مَن يَخلق كلَّ شيء لا يَخلُقه شيء

السؤال: يُقال إن الله خلق كل شيء.. فمَن (حاشا لله) خلق الله؟

أجل، إنه رسول كريم لله، إذ أخبر كل شيء يحدث حتى يوم القيامة وكأنه جالس أمام شاشة تلفزيون ينقل ما يشاهده. وقد نطق بالحق في كل ما أخبر عنه. فالأحكام التي ذكرها والحوادث التي أخبر عنها وقال إنها ستقع في المستقبل حدثت فعلاً وكما أخبر عنها تماماً. وهذا هو ضمن ما أخبر به. يقول صلى الله عليه وسلم: "لن يبرح الناس يتساءلون: هذا الله خالق كل شيء فمن خلق الله؟"[1]

وعندما وجّه لي هذا السؤال قلت في نفسي "أشهد أن محمداً رسول الله!" ما أصدق ما رأيتَ وما أصدق ما قلتَ! فما كان بالإمكان التعبير بشكل أفضل من هذا التعبير لسفالة طراز تفكير هؤلاء وضحالة إدراك الذين تمردت أنفسهم وأنانيتهم وتفرعنت، فأسبغوا صفة الألوهية على الأسباب وحاولوا إيضاح كل شيء بها وضمن إطارها.

فإذا رجعنا إلى المسألة الأصلية قلنا إن هذا السؤال من الأسئلة التي يطرحها المنكرون، وكثيراً ما تنسحق العقول الغضة تحت ثقل مثل هذه الأسئلة. أجل! إذ لا يستطيع هؤلاء فهم معنى اللاَّمُتَنَاهِي، ولا يستطيعون تقييم استمرار تسلسل الأسباب، وعما إذا كان لمثل هذا الخداع أي معنى.

لذا نراه يتردد ويشك، إذ يظن أن الله أيضاً سبب مثل الأسباب الأخرى، لذا فهناك أيضاً سبب آخر له، أي هو أيضاً مُسبَّب، أي نتيجة. وهذا وهم... وهم يستند إلى عدم معرفة الخالق، لأن الله تعالى هو مسبب الأسباب ولا بداية لوجوده.

وقد قام علماء الكلام استناداً إلى قواعد معينة بإثبات أن الأسباب لا يمكن أن تتسلسل هكذا إلى ما لاَنِهَايَة، وسعوْا لإثبات وجود مسبب الأسباب الذي هو الله تعالى. ومن المفيد تلخيص أفكارهم في هذا الصدد بمثال أو مثالين. يقول علماء الكلام إن القول بأن سلسلة الأسباب تستمر دون توقف تعبير عن الجهل بماهية الأسباب وغفلة عن الخالق. أجل فليس من الصحيح إعطاء أي احتمال لظهور الأسباب عن طريق سلسلة الأسباب المستمرة منذ الأزل، والنظر إلى احتمال هذا الأمر انخداع. فمثلاً إن قلنا بأن اخضرار وجه الأرض بالنباتات مرتبط بوجود الهواء والماء والشمس، وأن وجود الهواء والماء والشمس مرتبط بوجود بعض الأجزاء المادية مثل الأوكسجين والهيدروجين والكاربون والنتروجين...الخ. ووجود هذه الأجزاء المادية مرتبط بوجود جزيئات أصغر، وهذه الجزيئات الصغيرة مرتبطة بجزيئات أصغر...

إن الظن بأن من المحتمل أن يستمر هذا التسلسل إلى اللاَّنِهَاية، وأن من المحتمل إيضاح ظهور الأشياء عن هذا الطريق مغالطة وانخداع، ولا سيما إن علمنا أن هناك أضداد المادة وأن الميتافيزيقيا تغلب الفيزياء، وإن علمنا أن الأسباب بأجمعها بدءاً من السبب الأول وانتهاء بآخره تعمل ضمن اتساق وتلاؤم وبصيغ قوانين وكأنها موظف مستخدم يقوم بأداء وظيفته.

