والصخور؟ ويدعي دارون أن أرجل الثعابين ضمرت بمرور الوقت. وهنا يوجد تناقض واضح لكل عين. فلو كان هناك تطور في عالم الأحياء لكان من المفروض أن تتطور الثعابين من أحياء كالدود إلى أحياء تملك أرجلاً طويلة متكاملة ومتطورة. فمن جهة يقولون بأن الثعابين كانت تستعمل أرجلها في عهد من العهود، ثم لم تعد تستعمل هذه الأرجل فضمرت. بينما لو كانت الثعابين قد ظهرت وهي تملك أرجلاً -كالخيول مثلاً- لاستعملت هذه الأرجل طبعاً. إذن لماذا لم تستعمل هذه الأرجل وانقلبت إلى زاحف؟!. فمن جهة يدّعون بأن الثعابين لم تستعمل أرجلها مما أدى إلى ضمورها، ومن جهة أخرى يدعون أن أعناقها طالت بسبب اضطرارها إلى الزحف الدائم. أليس في هذا تناقض واضح؟
ويزعم دارون كذلك أن الطير اكتسب فيما بعد جناحيه لكي يستعملهما في الطيران. وهنا يوجد تناقض واضح في هذا الزعم. لأنه كان من المفروض -حسب الادعاء بأن الأعضاء المستعملة تتكامل وتتطور، وأن الأعضاء غير المستعملة تضمر- أن تضمر جناحا الطائر، لأن الطائر لم يستعملهما طوال فترة عدم صلاحيتهما للطيران. لذا كان من المفروض أن تضمر الجناحان وتنعدمان أو تقربان من الانعدام والاختفاء... كما أن مثل هذا الزعم يجلب معه أسئلة كثيرة. فكيف تكامل هذا الطائر تدريجياً قبل أن يملك جناحين صالحين للطيران، ثم امتلك الجناحين فجأة؟ وكيف شعر الطائر بضرورة امتلاكه للجناح؟ وكيف قام بتطوير جناحيه؟. فهل كان يتدرب على امتلاك الجناح بعد شعوره بحاجته له فظهر هذا الجناح فجأة؟ وقبل أن يمتلك الطير الجناح أكان يتجول مع الحيوانات الأخرى؟ أم كان له عضو حافظ عليه وكان يستخدمه سابقاً وتحول هذا العضو إلى جناح؟. فكيف حافظ على هذا العضو وبأي عامل؟ لا يملك دارون ولا الذين تبنوا نظريته بكل تعصب -وكأنها حقيقة لا شك فيها- أجوبة مقنعة حول هذه الأسئلة.
نرى أن الذين يصرون على التمسك بنظرية التطور، أي يصرون على فكرة أن الأعضاء غير المستعملة تضمر وأنها تنتقل بالوراثة إلى الأجيال اللاحقة، يقدمون مثال اللوزتين والزائدة الدودية عند الإنسان دليلاً في هذا الموضوع. فأنصار هذه النظرية يقولون بأن الزائدة الدودية التي تقع بين الأمعاء الدقيقة والأمعاء الغليظة عضو ضامر ورثناه من أسلافنا من الحيوانات آكلة العشب، لذا فلا ضرورة ولا فائدة له. ولكن العلم يقول اليوم أن اللوزتين عبارة عن بوابة حراسة وأمن ضد الجراثيم التي تحاول دخول جسم الإنسان عن طريق الفم. ويصف البروفيسور "عثمان بارلاس" في كتابه "الطب السريري وتشخيص المرض" الزائدة الدودية بأنها: "المعدة الثانية للإنسان". وغنى هذا العضو باللمف والأوعية الشعرية يشير إلى أهميته. ويحتمل أننا سنملك في المستقبل معلومات أكثر تفصيلاً حول الزائدة الدودية. ولكن ما عرضناه حولها يكفي لبيان تهافت هذا الزعم.
ويذكر دارون أن الشعر الموجود في الإنسان ضامر أيضاً، حيث يقول: "لقد كان أجداد الإنسان حيوانات ذات شعر كثيف، وأنه عندما تطور وتحول إلى إنسان سقط الكثير من شعره". ولكن عندما جاء ليفسر سبب عدم وجود الشعر عند النساء في أكثر أجزاء أجسامهن اعتذر بعذر لا يتلاءم ولا ينسجم مع نظرية التطور فقال: "لقد كان هذا ضرورياً لجمال المرأة وجاذبيتها!!" لقد كان من الممكن أن يكون إيراد هذا السبب مفهوماً لو تم النظر للموضوع من زاوية الحكمة ومن زاوية الخلق الالهي.
