الرضا
الرضا هو عدم اهتزاز قلب الإنسان للبليّات التي تصيبه، ومقابلة تجليات القدر بارتياح ضمير. وبتعبير آخر: بقاء جهاز الفؤاد والوجدان في سكون واطمئنان مما يتألم منه الآخرون ويمتعضون منه. وفي هذا الصدد توضيح آخر هو أن الرضا ارتياح القلب واطمئنان النفس بقضاء الله وتقديره ومعاملاته بتحمّل آلامها وشدائدها وغموضها حسب تلقيات نفوسنا.
إن طريق الرضا إرادي ابتداءً، ولكنه هدية إلهية فوق الإرادة والاختيار، حيث إنه موهبة الحق سبحانه لمحبيه. ولهذا لم يؤمَر به كالصبر في القرآن الكريم والسنة النبوية، بل ذُكّر كوصية فحسب.[1] وفي الحقيقة أن ما يروى كحديث: «مَن لم يرضَ بقضائي ويصبر على بلائي، فلْيَلتمسْ ربًّا سواي»[2] معلول من حيث قواعد الحديث. ويرى قسم من أهل الله أن الرضا من جملة المقامات وهو نهاية التوكل والتسليم، وآخرون يرون أنه ليس كسبيا بل هو وارد يظهر أحيانًا ويغيب أخرى، كأحوال السالك الأخرى.. وآخرون وفيهم الإمام القشيري يرون "أن بداية الرضا مكتسبة للعبد، وهي من جملة المقامات، وأما نهايته فهي من جملة الأحوال وليست بمكتسبة".[3]
أما الحديث الشريف الوارد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ذَاقَ طَعْمَ الإيمَانِ مَنْ رَضِيَ بِاللهِ رَبًّا وَبِالإسْلامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولاً»[4] فيشير إلى أن مبدأ الرضا إرادي متعلق بكسب العبد ونهايته هبة إلهية مرتبطة بمشيئته الخاصة سبحانه.
فالرضا بألوهيته سبحانه، هو محبته وتعظيمه، والتوجه إليه، ورجاء كل شيء منه وحده.. والرضا بربوبيته، مقابلة ما قدّره سبحانه لنا ودبّر برحابة صدر، وعدم الاستعجال عند الصدمة الأولى التي تبدو مؤلمة، واختيار الصمت لحين انقضائها، والإيمان به والتوكل عليه في تصرفه في العباد، والارتياح بكل ما يفعل به ويقدره له.
أما الرضا بنبوة الرسول صلى الله عليه وسلم، فهو كمال الانقياد له، والتسليم المطلق له. وتفضيل هديه وهدايته على هوى الإنسان ونزواته، وتسليم قياد منطقه وزمام عقله إلى أمره، وجعل ذكائه مرآةً لفطنته النبوية الواسعة المحتضنة للوحي الإلهي متوجهًا إلى الأصل دون الظل.
أما الرضا بالإسلام، فيلخص استنادًا إلى الآية الكريمة ﴿وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ﴾ (آل عمران:85) وهو جعل الدين حياةً للحياة الفردية والعائلية والاجتماعية والإدارية.
وقد يدفع البحث عن مثل هذا الرضا الإنسانَ في بعض الأوقات وتحت ظروف خاصة، إلى الانفراد والاغتراب، رغم أنه يعيش بين الناس. ولكن الحقيقة هي أن الواصلين إلى المعية الإلهية والسائرين على نهج النبي صلى الله عليه وسلم، لا يظلون منفردين ولا يغتربون، إذ لا استيحاش ولا انفراد لمن يحيا في جو من "الأنس بالله". بل باغترابهم الموقت يتقربون أكثر فأكثر إلى الحق سبحانه، ناهيك عن الاستيحاش والانفراد. فكلما اغتربوا هبّت عليهم نفحات الأنس أكثر فطربوا وانشرحوا واستشعروا نسائم الخلود. وقد سمعنا كثيرًا قولهم بانفعال "اللّهم زدني اغترابًا، ولا تكلني إلى ظلم ما يبعدني عنك. وأنزل معيتك في قلبي".
وكما ذكرنا آنفًا أن حقيقة الرضا منحة إلهية وأسبابه متعلقة بإرادة الإنسان، فلا يبلغ الإنسان أفق الرضا إلاّ بعمق الإيمان وجدية العمل، وسعة الشعور بالإحسان وبمروره من فصول التوكل والتسليم والتفويض.
