الأمور الواجبات في مواجهة المزاعم والافتراءات
سؤال: أخبر القرآن الكريم أنَّ فرعون ومَلَأَه قالوا في حق موسى عليه السلام: ﴿إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ * يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ﴾ (سُورَةُ الأَعْرَافِ: 109/7-110؛ وسُورَةُ الشُّعَرَاءِ: 34/26-35)، وأرادوا بذلكَ تضليلَ الناس واتّهامَ رمزِ الأمنِ والأمان سيدنا موسى عليه السلام بأنّه صاحبُ أجَندة سرّيّة ويُمَثِّلُ خطورة على حكمهم؛ وفي يومنا هذا أيضًا تَختَلِق بعضُ بُؤَرِ الشر افتراءات وأكاذيب باستمرار؛ تمامًا كما فعلَ فرعونُ وملَؤُه؛ حتى تُكوِّن شبهاتٍ مماثلة حول ما يضطلعُ به المؤمنون حاليًّا من أعمال خيريةٍ، فماذا يجب على المؤمنين فعله في مواجهة هذا الموقف؟
الجواب: على المؤمنين بحسب قيمهم الأساسية ألا يُغيِّرُوا تصرُّفاتهم وفقًا للظُّروف والأحوال التي تطرأ، وأنْ يعلموا جيِّدًا أنَّ شرفهم يتمثَّل في أسلوبهم أثناء مواجهة أكثر الاعتداءات غدرًا وجورًا، وينبغي لهم أن يثبتوا على الطريق المستقيم دائمًا كما هو شأنهم في غير أوقات المحن والأزمات، لدرجة تكفلُ لِمَنْ يبغي استقراءهم وفهمَهم ألَّا يَجِدَ أبدًا أيَّ تناقضٍ يُشكِّل نوعًا من الريب والشك في الأذهان، وإلا فلا يوثق فيهم، وبالتالي يستحيل عليهم أن يحقِّقُوا تقدُّمًا في إبلاغ الآخرين إلهاماتِ أرواحهم.
العواصفُ الشديدة وأشجارُ الدُّلْبِ الصامدة
أجل، ينبغي للمؤمن في مواجهة ما يتعرَّضُ له من حوادث ألا يكون كأوراق الشجر التي تذروها الرياح، بل يجب عليه أن يتمثل موقفًا ثابتًا دائمًا لا يتزعزع، مثله في ذلك مثل الأشجار الضاربة جذورها في أعماق الأرض، وكما يُحدِّثُنا علماءُ النبات فإنَّ هناك أشجارًا في بعض البلاد سرعان ما تنقلع بسبب ضعفِ جذورِها إذا ما هبَّتْ ريحٌ عاتيةٌ أو نزلَ الثلجُ بكثافةٍ أكثر، حتى إن لِينَ التربة قد يكون سببًا كافيًا لتهاوي هذه الأشجارِ وتحطُّمها دون حاجة لأيِّ سببٍ خارجيٍّ، أما في بعض البلاد فهناك أشجارٌ تضرب بجذورها -ربما كي تعثرَ على الماء- بضعةَ أمتار في أعماق الأرض، وبهذه الطريقة فإنّها تصمدُ وتكون أكثر ثباتًا ومقاومةً رغم العواصف الشديدة، وهكذا ينبغي للإنسان المؤمن أن يكون.
أما مَنْ يُغيِّرون مواقفهم باستمرار بحسب طبيعة الظروف التي يتعرَّضون لها: سواء أكانت لهم أم عليهم، ويُجسِّدون مواقف نفعيّة تدورُ مع المصالحِ حيثما دارت؛ فإنّهم يفقدون أمانتهم عند الناس بعد فترة ما فلا يثقون فيهم، فلا بدَّ من الصمود والثبات على الموقف والمحافظةِ على المنهج الصحيح لِكسب ثقة الناس، ينبغي ذلك؛ لدرجة أن من جَسَّ نبضكم وسمع دقَّاتِ قلوبكم قبلَ عشرين سنة يجد نفسَ النبضات والدقّات حين يُعيد اليومَ جسَّ نبضِكم وسماعَ دقّات قلوبكم لا تتغيَّر رغمَ ما تتعرضون له من شتى صنوف الابتلاءات والأزمات والضغوط والنوازل والمحن.
