مدخل

للوجود وللحياة ولعالم الأحياء ولاسيما الإنسان -الذي يحتل موقعاً متميزاً فيه- نواح متعددة تشكل اساساً لعلوم مختلفة. وحتى لو تناولنا الإنسان وحده في هذا الموضوع رأينا ظهور علوم عديدة كالمورفولوجيا[1] والفيزيولوجيا[2] وعلم النفس وعلم الاجتماع والطب وعلم التربية، وعلوم أخرى عديدة. وكل علم من هذه العلوم اختصاص قائم بذاته وله مختصون متفرغون له. ولكن لا يوجد للكون بأجمعه ولا للإنسان ولا للأحياء متخصصون. لذا لم يكن في الإمكان حل المشكلات المتعلقة بالوجود وبالإنسان بهذه العلوم، أو قول الشيء النهائي والأمر الفصل فيها. لذا كانت هناك حاجة ماسة لمراكز متكاملة تستطيع تصنيف معلومات وأفكار لفهم الإنسان، وإنتاج التكنولوجيا ووضع النظريات والأفكار العامة التي تخاطب الشعور الجمعي وتكون في مستوى العصر وقادرة على احتضان جميع أموره وفتح الآفاق أمامه. وأنا أتوقع أن العديد من الكتب ستؤلف في هذا الخصوص في السنوات القادمة، وستطرح العديد من الأفكار البديلة في هذا الخصوص، كما ستشارك العديد من المراكز العلمية في هذا الأمر لتغذي وجهة النظر هذه وتثريها. وسيقوم آنذاك عدد من المفكرين ومن العلماء المحظوظين بكتابة قصة الوجود من جديد، وسيكتشفون كل شيء وكل الأحياء -ولا سيما الإنسان- من جديد، ليضعوا الحقائق حول مدى سعة عالم الإنسان أمام الأنظار، وليشرحوا بشكل واضح المواضيع التي تشكل قواعد العلم وأسسه.

وعلاوة على هذا نستطيع اليوم أن نقول بأن المختبرات الحديثة تقوم اليوم بفحص الأحياء بدقة غير مسبوقة. حتى أن المادة والجزيئة والخلية أصبحت معلومة بمقياس كبير، وبدت السوائل وجميع أجزاء الخلية حتى أصغرها وأدقها معروضة أمام الأنظار بفضل الأشعة السينية (أشعة أكس). كما قامت بعض المختبرات الحديثة وبعض مراكز البحوث بإلقاء الضوء ليس على التركيب المادي فقط لجزيئات البروتين بل على طبيعة الأواصر التي تربط هذه الجزيئات الكبيرة بعضها ببعض وطبيعة عمل الأنـزيمات التي تفرق وتركب هذه الجزيئات وتأثيرها، وكذلك القوانين السارية في الخلايا والروابط التي تربط الأنسجة التي تشكلها هذه الخلايا مع الأعضاء الداخلية، وطبيعة السوائل في الجسم كالدم والصفراء وعلاقاتها مع بيئتها، وكذلك تأثير المواد الكيمياوية على الجسم وعلى الشعور... كل هذه الأمور أصبحت معلومة ولو نسبياً.

ولكن على الرغم من هذا التقدم الذي يستحق كل تقدير في ساحة العلم، فإن من غير الممكن القول بوجود مثل هذا التقدم في ساحة العلم أو في المراكز العلمية في تركيا أو في أي ساحة أخرى منذ عهد التنظيمات حتى الآن. فبدلاً من البحث العلمي نرى تقليداً أعمى، وبدلاً من التدقيق العلمي نرى أننا في عهد من شعارات رخيصة مرفوعة تأخذ مكان العلم. ولا شك أن الأجيال القادمة ستذكر عهدنا هذا بكثير من الأسف. ذلك لأن الوجود قُدِّم في هذا العهد وكأنه عبارة عن وسط من الفوضى، وكأن الأشياء لعبة بيد الصدف العمياء تطوح بها ذات اليمين وذات الشمال، وكأن الأحياء لقمة بسيطة وسائغة بين الأسنان الوحشية للـ"الانتخاب الطبيعي". أما الإنسان فقد هوي بمكانته وجُعل في مقعد متفرج نكد الحظ يتفرج على حلبة الموت، وحكم عليه أن يرى ويسمع ويعيش ما يجري أمامه. بينما لو تم النظر من زاوية أخرى لكان في الإمكان مشاهدة حقيقة وجود تساند وتعاون في كل جزء من أجزاء هذا الكون، ووجود نظام وتناغم دقيق فيه، ولظهر أن كل شيء قد خطط لهدف معين، ولغاية محددة، وأن كل شيء مرتب ككتاب وكمعرض رائع وكامل يذهل العقول.