ولما كان الحصول على الرضا عزيزًا وكسبه بإرادة الإنسان صعبًا، فلم يأمر به الله سبحانه مباشرة، وإنما أوصى به وندب الخلق إليه وأثنى على الذين بلغوا تلك المرتبة ورفع من شأنهم.
وإذا أخذنا الأمر من زاوية الأسباب، فالبلوغ إلى مرتبة الرضا يتطلب؛ الجد في معاملات العبد مع ربه، وأخذ النعم التي تُغدق عليه من دون طلب وسائلَ شكر وتحدثًا بالنعمة، والتعالي على أنواع الحرمان برحابة صدر، وأداء حق مسؤولياته بانشراح تام حتى لو كان يتقلب تحت قبضة الاستيحاش والانفراد والانقباضات، وقبول أوامر الحق سبحانه ونواهيه بسرور وحبور كأنها دعوة إلى "ليلة زفاف"... وأمثالها من الأسس، إلاّ أن أهم ركن للرضى من حيث المبدأ هو توجّه الفرد إلى الله في قيامه وقعوده بشعوره وفكره وسلوكه، والانتباه له والانشراح به، وإنشاؤه وسائل متجددة كل يوم للوصول إلى معرفة أعمق للألوهية.
والرضا والمحبة لهما أهميتهما في العقبى وما بعدها لاحتضان سعتهما الدنيا والعقبى. بينما تأثير الخوف والرجاء على الإنسان أمر دنيوي. فتنحصر أهمية هذين الشعورين في دفع خيبة الأمل والشعور بالأمان التام، ولا وجوه لهما في الآخرة إلاّ ثمارهما.
والرضا منبع مهم للاطمئنان سواء في الدنيا أوالآخرة. ولا يعني هذا أن الذين بلغوا هذه المرتبة قد تخلّصوا كليًا من الآلام والمكاره، بل في طريق الرضا أمور تسع الدنيا ظاهرُها كريه ومفجع، إلاّ أن أبطال الرضا يتلقونَها رحمة، فتُقْلَب السمومُ التي يتجرعونها ترياقًا والمشاق التي يتعرضون لها تبادل عشق بين محبوبين، وموادّةً رابحة بينهما.
وفي الحقيقة أن طريق الرضا أقصر الطرق وأكثرها أمنا رغم ما فيها من مصاعب ومشقات. إذ يمكن أن يوصل الإنسان أحيانًا بحملة واحدة وبنفحة واحدة إلى ذرى كمالات الإنسان. والأمر هكذا، سواء كان السالك مندفعًا من جهة إلى أخرى بكل قواه ونشاطه، أو مطالعًا الكون كتابًا مفتوحًا أمامه، وهو يتنفس أنفاس الحق تعالى في كل شيء، أو كان مهيض الجناح تحيطه المحالات ويجول بنياته في سماء غاياته، ولو في بيته وهو على كرسيه يتأمل لتحقيق اهدافه السامية.
ونتيجة الرضا سرور وانشراح ساحر يهبّ من رضا الرب الجليل يتناسب طرديًا مع عظم آمال الإنسان ورجائه. فهذا ليس ذوقًا يحصّله القرب، ولا لذة تُشعرها العبادات والطاعات، ولا تلذذا وجدانيا نابعًا من الصراع مع الآثام، بل هو حلاوة روحانية ملونة بالأمل وعمق الرجاء ومطبوعة بالتمكين والحذر.. فهو نفحة رحمة، وتوجّه خاص منه تعالى مباشرة إلى مقام الرضا.
