التواضع

التواضع هو التذلل، عكسُه التكبّر. ويمكن أن نعرّفه أيضًا بأنه: شعور الإنسان بموقعه الحقيقي أمام الحق سبحانه، والسلوك وفقه، وتقييم مكانته لدى الخلق من زاوية هذا الفهم، وعدّ نفسه كأحد من الناس، أو كأي جزء من أجزاء الوجود. وأيا كان التعريف فمتى ما تقبل الإنسان -بروح متواضعة- أن تكون نفسُه عتبة الباب، موطئ البيت، حجر الرصيف، حصاة الجداول، تبن السنابل، تمكّن أن يعبّر كما عبّر "الإمام آلوارلي":

الكلّ حسنٌ إلاّ أنا

الكلّ قمح والتبن أنا.

فيكون مرفوع الرأس، مرموقًا مقبولا لدى أسمى المقامات من أهل الأرض والسماوات. أمَا يقول الصادق المصدّق صلى الله عليه وسلم في حديثه الطيب الجميل المسند إليه «مَنْ تَواضَع للهِ رَفعَه اللهُ ومَن تَكّبر وَضَعه الله»[1] بمعنى أن الكبير والمتكبر والمتواضع والوضيع يتناسبان تناسبا عكسيًا.

ويرى البعض أن التواضع هو أن لا يرى الإنسان في نفسه قيمة. ويقول البعض الآخر: هو احترام الناس بما يليق بإنسانيتهم ومعاملتهم بإنكار الذات.. وآخرون: أن يعدّ نفسه أشرّ الناس مالم يتغمده الله بعنايته سبحانه عناية فائقة. وآخرون: اتخاذ موقف تجاه أي نأمة داخلية للأنانية في نفسه صغيرة كانت أم كبيرة، وبذل الجهد لخنقها في موضعها. فكل واحد من هؤلاء له فهمه وطرز تلقيه الخاص، بيد أن الأخير يتعلق بالمقربين والمخلَصين أكثر.

قال عروة بن الزبير: رأيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعلى عاتقه قربة ماء، فقلت: يا أمير المؤمنين لا ينبغي لك هذا، فقال -من نصب خباءته في مقام القرب-: لمّا أتتني الوفود بالسمع والطاعة، دخلتْ في نفسي نخوة -حاشاه أن تكون نخوة كما نفهمها نحن نوعًا من الكدورة- فأحببتُ أن أكسرها، ومضى بالقربة إلى حجرة امرأة من الأنصار فأفرغها في إنائها.[2] وكذا حمله الدقيق على ظهره. ولوم نفسه على المنـبر[3] وسكوته عمّن عاتبه[4].. كل ذلك من قبيل كسر النفس والتواضع.

ورؤي أبو هريرة رضي الله عنه وهو أمير المدينة المنورة، وعلى ظهره حزمة حطب، وهو يقول: "طرّقوا للأمير، أي افسحوا للأمير طريقًا".[5]

وقيل: ركب زيد بن ثابت رضي الله عنه فَدَنا ابنُ عباس (حبر الأمة) رضي الله عنهما ليأخذ بركابه، فقال: مه يا ابن عم رسول الله، فقال: هكذا أُمرنا أن نفعل بعلمائنا، فأخذ زيد بن ثابت يد ابن عباس فقبّلها، وقال: هكذا أُمرنا أن نفعل بأهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم.[6]

ومرّ الحسن بن علي رضي الله عنهما بصبيان معهم كِسَرُ خبز فاستضافوه فنـزل وأكل معهم، ثم حملهم إلى منـزله وأطعمهم وكساهم.[7]

وقيل: تشاجر أبو ذر الغفاري وبلال الحبشي رضي الله عنهما، فعيّر أبو ذر بلالاً بالسواد. فشكاه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا أبا ذر إنه بقي في قلبك من كبر الجاهلية شيء، فألقى أبو ذر نفسه، وحلف أن لا يرفع رأسه حتى يطأ بلال خده بقدمه، فلم يرفع حتى فعل بلال ذلك.[8]

وأمثال هذه الحوادث كثيرة، كلها نماذج للمحوية والتواضع.

