المشيئة الإلهية
السؤال: يقول الله تعالى في آية: ﴿وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ (البقرة:21)، ألا يكون الله تعالى بهذا منحازاً إلى قِسم من عباده؟
الجواب: نقول أولاً إن الله تعالى إن إنحاز إلى قِسم من عباده فليس من حق أحد أن يقول له "لماذا فعلت هذا؟" لأن الله تعالى هو مالك الملك،[1] وهو المتصرف بنا وبكل شيء، ولا يملك أحد أي حق لأي ادعاء أو لأي اعتراض عليه سبحانه وتعالى. فهو مالك كل شيء والمتصرف بكل شيء حسبما يشاء. لذا فعندما يتم توجيه سؤال متعلق به سبحانه، فيجب أن يكون السؤال في غاية الأدب وفي غاية الاحترام. فالكل في قبضة تصرفه وهو مالك ومليك كل الملك.[2] وليس من حق أحد توجيه أي سؤال بهذا الأسلوب، لأنه يكون منافياً للأدب الواجب تجاهه تعالى.
ولكن يمكن أن يُقال: "إن كان الله تعالى يوجهني إلى الهداية أو إلى الضلالة، إذن فعلى أيّ أساس وعلى أي مبدإ أو حكمة يؤاخذني؟ ذلك لأنه هو الحاكم المطْلق فما حِكمته يا تُرى في هذا الأمر؟"
أجل! إن الله يهدي من يشاء ويضل من يشاء. فقد ذكر هذا الأمر في مواضع مختلفة وبشكل متكرر في القرآن الكريم.[3] فالمشيئة الإلهية هي الأساس، والذي يجب الانتباه إليه في هذا الخصوص هو أن الهداية والضلالة من خلق الله تعالى، ولكن السبب يعود إلى مباشرة العبد. غير أن مباشرة العبد ضعيفة إلى درجة يمكن إهمالها، وإرجاع كل شيء إلى الله تعالى خالق جميع الأكوان. لنوضح هذا بمثال:
إننا نقوم بأعمال معيّنة كالشرب وتناول الطعام. ونتيجة لهذا الأكل والشرب تدخل بروتينات وفيتامينات ومعادن مختلفة إلى أجسادنا وتأخذ أماكنها وتجري تأثيراتها وتوفي بوظائفها فيها. وهذه المسائل قائمة على أسس حساسة بحيث أن قيام الإنسان بوضع اللقمة في فمه لا يكفي لتحقيقها. وحتى لو فرضنا أنه يكفي، فإن مجرد وضع اللقمة في الفم يحتاج إلى قوة في اليد ودراية في الدماغ. وكل هذه الأمور معطاة من قبل الله تعالى.
والإنسان ما أن يضع اللقمة في فمه حتى يثير الله الغدد اللعابية فيترطب الفم، وما أن يترطب الطعام في الفم حتى تُعطى الإشارة إلى الدماغ الذي يقوم بإرسال الشفرات إلى المعدة: "انتبهي! عليكِ بافراز العصارات اللازمة، لأن النوع الفلاني من الطعام في طريقه إليك". وهنا تستعد المعدة بكل غددها وبكل خدماتها وتبدأ بالعمل. وحتى هذا الجزء من العملية لو قام عقل الإنسان بحسابه والتفكير به لَمَا استطاع إلا تناول جزء منه. وقد يتناول الإنسان ويبلع طعاماً عن طريق الخطأ.
تقوم المعدة بالوظائف العائدة لها فتذيب ما تستطيع إذابته كالنشا والكلوكوز. ولا ينتهي الأمر هنا، فعندما يكون الطعام في طريقه إلى الأمعاء يتم إرسال شفرة: "الأطعمة التالية في طريقها إليك" أي الأنواع الصلبة التي لا يمكن هضمها إلا بتدخل الأحمضة. ولا دخل للإنسان في المرحلة التالية أيضا. ثم تذهب المواد السليلوزية إلى الأمعاء التي تبدأ بالفعالية، فإذا كان قسم من هذه المواد -مثل غلاف التفاح- لا يمكن هضمه لعدم وجود أنزيم يُذيبه تم طرحه خارج الجسم. كل هذه الأمور تجري بدقّة تامة ونتيجة شفرات التخابر المتبادلة حول ما يمكن أو لا يمكن إذابته وهضمه في المعدة، ثم يأتي دور الكبد التي تقوم بإيفاء المئات من الوظائف الملقاة على عاتقها.
