الشكر
الشكر هو الامتنان، الرضا تجاه الإحسان، أيًا كان ذلك الإحسان. وفي الاصطلاح هو استعمال ما مُنح به الإنسان من شعور وتفكر وأعضاء وجوارح في الغايات التي خُلقت لأجلها. والشكر مثلما يوفّى بالقلب واللسان يوفّى كذلك بجميع الأعضاء.
الشكر باللسان؛ يتحقق بالاعتراف بأن أنواع اللطف وأشكال النعم كلها آتية من الله تعالى، ونفي لجميع منابع القوى والقدرات والإحسان الموهومة. نعم، إنه سبحانه هو الذي قدّر الحسنات والخيرات وأعدّ أسبابها من المبدأ إلى المنتهى، كما أنه هو الذي أرسلها أيضًا في وقتها المناسب. وحيث إن الله سبحانه هو قاسِمُها ومجريها وموجِدُها، وخالِقُها في موعدها ومعدّها أمامنا سفرات سماوية، فهو في النتيجة أحق بالشكران والامتنان. إذ التغافل عن الله سبحانه والتعلق بالأسباب، والانقياد وتوجيه الامتنان لها، يشبه مَن يُغرق الخادم الذي يضع السفرة أمامنا بالرشوة والإتاوات، ويتغافل عمن هيأها وأرسلها إلينا، فينطبق عليه فحوى الآية الكريمة: ﴿يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ﴾ (الروم:7). نعم، فهؤلاء هم الجهلاء الناقصون ناكرو الجميل العاجزون من حيث المعرفة والعلم عن رؤية ما وراء الأسباب فينظرون إليها وحدها.
الشكر بالقلب؛ هو معرفة جميع النعم الظاهرة والباطنة المنتفَع بها، من الله تعالى، ومن ثم توجيه الحياة وإقامتها وفق هذا المفهوم. وهذا الشكر القلبي في الوقت نفسه يؤسس الشكر الذي يُؤدّى باللسان والجوارح، كما هو مضمون الآية الكريمة: ﴿وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً﴾ (لقمان:20) التي تبين أبعاده النوعية، وقوله تعالى: ﴿وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللهِ لاَ تُحْصُوهَا﴾ (إبراهيم:34) الذي يشير إلى أبعاده الكمّية اللامتناهية.
أما الشكر بالجوارح فهو استعمال كل عضو وكل لطيفة وفق الغاية التي خُلقت لأجلها، وأداء ما يخصّ كلاً منها من العبودية والطاعة.
وهناك من يرى أن شكر اللسان هو بالأوراد والأذكار، وشكر القلب هو باليقين والاستقامة، وشكر الجوارح هو بالعبادات والطاعات. وحيث إن الشكر متعلق بالإيمان والعبادة تعلقًا وثيقًا، فقد قال عنه الأفاضل ناظرين لشموله: أنه نصف الإيمان، والصبر نصفه الآخر وقرنوهما معًا.
ولقد أمر الله سبحانه في كلامه الجليل، بالشكر في مواضع كثيرة وعدّه غاية الأمر والخلق كما في قوله تعالى: ﴿لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾[1] ووعد الشاكرين بالجزاء الحسن وتوعّد العاقين بالعقاب كما في قوله تعالى: ﴿وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ﴾ (آل عمران:144) و﴿لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ﴾ (إبراهيم:7). زد على ذلك فقد أطلق سبحانه وتعالى على نفسه إسم ﴿الشَّكُور﴾[2] وربط سبيل بلوغ المنبع الأصل للنِعَم كلها بالشكر، وأثنى على من له القدح المعلى في الشكر سيدنا إبراهيم بـ﴿شَاكِرًا لأنْعُمِهِ﴾ (النحل:121) وعلى سيدنا نوح: بـ﴿إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا﴾ (الإسراء:3).
وعلى الرغم من أن الشكر عمل جليل ورأسمال ثمين، فإن العاملين به بمعناه الحقيقي ليسوا كثيرين حسب فحوى الآية الكريمة: ﴿وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ﴾ (سبأ:13). ومع أن الذين يكون الشكر ديدنهم يتقلبون دائمًا به، بل يقضون أعمارهم كلها شاكرين، بنفحات قوله صلى الله عليه وسلم «أفَلا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا»[3] إلاّ أن عددهم قليل جدًا.
نعم، إن رائد الشكر وفخر الإنسانية صلى الله عليه وسلم كان في مقدمة هذا العمل، الجليلُ قدره والقليلُ العاملون به. إذ كان صلى الله عليه وسلم شاكرًا في أحواله كلها، في قيامه وقعوده، ويوصي بالشكر كل مَن أتاه، بل كان ذكره الدائم صباح مساء، هذه الكلمات النورانية: «رَبِّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ».[4] وحيث إن الشكر هو امتنان المرء للمنعم الذي أنعم عليه، وتوجهه إليه بالمحبة والود، وإقراره بأن الأفضال كلها منه تعالى فقوله صلى الله عليه وسلم هذا، هو أوجز تعبير عن الشكر.
نعم، هناك من يشكر على الخبز والطعام، وعلى الأولاد والعائلة، وعلى المسكن والمأوى. وهناك من يشكر مع ما سبق، على الوجود والصحة والعافية، وهناك من يتقدم خطوة إلى الأمام فيشكر على الإيمان والعرفان والأذواق الروحانية والاطمئنان. وهناك من يشكر على الشعور بالحمد والمنة لله. فالإنسان بهذا المعنى الأخير إذا ما دخل في دائرة الشكر الدائمة (الدائرة الصالحة) باتخاذ عجزه وفقره رأسمالاً له، يكون من الشاكرين حقًا. وقد روي في حديث شريف: «أن سيدنا داود عليه السلام قال: إلهي، كيف أشكرك، وشكري لك نعمة من عندك؟ فأوحى الله إليه: الآن قد شكرتني».[5] واعتقد أن هذا هو ما يراد التعبير عنه بـ: "مَا شَكَرْنَاكَ حَقَّ شُكْرِكَ يَا مَشْكُورُ".