ولكن الأمر ليس كذلك مع نظرية ترى أن هذا الوجود -الذي يستند فيه كل شيء وفي كل جانب من جوانبه، وفي كل جزيئة من جزيئاته وكل حركة من حركاته إلى شعور كلي، وإلى علم وقدرة وإرادة مطلقة وأثر من آثارها- وهذا الكون وما فيه من حياة تستند إلى المادة الصماء الخالية من أي شعور أو علم أو إرادة أو حكمة، وإلى الطبيعة وإلى المصادفات العشوائية. أي أن قيام هذه النظرية في صدد إيضاح عدم وجود الشعر الموجود في الرجال في أجساد النساء إلى الحكمة وإلى سبب شعوري يعد هروباً وتناقضاً صارخاً. بل هو عجز عن الهروب من الحقيقة.
ويحاول دارون تفسير وجود الشعر في رؤوس الرجال وعدم تساقطه فيقول: "بما أن الرأس معرض كثيراً للضربات فقد كان من الضروري أن يبقى الشعر عليه". ولكن أيتعرض أنف الإنسان وجبينه بل وركبته ورجله إلى صدمات أقل، لذا تساقط الشعر هنا ولم يبق فيها إلا الشيء القليل منه بينما بقي في الرأس؟!
ويقدم الداروينيون الجدد الدليل الآتي للبرهنة على التغيرات الحاصلة في الكائن الحي للتكيف مع البيئة: يقولون بأنه جرى في بعض الأماكن الصناعية في أوروبا ما يطلق عليه اسم "قتامة التصنيع"، فقد لوحظ في هذه الأماكن أن الفراشات السوداء وذات الألوان الغامقة تستطيع صيانة أنفسها عن أعدائها عندما تحط فوق الجدران الغامقة والسوداء، أكثر من الفراشات ذات الألوان الفاتحة، وتتكاثر أكثر منها. إذن فهناك عملية تغيّر، حيث سيأتي يوم تنقرض فيه الفراشات ذات الألوان الفاتحة انقراضاً تاماً بينما تبقى الفراشات ذات الألوان القاتمة.
من الواضح أن هذا الدليل دليل متهافت تماماً. لأن الفراشات التي انقرضت والفراشات التي بقيت هي فراشات، فكما لم يحصل أي تطور من نوع إلى نوع آخر، كذلك لم يحصل أي تغير داخل النوع نفسه.
كما يقدمون حدوث التغيرات ضمن النوع الواحد من الأحياء -إما نتيجة حادثة طبيعية أو نتيجة عزل صناعي، أي نتيجة العيش في ظروف مختلفة- كدليل على التطور على أساس من التكيف للبيئة. من الممكن مشاهدة مثل هذه التغيرات في كل وقت، ولكنها تغيرات ظاهرية وتجري ضمن النوع الواحد. ولا يمكن إيراد هذه التغيرات كدليل على سلسلة عملية التكامل والتطور التي تؤدي لظهور أنواع جديدة من الأحياء. ولو تم مثل هذا الادعاء لما كان مقنعاً أبداً.
3- التطور والمراحل التي يمر منها الجنين في رحم الأم
هناك ادعاء آخر في هذا الموضوع، وهو أن الجنين عندما يمر بمراحل النمو في رحم الأم يكون مشابها للمراحل الأولى لنمو الأجنة الأخرى للحيوانات الفقرية الأخرى. ولا يوجد لهذا الادعاء أي جانب مقنع. وقد قام البرفيسور "شنكون" بنقد هذا الادعاء ويقول بأننا لا نعرف الشيء الكثير عن مدى التناظر والتشابه الموجود في مراحل نمو وتطور البويضة المخصبة. علماً بأنه ليس من السهل معرفة وملاحظة التناظر والتشابه، لأن بعض الأجنة تنمو وتتطور بسرعة، بينما تكون أجنة أخرى بطيئة النمو والتطور. ومع وجود تشابه مورفولوجي[3] -أي شكلي- فإن نسل كل كائن حي يملك خواصاً وكروموزومات وجينات واستعدادات ومسار نمو وتطور خاص به.
يعطي القرآن معلومات حول مراحل تطور الجنين، وهي معلومات أيدها العلم بعد 14 عصرا من نـزوله. لذا سنتناول التطور في ظل الآيات القرآنية.
﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا اْلإنْسَانَ مِنْ سُلاَلَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ﴾ (المؤمنون: 12-15).
تذكر الآية هنا أن العناصر الموجودة في التراب هي المنشأ المادي للإنسان. وقد يكون هذا الذكر رمزاً أو تشبيهاً، والمقصود منه قد يكون الأغذية التي تدخل هذه العناصر فيها والتي تكوّن سائلاً أو حساءً من البروتينات. وكلا المعنيين صحيحان. ثم يدخل هذا السائل إلى رحم الأم كنطفة حيث تبدأ بتعقب مراحل أخرى مختلفة. فيجعلها الله تعالى أولاً علقة، أي قطعة دم متخثرة ملتصقة بجدار الرحم. وكلمة "علقة" في اللغة العربية لها ارتباط بكلمة "علاقة" الموجودة في اللغة التركية. أي أن شكل العلقة الذي تأخذها العلقة الملتصقة بجدار الرحم تكون لها علاقة بالأم وبجسدها وتتغذي منه. وينسب القرآن كل هذه التطورات بالله تعالى. لأنه ليس باستطاعة تلك النطفة ولا تلك العلقة القيام بنفسها بأي عمل، ولا تملك أي حظ للنجاح في إنجاز أي عمل من الأعمال التي تستوجبها وتيرة التحول إلى إنسان كامل مهما كان صغيراً، والتي تقتضي شعوراً وإرادة وعلماً وقدرة لانهائية. لذا فالله تعالى هو الذي يقدر هذه الأفعال وينجزها.