إن من يستمع إلى كتاب الله الجليل والسنة المطهرة لا تبقى لديه أية شبهة من أن العبودية الحقة هي التواضع والمحوية لكثرة حثهما على التواضع. فقوله تعالى: ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا﴾ (الفرقان:63) صوت خالص زكيّ لهم، و﴿أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾ (المائدة:54) نَفَسٌ رقيق لطيف تفَجّر في قلوبهم وانعكس على سلوكهم. وأيضًا ﴿رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا﴾ (الفتح:29) التفاتة وتكرمة لهم تفوق التصور.

وينثر المثل الكامل للإنسان صلى الله عليه وسلم دررًا نفيسة أمام أنظار قلوبنا، منها:

1-«إِنَّ الله أَوْحَى إِلَيَّ أَنْ تَوَاضَعُوا حَتَّى لاَ يَفْخَرَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ، وَلاَ يَبْغِي أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ».[9]

2-«أَلا أُخْبِرُكُمْ بِمَنْ يَحْرُمُ عَلَى النَّارِ أَوْ بِمَنْ تَحْرُمُ عَلَيْهِ النَّارُ عَلَى كُلِّ قَرِيبٍ هَيِّنٍ سَهْلٍ».[10]

3-«مَنْ تَوَاضَعَ لِلَّهِ دَرَجَةً رَفَعَهُ اللهُ دَرَجَةً حَتَّى يَجْعَلَهُ فِي عِلِّيِّينَ وَمَنْ تَكَبَّرَ عَلَى اللهِ دَرَجَةً وَضَعَهُ اللهُ دَرَجَةً حَتَّى يَجْعَلَهُ فِي أَسْفَلِ السَّافِلِينَ».[11]

4-«اللّهمّ اجعلني شَكورا واجعَلني صَبورا واجعلني في عَيني صغيرًا وفي أعيُن الناس كبيرًا».[12]

وأمثال هذه الدرر كثيرة وكثيرة، أمَا قضى صلى الله عليه وسلم حياته المباركة على هذا النمط؟ فلنذكر نتفا منها:

أ-كان صلى الله عليه وسلم يمرّ على الصبيان فيسلم عليهم.[13]

بـ-وكانت الأمَةُ تأخذ بيده صلى الله عليه وسلم فتنطلق به حيث شاءت.[14]

جـ- وكان صلى الله عليه وسلم في بيته في خدمة أهله.[15]

د-ويشترك في العمل مع الآخرين.[16]

هـ-وكان يخصف نعله، ويرقع ثوبه، ويحلب الشاة، ويعلف البعير.[17]

و-وكان يأكل مع الخادم.[18]

ز-ويجالس المساكين.[19]

حـ-ويمشي مع الأرامل[20] والأيتام[21] في حاجاتهما.

طـ- ويعود المريض، ويشيّع الجنائز، ويجيب دعوة العبد.[22]

فبدءًا بالرسول الكريم صلى الله عليه وسلم إلى سيدنا عمر وسيدنا عمر بن عبد العزيز رضي الله عنهما ثم إلى الألوف ومئات الألوف من الأولياء والأصفياء والأبرار والمقربين، وأرباب القلوب العظام في هذا العصر.. كلهم ساروا على النهج نفسه.. وأقروا: "إن مقياس العظمة في الكاملين هو التواضع. أما الناقصون القاصرون فميزان الصُغر فيهم هو التكبر"[23] وبينوا الطريق إلى الإنسان الكامل لمن لم يفقدوا مواهبهم الفطرية.

إن التواضع الحق هو أن يحدّد المرء موقعه تجاه عظمة الحق تعالى ولا تناهيه، بأنه صفر ولا شيء إلى المطلق غير المحدود، ويملّك ذاته هذا المعنى. فالكاملون الذين توغل هذا الفكر في طبعهم، وبه بلغوا فطرة ثانية، هم متواضعون في علاقاتهم مع الناس وفي محويّة معهم مع الرزانة التامة. أجل، إن الذين حدّدوا موقعهم أمام الله سبحانه، هم في توازن دائمي سواء في حياتهم الدينية أو في علاقاتهم ومعاملاتهم مع الناس أو في مراقباتهم النفسية الخاصة بهم:

1-فهم في تواضع ومحويّة تجاه الدين، فلا إشكال لهم، لا بمنقوله ولا بمعقوله. لأنهم في استسلام تام له وإذعان بكل ما ثبت بالبيان القرآني النير والسنة الصحيحة والحسنة، لا يعارضون ما بلّغه الرسول صلى الله عليه وسلم ولا سيما ما ثبت من أفعاله، حتى لو رأوا ما يخالف العقل والقياس والذوق والسياسة. علمًا، ليس في روح الدين ما يخالف العقل القويم والقياس الصحيح والذوق السليم والسياسة الشرعية.