ومرتبة الرضا، من حيث إنها توجّه النظر جميعه إلى الحق تعالى فإن اتخاذها وسيلة للأذواق واللذائذ والحظوظ أو أنواع من الاستشفاف والترقبات، قلة احترام واستخفاف بذلك المقام الذي أساسه الصفاء والنقاء. وفي الحقيقة يصح أن نرى الشيء نفسه في جميع الأحوال والمقامات التي ذكرناها ضمن الأعمال القلبية. نعم، إن حبّه سبحانه، وترقب رضاه في كل الأحوال، ينبغي أن يكون لأجله وحده وليس لأي سبب من الأسباب. ولقد قال أبطال عالم الروح والقلب منذ القدم إلى يومنا هذا أقوالاً مشابهة ومتممة ومتقاربة حول الرضا فمثلاً:
يقول ذو النون المصري: علامة الرضا هي ترك العبد إرادته بتفضيل إرادة الحق سبحانه قبل قضائه الأشياء، والعلم بأن الخيرة فيما اختاره الله، بعد قضاء الأشياء، وعدم الانزعاج بل يظل حبه في جيشان وهو يتلوى في قبضة المصائب.[5]
ويقول الحسين بن علي رضي الله عنهما: كفّ العبد عن كل ما يخالف إرادة الله واختياره، وعدم تمني أي شيء سواه.[6]
ويرى أبو عثمان: أن الرضا هو تلقي تجليات الحق سبحانه الجمالية والجلالية بالارتياح، وقبول الجلال عينَ الجمال والجمال عين الرحمة.[7] حيث يشير بيان الرسول صلى الله عليه وسلم المنوّر إلى هذا: «وَأَسْأَلُكَ الرِّضَاءَ بَعْدَ الْقَضَاءِ».[8]
نعم، إن الرضا على قضاء الله وحكمه ولمّا يتحقق بعدُ هو عزمٌ على الرضا، أما الرضا الحق فهو الرضا عند صدمة النازلة وتحمّلها.
ونذكر أدناه بعض الملاحظات التي يمكن إرجاعها إلى الأقوال السابقة حول الرضا:
1-عدم الانزعاج من أي حكم وتقدير مصدره الألوهية والربوبية.
2-تلقّي كل ما يرد من الله بانشراح وسرور.
3-الارتياح إلى رياح القدر أينما هبّت.
4-المحافظة على ضبط موازنة القلب وتوازنه حتى تجاه أفجع الحوادث وأشدها.
- عدم التوجّع من المصائب متفكرًا بتقدير الله في لوح الحقيقة المحفوظ.
هذا ويمكن الاسترسال في البحث عن أمور أخرى في هذه الأسس الثانوية التي تخص الرضا، إلاّ أننا ننهي هذا الفصل ولا نـزيد لئلا نشتت الموضوع.
الرضا لدى عامة الناس، هو عدم الاعتراض على التقدير الإلهي والتجليات بحقهم.
والرضا لدى الذين بلغوا الأعماق في المعرفة هو استقبال ما قضى الله وقدَّره بالترحاب.
أما رضا أرباب القلوب والروح الذين استعلوا على أنفسهم فهو ترصّد إرادته وتوجهه تعالى فحسب صارفًا النظر عن نظرات نفسه وفكره.
فالآية الكريمة ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي﴾ (الفجر:27-30) تتضمن المراتب كلها وهي بماهية جواب على الأمور التي تتوجه إلى جميعها تقريبًا.
نعم، يُفهم من هذه الآيات الكريمة أن بلوغ مرتبة الرضا مقيّد بتوجّه النفس إلى الله تعالى، هذا التوجه لا يُقيَّم باعتبار علاقتنا بالزمان والمكان وأبعادنا الدنيوية والأخروية، بل بتجلي الحق سبحانه وتوجّهه الذي يسمو على الأزمان والأمكنة. ولهذا يصح أن نقول: إن هذا التوجه سيتجلى بأبعاد اللُّطف.. ففي الدنيا بالتوكل والتسليم والتفويض.. وفي أثناء الوفاة باطمئنان القلب والانبساط إلى الرب الجليل.. وما بعد البعث بأخذ مكانته بين عباد الله الصالحين ودخول الجنة.
وإذا أخذنا من زاوية أخرى رضا الناس وعوامهم، نجد أنه مقابلة ربوبيته تعالى بارتياح، والانغلاق التام عما سواه بحثًا أو توجهًا، ونسج الحياة حول حقائق: ﴿قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ﴾ (الأنعام:164) وكذلك ﴿قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ﴾ (الأنعام:14). الرضا بهذا المفهوم ذو أهمية بالغة لكل مؤمن حيث يفيد التوحيد الحقيقي في الوقت نفسه. والرضا بهذا المستوى يتحقق بهيمنة محبته سبحانه على القلب، حتى لا يبقى موضع لمحبة أخرى، بل تكون محبة الأغيار أيضًا لأجله وفي سبيله، وتتخذ المحبة شكل العبادة.