فكما ترون فإن دخول لقمة واحدة إلى جسم الإنسان يستتبع ويستلزم حدوث آلاف من العلميات لكي تنقلب إلى شيء مفيد للجسم، ولا دخل للإنسان في أي عملية من هذه العمليات العديدة. فإذا قام إنسانٌ جاحد وقال: "لقد تناولت لقمة وقمت بخزن الحديد والفحم في جسدي، وإرسال إلى كل خلية ما تحتاجه منها. فمن احتاج إلى الفيتامينات أرسلت له تلك الفيتامينات، ومن احتاج إلى بروتينات أرسلت له البروتينات، كما قمت بتعيير السعرات ودرجات الحرارة وهيأت كل شيء، وسقت لكل شيءٍ ما يعينه على البدء بنشاطه وفاعليته" إن قال مثل هذا الكلام ألا يكون مدّعياً الشرك أي المشاركة في أفعال الله تعالى وإجراءاته؟.
قد يكون الأنسب هنا التفكير أو قول ما يأتي: "هناك يدٌ غَيبية تقوم بتحقيق كل هذه الفعاليات الدقيقة الحافلة بالأسرار. فما أن أضع اللقمة في فمي حتى تبدأ سلسلة من الأشياء الغريبة بالحدوث. لذا فلا دخل لي في عملية هضم هذه اللقمة. فالله تعالى هو الذي خلق هذا العمل وخلق الهضم وما بعده". عندما نقول هذا القول لا نكون قد أسندنا عمل الإنسان إلى الله، بل ربما أسندنا عمل الله إلى الله. فما يعود للإنسان في هذا الخصوص ليس إلاّ مباشرة ضئيلة جدّاً، لذا لا يملك حق إسناد هذا العمل إلى نفسه.
لنأتِ إلى موضوع الهداية. إن الهداية مسألة مهمة جدّاً، وإرادة الإنسان في الحصول عليها والوصول إليها إرادة جزئية جدّاً، وتتألف من إظهار اللياقة والاستحقاق لهذه الهداية. فمثلاً: كثيراً ما أرغب في نقل جميع مشاعري وأحاسيسي بكل انشراح قلب إلى جماعة المستمعين، ولكن ﴿وَمَا تَشَاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللهُ﴾ (الإنسان:30). فلا أوفّق في هذا ولا أستطيع إلاّ نقل شيء ما على قدر الإمكان. وكم من مرة أردت نقل الأحكام الإلهية والأحكام القرآنية بكل إخلاص قلب، فإذا بي أعجز عن هذا. وكم من مرة تمنيتُ أن أصلي صلاة خاشعة بحيث أنسى نفسي وأنقطع تماماً عن هذا العالم في وجد وفي استغراق، فلا أوفَّق إلا بنسبة واحد من الألف. إذن فلا يوجد في يدي -إن كنت مخلصاً- سوى رغبة مجردة، وما وراءها في يد الخالق. اللهم رحمتك نرجوا، لا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين ولا أقلّ من ذلك، فنهلك.
ولو تأملنا مليّاً لرأينا أن الأذواق الإيمانية ولذائذها، والشوق إلى الجنة والرضا بكل ما جاء من عند الله، والشوق إليه ليست إلا مواهب إلهية يضعها الله تعالى في جوانح الإنسان. وكل ما يعمله الإنسان هو المباشرة فقط. لذا نرى سعد الدين التفتزاني يقول في هذا الخصوص: "الإيمان شمعة يوقدها الله تعالى في روح الإنسان الذي يستعمل إرادته الجزئية في الحصول عليه". جُعلنا فداء لمن يوقد عندنا هذه الشمعة! أي إنك لا تملك في مثل هذا الموضوع الخطير سوى استعمال إرادتك الجزئية فكأنك تقوم فقط بلمس زرّ فإذا بحياتك كلها يغمرها النور. ويشبه هذا قيامك بالضغط على زرّ الكهرباء لثريّا تحوي آلاف المصابيح الكهربائية. أي إن مثل هذا التوجّه الصغير للإرادة الإنسانية الجزئية باتجاه الإيمان، ومثل هذا العمل الضئيل... يكون وسيلة لإيقاد نور الإيمان.
أجل! نحن مضطرون إلى فهم هذه المسألة على مثال تناول لقمة الطعام ﴿وَمَا تَشَاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللهُ﴾ (الإنسان:30) و﴿يُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ (المدثر:31). إذن فلا توجد إرادة تعلو على إرادته سبحانه وتعالى، فهو يهدي من يشاء ويُضل من يشاء.
والخلاصة أن معظم الأمر يعود إليه تعالى، ونصيبنا من الأمر شيء ضئيل إلى درجة أنه يمكن إهماله، لذا فإن الادعاء بـ"أن الأمر راجع إلينا" يعد جرأة غير مقبولة.
الهوامش
[1] انظر: فاطر: 13؛ الزمر: 6؛ الشعراء: 39؛ الزخرف:51؛ الملك:1.
[2] آل عمران: 26؛ المائدة: 1؛ إبراهيم:27؛ البروج: 16.
[3] انظر: الأعراف: 186؛ الكهف: 17؛ الزمر: 37.
المصدر: مسجد "بُورْنُوَا"، 11 نوفمبر 1977؛ الترجمة عن التركية: اورخان محمد علي.
- تم الإنشاء في