وعلى هذا الأساس، فما يقال: "يُرجَّح العقلُ على النقل إذا تعارضا" لا حظّ له من التواضع. فكما أنه ثرثرة أنانيين لا يعرفون المحمل الحقيقي لهذا الكلام، فإن فكرًا: "يُقدِّم الرأيَ والقياسَ على النص" انحراف. والأذواق والكشوفات والكرامات الخارجة عن طريق السنة الشريفة استدراج.

2-وهم كذلك يعتقدون أنه لا سماح حتى لأصغر البدائل في تمثيل ما عُرّف بالتبليغ؛ لذا فهم منغلقون كليًا على ما هو خارج عن بيان الشارع الجليل. وإذا ما عرضت لأذواقهم ومداركهم ملاحظات مختلفة يؤوّلونها بقصر باعهم في الأمر ويجابهونها:

وَكَمْ مِنْ عَائِبٍ قَوْلاً صَحِيحًا            وَآفَتُهُ مِنَ الْفَهْمِ السَّقِيمِ[24]

3-وهم كذلك مدركون تمام الإدراك أن لا خلاص في السبل المخالفة للكتاب والسنة. ويجدون أعظم منابع قوتهم في العبودية لله. وفي الحقيقة لن يكون العبد عبدًا لله حقًا ويكون لما سواه مسترقًا، فالذين لا يستطيعون النجاة من ذل العبودية لغير الله لا يُنتظر منهم العبودية الخالصة لله. وما أجمل ما قاله بديع الزمان النورسي: "أيها الإنسان! إن من دساتير القرآن الكريم وأحكامه الثابتة: أن لا تحسبنَّ ما سوى الله تعالى أعظمَ منك فترفعَه إلى مرتبة العبادة، ولا تحسَبنَّ أنك أعظم من شيء من الأشياء بحيث تتكبّر عليه. إذ يتساوى ما سواه تعالى في البعد عن المعبودية وفي نسبة المخلوقية".[25]

4-إنهم لا يكلون ثمرات سعيهم إلى أنفسهم قطعًا، ولا يعدّون ما تفضل الله عليهم من قدم للامتحان تقدمًا على غيرهم، ولا يجعلون بذل الجهد -بأية نية كانت- وسيلةً للتكبّر على الآخرين. ولا يعتمدون على حُسن ظن الناس بهم وتوجّههم إليهم ولا ينتظرون العِوَض، بل يعدّون حبّ الناس وتوقيرهم لهم ابتلاء من الله. فلا يستغلون إحسان الحق عليهم وسيلة تحكّم بالناس، لما يرون من أن ألطاف الله بهم وسائل منّة وأذى بمن حولهم.

الخلاصة: إن التواضع هو الباب الرئيس لقَصر خُلُق الله. فهو أيضًا في مقدمة الوسائل للتقرب إلى الحق وإلى الخلق. فالوَردُ ينبت في التراب. والإنسان محصول الأرض لا السماء. والمؤمن أقرب ما يكون إلى الله في السجود عندما يكون الرأس والقدم معًا في موضع واحد.[26] وقد كُتبت في مستهل الدعوة السماوية الموجهة إلى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، كلمة ﴿عَبْدِهِ﴾ رمزًا لتواضعه ومحويته.

اللّهم وفّقنا إلى ما تُحب وترضى، واجعلنا من عبادك المتواضعين. آمين

الهوامش

[1] المعجم الأوسط للطبراني، 5/140؛ مجمع الزوائد للهيثمي، 10/352. وانظر: أحادث مشابهة في المسند للإمام أحمد، 3/76؛ كتاب الزهد لابن أبي عاصم، 156؛ المسند لأبي يعلى، 2/358.

[2] الرسالة للقشيري، ص:244.