وعندما نقوم بشرح المراحل المختلفة التي يمر بها الجنين في رحم الأم نستعمل عبارات يبدو من ظاهرها وكأن هذه المراحل تتم تلقائياً. بينما لا نعني هذا بل هو أسلوب مجازي فقط. بينما تقوم نظرية التطور بالادعاء بأن جميع هذه المراحل تتم تلقائياً وعن طريق المصادفات العشوائية، فتعرض بذلك جهلاً وإنكاراً غير مسبوقين في التاريخ. وهذا هو السبب كما أعتقد في هذه الأهمية البالغة التي يوليها العلم المادي لهذه النظرية.
إن العلقة التي تلتصق بجدار رحم الأم تدخل في علاقة قوية وجذرية مع الأم ومع جسدها. ثم تتحول إلى "مضغة"، وهي تعني شيئاً مثل قطعة لحم ممضوغة في الفم لا شكل لها. ثم لا تلبث أن تتحول بعض الخلايا الموجودة فيها -التي تكوّن هذه المضغة التي لها شكل اللحم الممضوغ- إلى غضروف أولاً ثم تتحول تدريجياً إلى عظم. وبعد تشكل هذه الخلايا يتم تشكل خلايا العضلات والأنسجة الرابطة، حيث يقوم اللحم المتشكل منها بتكسية العظم. ولم تتوضح تفاصيل هذه المراحل في علم الأجنة الحديث إلا بعد تيسر رؤية بطن الأم بأشعة أكس، بينما شرح القرآن هذه المراحل قبل 14 قرنا بشكل واضح. علماً بأن الغاية الرئيسية للقرآن هي عرض الحقائق الأساسية كالتوحيد والنبوة والحشر والعبادة والعدالة، وإيضاحها والبرهنة عليها.
لذا فإن القرآن عندما يتعرض لبعض الحقائق العلمية عرضاً يستعمل أسلوب التشبيه والاستعارة والمجاز والمثال. ولكن قيام القرآن بعرض المراحل التي يمر بها الجنين في رحم الأم بكل هذا الوضوح والصراحة لا بد وأنه كان ضرورياً لإزالة الشكوك التي تثار في المستقبل، ولإيضاح مدى خطأ ما ستطرح من نظريات -كنظرية التطور- فجاء هذا التنبيه والتفصيل من قبل 14 قرناً لهذا الغرض.
وبعد أن يشرح القرآن خلق العظام ثم إكساءها اللحم يقول: ﴿ثم اَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ﴾. وتبين من هذه الآية أن الإنسان خَلْقٌ مستقل بذاته، وهذه المرحلة هي بداية هذا الخلق الخاص.
ضمن هذه المراحل الخمس، أي مرحلة النطفة ثم العلقة، ثم المضغة ثم مرحلة خلق العظام، ثم مرحلة إكساء العظام لحماً، تبدو جميع الأحياء الفقرية متشابهة تماما. فلو شاهدنا جنين طائر أو سمكة أو جنين إنسان في طور من أطوار هذه المراحل الخمس لما رأينا أي فرق يذكر بين هذه الأجنة. ولكن هذا التشابه الذي يبدو تاماً، تشابه ظاهري فقط. لأن مدة هذه المراحل مختلفة فيما بينها، فبعضها قصيرة جداً وبعضها طويلة.
ثانياً إن كل جنين يملك خواصاً تعود لنوعه، ويتميز بها، ولا نستطيع مشاهدة هذه الخواص من الخارج، لا بل لا نستطيع مشاهدتها حتى لو دخلنا بطن أمه، وهو ينمو ويتطور حسب هذه الخواص، إلى درجة أن كل إنسان يختلف عن الآخرين إلى درجة ما، لأنه يظهر في النهاية فرد يختلف عن الآخرين من نواح عديدة: يختلف بشعره وعينيه وأنفه وشفتيه وقامته ووزنه وبصمات أصابعه وجزيئات D.N.A. عنده، ومظهره وتصرفاته وقابلياته. ولكن توجد بين أجنة النوع النوع الواحد صفات مشتركة تعود لذالك النوع. فمثلاً نرى أن الإنسان لكونه خُلق في أحسن تقويم، أي في أفضل شكل وجهّز بالعقل والمشاعر والإرادة، فإنه ما أن يأتي إلى الدنيا حتى يظهر الاستعداد للتعلم، وكذلك للترقي والسمو بالإيمان وبالعبادة. ولكونه يملك سر هذا الاستعداد، فإن كل جنين إنساني مجهز بهذه القابليات لتحقيق الأمور والأهداف التي ذكرناها.
