الدهشة والحيرة
إن سالك الحق الذي يجول في وديان العشق والشوق، يحترق أحيانًا بنار العشق، وأخرى يشرب ما يقدمه الحبيب من شراب الخلود فينفعل بالشوق والطرب. فعندما يسيح محترقًا يئن قائلاً: "أيها الساقي اسقني ماءً قد احترقت بنار العشق"، وحينما يرنو باشتياق إلى باب الحبيب المنفرج يقول متوسلاً: "لقد غمست إصبعي بعسل العشق فاسقني ماءً" ويطلب المزيد.
وطالما بقي في السالك، التفكر في السفر، القلق على الدنيا، مراقبة المسافات، أو بتعبير آخر، لحين تجاوز السالك تجلى الأسماء والصفات و"لحين" تشرفه بتجلي الذات الجليلة.. إلى هذا "الآن" يذوق النار والشرب والاحتراق، فيأخذ نصيبه من فرجات الأستار ﴿وَسَقَيهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا﴾ (الإنسان:21) ويستمر البحث عن "المزيد" في وديان المعرفة. فكل وارد جديد في مثل هذا الصدر يفتح منافذ اشتياق جديدة.. وتسيل الأنوار من كل منفذ على عين السالك وقلبه فتعمل مشاعره وفكره عمل المكوك بين الأشياء وقلبه، ناسجةً مخمل معرفته.
نعم، كما يفتح النحل سبيلاً للأزهار كي تتحول عسلاً في خلاياها، كذلك السالك يحمل أزهار تجليات الأسماء والصفات الإلهية إلى قلبه، ويمررها من أنابيق الوجدان السديدة، حتى يشعر كأن أهدابه تذهب وتتعلق بحزم نور الصفات.. فيردد: "الذات".. ويطلق عنانه للحيرة والدهشة.
يقول "صاحب كلستان" وكأنه يعبّر عن حال السالك بين النار والشرب بموسيقى الدهشة والحيرة:
دِيدَارْ مِي نُمَايِي وپَرْهِيزْ مِيكُني بَازَار خُوش وآتَشِ مَا تِيزْ مِيكُنِي[1]
أُشَاهِدُ مَنْ أَهْوَى بِغَيْرِ وَسِيلَةٍ فَيَلْحَقُنِي شَأْنٌ أَضِلُّ طَرِيقًا
يُؤَجِّجُ نَارًا ثُمَّ يُطْفِى بِرَشَّةٍ لِذَاكَ تَرَانِي مُحْرَقًا وَغَرِيقًا
ويقول "إسماعيل حقي البروسوي":
اَزْ ﴿سَقَاهُمْ رَبُّهُمْ﴾ جُمْلَه ابْرَار مَسْت دَرْجَمَالِ لا يَزَالِي هَفْتُ وَپَنجُ وَچَارْمَسْت
"انظر وشاهد فقد سحر "سَقَاهُمْ رَبُّهُمْ " الأبرار قاطبة، السبعة والخمسة والأربعة كلهم نشاوى من ذلك الجمال اللايزالي". وقد أظهرهم البروسوي ببيانه الساحر أنهم مخمورون دائمًا. وهذا نظر من زاوية أخرى.
ولكن سالك الحق في أثناء تجواله في وديان الدهشة والحيرة، إن لم تكن موازنة القلب معيَّرة تعييرًا وفق العالَمَين معًا، فإن السُكر والغيبوبة، وفَقْدَ الموازنة والطيش وبدوره الكلام والسلوك المخالف لروح الشريعة أمر حتمي... أي عندما تحلّق المشاعر في أجواء الحال ولم يكن المنطق والمحاكمة العقلية مرتبطة بمشكاة النبوة، ولم تكن السياحة في ظل الحقيقة الأحمدية صلى الله عليه وسلم.
وما أجمل ما عبّر الملا جامي عن الدهشة والحيرة بكلامه الساحر الملفع بالجمال والصدق:
زَنَانِ مِصْرِي بَهَنْگَام جِلْوَهِء يُوسُف زِ رُويِ بِي خُودِي اَزْ دَسْتِ خُودْ بَبَرِيدَند
مَقَررَسْت كِه دِل پَاره پَاره مِيكَرْدَنْد أگَر جَمَالِ تُواَى نُورِ دِيدَه مِي دِيدند،
زِ خُوبي تُو بَهَر جَا حِكَايَتِي مِي گُفتَند، حَدِيثِ يُوسُفِ مِصْرِي فُسَانه اِي بَاشَد
"إن نساء مصر عندما رأين جمال سيدنا يوسف عليه السلام أكبرنَه وغِبن عن أنفسهن وقطّعن أيديهن من الحيرة والدهشة. فلو كن قد رأين جمالك يا نور عيني ويا سيدي، لكُنّ أنـزلنَ سكاكينهن التي في أيديهن على قلوبهن. ويظل جمال سيدنا يوسف عليه السلام خافتا عندما يذكر جمالك".
فإن كانت أنواع الجمال والحسن الدنيوية -وهي غير ذاتية وفانية- تُفقد الإنسان عقله على هذه الصورة، فكيف بمشاهدة ومكاشفة جمال ذات جليلة، الذي جميع أنواع الجمال والكمال ما هي إلاّ ظلال ظلال جماله وكماله المقدس المتحجب بسبعين ألف حجاب. وأعتقد أن إدراك مثل هذه الحيرة والدهشة لا يتيسّر إلاّ بصعوبة بالغة على أمثالنا من الفانين.
إن رجال الدعوة، من زاوية خدمة الايمان والقرآن، ووضعهم جانبًا جميع أذواقهم، المادية والمعنوية، الجسمانية والروحانية، بعيدًا عن الأنظار والأسماع، وتوجههم لمشاهدة جلوات العناية الإلهية في وجه خدماتهم الإيمانية.. فيزخرون حيرةً وإعجابًا.. وكذا تَنَقّلهم بين واجباتهم الإيمانية والعناية الربانية وانغلاقهم -إلى حد- عن كل ما هو خارج عن دعوتهم، ما هو إلاّ موهبة حيرة خاصة من خزينة "نَحْنُ قَسَمْنَا" الخاصة لجنود النور.
اللّهم اجعل في قلبي نورًا وفي لساني نورًا وفي بصري نورًا وفي سمعي نورًا وعن يميني نورًا ومن خلفي نورًا ومن أمامي نورًا واجعل من فوقي نورًا ومن تحتي نورًا وصلّ وسلّم على من أرسلته نورًا وعلى آله وأصحابه أجمعين.
الهوامش
[1] أي: "بحسنك تغريني وتطلب عصمتي / ونار الهوى تذكي وتأمر بالتقوى" (من ترجمة محمد الفراتي "كلِستان - روضة الورد"، ص:93). كليات سعدي، قسم الغزليات، الغزل رقم:623، ص:642، الطبعة الثامنة بتحقيق محمد على فروغي، مطبعة سثهر، طهران.
مجلة سيزنتي التركية، أكتوبر 1991؛ الترجمة عن التركية: إحسان قاسم الصالحي.
- تم الإنشاء في