ولسنا هنا في معرض محاكمة النظرة الحالية الخاطئة ولا التحري عن أسبابها. ولكن من المفيد التأكيد على بعض الأمور: أولاً إن الوسط العلمي عندنا في عهد معين قد جُرَّ إلى وسط من الفوضى، ورُبط بمحور معين بحيث إن العديد من مراكز البحوث العلمية والمختبرات انجرّت دائماً وراء سؤال: "كيف؟" ولم يلتفت الباحثون[3] إلى أسئلة من نوع: "لماذا؟" وأنشأ نظام التعليم أجيالاً لا تفكر إلا في الإجابة على "كيف؟" ولا تفكر في الإجابة على "لماذا؟" أو "من؟". لذا فلم يظهر من هذه الأجيال أي مفكر أو عالم على المستوى العالمي طوال هذه العهود.

أجل!.. كم عالم استطعنا تنشئتهم لكي يستطيعوا اكتشاف أخطاء العلماء الغربيين؟ فمثلاً كم منهم وجد في نفسه الشجاعة لكي يوضح خطأ نظرية دارون ونقصها وجوانبها المشوهة، وأنها -مثلها مثل النظريات الأخرى- يمكن مناقشتها؟ وكم منهم استطاع تجديد فكرة أن الإنسان هو أشرف المخلوقات؟ تجديد هذه الفكرة وتطويرها... مثلاً الإشارة إلى أن الإنسان بالإضافة إلى أنه يملك أجهزة مادية كالعين والمخ والأنف والأذن وأجهزة الدورة الدموية وأجهزة الإفراغ (البول والبراز)، فهو يملك السمع والبصر والحس ووسائل اتصالات مختلفة مع الوجود، ويملك شوقاً لمعرفة ما وراء أستار هذا العالم... من أشار إلى هذا واستطاع أن يضع الإنسان في إطاره الحقيقي؟ وعلاوة على عدم إنجاز هذا فقد تم وضع العلم كصنم معبود تجاه الدين، وضُحِّي به على مذبح النظرة الأيدولوجية، فلم يستطع الخروج عن الإطار الضيق للفلسفة الوضعية للقرن التاسع عشر.

والذي يدعو إلى الأسف والأسى أنه نتيجة لكل هذا فقد أقيم علم الأحياء (البيولوجيا) على نظريات خيالية لم تتم البرهنة عليها، وعلى رأس هذه النظريات الخيالية تأتي نظرية التطور دون شك. صحيح أن تناول نظرية التطور والحديث والكتابة حولها ليس من عمل شخص مثلي له مجال مختلف. ولكن حتى يجتمع مختص بالجينات ومختص بالكيمياء الحياتية (بيوكيمياء) ومختص بالبالنتولوجيا[4] مع عالم الإلهيات يتناول الموضوع من الناحية الدينية كمختصّين يوضحون هذا الموضوع على الساحة التركية، بل وعلى الساحة العالمية إن كانت هناك حاجة. الموضوع الذي يدور حلو النقاش في المحافل العلمية منذ مدة طويلة وحتى يُظهروا الحقيقة كاملة... إلى ذلك الحين يكون من حقي ومن حق أمثالي تناول هذا الموضوع بإسم الحق. لقد أصبح الكثيرون يدافعون عن هذا الموضوع ليس باسم العلم بل باسم الأيدولوجية، حتى كاد يصبح مجرد مناقشته ذنبا وجريمة.

من جهة أخرى فإننا إن وضعنا جانبا التساؤل حول وجود أو عدم وجود علماء دين عندنا يستطيعون تناول هذا الموضوع ومناقشته، فإن التربية والتعليم الديني عندنا لم يحقق بعد الحلم الذي ساور العديدين منذ قرن تقريبا، ولم يصل إلى المستوى اللائق ولم يشمل دراسة العلوم الوضعية أو في الأقل دراسة مبادئها الأساسية. وهذه حقيقة مؤسفة ومحزنة تقف عقبة أمامنا. لذا ففي مثل هذا الوضع فإن معظم المسائل التي سأتناولها هنا مع كونها خارجة عن ساحتي، إلا أنني أرى أن من واجبي تدقيق هذه المسألة -التي أصبحت تقف مثل جدار عال حائلاً أمام الإيمان- على قدر طاقتي. علماً بأنني أدرك جيداً مدى صعوبة حمل هذه المسؤولية وعظمها. والحقيقة أن الذي قادني لهذا الأمر -الذي أرجو من المختصين فيه الموضوع أن يسامحوني- ليس هو إلا هو بعث الهمة والعزم عند المختصين. فكم أتمنى أن يقوموا بحمل هذا العبء وإيضاح هذا الموضوع بكل جوانبه وبكل أعماقه واظهار الحقيقة كاملة للأجيال التي داهمت الشكوك أذهانها وأفكارها واغتيل إيمانها منذ ما يزيد على قرن كامل.