ومع هذا فلكل جنين بشري خواصه المتميزة، لأن كل فرد من الأفراد في النوع الإنساني يملك خواصه التي يتميز بها. وهذه الصفات والخواص التي يملكها ذلك الكائن الحي وتميزه عن الكائنات الحية الأخرى هو البرنامج الموجود في جزيئات D.N.A والكامن في جيناته الموجودة في كروموزومات ذلك الكائن. ومع هذا فلا يبدو في الظاهر أي فروق تشير إلى هذه المميزات والخواص في أجنة الأحياء الفقرية في المراحل الخمس الأولى، ولا يمكن ملاحظة أي فروق. أي تبدو وكأنها مثل الأجنة الأخرى تماماً.
ولنفرض أن أجنة الأحياء الفقرية كالطير والسمك والإنسان متطابقة بعضها مع البعض الآخر تماماً، فكيف يستطيع العلم أو أنصار نظرية التطور تفسير التغيرات الكبيرة التي ستظهر فجأة بعد هذه المراحل؟ إن الأحاديث النبوية الشريفة تذكر بأن الروح ينفخ في هذه المرحلة في الإنسان ويُكتب قدره. ولكن بما أن نظرية التطور والعلم المادي لا يعترفان بالروح ولا بالقدر فكيف يستطيعان تفسير هذه التغيرات والتمايزات الفجائية، وكيف يفسران أن كل فرد إنساني يكون متميزاً عن الأفراد الآخرين، ويتجه لكي يكون ذا كيان مستقل ومتميز؟
فإن كانت عملية التغير هذه والتمايز عند الإنسان نابعاً عن روحه الذي يعطيه هويته الحقيقية وعن قدره، أي عن الخصائص المعنوية التي تعطي له ماهيته وكيانه، فإن على التطوريين وعلى أرباب العلم أن يفحصوا كل موضوع وكل مسألة من البداية، ويفكروا فيها من جديد، أليس كذلك؟ ومع هذا فإننا نؤمن -على الرغم من الادعاء المعاكس للتطوريين- بأن لأجنة كل نوع من أنواع الأحياء، ولكل فرد من أفراد النوع الإنساني فروقاً خاصة به، وخواصاً نابعة من روحه ومن قدره.
بعد المرحلة الخامسة من النمو يبدأ الجنين الإنساني بأخذ شكل إنساني، ويبدأ كل فرد بحمل الخواص المميزة له. وهذه المرحلة هي مرحلة اكتساب صفة "أحسن تقويم" وسره. وهنا تظهر أعلى درجة من درجات صفة الخلق لله تعالى في خلق الإنسان، أو أعلى مرتبة من مراتب الخلق، وهو ما تلخصه وتشير إليه الآية الكريمة ﴿فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾. لذا نستطيع القول بإيجاز بأنه لكون الخالق جل شأنه يتجلى باسمه الأعظم في خلق الإنسان فإنه -أي الإنسان- مجهز بالاسم الأعظم من أسماء الله الحسنى، فأصبح مظهراً لأن يتبوأ مرتبة "أحسن تقويم". أي إنه مخلوق متميز وفريد.
والخلاصة فإن أجنة الحيوانات الفقرية تكون متشابهة فيما بينها في المراحل الأولى، كما أن مشابهة الجنين الإنساني لأجنة الحيوانات الفقرية الأخرى مشابهة ظاهرية، وفي المظهر الخارجي فقط، لذا لا يمكن عدّ هذا دليلاً للتطور بأي حال من الأحوال.
يقول العالم سير جيمس جينـز المختص في علم الفيزياء الكوني -الذي يعد من أكبر علماء القرن العشرين، والذي يعد من قبل الكثيرين بأنه "آنشتاين ثان"- في كتابه "الكون الملئ بالأسرار" و"الكون من حولنا" المترجمان للغة التركية: (إن الإنسان المشغول بفرع من فروع العلم يصل إلى درجة الفناء في ذلك العلم). أي أن الإنسان يتشرب بفرع العلم الذي ينشغل به إلى درجة الفناء فيه. فلا يسمع إلا بأُذُن ذلك العلم ولا يرى إلا بعينه، ولا يتكلم إلا بلسانه، ويعيش انفعالات ذلك العلم. ويعطي هذا العالم مثالاً على هذا فيقول: (إن الموسيقيّ الذي يتعوّد على سماع النغمة التي يصدرها المفتاحان الخامس والسادس على الدوام، لا بد وأنه عندما ينـزل سلما ويصل إلى الدرجة الخامسة ثم الثامنة سيخيل إليه أنه يسمع النغمتين نفسيهما الصادرتين من المفتاحين الخامس والسادس في البيانو).
