المقدمة
في رحاب "القلوب الضارعة"
الدعاء باعتبارِ توجّه العبد المدرك لأحوال عجزه وفقره وقصر يده عن كفاية نفسه، إلى الرحيم الذي لا نهاية لرحمته، وعرضِ حاله عليه، وطلب الاستجابة منه، هو ضرورة لازمة لتوكيد إيمان العبد بربه، وثقته به، واعتماده عليه، وتوحيده.
* * *
الدعاء نداء وتضرع، وتوجه من الصغير إلى الكبير، ومن الأسفل إلى الأعلى، ولهفة من الأرض ومن سكان الأرض نحو ما وراء السماوات، وطلبٌ ورغبة وطرح لما في الصدور من آلام. والداعي يشعر بضآلته أولا، وبعظمة صاحب الباب الذي يتوجه إليه ثانيا، لذا يكون متواضعا جدا. وعندما يرفع يديه بالدعاء مؤمنا بالاستجابة، يتحول هو ومن حوله إلى عالم روحاني وسماوي، وكأنه يسمع تسبيحات الروحانيين وأذكارهم وأدعيتهم. والمؤمن بهذا التوجه وبهذا الدعاء لا يطلب ما يوده وما يطمح إليه فقط، بل يستغيث أيضا مما يخافه ويخشاه، وهو يعلم بأن الدعاء حصنه الحصين الذي يلجأ إليه.
* * *
الدعاء، مفتاح طلسمي لخزائن الحق اللانهائية، ومستند الفقراء والمساكين والحزانَى، وآمن ملجإ للمكتوين بِحَرِّ ضرورات الحاجة.
* * *
والدعاء أهم من كثرة الصلاة وكثرة الصيام من حيث كونه ينمُّ عن خالص العبودية؛ لأن معنى الدعاء هو طلبُ أمورٍ تتعدّى التصورات وتتجاوز الأسباب والمسببات، من حضرة المولى المُسبِّب للأسباب.
* * *
الدعاء غذاء الروح. ويجب إمداد الروح بهذا الغذاء على الدوام.
* * *
الدعاء سحر يمنح الإرادة جناحين. ولا يفهم سر هذه القوة إلاّ المداومون على الدعاء.
* * *
الدعاء هو تخطى الأسباب الظاهرية بإعلان الاعتماد على قدرة الباري تعالى وإظهار الضعف البشري.
* * *
إن من يستطيع رفع كفّيه لله داعيا وضارعا من كل قلبه، ويتوجه له سبحانه، يستطيع تجاوز البعد الموجود بينه وبين ربه -الذي هو أقرب إليه من حبل الوريد- والنابع من وضعه المادي والجسماني. وباحترامه لهذا القرب يستطيع الخلاص من وحشة بُعده عنه. وإنْ يشأْ الله تعالى يسمعه ما يجب أن يسمع، ويُرِه ما يجب عليه أن يرى، وينطقه بما يجب عليه أن ينطق، ويوفّقه لعمل ما يجب عليه أن يعمله.
* * *
إن الأرواح التي وصلت لمستوى تذوق لذة الإيمان وسَمَتْ بالعبادات، لا تقصّر أبدا في الدعاء. بل تدرك أن العبادات هي غاية الموجودات وسبب خلقها. لذا تولي الدعاءَ أهمية قصوى. وبجانب قيام أصحاب هذه الأرواح برعاية الأسباب المادية والمعنوية، يسارعون إلى بسط كفّ الضراعة لربهم من أعماق قلوبهم، ويرون أن الأدعية وسيلة تقرّبهم إلى خالقهم، وهي منبع آمالهم ورجائهم.
