الصدق

الصدق الذي يرد بمعنى التفكير الصائب، الكلمة السديدة، السلوك القويم، هو كون سالك الحق يكفّ نفسه عن كل ما لا يطابق الواقع، مخططًا حياته وفق الصدق والاستقامة، حتى يكون مثالاً أمينًا للصدق والوفاء.. وبتعبير آخر جعلُه الصدقَ جزءًا من طبيعته، ومَلكةً في مشاعره وتفكيره وكلامه وسلوكه، بدءًا من حياته الشخصية إلى معاملاته مع الآخرين، ومن شهادته باسم إعلان الحق، إلى مزاحه وهزله، كي يصدُق عليه قوله تعالى: ﴿وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ﴾ (التوبة:119) متحريًا الصدق في محيطه الذي يعيش فيه، ولدى أصحابه، حتى يُطلق عليه عند الله "صدّيقًا" كما ورد في الحديث الشريف. وبخلاف ذلك فالذي يعيش كاذبًا سواء في تصوراته وتفكيره أو في سلوكه ومعاملاته، ويُمضي حياته بما لا يطابق الواقع، يطلق عليه في الملأ الأعلى "كذّابًا".[1]

الصدق أقوَم طريق موصل إلى الحق سبحانه، والصادقون هم المرشحون المحظوظون لهذا الوصال... الصدق روح العمل ولبّه، وأصوب محكّ لاستقامة الفكر.. وبالصدق يتميز أهل الإيمان من أهل النفاق، وسكان الجنان من أهل النيران.. الصدق صفة نبوية لمن ليسوا بأنبياء. وبفضل هذه الصفة يبلغ الخدمة مرتبة المشاركة مع السادة في النعم نفسها.

وقد أثنى الله سبحانه على الذي لبّى هذه الرسالة الإلهية في أول ظهورها وصدّق بها، وصدّق مبلّغها، بصفته الصدق، وذلك في قوله تعالى: ﴿وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ﴾ (الزمر:33).

الصدق هو أن يصون الفرد تكامل عمله وسلوكه، وأن يقول الحق حتى في مواطن الهلكة، التي لا ينجيه إلاّ الكذب، لئلا يقع في مباينة السر والعلانية والظاهر والباطن. وإن وقع فيها قضاءً وقدرًا يضطرب متلويا ومتقلبًا من حال إلى حال كي يتطابق فكره مع عمله وتصرفه، حتى يصفه الجنيد بقوله: "الصادق يتقلب في اليوم أربعين مرة، والمرائي يثبت على حالة واحدة أربعين سنة".[2]

إن أدنى مراتب الصدق هو استواء السر والعلانية، والباطن والظاهر في الأحوال كلها. تليها مرتبة، الصدق في الشعور والتفكر والتصور والنيات. وعلى هذا فالصادقون هم أبطال لا يحيدون عن الصدق والاستقامة في جميع أقوالهم وأحوالهم. والصدّيقون هم أولياء الحق -حقًا- مسدَّدون نحو الحق في خيالهم وتصوراتهم ومشاعرهم وتفكيرهم، بل حتى في ملامحهم وسيماهم.

إن توجيه جميع المَلَكات والقابليات، في السلوك والعزم والوفاء والعمل والتعامل، هو صدق كامل ووفاء خالص، وصفة نبوية في الوقت نفسه، حتى يقول الله بحقهم في كتابه المبين: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا﴾ (مريم:41) ملفتًا النظر إلى هذا الوصف الرفيع (الصدق)، إذ الذكر مطلقًا يُصرف الى كماله.

الصدق يتقدم جميع صفات الأنبياء العظام عليهم السلام، وهو أقوى محرك ومؤثر في مسلك الدعوة إلى الإيمان والقرآن في كل عصر، كما أنه أوثق بطاقة اعتماد في العالم الآخر لكل مؤمن، وأنفذ وثيقة ومستند له. حتى يلفت ربُّنا الجليل نظرَنا إلى هذه الحقيقة بقوله تعالى: ﴿هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ﴾ (المائدة:119).

