الإلفة.. إيجابياتها وسلبياتها
السؤال: ما الإلفة؟ وما تأثيراتها السلبية؟
الجواب: الإلفة تأتي بمعنى العادة والصداقة والمحبة. أما المعنى المقصود هنا فمع كونه ذا علاقة بهذه المعاني بعض العلاقة إلاّ أنه أكثر شمولاً. الإلفة هي علاقة الإنسان مع الأشياء والحوادث والمعاني الحاصلة من هذه العلاقة، وانعكاس هذه المعاني وهبوب نسيمها في أعماق نفس الإنسان، ثم التغيرات التي تحدثها في سلوك الإنسان. وهكذا فهناك سلسلة متعاقبة من الوقائع وما تنتجها من شؤون تبقي الروح حيًّا وديناميكاً وحساساً.
أجل! إن حساسية الإنسان وإعجابه بجمال الوجود وجاذبيته، وإعجابه بالنظام الموجود الذي يعمل أدق من الساعة، وما يثيره هذا النظام في نفسه من مشاعر الفضول والدهشة، ثم زيادة خبرته ومعرفته بعد كل اكتشاف يتوصل إليه، ثم وصوله إلى التفكير المنهجي بعد ربط أجزاء معلوماته بعضها مع بعض.. هذه الأمور تحفز مشاعره وحركة ذهنه وفعالية روحه وتجعل الإنسان في يقظة روحية.
أما إن بقي دون مشاعر ودون أحاسيس أمام آلاف من لوحات الجمال والنظام ودون أي مبالاة، لا يبحث عن أسباب وعن حكم ما يراه، بل يمر لاهياً وغافلاً... فهذا أمارة على موت أحاسيسه وروحه وعمى بصيرته. فكتاب الكون المليء بالأسرار بالنسبة لهؤلاء لا يعني شيئاً، ولا تتفتح عوالم النفس الإنسانية أمام أنظارهم ورَقة ورقة: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَاْلأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُون﴾ (يوسف:105)، لم يستفيدوا مما حدث ومضى، ولم يعتبروا مما يأتي أو يمضي.
كل إنسان يحدس ويفهم ما يحدث حواليه، ويحس بالإعجاب بالوجود وبالفضول لاستكناه أسراره، هو مثل شخص نشر شراع سفينته في بحر لا نهاية له. وهو في سياحته هذه يحصل على المفاتيح الذهبية لقصور الأسرار وقلاعها. وكلما نهل روحه وقلبه وأحاسيسه النقية وذهنه التركيبي من هذه الأسرار رأى في كل موضع جنائن معلقة فتتحول دنيا أفكاره إلى نوع من جنة الفردوس.
أما من لم يصل إلى هذا الفهم وإلى هذا الروح فنراه يشكو على الدوام من الضيق والملل والسأم، ومن الوتيرة الواحدة التي تسير عليها الحوادث، لأنه لم يستطع الخلاص من أسر ما اعتاد عليه أو ما ألفه. فكل شيء بالنسبة لهؤلاء فوضى، وكل شيء ظلام، وكل شيء دون معنى: ﴿وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لاَ يُؤْمِنُوا بِهَا﴾ (الاعراف:146) أي هناك سلاسل على عقولهم وأكنة على قلوبهم: ﴿وَعَلَى سَمْعِهِم وَعَلَى أَبْصَارِهِم غِشَاوَة﴾ (البقرة:7)، إن انتظار أي خير أو أي ثمرة من أمثال هؤلاء عبث لا طائل تحته.
ثم هناك انغمار في الإلفة بعد المعرفة والمشاهدة، أو ما يُحسب ويظن أنه معرفة ومشاهدة. وأعتقد أن السؤال موجه نحو هذه النقطة، أي بعد القيام بالحصول على بعض المعرفة وبعض العلم، والظن بأن كل شيء قد انتهى، فيغرق في عالم الإلفة والعادة ولا يحس بأي علاقة واهتمام بالتغيرات والتحولات الحاصلة في الدنيا، ولا بعالم الجمال المتجدد دوماً وأبداً والداعي إلى التأمل والعبرة وزيادة القلب والروح عمقاً وسعة.. أي يتحول إلى كائن لا يحس ولا يأخذ عبرة من أي شيء. وهذا يعني -والعياذ بالله- سقوطاً للإنسان، وموت أحاسيسه ومشاعره.
فإن لم يسرع من ابتلي بهذا إلى رفع الغشاوة عن عينيه بسرعة وإن لم يبادر إلى تأمل الحكم والأسرار الموجودة في الأشياء حواليه، وإن لم ينصت بسمعه وقلبه إلى الملأ الأعلى، وإلى الرسائل والإشارات الإلهية منها، ويحاول فهمها، فالمصير المحتوم أمامه هو الموت المعنوي، والاحتراق الداخلي الذي يحوله إلى فحم ورماد.