إن الشكر الحقيقي يتحقق بمعرفة النعمة معرفة تامة. لأن منبع النعمة والثناء الجميل للمنعم مرتبط على الأغلب بمعرفة النعمة. إن ما يؤكد عليه دائمًا هو أن ما يهيؤه الإيمان والإسلام ويبيّنه القرآن الكريم هو الخط الممتد من معرفة النعمة إلى قبولها، ومنه إلى الحق سبحانه. نعم، إن ألطاف الله سبحانه علينا إنما تُعرف أكثر وتتوضح أكثر بنور الإيمان وبمعايشة أوامر الإسلام، فتتحول إلى حالة يُحسّ بها ويُستشعر، وعندها يتبين أنها من عطاء الله سبحانه، رحمةً لعجزنا وفقرنا وبناءً على احتياجنا، تفضلاً منه تعالى من دون مقابل. وهذا ما يفجّر فينا مشاعر الثناء الجميل على المنعم بتلك الألطاف والآلاء. فنوفي حقّ واجبِ الشكر والثناء المنبعث بانفعال في أعماق روحنا امتثالاً بحقيقة الأمر الإلهي: ﴿وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ﴾ (الضحى:11).
وفي الحقيقة إن في كل إنسان شعورًا بالامتنان تجاه مَن يحسن إليه. ولكنه لا يستشعر بالنعم التي تُغدَق عليه، وهو غارق فيها، كالأسماك السابحة في أعماق الماء، لحين تيقظ هذا الشعور فيه وتوجيهه إلى المنعم. بل أكثر من هذا كثيرًا ما يحيل تلك النعم إلى أسباب تافهة حوله. فإن أطلقنا على عدم رؤية النعم التي تحيط بنا، اسم العمى والصمم وانعدام الشعور، فإن إحالة ما لا يُحصى من النعم التي ننالها إلى الأسباب العمياء والصماء التي لا شعور لها انحرافٌ بلا شك. فقوله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ لَمْ يَشْكُرِ الْقَلِيلَ لَمْ يَشْكُرِ الْكَثِيرَ»[6] أو «مَنْ لَمْ يَشْكُرِ النَّاسَ لَمْ يَشْكُرِ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ»[7] ينظر إلى الشق الأول ويذكّر بأهمية الشكر المطلق. أما الشق الثاني فتبينه الآيات الكريمة مذكّرة بالتوحيد الحقيقي: ﴿وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ﴾ (البقرة:152) ﴿وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ﴾ (العنكبوت:17).
وعلاوة على ذلك يمكن أن ندرس الشكر ضمن هذه الأقسام الثلاثة، من حيث الخصائص التي تشكّله:
1-شكر تجاه ما ارتضاه الجميع من نِعم، العوام منهم والخواص، المسلم وغير المسلم. فيحبونها ويرغبون فيها. هذا الشكر واضح جدًا لا داعي للإطالة فيه.
2-شكر تجاه ما يبدو غير محبوب ظاهرًا، أي وجهه الظاهري ثقيل كريه، وإيفاء هذا النوع من النعم حقه من الشكر عسير، إلاّ من يستطيع أن يطّلع على ما وراء ستار الأحداث، فهو لطف إلهي، يتلون صاحبُه بألوان من الرضى والقبول.
3-شكر الذين يقضون حياتهم في مدار المحبوبية، فلا ينظرون إلى النعم إلاّ من زاوية المنعم، بإحساسهم ألطافه وآلائه بعظمته سبحانه. ويحيون في الحظوظ العميقة للشهود.. فعبوديتهم ترنيمة أخرى للذوق، وحياتهم القلبية طوفان آخر للعشق والشوق، وعلاقتهم مع الحق سبحانه، في حظوظ الشهود العميقة ضمن نظام تمكين آخر. فهؤلاء يقيدون الموجود، ويصيدون المفقود. ويتلوّنون في كل آن بألوان الفيوضات المقدسة والقدسية التي كسبوها، ويسبرون الأعماق في طريق سيرهم. ويقذفون بشِباك النظر لاقتناص الواردات، فيصيدون ويمتلؤن ويفيضون.
اللّهم اجعلنا من عبادك المخلَصين المحبوبين المقرَّبين، وصلى الله على سيد المخلصين المحبوبين المقربين وعلى آله وصحبه أجمعين.
الهوامش
[1] انظر السور: البقرة:52،56،185؛ آل عمران:123؛ المائدة:6،89؛ الأنفال:26؛ النحل:14،78؛ الحج:36؛ القصص:73؛ الروم:46؛ فاطر:12؛ الجاثية:12.
[2] انظر السور: فاطر:30،34؛ الشورى:23؛ التغابن:17.
[3] البخاري، التهجد 6؛ مسلم، المنافقين 79-81، الترمذي، الصلاة 187.
[4] النسائي، السهو 60.
[5] الجامع للأحكام القرآن للقرطبي، 1/398، 9/343؛ تفسير القرآن العظيم لابن كثير، 2/541، 3/350.
[6] المسند للامام أحمد، 4/278، 375.
[7] أبو داود، الأدب 11؛ الترمذي، البر 35؛ المسند للامام أحمد، 2/ 258، 295، 388، 3/32، 74.
مجلة سيزنتي التركية، مايو 1994؛ الترجمة عن التركية: إحسان قاسم الصالحي.
- تم الإنشاء في