أجل! إن القول "إن هذا نتج عن هذا، وهذا عن ذاك، وذاك عن ذاك..."، مثل هذا القول لا يُحل أي مشكلة ولا أي مسألة، بل على العكس يجعل المسألة مستحيلة الحل، لأن الظن بأن من الممكن أن يُعد هذا حلا يشبه الظن باحتمال استمرار سفسطة "البيضة من الدجاجة، والدجاجة من البيضة" إلى الأبد. وهذا الادعاء والظن سيبقى معلقاً ودون سند حتى نسند البيضة أو الدجاجة إلى الموجود الأزلي ذي القدرة اللانهائية. ولكن ما أن تسندهم إلى الخالق الأزلي -الموجود بذاته- حتى تنحل المعضلة، لأنه سواء أتم خلق البيضة -التي هي خلية واحدة- أولاً، أم تم خلق الدجاجة أولاً وجعلت لها قابلية إنتاج البيضة لإدامة نسلها.. سواء كان هذا أم ذاك فالأمر سيان.

إذن فتنحية هذا وتركه جانبا وتكرار "هذا من ذاك، وذاك من تلك..." لا يؤدي بنا إلى أي نتيجة ولا نصل إلى أي وضوح، لأن كل جواب من هذا النمط يجلب معه استفهامات أكثر. مثلاً المطر مرتبط بالغيوم، والغيوم مرتبطة بالجزيئات الموجبة والسالبة، وهذه الجزيئات متعلقة بالتبخر، والتبخر مرتبط بوجود الماء وأخيراً بالعناصر المكونة للماء.. وهكذا فبعد بضعة خطوات فقط ينتهي التسلسل ويقف. وحتى عندما يقف التسلسل في نقطة معينة يجد الإنسان نفسه في خضم فرضيات عديدة يحاول بها إشباع عقله "قد يكون كذا... أو كذا... أو كذا..."

وليس هذا إلاّ محاولة لتفسير العالم الذي نشاهد فيه النظام الدقيق والتلائم والتناغم المدهش بين أجزائه ونحدس ظهوره من يد الحكمة الباهرة.. محاولة لتفسير هذا العالم وكل الأشياء بهذيان الأطفال. كما أنها تضليل لأفق العلم وهدفه وإبقائهما في ظلام دامس. علماً بأن لكل نتيجة لا بد من وجود سبب، ومجرد تزايد الأسباب غير المنطقية وغير المعقولة وتسلسلها لا يجعلها معقولة ولا يضفي عليها صفة التلاؤم مع المنطق، فمثل هذا الظن هذيان وهو توهم المستحيل ممكناً.

والآن لنشرح هذا بمثال: لنفرض أنني جالس على كرسي من دون قائمتَيه الخلفيتَين. ولكي لا يسقط الكرسي فقد أسند إلى كرسي مثله، وهذا الكرسي إلى كرسي آخر مثله... وهكذا إلى اللانهاية، أي بعدد لا يستطيع العقل تخيله ولا يسعه الزمان ولا المكان. ومع ذلك فإن هذه الكراسي إن لم تسند إلى كرسي ثابت وذي قوائم أربعة فإنه لا فائدة من هذا التسلسل وإن استمر إلى اللانهاية.

ومثال آخر: لنفرض وجود صفر أمامنا، فهذا الصفر إن لم يُضف إلى رقم على يساره يبقى صفراً ودون قيمة وإن رصصت كومة من الأصفار على جنبه، حتى وإن وضع (تريليون x تريليون) صفراً. ولكن ما أن تضع على يساره رقماً حتى يكتسب الصفر قيمة حسب هذا الرقم. وهذا يعني أن أي شيء إن لم يكن له وجود مستقل وإن لم يكن قائماً بذاته فإن أمثاله من الأشياء العاجزة لا تستطيع منحه الوجود ولا منحه أي سند أو عون، ذلك لأن تجمع الأشياء العاجزة لإسناد العجز نفسه لا يفيد إلاّ في زيادة العجز وزيادة الحاجة.

وحتى لو فرضنا المستحيل وقبلنا بتأثير الأسباب فإن القانون الفيزيائي القاضي بـ"تناسب العلة" يوجب وجود تناسب معقول بين السبب والنتيجة، لذا يجب مثلاً التفتيش عن أسباب معقولة وذات قوة وقدرة كافية تكون وراء ظواهر عديدة بدءاً من تحول الكرة الأرضية إلى بيئة ووسط صالح لظهور الحياة واستمرارها وانتهاءً إلى وجود هذا الإنسان المفكر العاقل.