فالصدق هو الذي أوصل الأنبياء والأصفياء والمقربين إلى أعلى عليين، وذروة سنام القمم، وغدا لرقيهم المعنوي برقًا وبراقًا، والكذب هو الذي أردى بالشيطان وأعوانه إلى أسفل السافلين. والأفكار إنما تحوم بأجنحة الصدق فتبلغ أفق القيم والجدارة. وأنواع السلوك القويم إنما تنشأ وتترعرع في أرض الصدق والوفاء.

والدعوات والتوسلات إنما تقبل وتُستجاب بقدر أدائها بالصدق، حيث تبلغ عرش الرحمة كأنها مقترنة بالاسم الأعظم. نعم، الصدق يؤثر كتأثير إكسير الاسم الأعظم. ولما سئل أبو يزيد البسطامي عن الاسم الأعظم قال: أروني اسمًا أصغر من الأسماء الحسنى لأريكم الأعظم منها وأضاف: "إنما جعل الاسم الأعظم مؤثرًا هو الصدق، فإذا ما دعي أي اسم من الأسماء الحسنى بصدقٍ فهو اسم أعظم".[3]

الصدق هو الذي أسطع نورَ التوبة على جبهة آدم عليه السلام... والصدق هو الذي أصبح سفينة نجاة لنبي الطوفان (نوح عليه السلام) يوم غرقت الدنيا بالطوفان... والصدق هو الذي جعل النار المتأججة لسيدنا إبراهيم عليه السلام (بردًا وسلامًا). نعم، الصدق مفتاح ذو أسرار لفتح مغاليق ما وراء أستار الوجود، فيرفع الذين يراوحون في العاديات إلى خوارق العادات. فالذين يديمون سياحتهم بالصدق لا ينقطع بهم السير، والذي يستعمل ذلك المفتاح لا توصد دونه الأبواب. وكم هي جميلة هذه الترنيمة التي ترنم بها سلطان العاشقين مولانا الرومي لبيان هذه الملاحظة العميقة:

صِدْقِ عَاشِقْ بَرْ جَمَادِي مِي تَنَدْ                   چِه عَجَبْ بَر دِلِ إِنْسَانِي زَنَدْ

صِدْقِ مُوسَى بَر عَصَا وُكُوهْ زَدْ          بَلكِه بَر دَرْيايِ پُراُشْكُوه زَدْ

صِدْقِ أَحْمَدْ بَر جَمَالِ مَاه زَد            بَلكِه بَر خُورْشِيدِ رَخْشَانْ رَاهْ زَد[4]

يعني: إن صدق العاشق يؤثّر حتى في الجمادات، فلمَ العَجَب من تأثيره في قلب الإنسان؟ وإن صدق سيدنا موسى عليه السلام قد أثّر في الجبل والعصا، بل حتى في ذلك البحر المتلاطم العظيم (يشير إلى ما هو ثابت بالآيات الكريمة من تحول عصا سيدنا موسى عليه السلام إلى حية تسعى في جبل الطور،[5] وانفتاح اثنتي عشرة طريقًا بضربها في البحر).[6] أما صدق سيدنا أحمد صلى الله عليه وسلم فقد أثّر في جمال القمر بل حتى في تلك الشمس الساطعة.[7]

وقد ربط القرآن الكريم بآياته المختلفة، كون المؤمن مؤمنا حقًا، بمدى تنسيقه لكلامه وسلوكه وعالمه الداخلي بل جميع أطواره وفق الصدق، ومدى نسجه لها جميعًا حول الصدق. وكذلك أكدت الآيات الكريمة أن هذا التنسيق والتنظيم بالصدق هو أساس سعادة الدنيا والآخرة. وإليكم بعض الجواهر البراقة من البيان الصدق:

1-﴿وَقُل رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ﴾ (الإسراء:80).

2-﴿وَاجْعَل لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ﴾ (الشعراء:84).

3-﴿وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُواْ أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ﴾ (يونس:2).