قام بعض العاملين في الحقل الهندسي بعمل أشكال مثلثة ومربعة في صحراء شبه الجزيرة العربية وفي الصحراء الكبرى في أفريقيا وأوقدوا فيها النيران الكبيرة، فأحدثوا أنواراً وأضوية قوية ساطعة لكي يجلبوا أنظار الكائنات الذكية الأخرى التي يرون احتمال وجودها في الكون من الذين يفكرون هندسياً مثل الإنسان. هؤلاء العاملون في الحقل الهندسي قد ذابوا وفنوا في عالم الهندسة. ويعتقد المختصون في حقل الرياضيات أن الصانع جل وعلا قد خلق الكون بمقاييس رياضية. وهؤلاء أيضاً فنوا في الرياضيات.
أما دارون فلكونه قد قضى حياته في ملاحظة وتدقيق ودراسة الحيوانات ومتحجرات الحيوانات، ولم يخرج خارج إطار هذه الساحة فإنه نظر إلى الوجود وإلى الخلق وباختصار إلى كل شيء من زاوية، ومن نافذة هذه الساحة، ومن منظارها، واستعان بتفاسير لا يقبلها لا العلم ولا المنطق ولا العقل لكي يبرهن على فرضيته. والأمر نفسه نلاحظه عند الذين تبنوا نظريته بتعصب وإصرار. وقد نبّه العالم الفلكي "جيمس جينـز" إلى مخاطر التخصص مع الاعتراف بفائدته.
4- المتحجرات
الذين تبنوا نظرية التطور من أجل تفسير منشأ الحياة وأصلها يرون ضرورة الاستعانة بالمتحجرات، وذلك من أجل البرهنة على صحة هذه النظرية من جهة، وكذلك بسبب عدم حدوث ما يثبت وقوع أي تطور ملحوظ ضمن العهود التاريخية المعروفة.
وقد فعل دارون الشيء نفسه. بدأ بدراسة الطب في بادئ الأمر لكونه من عائلة غنية، ولكنه كان يهرب من المدرسة ويتجول في الحقول منشغلاً بملاحظة النباتات والأعشاب ومهتما بها. وعندما لم ينجح في دراسة الطب قرر دراسة اللاهوت. والظاهر أنه كان يملك ذكاءً نظرياً، ولكنه لم يكن يملك ذكاءً عملياً بنفس المستوى، لذا نراه يرى صعوبة في دراسة اللاهوت، وأخيراً أدت حادثة إلى عثوره على مهنته المناسبة له، فقد خرج في رحلة علمية بحرية رتبتها الحكومة البريطانية. وفي هذه الرحلة البحرية قام ببحوث في جزر المحيط الأطلسي وأفريقيا وأمريكا الجنوبية واستراليا. وقام بمقارنات بين الأحياء في جزر كلاباكوس وحيوانات سواحل القارة، ودرس بعض المتحجرات، ولاحظ النشاطات البركانية وفعاليات المرجان. كما جمع بعض نماذج النباتات والحيوانات.
والخلاصة أنه لكي تتم البرهنة على أن الإنسان قد أتى من سلف قردي، وأن الأنواع تتحول من نوع إلى نوع آخر، فقد ظهرت الحاجة للاستعانة بالمتحجرات للعثور على الحلقات الوسطى وعلى المراحل الانتقالية الموجودة بين الأنواع عند هذه التحولات. والذين يقومون بهذا العمل هم علماء البالانتولوجيا (أي علماء المتحجرات).
فلو عثر علماء المتحجرات -من غير الحاملين لفكر وحكم مسبق- متحجرات لأحياء يمثلون هذه الحلقات الوسطى، أي على الأحياء التي تمثل المراحل الانتقالية بين الأنواع، وذكروا إمكانية ربط الإنسان بالقرد، وفي الوقت نفسه قام علماء الجينات المحايدون بتأييدهم، عند ذلك فقط يمكن أن تحتل هذه النظرية قبولاً في المحافل العلمية، وعند ذلك فقط يمكن قبول مثل هذه النظرية، وقبول أنها تستحق إجراء الدراسات والبحوث حولها. وما لم يتم هذا لا يمكن عدّ ادعاءات التطور نظرية علمية.
متحجرة طائر
يتحدثون الآن عن متحجرة يقال أنها متحجرة لطائر طويل الذيل له أسنان، كما يملك كلابات في أجنحته، أطلقوا عليه اسم "آركيوباتركس Archaeopteryx" وزعموا أن هذا الطائر هو الحلقة الوسطى بين الزواحف والطيور. ويقول التطوريون استناداً إلى هذا بأنهم قد عثروا على مرحلة تطورية وسطى بين نوعين، وأنهم سيعثرون على الحلقات الوسطى الأخرى التي تصل الإنسان بأول دودة تطور منها، وسيملأون الفراغات الموجودة في هذه السلسلة. وهكذا سيبرهنون بأن الإنسان قد تطور من القرد.