هذا علماً بأن الوضع الحالي للكرة الأرضية أي سرعتها ومقدار بعدها عن الشمس وطبقتها الجوية ودوراتها الطبيعية والمقدار المحسوب لميل محورها ومقدار ونوع الغازات التي تشكل جوها، وطبقتها الترابية والنباتات التي تكسو هذه الطبقة، وبحارها والقوانين الخفية الجارية فيها والرياح والوظائف والمهام المختلفة التي تؤديها.. الخ من آلاف بل مئات الآلاف من الحوادث الجارية بكل نظام واتساق وتناغم لا يمكن عزوها وإرجاعها إلى الأسباب العمياء والصماء أو إلى المصادفات العشوائية، فمثل هذا العمل يجعل العقل وكأنه يناقض نفسه بنفسه.

والحقيقة أن علماء علم الكلام عندما حكموا عن طريق مفهوم "الدوْر والتسلسل" بنفي الأسباب وإسنادها إلى مسبب الأسباب أي إلى الله تعالى، ذكروا أن كل شيء "ممكن الوجود" وأن كل الأسباب والعلل تستند إلى "واجب الوجود"، ففتحوا بذلك منافذ إلى التوحيد، غير أن من الممكن الوصول إلى هذه النتيجة عن طريق أسلم. أجل! ففي كل أثر من آثار الخالق جل جلاله نرى ختمه وسكّته وآيته. لذا فليس هناك دليل واحد بل آلاف الأدلة على وجوده. فمنذ بدأت العلوم بمحاولة الكشف عن أسرار الكون، كان كل علم يشير بلسانه الخاص إلى وجوده ويعلن عنه بأجلى صيغة. وهناك كتب قيمة جدّاً كتبت في هذا الموضوع. أذكر هذا لكي أرجع إلى الصدد.

أجل! لقد وجد كل شيء فيما بعد. والله هو موجِدُ وخالقُ كل شيء، والله لكونه هو الله فلم يُخلَق، إذ كل مخلوق يكون عاجزاً ومحتاجاً بينما وجود الله من ذاته دون حاجة إلى أي أحد، فهو الغني المطلق الغنى. كل شيء يستند إليه ويعتمد عليه. وكل لغز -يبدو وكأنه غير قابل للحل- يظهر ويتوضح به، فهو الخالق وهو الموجِد وهو القائم على استمرار الوجود. هو الذي يَشُدّ إصره، هو كل شيء، هو الأول وهو الآخر.. فكيف إذن يفتّشون عن مسبب له؟!

ولنوضح هذا بمثال أو مثالين: مثلاً إن رجلي تحملان جسدي والأرض تحمل رجلي. والآن وبعد أن توصلت إلى معرفة مثل هذا الحامل المعقول فلا أحتاج إلى البحث عن أسباب جديدة خارجه. ومثلاً لنأخذ العربة الأخيرة من عربات قطار.. هذه العربة تجرّها العربة التي أمامها، وهذه تجرها التي أمامها... وهكذا حتى نصل إلى القاطرة، أي المحرك الذي يجر القطار. وعندما نصل إلى المحرك نقول "إن هذا المحرك يحرك نفسه بنفسه". هذه الأمثلة المعطاة من الأشياء التي خلقها الله. فمهما غيّر هؤلاء المخدوعون الأسباب، وانتقلوا من سبب إلى آخر، فإنهم سيصلون حتماً إلى سبب لا يستطيعون التقدم بعده إلى سبب آخر. عند ذلك سنواجههم ونسألهم "ها هي نهاية الأسباب! ماذا بعد؟"

هناك مسألة أخرى تعكر صفو بعض العقول وهي أن التفكير المحدود لبني الإنسان لا يستطيع هضم مفهوم الأزل وإدراكه، لذا نراه يضفي صفة الأزلية على المادة، ثم يرى احتمال وقوع أشياء غير معقولة في الماضي السحيق الذي لا تستطيع الأرقام إيضاحه.

قبل كل شيء إن الأزل ليس نهاية الزمان الماضي، إنه لا زمان. فلو بلغت الأزمان (كاتريليون x كاتريليون) سنة لما بلغ عشر معشار الأزل. بينما يعرف الجميع تقريباً الآن بأن المادة التي هي أساس تسلسل الأسباب لها بداية معيّنة. فحركات الألكترونات، وأسرار فيزياء نواة الذرة، والعمليات الغامضة التي تجري في الشمس وتؤدي إلى إطلاق الإشعاعات، والقانون الثاني للديناميكا الحرارية (الثرموديناميك)، وهو القانون الشامل للكون يشير إلى أن لكل شيء نهاية. كل هذه الأمور أدلة بضخامة النجوم وبوضوح وبريق الشموس، وكل شيء له نهاية لا بد أن تكون له بداية، وهذا أمر واضح قد لا يحتاج إلى أي نقاش.