* * *
ونظرا لكونه هو وحده خالقنا وموجدنا ومطعمنا ومطورنا من حال لحال، والعارف بحاجاتنا ورغباتنا والمستجيب لها، وصاحب الرحمة الواسعة الذي لا يدع أمورنا لغيره، وذلك مقابل عجزنا وفقرنا وضعفنا وحاجتنا، لذا كان من الأهمية بمكان قيامنا بتعيير سلوكنا وتصرفاتنا تجاهه بكل دقة وعناية. نحن عاجزون وضعفاء ومحتاجون، بينما هو الحاكم المطلق على كل شيء. لذا نحس على الدوام بمدى ضآلتنا، وبمدى عظمته تعالى، ولا نتوجه بحاجاتنا الملحة إلا إليه وحده دون غيره، ونعلم أن ظهورَ المرء بمظهر المستغني عنه ليس إلا سوء أدب.
* * *
الدعاء أصفى مظهر من مظاهر العبودية وأصدقها في كل حين لكونه لبّ التوجه إلى الحق تعالى بالطلب وأفضلَ إعلان للعبودية. والحقيقة أن كل الموجودات تدعوه وحده على الدوام بلسان حالها، ونوع قابلياتها، وبلسان حاجاتها الفطرية، فيستجيب لها ضمن إطار من الحكمة، ويسمع كل نداء ويستجيب له.
* * *
إن طريق ذكر الله هو أقوى الطرق وأسلمها للوصول إلى الحق سبحانه. وبدونه يتعسر الوصول إليه تعالى. نعم، إن امتلاء الوجدان بالذكر واستشعاره بقربه منه، ومصاحبته للَطَائفه في كل آن، وكون اللسان ترجماناً لهذا الانسجام الجاذب زادٌ لا ينفد وذخيرةٌ مباركة طيبة لسالك الخلود.
* * *
نعم، إن ذكر الله لهو سياحة رائعة في عروج القربة، بحيث ما إن يبدأ اللسان والشعور والقلب بذكر الله معاً، حتى يجد الإنسان نفسه في لحظة واحدة أنه في مصعد ذي أسرار يصل به إلى إقليم تُحلّق فيه الأرواح، فيشاهد ما يشاهد من فرجات أبواب السماء ما يخص الغيوب والماوراء.
* * *
نعم، إن الذاكر، والمصرّ على الذكر، يؤخذ إلى حفظ الله سبحانه وحمايته ويؤوَى في محاضن عنايته حتى إن الأمر الإلهي ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ﴾ (البقرة:152) يعبّر عن كيفيةٍ ذات أسرار، وهي تحوّل العجز إلى القوة بعينها والفقر إلى الغنى بعينه.
أي ما إن تذكروا الله بالفكر والعبادة، حتى يذكركم بالتشريف والتكريم.. وما إن تترنموا به في الأدعية والمناجاة، حتى يستجيب لكم بإغداق ألطافه عليكم.. وما إن تُديموا علاقاتكم معه سبحانه رغم مشاغلكم الدنيوية الكثيرة، حتى يشرّفكم بالإحسان بعد أن يزيح عنكم مشاكل الدنيا والعقبى.. وما إن تشرّفوا به أوقاتكم التي تنفردون بها وحدكم، حتى يكون «جليسا أنيساً» لكم حيثما تُدفعون إليه من انفراد واغتراب.. وما إن يكون لسانكم رطباً بذكره في أوقات راحتكم، حتى يرسل إليكم أنسام الرحمة أمام الحوادث الممضة لكم.. وما إن تنطلقوا في أرجاء العالم تعرّفون به سبحانه، حتى ينجيكم من ذلّ الدنيا والعقبى.. وما إن تكونوا مخلصين لله في أعمالكم، حتى يكرمكم بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر[1].. وبهذا يرقى الذاكر بالذكر وبالرغبة في الذكر وبذل الجهد فيه ونيله، وإذا بالله سبحانه يعمّق أكثر هذا اللطف، لطف الهداية والتوفيق، بإحساناته الخاصة. وإن الأمر الإلهي ﴿وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ﴾ (البقرة:152) يذكّر بهذه الدائرة الصالحة بين الذكر والشكر، أي السير من الذكر إلى الشكر ومنه إلى الذكر.
* * *
لا أتذكر في الكتاب والسنة وآثار السلف الصالح أمراً أكثروا من الترغيب فيه والحث عليه من الذكر. وفي الحقيقة إن الذكر بمثابة الروح والدم في جميع العبادات، من الصلاة إلى الجهاد...