والرضا في الدرجة الثانية، هو رضا أرباب المعرفة، ويطلق عليه أيضًا "الرضا عن الله" وهو استقبال القضاء والقدر بانشراح صدر، من دون أن يدع مجالاً لأدنى انحراف في إبرة بوصلة القلب ولو في أقل زمان.
فبينما الأول يعدّ اقترابًا عاميًا للرضا، يُعدّ هذا معاملة القلوب المجهّزة بالمعرفة مع الحق سبحانه.
أما الرضا في الدرجة الثالثة، فهو رضا الأصفياء، ويلخص بـ"الرضا برضاه تعالى".
فمَن شُرّف بهذا المقام فلا غيظ ولا سخط لأجل نفسه، ولا شعور بالفرح والسكينة لأجل نفسه، بل يعيش في أذواق ولذائذ الفناء في ربه، متخليًا عن مشاعره وأفكاره ورغباته.
فالرضا في الدرجة الأولى، فرض، لإنه إرادي ويفيد التوحيد، وكذا مبدأ في سبيل القربة إلى الله.. أما الثانية فهو بمثابة واجب، إذ هو دوام المرتبة الأولى وأساس المرتبة الأخيرة من حيث القربة.. وأما الثالثة: فهو هبة إلهية أكثر مما هو كسبي، وعُدّ من النوافل التي هي عين القربة.
ويمكن القول أيضًا أن الأخيرة من هذه الدرجات تضم الأولى والثانية كذلك، لأن الأصل والأساس هو كون العبد في طريق الرضا، والعيش في جو الرضا. أما التكامل مع الرضا والتحول إلى الرضا فهو نتيجة وثمرة. وبتعبير آخر إن المرتبتين الأوليين متعلقتان بأسماء الله وصفاته تعالى، أما الثالثة فمتعلقة بما يترتب عليها من ثواب وجزاء وتجل وواردات ومقابلة. واعتقد أن الآية الكريمة النيرة: ﴿رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ﴾ (البينة:8) تشير إلى هذه الأمور الثلاثة معًا. والحقيقة نفسها يبينها الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم في حديثه الشريف: «ذَاقَ طَعْمَ الإيمَانِ مَنْ رَضِيَ بِاللهِ رَبًّا وَبِالإسْلامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولاً».[9]
ونرى أنه بالملاحظات الآتية يمكن تغذية الشعور والفكر لبلوغ الرضا بالشعور والفكر، ويمكن أن تذلل بعض صعوبات ومشقات هذا الطريق العسير، ويمكن تعديل الاعتراضات الجسمانية والدنيوية إلى حد ما:
- الإنسان أمام تقدير وتجليات الحق سبحانه ما هو إلاّ نموذج وصورة ليس له حق التدخل فيما تعهّد به من دور يؤديه لا في كيفيته ولا في شكله.
- كل ما يصيب الإنسان قُدِّر وفق ميوله كشرط عادي، ولا يقدر على تبديله إلاّ الخالق سبحانه.
- الانسان بكل ما يملك عبد لله ومُلكه، فلا يتدخل العبد في تصرفات سيده.
- إن كان الإنسان يحب الله حق الحب، عليه أن يهش بما يرد منه زهرةً كانت أم شوكةً.
- قد لا يدرك الإنسان نتائج ما يصيبه، لعل فيه مصالح كثيرة تسع الدنيا. والآية الكريمة صريحة في هذا ﴿وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾ (البقرة:216).
- المسلم هو من استسلم لله، لذا سخطه على إجراءاته تعالى غير وارد إطلاقًا.
- قبل كل شيء المؤمن إنسان يحسن الظن دائمًا، فكيف يسخط على إجراءات ربه فيسيء الظن وهو المأمور بحسن الظن.
- الرؤية الحسنة، والرويّة الحسنة والتأويل الحسن تجاه ما يصيب الإنسان من القدَر تملأ جوانحه بالطمأنينة والانشراح.
- لئن كان إيفاء حق المسؤوليات التي علينا في الدنيا، أو المسائل التي نتعرض إليها، يشكل أساسًا لحياتنا الأخروية، ألا ينبغي علينا أن ننجزها حبًا وكرامة كما ننجز واجب التعليم والتربية؟
- إن رضا العبد بما يرد من ربه، يعني رضا الرب عنه.