[3] «روي أن عمر بن الخطاب رقى المنبر وجمع الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: "أيها الناس لقد رأيتُني وما لي من أكال يأكله الناس إلا أنَّ لي خالاتٍ من بني مخزوم فكنتُ أستعْذِبُ لهن الماءَ فَيُقَبَّضْنَ لي القبضات من الزبيب. قال ثم نـزل عن المنبر فقيل له ما أردتَ إلى هذا يا أمير المؤمنين؟ قال إني وجدتُ في نفسي شيئا فأردت أن أطأطىءَ منها».(الطبقات الكبرى لابن سعد، 3/293.)

[4] تفسير القرآن العظيم لابن كثير 6/314؛ مجمع الزوائد للهيثمي 4/284.

[5] إحياء علوم الدين للغزالي 3/355؛ مدارج السالكين لابن القيم 2/330؛ الرسالة للقشيري 245.

[6] تقبيل اليد لابن المقري، 95؛ الإصابة لابن حجر، 4/146؛ الرسالة للقشيري، ص:244.

[7] الرسالة للقشيري، ص:247.

[8] مدارج السالكين لابن القيم، 2/330؛ الرسالة للقشيري، ص:247.

[9] مسلم، الجنة 64؛ أبو داود، الأدب 48؛ ابن ماجة، الزهد 16.

[10] الترمذي، صفة القيامة 45.

[11] المسند للامام أحمد، رقم الحديث: 11299.

[12] المسند للديلمي، 1/473؛ مجمع الزوائد للهيثمي، 10/181.

[13] «عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه مَرَّ عَلَى صِبْيَانٍ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ وقال كان النبي صلى الله عليه وسلم يَفْعَلُهُ». (البخاري، الاستئذان 15؛ مسلم، السلام 15).

[14] الشفا للقاضي عياض، 1/131، 133.

[15] «عن الأسود بن يزيد سألتُ عائشة رضي الله عنها ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يَصنَعُ في البَيْتِ قالتْ: كان يكون فِي مِهْنَةِ أَهْلِهِ فإذا سمِعَ اْلأذانَ خَرَجَ». (البخاري، النفقات 8، الأدب 40؛ الترمذي، صفات القيامة 45).

[16] المسند للامام أحمد، 2/383؛ السيرة النبوية لابن هشام، 2/24.

[17] الترمذي، الشمائل 78؛ المسند للامام أحمد، 6/256.

[18] «عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا أتَى أحدَكُم خَادِمُه بِطعامِه فَإِنْ لَمْ يُجْلِسْهُ مَعَهُ فَلْيُنَاوِلْهُ أَكْلَةً أَوْ أَكْلَتَيْنِ أَوْ لُقْمَةً أَوْ لُقْمَتَيْنِ فَإِنَّهُ وَلِيَ حَرَّهُ وَعِلاَجَهُ». (البخاري، الأطعمة 55؛ مسلم، الإيمان 42).

[19] الشفا للقاضي عياض، 1/131.

[20] «عن أبي هريرة قال قال النبي صلى الله عليه وسلم: اَلسَّاعِي عَلَى اْلأَرْمَلَةِ والمسكين كَالْمُجاهد في سبيل الله أَوِ الْقَائِمِ اللَّيْلَ الصَّائِمِ النَّهَارَ». (البخاري، النفقات 1؛ مسلم، الزهد 41).

[21] «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أَنَا وَكَافِلُ اليَتِيم في الجنةِ هكذا وأشار بالسبابة والوسطى وفَرَّجَ بينهما شيئا». (البخاري، الطلاق 25؛ مسلم، الزهد 42).

[22] البخاري، تفسير سورة التوبة 12؛ مسلم، المنافقين 3.

[23] الكلمات لبديع الزمان سعيد النورسي، اللوامع.

[24] المتنبي في ديوانه، 4/246.

[25] اللمعات لبديع الزمان سعيد النورسي، اللمعة السابعة عشرة، المذكرة الثانية.

[26] انظر: مسلم، الصلاة 215؛ النسائي، التطبيق 78؛ المسند للامام أحمد 2/421.

مجلة سيزنتي التركية، ديسمبر 1993؛ الترجمة عن التركية: إحسان قاسم الصالحي.

Pin It
  • تم الإنشاء في
جميع الحقوق محفوظة موقع فتح الله كولن © 2024.
fgulen.com، هو الموقع الرسمي للأستاذ فتح الله كولن.