علماً بأنه لا توجد أي علامة ولا أي إشارة بأن هذه المتحجرة حلقة وسطى بين الزواحف والطيور، حيث نرى البروفيسور عاطف شنكون -وهو من المدافعين عن هذه النظرية- يقول في الجزء الأوّل من كتابه (التطور) عن هذه المتحجرة:
(لا تملك هذه المتحجرة قيمة دليل في المحافل العلمية). ولو عُدت هذه المتحجرة حلقة وسطى، فليس هناك من مانع إذن من عدّ الخفاش في نفس القائمة، لأن الخفاش طائر ثديي، أي من الأحياء الثديية، لذا يمكن عده حلقة وسطى بين الثدييات وبين الطيور.
ولكن العلم لا يذكر أي عهد لم يكن الخفاش فيه موجوداً، كما لم يتعرض الخفاش لأي تغيير طوال وجوده، لذا لا تجد عند أنصار التطور أي نية في استعماله كدليل في موضوع التطور. وفي الوقت الحاضر هناك بعض الطيور التي لها أسنان في منقارها وكلابات (أصابع) في أجنحتها مثل متحجرة ذلك الطائر، وأفضل مثال على هذا صغار طائر Opisthocomus hotzin.
لذا فإن الاستناد إلى مثل هذه المزاعم الواهية -في الوقت الذي لم يتم الكشف عن جميع الأحياء التي عاشت حتى الآن، بل لم يتم الكشف حتى عن جميع الأحياء التي تعيش حالياً- والبحث بهذه الطريقة عن الحلقات الوسطى حتى الوصول إلى الإنسان ليس إلا عبثاً لا طائل تحته، ولا تفيد في شيء. لأنه كان من المفروض وجود المليارات من متحجرات الحلقات الوسطى التي تبين مراحل الانتقال بين ملايين الأنواع من الأحياء. ومع أنه تم العثور على أعداد كبيرة جداً من متحجرات الأحياء التي عاشت سابقاً ثم انقرض نسلها، إلا أنه "لسبب ما!!" لم يُعثر حتى الآن على متحجرة واحدة كأنموذج وكمثال على أي مرحلة انتقالية أو حلقة وسطى بين الأنواع.
أما بعض الأحياء التي خلقت وعاشت في الماضي ثم انقرضت لأسباب عديدة على رأسها عدم تكيفها مع البيئة، كالديناصورات، فهي تشكل أمثلة على الانقراض وليس على التطور. وعلى الرغم من كل هذا فالإصرار منذ ما يزيد على قرن كامل على نظرية والقيام بصرف مبالغ طائلة في سبيلها لم يكن من أجل العلم ومن أجل الوصول إلى الحقيقة. وكما ذكرت فإن بعض المحافل العلمية مشغولة بنظرية التطور لكونها وسيلة في الوقوف ضد فكرة الخلق، أي ضد الإيمان بالله.
أسطورة الحصان ذي الأظافر الخمسة
أحد الأدلة المزعومة التي يستند إليها التطوريون في موضوع المراحل الانتقالية هو أسطورة "الحصان ذي الأظافر الخمسة". فحسب هذا الزعم كان الحصان في السابق بحجم الثعلب ويملك خمسة أظافر، وأنه مر بعد ذلك من مراحلEohippus و Mesohippu و Merychippus وأخيراً من مرحلة Pliohippus وفي هذه المراحل قلّ عدد أصابعه. وينظر البروفسور "عاطف شنكون" إلى هذا الادعاء بشبهة حيث يقول: (لا نملك أي معطيات علمية حول مجيء الحصان من أحياء هذه المتحجرات). ولو فرضنا أن هذه المتحجرات صحيحة فلا بد أنها تعود لأنواع أخرى من الأحياء عاشت في السابق ثم انقرضت، ولا يمكن ربط الحصان بهذه السلسلة. فإن أصررنا على ربطه بهذه الأحياء، عند ذلك يظهر أمامنا -كما يقول عاطف شنكون- سؤالان مهمان:
أولاً: لماذا نقص عدد أظافر الحصان -حسب هذا الادعاء- من خمسة أظافر إلى ظفر واحد؟ ولماذا تحول من حيوان بطول ثعلب إلى الطول الحالي للحصان؟ لا يملك العلم أي جواب على هذا السؤال. وتوجد حالياً حيوانات بأظفر واحد وبأظفرين وبثلاثة أظافر. وهناك كائنات شبيهة بالثعالب لا تزال تديم حياتها في الظروف نفسها. وهناك كائنات بخمسة أظافر لا تزال على قيد الحياة. فلماذا قام الحصان إذن بطرح أظافره الأربعة ليبقى بأظفر واحد وبحجم أكبر؟ ولو قيل بأن قوائمه استطالت لضرورة سرعة الجري، عند ذلك نسألهم: ولماذا لم تستطل قوائم كلب الصيد (السلوقي) إذن مثل الحصان؟ لأن كلاب الصيد تجري بسرعة كالحصان في الأقل، وهو أكثر استعداداً للنمو من الحصان، وأكثر حركة منه. فلماذا يكبر الحصان ويقلل من عدد أظافره بينما بقي كلب الصيد على حاله؟
لذا فكما قال عاطف شنكون فإن هذه المتحجرات المذكورة أعلاه -التي يعدونها مراحل انتقالية للحصان- حقيقية وعاشت في بعض العهود ثم اختفت، فلا بد أنها أنواع أخرى عاشت في السابق ثم انقرض نسلها.