- إن العيش الذي يدور مع الرضا حيث دار يذيقنا نشوة الجنان ولو كنا من حيث مشاعرنا في جهنم، في حين الانـزعاج تجاه ربوبيته تعالى يسبب الغم والكدر والتشتت.
- تحري الرضا وأسبابه، دعوة لا تُردّ للإمدادات الإلهية.
- إن كان غل القلوب وغش الناس، سوء أدب تجاههم، فكيف باستشعاره مع إجراءات الله سبحانه؟ إنه ذنب لا يغتفر، ولا يسمح أدبنا التعبير عنه.
- إن الرضا بتجليات الحق سبحانه وقدره، أهم وسيلة للسعادة، ينور هذا، الكلام الطيب الذي قاله الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم: «مِنْ سَعَادَةِ ابْنِ آدَمَ رِضَاهُ بِمَا قَضَاهُ اللهُ وَمِنْ شِقْوَةِ ابْنِ آدَمَ تَرْكُهُ اسْتِخَارَةَ اللهِ وَمِنْ شِقْوَةِ ابْنِ آدَمَ سَخَطُهُ بِمَا قَضَى اللهُ».[10]
- إن استشعار الإنسان بالرضا والانشراح بإجراءات الله سبحانه، يملأ قلبه بنسائم إلهية سامية (لاهوتية)، بينما السخط يملأه بأوهام شيطانية.
- إن الذين يعيشون في فلك الرضا، كأنهم يجعلون من أعمارهم نسيجًا رائعًا للشكر. بينما المتذمرون بعدم الرضا يسحقون حتى أفضل أعمالهم بين رحى الكفران فتذهب هباءً منثورًا.
- إن عدم الرضا والسخط على إجراءات الحق سبحانه، من أكثر منافذ الشيطان تأثيرًا على الإنسان وقلّما ينجو منه مَن كان في مثل هذه الحالة النفسية.
- كفى بك شرفًا أن أهل السموات يشاركونك في رضاك وانشراحك بمعاملات الحق سبحانه معك.
- الراضي يعني متّبع الهدى، والساخط يعني متّبع الهوى.
- الراضي بحكم الله لنا يعني تفضيل إرادته سبحانه على إرادتنا الشخصية، فهل من داعٍ للتعبير عن الوجه المخالف؟!
- إن جميع الطاعات والعبادات ثمرات مشاتل الرضا، بينما المعاصي ثمرات الحرمان منه.
- الرضا ينقذ الإنسان من الخصام الداخلي مع ربه. وغني عن البيان ما في ذلك من سوء أدب.
- إن شعور الرضا بالحق سبحانه، تعبير عن الإيمان به والتوقير له لقوله صلى الله عليه وسلم: «عَدْلٌ فِيَّ قَضَاؤُكَ».[11]
- أول عصيان لله على الأرض، بدأ بعدم رضا الشيطان عمّا هو مقدّر له.
- لا مرتبة أعلى للإنسان من مرتبة الرضا، ولو كانت هناك مرتبة تفوقها لأنزل الله محبيه فيها بعد نيلهم "الحسنى". بينما النعمة الخالدة التي لا نهاية لها هي ﴿وَرِضْوَانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ (التوبة:72).
- الرضا بني على أسس مهمة للدين، إذ يستند إلى التوكل، وترفرف حقيقتُه بأجنحة اليقين، وينال لبُّه الخلود بالمحبة، وخميرتُه شاهدة الوفاء الصادق وبيان فعلي للشكر.
- الرضا مصعد سحري يرفع الإنسان في دفعة واحدة إلى أوج الكمالات، فالذين استقلّوه يصلون هدفهم بسرعة تفوق الزمان.
- المحبة، الإخلاص، الإنابة، الأوبة زهرات يانعات على سفوح الرضا. ومن العبث البحث عن هذه الأوصاف في القلوب التي لم تنقطع إلى رضاه سبحانه.
إن جزاء الأعمال التي تُؤدّى بالحواس الظاهرية، قليل حتى لو تضاعفت تلك الأعمال، لأن الكمية تحسب بقوالب. بينما جزاء الأعمال القلبية كالرضا وما فيه بُعد الرضا يتناسب طرديًا مع وسعة القلب، فهو فوق التصورات.