* * *
ليس لذكر الله وقت معيَّن؛ فالصلاة التي هي سيّدة العبادات وعماد سفينة الدين تقام في أوقات مخصوصة، وهناك أوقات تُكرَه فيها الصلاة، أما ذكر الله فله الحرّية المطلقة في السير في أجزاء الزمان، وليس مقيَّداً بأي حال من الأحوال، كما هو مضمون الآية الكريمة ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ الله قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ﴾ (آل عمران:191) فليس له حدّ لا زماناً ولا حالاً.
* * *
وإن أخِلاّء الحق تعالى يولون عنايةً فائقة للأوراد والأذكار، وينبّهون إلى ضرورة تلاوة القرآن والتضرع إلى الله بأنواع الأدعية كل يوم لأجل تقوية الصلة بالله؛ فيلتزمون بتعيين شيء منها والمواظبة عليها في كل يوم، بمقدار استطاعة كل إنسان.
* * *
ولقد تشرّب أخِلاّءُ الحق تعالى بذكر الله، منذ سادتنا الصحابة إلى زماننا الحاضر، وحسبوه كالدم يجري في العروق، وعَدُّوا الغفلة عن ذكره لأي سبب كأنها وسيلة إلى فقر الدم. مثال ذلك: سيدنا علي رضي الله عنه، إذ يقول إنه ما ترك ولا ليلة واحدةً، دعاءً علّمه إياه رسول الله صلى الله عليه وسلم ووصّاه به. ولعلّ أشد ليلةٍ على سيدنا عليّ رضي الله عنه، وأعظمها وطأة عليه، هي ليلة النهروان التي قاتل فيها الخوارج. فذكّره أحدهم بتلك الليلة وقال: ولا في تلك الليلة؟ فقال علي: ولا في تلك الليلة!.
نعم، كان ذكر الله حاضراً أزماناً في عالمنا، في البيت والدرب والمسجد وساحات الوغى. فكانت في كل سانحة وفرصة حلقاتُ الذكر وتردادُ اسم الله تعالى وصفاته. وكان الحرص شديداً على ذكر الله مع الصيام والزكاة... وكانت الأصوات الذاكرة لله عالية في الحج، وفي صبيحة الأعياد في الوهاد والسهوب كالماء المنحدر في الشلالات. فإن الجهر بالتكبير في عيد الأضحى خاصة هو من إعلان الشعائر. فكان ذكر الله بهذا المعنى كالدم الساري في عروق كل عبادة... وهو كذلك في كل زمان. فلم يكن شيء بغير ذكر الله، ولن يكون شيء إلا به اليوم. فليس لنا وسيلة لقوة ارتباطنا بالله تعالى إلا ذكر الله. وإن الغفلة عن ذكر الله وترك الأوراد والأذكار يورث فينا ضعفاً شديداً، ويُرخي تعلقنا بالله تعالى.. حفظنا الله من ذلك..!
* * *
ومن أراد أن يرى عمراً مليئاً بالمناجاة والبثّ ليلَ نهارَ، فلينظر إلى حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلينظر ولتشهد الإنسانية معنى الدعاء، وآداب الدعاء، وما يكتسبه الإنسان بالدعاء مادياً ومعنوياً... فلتشهد، ولتعتبر به...
* * *
لقد وزع رسول الله صلى الله عليه وسلم الدعاء أقساماً على حياته، وسار دوماً على هذه الأنوار البلورية الكريستالية. فكان الدعاء ورداً لا ينفك عن شفتيه، وفوحاً من الأنين والونين لا يتعطل عن قلبه. فلم يبق لحظة من غير دعاء. ولم يَفْرُغ كفه من القدح الفائض بهذا الكوثر الذي يرطب شفتيه أبداً. كان رجلَ فعلٍ دعويٍّ، وإنسانَ محاكمةٍ منطقيةٍ، وفي الوقت نفسه، لا مثال له، ولا شبيه به، في العبادة والدعاء.