وجود المراحل الانتقالية شرط من ناحية علم الجينات أيضاً. لأنه استناداً إلى مثال الحصان الذي ذكرناه، لا يمكن أبداً تصور أن حيواناً بحجم الثعلب انقلب فجأة وبطفرة واحدة إلى حصان. فهذا أصعب من قفز إنسان عشرة أمتار إلى أعلى دفعة واحدة. إن طفرة واحدة -أقل من مثل هذه الطفرة من ناحية التأثير والقوة- يمكن أن تقضي على الحيوان. لذا كان من الضروري وجود مراحل وسطية عديدة يعقب بعضها بعضاً بشكل منتظم. والدليل على هذا أن البحوث والدراسات تجري على هذا الخط، وضمن هذا الإطار.
ولقد أجروا بحوثاً كثيرة وعثروا على متحجرات حديثة وعلى متحجرات قديمة عديدة، ولكنهم لم يعثروا على أي متحجرات تبين مراحل الانتقال من حصان بخمسة أظلاف إلى حصان بأربعة أظلاف ثم بثلاثة أظلاف ثم بظلفين. وقد اهتموا كثيراً بالمتحجرات التي تربط الإنسان بالقرد على زعمهم، فتكلموا عن متحجرات أمثال Australopithecus وHomo erectus و Neandertal ومتحجرة رجل جاوة ورجل بكين.
نرى أن البرفسور "عاطف شنكون" يتناول هذه المزاعم بكل شبهة في الجزء الأوّل من كتابه "التطور" فهو يقول: "إذا كانت المتحجرة موضوع البحث قد عثر على يدها على بعد خمسين متراً من رأسها، وعلى بعض عظامها في عمق عدة أمتار فمن المشكوك فيه أن تكون كل هذه العظام عائدة لمتحجرة واحدة ولمخلوق واحد، ولا يمكن التأكد من هذا. إذ يحتمل أن بعض هذه العظام تعود إلى مخلوق عاش في حقب قديمة جداً، وأن بعضها تعود إلى مخلوق آخر عاش بعده بحقب عديدة. لذا لا يمكن هنا تقديم رأي قاطع".
وقد أفرط التطوريون في موضوع البحث عن الحلقة الوسطى بين الإنسان والقرد إلى درجة أنهم تحدثوا عن متحجرة (رجل بلتداون Piltdown man) في سنوات 1912-1914 حيث زعموا أنه جد الإنسان الحالي. كانت المتحجرة عبارة عن قحف إنسان خمن بأن عمره يعود إلى خمسمائة سنة ماضية، مع فك قرد أورانجتون، مع بضعة أسنان إنسانية. وتبين في سنة 1953-1954 بأن هذه المتحجرة مزيفة تماماً و"مصنوعة"، أي أن بعضهم قام بتركيب فك وأسنان من قرد من نوع أورانجتون على قحف إنسان، وركبوا بضعة أسنان إنسانية كذلك في الفك، ثم قاموا بإضافة مواد كمياوية على هذه الجمجمة لتبدو قديمة جداً. إن مثل هذه التصرفات يجعل من الصعب علينا تصديق الأبحاث المتعلقة بالمتحجرات. وهي تشير بل تؤكد إلى أن نظرية التطور خرجت من كونها مسألة علمية، وتحولت إلى مسألة أيدولوجية، وإلى عقيدة.[4]
والبعد الآخر للمسألة هو: حسب أبحاث علماء البالانتولوجيا فإن أقدم متحجرة من هذه المتحجرات تعود إلى ما قبل مليون ونصف مليون سنة، بينما تم العثور في شاطئ بحيرة رودولف في كينيا على متحجرة إنسان عاش قبل 2،8 مليون سنة. كانت جمجمته كجمجمة الإنسان الحالي. وقد نشرت المجلة العلمية التركية (العلم والتكنولوجيا) في عددها الواحد والسبعين صورة الجمجمة مع مقالة مفصلة حولها. أي أن الكائن الذي قيل أنه يمثل المرحلة الانتقالية بين القرد والإنسان، تحول فجأة إلى حفيد من أحفاده! صحيح أن البعض ممن يستندون إلى بعض الكتب والمصادر الدينية -مثلاً الكتاب المقدس الموجود لدينا حالياً- واليهود ينتقدون القول بوجود مثل هذا التاريخ القديم للإنسان البالغ 2.5 مليون سنة. وهذا النقد متوجه طبعاً لعلماء المتحجرات الذين يستخدمون طرقهم وأساليبهم في تعيين الأعمار.