4-﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ﴾ (القمر:54-55).

نعم، لقد أشارت هذه الآيات الكريمة وبهذه العناوين: مدخل الصدق، مخرج الصدق، لسان الصدق، قدم الصدق، مقعد الصدق، إلى الطريق القويم الممتد من الدنيا إلى العقبى. أشارت إلى طريق طويل، وإلى زاد الطريق، وإلى نتيجة الطريق.

وحيث إن الدنيا كلها تعمل للآخرة كنظام مهيب، وكمعمل عظيم، فهم عندما يباشرون بعمل، ويسافرون إلى بلد، أو يهاجرون إلى موطن، أو يحلون في أرض، يتحرّون الصدق في جلوسهم وقيامهم، ويلاحظون في أطوارهم، مدخل الصدق، مخرج الصدق، لسان الصدق، قدم الصدق، مقعد الصدق. فيعيشون مستهدفين الآخرة مستمطرين الألطاف على حظوظهم.

إن كون المرء صادقًا في النية والقصد يتقدم كل شيء... فالتفكير الصادق، والقرار الصادق، والسلوك الصادق هو أُولى مراتب الصدق. وكذلك، يشترط لمن عزم على الصدق، عدم تراجعه عن قراره وعزمه، واجتنابه كل ما يخل بتفكيره ويثنيه عن عزمه.

والمرتبة الثانية: هي الرغبة في البقاء في الدنيا والحياة فيها، ليس إلاَّ للالتزام بالحق ورفع شأنه، ولنيل رضاه سبحانه وحده. ولهذا أمارات، منها: ألاّ يشهد من نفسه إلاّ النقصان والتقصير، ودون الرضوخ لزينة الدنيا وإغراءاتها. وعدم العدول عن الطريق أو تغيير اتجاهه بسبب تخوفه عن الفتن الدنيوية.

المرتبة الثالثة: جعل الصدق معرفةً وجدانيةً كاملة، وانعقاد طبيعة الإنسان دومًا في جميع أطواره بالصدق. وهذه مرتبة عظيمة، هي مقام الرضا، وتعبّر عنه الكلمات الطيبة الآتية: «ذَاقَ طَعْمَ الإِيمَانِ مَنْ رَضِيَ بِاللهِ رَبًّا وَبِالإسْلامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولاً».[8]

نعم، إن أعظم الصدق هو الرضى بربوبية الله سبحانه وبدين الإسلام نظامًا إلهيًا، وبسيد الأنام صلى الله عليه وسلم مرشدًا ورائدًا. فالطريق إلى الإنسان الحق يمر من تحمل هذه المسؤولية الثقيلة والعسيرة جدًا.

لنختم كلامنا بهذا البيت الجميل:

إنما يليق الصدق بالإنسان ولو أُكره.

فالله هـو المعين للصادقين.

اللّهم اجعلنا من الذين قالوا رَبُّنا اللهُ ثم استقاموا. وصلّ وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه المستقيمين.

الهوامش

[1] انظر: البخاري، الأدب 69؛ مسلم، البر 103-105؛ أبو داود، الأدب 80.

[2] الرسالة للقشيري، ص:336.

[3] حلية الأولياء لابي نعيم، 10/39.

[4] مثنوي معنوي لمولانا جلال الدين (فارسي)، 5/825، باب:2774-2775-2776.

[5] انظر: سورة طه:17-20.

[6] انظر: سورة الشعراء:63.

[7] إشارة إلى معجزتَي انشقاق القمر وإيقاف الشمس. (المترجم)

[8] مسلم، الإيمان 56؛ النسائي، الجهاد 18؛ المسند للامام أحمد 1/208.

مجلة سيزنتي التركية، فبراير 1994؛ الترجمة عن التركية: إحسان قاسم الصالحي.

Pin It
  • تم الإنشاء في
جميع الحقوق محفوظة موقع فتح الله كولن © 2024.
fgulen.com، هو الموقع الرسمي للأستاذ فتح الله كولن.