الرضا أعظم مرتبة عند الله سبحانه، وأرقى ما فيها هي الصفة المشتركة لمن هم في أرفع مقام. فالخط الواصل من سيد الأنام صلى الله عليه وسلم إلى الأنبياء الآخرين عليهم السلام، ومنهم إلى الأصفياء والأولياء.. جميع هؤلاء الأفذاذ بلغوا تصفيات التسابق الأخيرة فيتنافسون في الإخلاص واليقين والتوكل والتسليم والتفويض لبلوغ الهدف.
فكم ركبوا أكتاف الشدائد وكم تحمّلوا الصعاب والأهوال وكم اقتحموا غمرات أنهار الدماء والجروح بلوغًا إلى هذا الهدف!
فهذه أنّات مكابد منقطع إلى الرضا:
اَي جَفَايِ تُـو زِدَوْلَت خُوْبتَر وَانْتِقَامِ تُـو زِجَـانْ مَحْبُوبْتَرْ
عَاشِقَم بَرْقَهرُ وُ بَر لُطْفَشْ بَجِد بُو العَجَب مَن عَاشِقِ هَرْ اِينْ دُوضِد[12]
وَالله اَرْ زِينْ خَار دَرْ بُسْتَان رَوَم هَمْچُو بُلْبُل زِينْ سَبَبْ نَالاَنْ شَوَمْ
اِينْ عَجَبْ بُلبُل كِه بُكَشَايَدْ دَهَانْ تَاخُورَدْ او خَارْ را بَا گُلِسْتَان[13]
"أيها الحبيب، جفاؤك أحلى من السعادة والجاه، وانتقامك أحبّ من الروح.. وإني لشديد العشق لقهره ولطفه، فما أعجب أنني عاشق الأضداد.. فوالله لو رحلت من شوك البلاء هذه إلى بستان الصفاء سأنوح كالبلبل، فيا عجبا كلما فتح البلبل فمه قال: شوك.. بستان.
وللشاعر الحروفي "نسيمي" قول جميل في هذا الصدد:
لا أتراجع عنك أيها الحبيب
فأنا العاشق المكابد
ولو قطعتَ قلبي إربا لا أتراجع عنك
ولو شقوني كزكريا من الرأس إلى أخمص القدم
ولو وضعتَ أيها النجار في مفرق رأسي المنشار لا أتراجع عنك
ولو حرقوني ونادوا رمادي من النار
لا أتراجع عنك أيها الستار.
نعم إن مقام الرضا مقام فوق مقام الجمع والفرق، إذ أنفاس هذا المقام هي: "طاب قهرُك كما طاب لطفُك".
اللّهم وفقنا إلى ما تحب وترضى، وصلى الله على سيدنا سيد المرضيين وعلى آله وأصحابه المخلَصين. آمين.
الهوامش
[1] انظر السور: التوبة:62؛ الممتحنة:1؛ البينة:8.
[2] المعجم الكبير للطبراني، 22/320، المعجم الأوسط، 7/203، 8/192؛ شعب الإيمان للبيهقي، 1/218.
[3] الرسالة للقشيري، ص:309.
[4] مسلم، الايمان 56، المسند للامام أحمد، 1/208.
[5] "ثلاثة من أعلام الرضا: ترك الاختيار قبل القضاء، وفقدان المرارة بعد القضاء، وهيجان الحب في حشو البلاء". (الرسالة للقشيري، ص:311. وانظر أيضًا: كشف الخفاء للعجلوني 1/478).
[6] "من اتكل على حسن اختيار الله تعالى له، لم يتمن غير ما اختاره الله عز وجل له". (الرسالة للقشيري، ص:311).
[7] "الرضا قبل القضاء عزم على الرضا، والرضا بعد القضاء هو الرضا" (الرسالة للقشيري، ص:311).
[8] النسائي، السهو 62؛ المسند للامام أحمد، 5/191.
[9] مسلم، الإيمان، 56؛ المسند للامام أحمد، 1/208.
[10] الترمذي، القدر 15؛ المسند للامام أحمد، 1/168.
[11] المسند للامام أحمد، 1/391، 452.
[12] مثنوي معنوي لمولانا جلال الدين (فارسي)، 1/77، باب:1566.
[13] مثنوي معنوي لمولانا جلال الدين (فارسي)، 1/77، باب:1570.
مجلة سيزنتي التركية، يوليو 1994؛ الترجمة عن التركية: إحسان قاسم الصالحي.
- تم الإنشاء في