* * *
وإن توجهنا إلى الله تعالى في كل أحوالنا، وبَسْطَنا إليه أكفَّ السؤال، وبَثثنا إليه أحزانَنا وآلامَنا... خطوة أولى ومهمة من حيث نوال مجلى العناية وأول موهبةٍ، ومن حيث الخطوة الجوابية للحق تعالى.
* * *
ينبغي تخصيص ساعة للأوراد والأذكار وترك الاعتذار بالعوائق والموانع...
* * *
فلا تبعدوا قطُّ عن الدعاء، فإن لم تقدروا فقولوا: "وا أسفاه... فاتنا اليوم شأنٌ عظيم!"
* * *
فينبغي أن يكون لكل مؤمن أوراد وأذكار؛ مثلا، ينبغي أن أشعر بضرورة قراءة أوراد بقدر ما يقرؤه خمسة أو عشرة، وأن أقول لنفسي: «ما دام هذا الجمع من الناس الْتَفتوا إليك، فلهذا الالتفات حقٌّ ينبغي أداؤه بزيادة قوة الارتباط بالله تعالى زيادةً أشدَّ من الجميع، حتى تؤدي الشكر على هذه النعمة من جهة، وحتى تعرض طلبَ دوامِ النعمة من جهة أخرى». نعم، هكذا أقول، وهكذا أسعى أن يكون عملي، فعلى كل مؤمن قد وهبه الله تعالى أنعُمًا متنوعة، أن يُكثر من الأوراد والأذكار، بقدر درجته ومرتبته. ولا بدّ له أن يشد من قوة تعلّقِه بربه. وإلا فما أدى ما عليه من حقٍّ لموقعه.
* * *
وينبغي أن نعرض أنفاسَنا مفعمةً بالسر وخلوص الذات، في حال من الانغلاق عن الخلق والانفتاح على حضرة علاّمِ الغيوب، الذي تعني رؤيته وسماعه لنا معاني فوق المعاني، بدلاً عن المناداة والصياح وسط الناس إسماعاً وتشهيراً بينهم. ذلك من أجل أن يتسربل بثنا إليه بسحر السر والخفاء، فلا تتّسخَ أصواتنا وأنفاسنا بكدورات ملاحظاتٍ أخرى... فإن من يغلق دواخله على ما سواه تعالى، ويفتحها عليه وحده، ويبث شكوى حاله إليه وحده، تجده أبداً في سياقات الوجود بقُربه، ولا يَرجِع بكفٍّ فارغة من بحره. نعم، على المرء أن يعرض حاجته على من يقدر أن يسدها. وإن كان يُطلق آهةً من بلاء الهمّ، فليئن عند حكيم يداوي العلة. وإنْ عرض العبد حاله على سيده، فلينغلق عن الأغيار تمام الانغلاق، ولينفتح عليه بكمال عقله وشعوره وحسه بانفساحٍ دائمٍ يطابق فيه المقال المقام، ويعرضُ أنموذجاً من القرار في أحواله كلها، من النغمات إلى اهتزازات الصوت، ومن تحول الأطوار إلى حركة العضلات، مدركاً بأنه ينفث دواخِلَه في حضور من هو أقرب إليه من كل قريب. إن العبد الصادق الذي يعرف لمن يَبْسُطُ كفَّ السؤال، يُرَشِّحُ فكرَه ودعواتِه في مصفاة نيته وخلوص ذاته مراراً ودائماً، ويجتهد في صون لسانه وحسه نقياً وصافياً من كل شائبة، ويَخْرسُ ويَبْكمُ إزاء سماع من لا يريد أن يَسمِع. وقد يتعرض إلى حال حسب الزمان أو الحال، يغار على أقواله حتى من نفسه!
* * *
أنا مع من يرى فضْلَ الاجتماعِ في موضع لرفع الدعاء جماعةً؛ فإنّ جوّ النقاء عند نفر من الحضور مُؤثِّرٌ فيمن معهم، وسببٌ لسكينة القلب. فهذا يزيد في حمية مَن في المجلس وتيقّظهم وجدّهم. ولا جرم أن في خلو المرء بنفسه، ونفث دواخله إلى الله تعالى فوق سجادته، فائقيةً وعلوّا على الدعاء في جماعة، من وجهةٍ أخرى. نعم، لا يقاس بشيء أن يَبْسُط امرؤٌ كفه، نافثاً دواخله إلى ربه، في موضع لا يراه ولا يعلم به أحد من البشر.