ولهذا أرسل الله تعالى خالق هذا الكون بين فينة وأخرى مرشدين، وجهزهم بمعجزات واضحات، قاموا بإيقاظ الغافلين وفتح العيون للنور، والقلوب للانشراح والمعرفة ولتنبيه عقول وضمائر الذين سجنوا أنفسهم داخل أسوار الإلفة والعادة، وطلبوا منهم إعادة التأمل في ملكوت السموات والأرض.
لذا فقد ذكر الله تعالى في كتابه وفي مواضع عديدة وبعبارات وأساليب مختلفة كيف أنه خلق الإنسان وجعله في الأرض خليفة، وخلق له زوجه ليسكن إليها، وجعل بينهما مودة ورحمة، ووجه الأنظار إلى تأمل السماوات والأرض، وإلى عظمة خلقه وإلى اختلاف ألسنة الأقوام وألوانهم، وإلى اختلاف الليل والنهار وتعاقبهما، وإلى النعم التي يرسلها مع الأمطار والبروق.. أي لم يبق هناك مجال واعتبار لأي ألفة بعد كل هذا التذكير والدعوة إلى التأمل: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ * وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ َلآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ * وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَاْلأَرْضِ وَاخْتِلاَفُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ َلآيَاتٍ لِلْعَالَمِينَ * وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِالَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ َلآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ * وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنـزلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ اْلأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ َلآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ (الروم:20-24).
فهذا البيان السماوي يبدد الإلفة بمئات من تنبيهاته وإرشاداته إلى التأمل والتفكر في آلاف الخوارق والمعجزات الجارية في الكون. ولكن مع هذا يوجد من لا يستطيع سماع أو تدبر الحوادث والآيات الموجودة حوله وفهمها. وهؤلاء هم أمثال السمكة التي تعيش في البحر ولا تعرفه.
وهناك شيء آخر في هذا الخصوص، وهو الإلفة في الفكر والتفكير والتصور، وهذا ينعكس على سلوك الإنسان وعلى عبادته. ومثل هذه الإلفة والعادة يعني موت الوجد والعشق والأحاسيس لدى الفرد. والفرد المبتلى بهذه الإلفة يزول عنه الإحساس بالمسؤولية والنفور من الإثم والبكاء على الآثام التي يرتكبها. ومن الصعب إرجاع مثل هذا الفرد إلى حالته الأولى، ولا يفيد معه سوى تذكرة طيبة ونقية لكي يرجع إلى نفسه ويجدها من جديد ويرى ما حوله بعين متفحصة وقلب متأمل.
إنْ أردنا أن نعيد بناء الإنسان وتجديد روحه، فعلينا أن ننفث فيه المعاني المذكورة. صحيح أن هناك ميلاً عند الإنسان نحو الجمود والتحنط، ولكن تجديد نفسه ليس مستحيلاً كذلك، إذ يكفي أن تمتد إليه يد بمبضع الجراحة لتمنع هذا الجمود وتجدد دورة دمه: ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَمَا نَزلَ مِنَ الْحَقِّ وَلاَ يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ اْلأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ﴾ (الحديد:16).
ونستطيع القول كخلاصة إن الإلفة تعد مصيبة كبيرة للإنسان وإن الكثيرين معرَّضون لها. والذي يقع فيها يكون غافلاً عما يحدث حواليه، ولا يبصر الجمال الموجود في كتاب الكون، ولا يسمع صوت الحق من ألسنة الحوادث لأنه أصم، لذا يكون إيمانه سطحياً وغير كاف. وتكون عبادته باردة لا روح فيها ولا وجد، وفي تعامله البشَري دون رقيب أو حسيب، وخلاصه منها مرتبط بامتداد يد عناية قوية نحوه لكي يرى ويسمع من جديد.
يحتاج من سقط في هاوية الإلفة إلى:
1- تأمل عميق في الآفاق وفي الأنفس،
2- تذكر للموت ولمشاهد الآخرة،
3- زيارة لمؤسسات الخدمات الإيمانية،
4- تكليفه ببعض المهمات والوظائف الإيمانية،
5- إطلاعه على الصفحات المشرقة لماضينا،
6- جمعه مع أصحاب الفكر والثقافة وأصحاب الوجد والقلب لتتهيأ له فرصة تجديد نفسي هناك.
وإضافة إلى الاقتراحات أعلاه هناك اقتراحات ومجالات أخرى يمكن التفكير فيها والانتفاع منها، إلاّ أننا نكتفي بما ذكرناه لكونه أعطى فكرة ملخصة حول الموضوع. ندعو من الله تعالى أن يزيل الإلفة والعادة من قلوبنا، فمفاتيح القلوب كلها بيده.
المصدر: مسجد "بُورْنُوَا"، 25 فبرتير 1977؛ الترجمة عن التركية: اورخان محمد علي.
- تم الإنشاء في