لذا فإن أي شيء أسبغت عليه نعمة الوجود يشير إلى الخالق ويدل عليه، كذلك فإن انطفاء وجوده وفنائه يدل على أنه (أي الخالق) لا أوّل له ولا آخر. لأنه إن كانت القاعدة الآتية صحيحة وهي "من كانت له بداية كانت له نهاية"، كان من الضروري "أن من لم تكن له بداية لم تكن له نهاية". لذا فإننا نرى أن المادة وكل شيء نبع منها إن كان موجوداً اليوم فهو غير موجود غداً. ولكن سير الكون البطيء نحو الفناء، والفناء التدريجي للمادة قد يخدع الكثيرين. ولكن مصير هذه العوالم -التي نمت وتوسعت ضمن عهود طويلة- هو إلى الفناء. أجل إن المادة مع أنها موجودة اليوم، فإنها -على ضوء بعض الأبحاث- متوجهة دون شك نحو التغير. والآن لنوضح هذا بمثال قطار أيضاً:

لنفرض أن قطاراً توجه من مدينة "إِزْمِير" نحو "تُورْكُوتْلُو" التي تبعد عنها 55 كم. ولنفرض أن سرعة القطار كانت 55 كم/ساعة عند بداية الرحلة، أي أن الرحلة ستستغرق ساعة واحدة. سار القطار بهذه السرعة نصف ساعة ثم هبطت سرعته إلى النصف بعد أن بقي من المسافة 27،5 كم، أي أنه سيقطع نصف هذه المسافة فقط في نصف ساعة، ولنفرض أن القطار كلما سار نصف ساعة أنقص سرعته إلى النصف... وهكذا، مثل هذا القطار يبدو أنه لن يصل إلى مدينة "تُورْكُوتْلُو" أبداً. ومع أن القطار سيصل حتماً إلى هذه المدينة إلاّ أن راكب القطار قد يتصور أنه لن يصل إلى المدينة أبداً بهذه السرعة المتناقصة.

وشبيه بهذا فإن المادة سائرة نحو التحلل والتجزؤ. وسيتحقق هذا وإن كان بعد عدة ملايين من السنين، أي أن كل شيء فانٍ سواه تعالى.. سوى الموجود الذي لا يستند وجوده إلى شيء آخر غيره.

والخلاصة أن الله موجود وهو خالق كل شيء. وتوهم أنه مخلوق تفكير ساذج يسند إلى الخالق صفة المخلوق ولا يميز الفرق بين الخالق وبين المخلوق. والملحدون والمنكرون الذين أبرزوا هذا التصور والوهم -الذي يجفل منه الإنسان ويرتجف- أرادوا الظهور بمظهر العقل وهم لا يدرون أنهم سقطوا في تناقض صارخ مع العقل ومع المنطق. فمن يستطع اليوم ادعاء أزلية المادة أو إنكار الألوهية؟! فمثل هذا الادعاء لم يعد غريباً فحسب بل علامة على الجهل والتعصب.

ولكن مع أن بعض الماديين الذين لم يستطيعوا النفوذ إلى معنى الأشياء والحوادث لا يدركون الفناء والتحلل المقبلين على المادة ولا الفناء الذي تنتظره الذرة سيبقون -حتى يوم إدراكهم هذه الحقائق- وراء بياناتهم وادعاءاتهم هذه لخداع بعض السذج والبسطاء.

والله الذي أحاط علماً بكل شيء هو أعلم بحقيقة الأمر.

الهوامش

[1] مسلم، الإعتصام 3.

الجواب: كثيراً ما يُطرح هذا السؤال. وأنا أُعد هذا السؤال علامة ودليلاً من أدلة نبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. وأمام تحقق ما أخبر به من أخبار الغيب أنكس رأسي وأقول "أشهد أن محمداً رسول الله".

المصدر: مسجد "بُورْنُوَا"، 28 ديسمبر 1979؛ الترجمة عن التركية: اورخان محمد علي.

Pin It
  • تم الإنشاء في
جميع الحقوق محفوظة موقع فتح الله كولن © 2024.
fgulen.com، هو الموقع الرسمي للأستاذ فتح الله كولن.