* * *
وإن الدعوات تقترن بالقبول إذا اكتسبت الكلية. وقد لا يكفي لهموم عامة الناس بكاءُ امريءٍ وأنينه منفرداً؛ فيمكن أن تقرأ أدعية وأوراد في زمانٍ طويل موزّعة بأقسام على جماعة، من أجل أن تكتسب الكلية.
* * *
أنا لا أستسيغ أن يسجّل امرؤ أغلاطه وعيوبه وذنوبه، بل ينبغي أن يقيدها في ذهنه، ولا يصرح بها لأحد، بل ينبغي أن تستر الخطايا والذنوب حتى عن الملائكة؛ فيعلم الله وحده بها، وهو العليم المحيط بكل سر وعلن، وهو الرحيم الواسع رحمته. ففي الحديث الشريف «يُدنَى المؤمنُ من ربّه يومَ القيامة حتّى يَضَعَ عليه كَنَفَه ثم يُقَرِّره بذنوبه فيقول هل تَعرفُ فيقول يا ربِّ أَعرفُ حتّى إذا بلَغ منه ما شاء الله أنْ يَبلغ قال إنّي سترتُها عليك في الدنيا وأنا أَغفرُها لك اليومَ»(متفق عليه). فلسماع حقيقةِ القول: "عبدي، سترتَ فسترتُ، ولك فغفرتُ"، وحتى لا تفوت تلك الحظوة، ليس مناسباً أن نسجل قائمةً بالذنوب والخطايا. وزِد على ذلك، أنّ الإنسان إذا توقف يوماً في مرحلة من حياته في العشرين أو الثلاثين أو الأربعين من العمر ليسجل خطاياه ذَنباً ذنباً، من أيام الطفولة إلى يومه ذاك، وراجع حياته محاسباً نفسه على ما مضى من القبائح، وحصر الحساب في ذلك اليوم، فإن تصرفه هذا غير كافٍ في ميزان محاسبة النفس؛ إذ ينبغي في كل يومٍ، أن نبث دواخلَنا وأشجانَنا أمام الحق تعالى، كلما خطر على البال شيء، وأن نستغفر، من غير التصريح بذنوبنا، ومن غير البوح الظاهر بها، ومن غير السماح لها بالتقييد ومواجهتنا بمضايقات هذا التقييد، وأن نلجأ إلى قلاع التوبة والإنابة والأوبة. ينبغي كل يوم ألا نبيت قبل أن نواجه أنفسنا من جديد، وقبل أن نحاسب أيام حياتنا، وقبل مقاضاة أنفسنا.
فإذا نظرنا من هذه الزاوية إلى مجموعات الدعاء مثل "القلوب الضارعة"، سنرى أن أخلاّء الله يقرأون الأوراد والأذكار في تمادٍ، ويديمون محاسبة النفس والاستغفار بلا انقطاع. وكان لسلاطين عالم المعنويات، مثل عليّ كرم الله وجهه، ومحيي الدين بن عربي وأبي الحسَن الشاذلي والإمام جعفر الصادق رضي الله عنهم، أحزابٌ وأوراد وأذكار ليلية وأدعية واستغفار واستعاذة وتسابيح وتهاليل وصلوات ونعوت (مدائح للنبي صلى الله عليه وسلم)، تسمّى "أسبوعية"، يقرأون أجزاء معلومة منها كل يوم. فمثلا: كان الحسن البصري رضي الله عنه يبدأ يوم الجمعة بقراءة جزءٍ كلَّ يومٍ من "أسبوعية" الاستغفار. فإذا اكتمل الأسبوع يبدأ من جديد مُديما حزبه اليومي. يحاسب نفسه أبدا، ويستغفر كرّات كل يوم. ويبدأ بحزبه في حالٍ من العجز والفقر والحاجة أمام الله تعالى، ثم يصلّى ويسلّم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إنه يناجي ربَّه بمناجاة حائزة على ما ينبغي من الأوصاف لقبول الدعاء. وإنك تتطلع في كل جملة منها إلى أُفُق الحسن البصري رضي الله عنه؛ فهو يحاسب نفسه وكأنه أدنى