فإن تم الاعتراض على طرق قياس الأعمار لأي متحجرة من المتحجرات، انفتح باب الاعتراض على أعمار جميع المتحجرات الأخرى. لذا يجب عدم غض الطرف عن مدى صحة طريقة استخدام الكربون في قياس الأعمار وعلى الطرق الأخرى المستعملة في قياس أعمار المتحجرات. ولكن المهم عندنا هنا هو حقيقة أن الإنسان كان موجوداً على الأرض قبل وجود القرد، أو عاشا في الأقل في العهد نفسه.
الأشكال الخيالية لكائنات بين الإنسان والقرد
توضع أشكال معينة جنباً إلى جنب في الكتب الدراسية بزعم شرح نظرية التطور. ترى في هذه الأشكال شكل قرد ثم شكل ربع قرد، ثم نصف قرد ونصف إنسان، ثم ثلاثة أرباع الإنسان وأخيراً صورة شخص أوروبي في منتصف العمر.
وكل هذا خداع في خداع. فلماذا تطور ذلك القرد يا ترى ولم تتطور بقية القردة؟ ولماذا ظهر في الأخير رجل في منتصف العمر، ولم تظهر إمرأة؟ وكيف تم تطور المرأة؟ هل تطور قرد واحد، أم تطورت قرود عديدة في الوقت نفسه؟ ولماذا لم تتطور القرود مرة أخرى في الأماكن التي احتشدت فيها القرود بمحض المصادفة وتطورت؟ وأي قسطاس علمي يرضى بأن تتم الإجابة على كل هذه الأسئلة -التي تبين الثغرات العديدة الموجودة في هذه النظرية- بالمصادفات وبالفرضيات؟ وأين حرمة العلم؟ وماذا لو كانت كل هذه الجهود تتم باتجاه فكرة الخلق، التي تنفي وجود المصادفات في الكون، وتقول: إن جميع الدلائل تشير إلى وجود قدرة وعلم وإرادة لانهائية هي التي خلقت سلسلة الحياة هذه. أليس هذا أفضل وأليق وأكثر علمية؟
الهوامش
[1] المقصود بالقوة في الأحياء -حسب نظرية التطور- ليست القوة الجسدية، بل درجة تكيف أي حي من الأحياء للظروف التي يعيش فيها ذلك الحي، فمثلاً إن البعوض أكثر الأحياء تكيفاً وتلاؤماً لبيئة المستنقعات من العديد من الأحياء الأقوى منها. (المترجم)
[2] لم يكمل بعد الفرز النهائي للأحياء، ولكن ما تم منه حتى الآن يظهر أن عدد أنواع النباتات والحيوانات بلغ عدة ملايين. (لمترجم)
[3] المورفولوجيا: فرع من علم الأحياء (البيولوجيا) يبحث في شكل الأحياء من النباتات والحيوانات وبنيتها. (المترجم)
[4] إن محاولات التزييف هذه لا تقتصر على هذا المثال فحسب، فقد قدّم التطوريون سمكة (Rhipitistian Crossopterigian) على أنها كانت الحلقة الوسطى بين الأحياء المائية والأحياء البرية وأن نسلها قد انقرض قبل سبعين مليون سنة. ولكن تم العثور على هذه السمكة حية قرب جزيرة مدغشقر عام 1939، ومنذ ذلك الحين وحتى الآن عثر على ما يزيد على خمسين سمكة من هذا النوع. وعلاوة على هذا فلم تكن أعضاء هذه السمكة (تجاويف الأذن الداخلية، عظمة الظهر على شكل الرأس وكيس السباحة) بالأوصاف التي ذكرها التطوريون والتي ساقتهم إلى توهم أنها الحلقة الوسطى بين الأحياء البرية والمائية. وكما ذكر العالم التطوري أ. هـ.) كلاركA.H. Clark ) فالخلاصة هي أنه لم يتم العثور حتى الآن على أي متحجرة أو على أي نوع من أنواع الكائنات الحية يمكن عدّها حلقة وسطى، لذا فقد اضطروا إلى الاعتراف بأنه ما من حلقات وسطى قد وجدت في أي عهد من العهود. وقد اعترف (ريتشارد ب. كولد شميت Richard B. Goldschimdt) بأنه لم يتم العثور على أي مراحل انتقالية أو حلقات وسطى، لذا نرى أنه يقدم نظرية أخرى ترى أن الكائنات الحية ملأت هذه الثغرات والفجوات الموجودة بين الأنواع بالطفرات الفجائية. ولا يوجد أي تفسير لمثل هذا الادعاء سوى الإيمان بالخلق (د. آراس: مجلة The Fountain العدد 24 صفحة 14).
- تم الإنشاء في