ماهية الروح

السؤال: بما أن الأرواح غير متغيرة، إذن فهي ليست حادثة، ما قولكم في هذا؟

الجواب: هذه مسألة من المسائل العميقة في علم الكلام، وهي تحتوي على ما يأتي: نحن نقول بأن الكون متغير وعرضة للتبدل باستمرار، لذا نقول عن الكون إنه حادث، أي أنه خلق فيما بعد، وأنه سائر نحو الاضمحلال، وهو يتحرك بشكل دائم ويتحلل. ونقول "إن منظّم وبارئ هذا "الكون المتحول" مبرّأ من التبدل والتغيّر"؛ أي يمكن إطلاق اسم مبدأ رجوع المتبدل إلى غير المتبدل، أي إن كل شيء متغير ومتبدل يدل ويشير إلى الذات الأقدس المبرأ من التبدل والتغير والتحول، وهو الله سبحانه وتعالى الواجب الوجود. وهو منـزه عن جميع العوارض الكونية والبشرية. لذا فالمسألة أعلاه ترد عند سرد هذه الصفات الإلهية، ويرد هنا سؤال وإشكال:

إن الله لا يتغير ولا يتبدل، لا يأكل ولا يشرب، أزلي، ووجوده من ذاته وهو أبدي كذلك. ولكن من جهة أخرى للروح أيضا بساطته، أي إن الروح غير متركب من مادة، وهو من عالم الأمر -كما جاء في القرآن- وليس من عالم الخلق (أي ليس وجوداً ناشئاً من اجتماع الذرات)، بل هو من القوانين النورانية الشاعرة جاء إلى الوجود -مثل الملائكة الكرام- بأمر من الله تعالى؛ أي أن الروح قانون مثل قانون الجاذبية الموجودة بين نواة الذرة والألكترونات ومثل قانون النمو الموجود داخل البذرة. ولكنه يملك شعوراً، بينما لا تملك القوانين الأخرى حياة ولا شعوراً.

الروح بسيط بمعنى أنه غير مركّب من المادة، لذا لا يتحلل ولا يتأين "أي لا يتحلل إلى أيونات"، وله وجود ثابت. لذا قد يخطر على بال البعض بأنه يشبه الله تعالى -حاشا لله- في هذه الناحية. أي كما أن الله منـزه عن التغيّر فالروح أيضا لا يتغير... فما الفرق إذن؟

إن الله تعالى منـزه عن التبدل والتغير وعن الألوان والأشكال تنـزها نابعاً من ذاته. بينما خُلق الروح بسيطاً من قبل الله تعالى. فالله خالق والروح مخلوق، والله قائم بذاته وموجود بذاته بينما الروح -وكذلك سائر الموجودات- قائمة به عز وجل. فكل شيء يمد يده يطلب العون والمساعدة منه سبحانه وتعالى. بينما يقوم الله تعالى بسر كلمة ﴿إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ بإعانة الجميع ومساعدتهم. وكذلك الروح فهو مخلوق من المخلوقات الْمَادَّةِ يَدِ الاستعانةِ والحاجةِ والسؤال إليه تعالى. ووجود الروح قائم بالله، أي هو موجود طالما استند إليه سبحانه وتعالى، فإن لم يستند إليه فني. والله تعالى خلق الروح كقانون ذي شعور مستند إلى قدرته تعالى وإرادته، ووجوده مستمر ودائم بهذه الصيغة فقط.

نستطيع إعطاء مثال يقرّب هذا إلى الأذهان: إن للشمس ضياء وشعاعاً وألواناً، ونشاهد هذا في القمر أيضا؛ ولكن إن افترضت فناء الشمس فإنك لن تستطيع تصور أي ضوء أو نور في القمر. فالنور الموجود في القمر أثر أو عرض من الأضواء الأصلية الموجودة في الشمس. فإن تخيّلنا فناء الشمس فلا يبقى هناك مجال لدوام واستمرار النور في القمر. فهل تستطيع في مثل هذه الحالة المساواة بين الشمس والقمر؟ كلا. والقرآن يصف القمر قائلا ﴿وَقَمَرًا مُنِيرًا﴾ (الفرقان:61) ويصف ضوءه ﴿وَالْقَمَرَ نُورًا﴾ (يونس:5) و﴿وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا﴾ (نوح:16)، بينما يصف الشمس بأنها ﴿وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا﴾ (نوح:16) و ﴿وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا﴾ (النبأ:13). صحيح أن هذا المثال وهذا التشبيه لا يناسب مقام الألوهية السامية. ولكن كانت هناك حاجة إلى تشبيه مادّيّ لكي تستطيع الأذهان فهم الموضوع.

وسيعطي الله تعالى البقاء والخلود إلى الأجساد أيضا إضافة إلى الأرواح في الآخرة. الله باق... وهم باقون... ولكن بقاءهم مرهون وقائم به تعالى، إن أراد أفناهم جميعاً. أما وجوده هو تعالى فقائم به وبذاته... يمكن أن يفنى الجميع... أما الذات الأقدس فهو منـزه عن جميع العوارض ومبرَّأ منها.

المصدر: مسجد "بُورْنُوَا"، 7 يناير 1977؛ الترجمة عن التركية: اورخان محمد علي.

Pin It
  • تم الإنشاء في
جميع الحقوق محفوظة موقع فتح الله كولن © 2024.
fgulen.com، هو الموقع الرسمي للأستاذ فتح الله كولن.