رجل، وينظر إلى نفسه وكأنه ارتكب أقبح خطيئة وأعظم ذنب. فكأن حياته القلبية خراب وعالمه الروحي يباب، فيتمسك بأخلص كلمات الاستغفار. من جهة أخرى، يلتجيء إلى الصلاة والسلام على الشفيع الأعظم صلى الله عليه وسلم ، الذي يُخْتَم بختْم القبول على كل دعاءٍ يُؤيَّد ويُسْندُ بالصلاة والسلام عليه، لكن نفس الصلاة والسلام عليه قرين القبول من غير إسنادها بشيء غيرها، فيُشفِّع رسولَ الله صلى الله عليه وسلم لينال مستمسك العفو، ثم يُتبِعُ الاستغفارَ بالصلاة والسلام عليه، ثم يُعَقِّب الصلاة والسلام عليه باستغفارٍ جديد، فكأنه يلوم نفسه في كل استغفار كرةً أخرى. ففي كل نفثةٍ خالصةٍ لدواخله أمام الحق تعالى، يواجه ذاتَه ويحاسبُ نَفْسَه.
وآخَر من أخلاّء الحق تعالى -بعدما يقول إن لسانه انعقد بسبب ذنوبه، وإنه خرّ وانكمش خجلاً من عدم طاعته لأمر الله، وحار في الكلام، وخشع صوته ذلاًّ لشدة الغفلة عن أداء حق العبودية- يصب دواخل حاله في أنقى الكلمات معبّرًا عن استحيائه من مناداة الحق تعالى مباشرة، فلذلك طَرَقَ بابَ الرحمة بصوت من ارتضاه سيّدًا ومستَنَدًا، وهو حضرة عبد القادر الكيلاني، المعروف بأنه مقبولٌ وبوابٌ عند الحق تعالى. فينادي في جزء من مناجاته: يا عظيم العفو لعبادك الملوثين بأدران الذنوب والخطايا، يا غفار... ويا ساتر آثامهم ومعاصيهم وذنوبهم، يا ستار... اغفر لي خطاياي، وارحم هذا العبد العاجز الذي استنفد أسباب الخلاص، وضاقت به السبل، وسُدَّت في وجهه الأبواب، وتعسَّر عليه السير في آثار سالكي الطريق المستقيم، وعجز عن إنقاذ نفسه من ميادين الغفلة ووديان العصيان وساحات السفاهة والتفاهة. فكأنك به يصرخ: هلكتُ! فتراه يقول: "إِلَهِي اَلذُّنُوبُ أَخْرَسَتْنِي، وَكَثْرَةُ الْمَعَاصِي أَخْجَلَتْنِي، وَشِدَّةُ الْغَفْلَةِ أَخْفَقَتْ صَوْتِي، فَأَدُقُّ بَابَ رَحْمَتِكَ، وَأُنَادِي فِي بَابِ مَغْفِرَتِكَ بِصَوْتِ سَيِّدِي وَسَنَدِي الشَّيْخِ عَبْدِ الْقَادِرِ الْكَيْلاَنِيِّ وَنِدَائِهِ الْمَقْبُولِ الْمَأْنُوسِ عِنْدَ الْبَوَّابِ بِـ: يَا مَنْ وَسِعَتْ رَحْمَتُهُ كُلَّ شَيْءٍ، وَيَا مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ، (...) وَيَا سَتَّارَ الْعُيُوبِ، وَيَا غَفَّارَ الذُّنُوبِ، اغْفِرْ لِي ذُنُوبِي، وَارْحَمْ مَنْ ضَاقَتْ عَلَيْهِ اْلأَسْبَابُ، وَغُلِّقَتْ دُونَهُ اْلأَبْوَابُ، وَتَعَسَّرَ عَلَيْهِ سُلُوكُ طَرِيقِ أَهْلِ الصَّوَابِ، وَانْصَرَمَتْ أَيَّامُهُ وَنَفْسُهُ رَاتِعَةٌ فِي مَيَادِينِ الْغَفْلَةِ وَالْمَعْصِيَةِ وَدَنِيِّ اْلاِكْتِسَابِ، فَيَا مَنْ إِذَا دُعِيَ أَجَابَ، وَيَا سَرِيعَ الْحِسَابِ، وَيَا كَرِيمُ يَا وَهَّابُ، ارْحَمْ مَنْ عَظُمَ مَرَضُهُ، وَعَزَّ شِفَاؤُهُ، وَضَعُفَتْ حِيلَتُهُ، وَقَوِيَ بَلاَؤُهُ، وَأَنْتَ مَلْجَأُهُ وَرَجَاؤُهُ."