ودعوني أعترف فأقول بأنني كنت أفضل -بدلاً من التعامل مع هذا الموضوع وبذل الجهد فيه- أن أقوم بشرح الدساتير الإسلامية الأساسية التي سكنت قلبي وأنارته على الدوام، وبيان الأوصاف التي يجب أن يتحلى بها الجيل الذي سينقذ الإنسانية. لأنني أعتقد أن من الأفضل الكتابة حول الأمور الإيجابية لكونها تثير في قلوب المؤمنين انفعالاً أكثر. والذي يحيرني ويزيدني عجباً وأسفاً بعض التصريحات والبيانات التي تتناقض مع معاني العديد من الآيات القرآنية المحكمة التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها حول موضوع الخلق والتي نسمعها من العديد من الناس... من المثقفين ومن غير المثقفين... من خريجي الجامعات وممن هم خارج الجامعات... بل حتى من بعض علماء الدين الذين يحاولون بتأويل بعيد إقامة صلة بين نظرية التطور لدارون وبين معاني الآيات القرآنية ومعاني الأحاديث الشريفة.

قبل قرن من الزمان طرح سؤال على العلامة حسين الجسر[5] -الذي أكنّ له احتراماً كبيراً- حول هذا الموضوع فأجاب:

"إن هذه المسألة لا تزال في طور النظرية. ولكن إن تمت البرهنة عليها في المستقبل، فإننا سنقوم آنذاك بتوفيقها مع الآيات القرآنية".[6]

ومهما كان احترامي كبيراً لهذا العلامة الكبير فإنني لا أستطيع أن أوافقه هنا ولا أن أوافق من يفكرون مثله. لأنه من المستحيل التوفيق بين أفكار دارون ونظرية التطور مع الآيات القرآنية أبداً، لأن دارون يقول بأن الحياة نشأت بالمصادفات العشوائية نتيجة عدة عوامل. بينما الإحياء والإماتة فعلان خاصان بالله تعالى. وحتى لو كان في الإمكان البحث عن أسباب مادية لبدايات هذين الفعلين، فإن النتيجة -ولا سيما في موضوع نفخ الحياة- هي فوق جميع الأسباب تماماً. فنفخ الحياة إجراء مباشر دون حجاب وإلهي محض غير متعلق بأي سبب. وبما أنه لا يمكن تفسير الحياة بأي سبب مادي، لذا كان من غير الممكن أن تتجاوز الداروينية مرحلة النظرية، كما كان من المستحيل التأليف بينها وبين الآيات القرآنية والأحاديث النبوية. وهذا هو أحد أسباب قيامي بتناول هذه النظرية.

نظرية التطور لا يمكن حصرها بـ"دارون" ولا بـ"لامارك". فهي من جهة أقدم منهما وطرحت قبلهما بعدة عصور، ومن جهة أخرى فهناك أنصار لـ"الداروينية الحديثة" في عصرنا حيث طرحوا نظريات جديدة في تأييد وتقوية نظرية دارون. وعندما تفشل نظرية من هذه النظريات يأتون بأخرى. ومع الأسف فإن هذه النظريات -التي لم يتم إثباتها ولا يمكن إثباتها- تدرس في جميع المدارس المتوسطة والثانوية وحتى الصفوف الأخيرة في الجامعات، وفي جميع المؤسسات التعليمية والتربوية والعلمية وكأنها حقائق علمية. وهنا أتمنى من المولى تعالى -وإن لم يكن هذا متعلقاً بموضوعنا مباشرة- أن يوفق الأجيال السعيدة القادمة لشرح جميع جوانب هذا الموضوع -والمواضيع الأخرى كذلك- ولا تشغل المدارس بنظريات يستحيل البرهنة عليها.

وفي القرن العشرين تمت محاولة نقل نظرية التطور إلى المختبرات في محاولة لإثباتها بـ "الطفرات Mutations". لذا سنقوم بتناول هذا الموضوع في إطار بحث الداروينية، والداروينية الجديدة، والآيات القرآنية المحكمة والأحاديث النبوية الصحيحة (على صاحبها ألف صلاة وسلام) التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها والتي تناولت مسألة الخلق.

الهوامش

[1] مورفولوجيا Morphology: علم التشكل: فرع من علم الأحياء يبحث في شكل الحيوانات والنباتات وبنيتهما. (المترجم)

[2] فيزيولوجيا Phyisiology : علم يتناول دراسة وظائف الأعضاء. (المترجم)

[3] استعملتُ كلمة: "الباحثون"، ولم أستعمل كلمة "العالمون" عن قصد. (المترجم)

[4] البالنتولوجيا Paleontology: علم المتحجرات، يبحث في أشكال الحياة للأحياء من النباتات والحيوانات في العهود الجيولوجية الماضية. (المترجم)

[5] العلامة حسين الجسر: هو جد المفتي الأسبق في لبنان المرحوم نديم الجسر صاحب الكتاب المشهور "قصة الإيمان". وقد تناول العلامة حسين الجسر موضوع نظرية التطور في كتابه المشهور "الرسالة الحميدية". وسمي كذلك لأنه ألفه وأهداه إلى السلطان العثماني عبد الحميد الثاني وتناول الرد على شبهات الملحدين، وهو كتاب نفيس وحاز على اعجاب السلطان والعلماء. (المترجم)

[6] انظر: قصة الإيمان لنديم الجسر، ص 204-215.

Pin It
  • تم الإنشاء في
جميع الحقوق محفوظة موقع فتح الله كولن © 2024.
fgulen.com، هو الموقع الرسمي للأستاذ فتح الله كولن.