وإن الجاهل الذي لا يعرف هؤلاء، ولا يفهم سهوب أرواحهم، ولا يعلم سعة آفاق المحاسبة عندهم، قد يقول حين يسمع هذا الونين: «ما أعظم الذنوب التي ارتكبها هذا الرجل! وإذ لم أرتكب مثلها، فلا حاجة لي أن أردّد ما يقول». والحال إن كلامهم يعبّر عن اضطراب قلوب المقرَّبين. فإنّ كثيرا مما نحسبه فضيلة ووسيلة للثواب من الأقوال والأفعال والتصرفات، هي عندهم آثام بحساب آفاقهم الواسعة. ونحن في هذا المجتمع إن لم نفعل شيئاً غير أن نخرج مرة واحدة إلى الدرب ثم نرجع إلى البيت، فإننا نتلوّث بمعاص أضعافَ أضعاف ما يعدّونه ذنبا، فيبكون عمرهم كلّه من أجله. فتعالوا واشهدوا كيف يذرف أخلاّء الحق الدمعَ كلّ عمرهم، إذا ما زاغ بصرهم طرفة عين إلى ما سواه تعالى! وكيف يقاسون من ذاك الخطأ حتى في فراش الموت!
* * *
وكم آمل أن يكون العُبّاد والزُّهّاد اليوم يولون الذكر عناية فائقة، ويتحرون سبل زيادتها، وزيادة ذكر الله تعالى. لكننا مهما ذكرنا الله كثيرًا، ومهما زدنا في عبادته، فلن نوفي حقَّه من الذكر. لذلك نجد الرسول صلى الله عليه وسلم يستحسن عمل من يصلي ويسلم عليه ربع يومه، ولكن يحثّه على الزيادة. فلما زاده إلى نصف يومه، حثّه على الزيادة أيضًا، فلما زاده إلى ثلثَي يومه، استحسنه وحثّه على الزيادة أيضا، فيقول له في كل مرة: «هلاّ زدتَ». وروي أيضا أن رجلا قال: يا رسول الله أي الدعاء أفضل؟ قال: «الصلاة علي»، قال: أجعل ثلث عبادتي الصلاة عليك؟ قال صلى الله عليه وسلم: «إذا كُـفيت»، قال: أجعل جميع عبادتي الصلاة عليك؟ قال: من جعل جميع عبادته الصلاة علي قضى الله له جميع حوائج الدنيا والآخرة» (رواه الترمذي). فهناك -كما يقول الأستاذ سعيد النورسي- وسيلتان هما من أهم الوسائل للتقرّب إليه سبحانه وتعالى، إحداهما «بسم الله الرحمن الرحيم»، والأخرى الصلاة والسلام على رسوله صلى الله عليه وسلم.
الهوامش
[1] انظر: البخاري، بدء الخلق 8، تفسير سورة السجدة، التوحيد 35؛ مسلم، الإيمان 39، الجنة 5, 6.
الترجمة عن التركية: اورخان محمد علي، عوني عمر لطفي اوغلو.
هذه الفقرات اختيرت من مقالات ودروس الأستاذ فتح الله گولن ووضعت كمقدمة بإذن منه.
- تم الإنشاء في