أوليست لدينا أية مشاعر من الانفعال والتأثُّرِ؟ لا ريب أنَّ مثل هذه المشاعر والأحاسيس قد تَعصِفُ بداخلنا بين الحين والآخر باعتبارنا بشرًا، غير أنه يجب علينا أن نسيطر عليها ونستخدِمَها ضمنَ الدائرة المشروعة دائمًا؛ فقد منح اللهُ تعالى الإنسانَ الإرادةَ والقدرةَ على ذلك.
سرُّ حسن القبول الملحوظ في مختلف المناطق الجغرافية
هنا أحاول أن أوضِّحَ ما قلتُهُ بمثالٍ مشخّصٍ فأقول: تعلمون أنَّه ما إنْ تخَرَّجَ شبابٌ في عنفوان شبابهم من الجامعات في التسعينات حتى انفتَحوا على ربوعٍ مختلِفَةٍ من العالم، وهنا أستطردُ قليلًا فأقول: ليس صحيحًا تزكيةُ الناس مطلقًا؛ لأن الله جل جلاله قد يضرب وجوهنا في الآخرة بما نتفوَّهُ به من كلماتِ ثناءٍ ومدحٍ بحقِّ أيِّ شخصٍ ما لم يكن في وضعٍ وقوامٍ يستحقُّ عليه الثناء حقًّا، ولهذا السبب فإنه لا بدَّ من الحفاظ على التوازن دائمًا حين نُحسن الظنَّ بأحدٍ، وكما أنَّ تجاهلَ هذه النوعية من التضحيات المتحقِّقة نُكرانُ قدرٍ بَيِّنٌ وعجرفةٌ؛ فإنَّ تلمُّسَ بعض النيات السلبية وراء تلك التضحيات اختلالُ توازنٍ آخر وسوءُ ظنٍّ صُراح.
وبالعودة إلى موضوعنا الأصلي نقول إنَّ الأرواح التي نذرت نفسها قد انفتحت منذ أكثر من عشرين سنة ولا تزال تُواصِلُ الانفتاح على مناطق جغرافية مختلفة في العالم من أجل إبلاغ الآخرين بإلهامات قلوبها، وبالرغم من وقوع مجموعة من المشكلات في بعضِ البلاد فإنَّ عدد الدول التي ذهبوا إليها يربو اليوم عن مائة وسبعين دولة، ولهذا يجب ألا نستكثر المشكلات التي تحدث في بضع بلاد، وإنني على قناعة بأنَّ مَنْ انفتحوا على أنحاء مختلفة من العالم بدفعِ الله إياهم يحظَون بحسن القبول والترحاب هنالك بسبب نهجهم مواقف وتصرفاتٍ ثابتة على الطريق المستقيم. أجل، إن من تجسَّسوا نبضهم باستمرار أدركوا أنهم لم يتغيروا، وقالوا: “إننا نرى ونسمع هؤلاء الناس منذ سنوات، ولم نر في أجنداتهم شيئًا سوى خدمة البشر، إنهم يتنفَّسُون القيم الإنسانية فحسب”.
قلنا مائة وسبعون دولة، هذا يعني مائة وسبعين بيئة ثقافيّة مختلفة، ومن ذهبوا إلى تلك الأماكن من الأرواح التي نذرت أنفسَها للحق لم يتمكَّنوا من الحصول على أية محاضرات ولا معلومات كافية عن خصائص وسمات تلك البيئات الثقافية قبل أن يذهبوا إليها، غير أنهم كانوا يمتلكون ضميرًا واسعًا واعيًا بحيث يحتوي الإنسانيّة جمعاء، أي إنهم كانوا يسيرون في إثر حسٍّ واسعٍ امتلكه أمثال كلٍّ من يونس أمره ومولانا جلال الدين الرومي وأحمد اليَسَوي والأستاذ بديع الزمان، فماذا كان ذلك الحسُّ والشعور؟ لقد كان شعور إيصال الإنسانية جمعاء إلى شاطئ السلامة، فبهذا الشعور والارتباطِ الدائم بالقيمِ الإنسانيّة؛ لاقوا حسن القبول والترحاب حيث ذهبوا، وتربعوا في قلوب مخاطبيهم بإذن الله تعالى وفضله.
الانفتاح المؤثر في الأنفس مرهونٌ بالثبات الدائم
تُعْرَضُ على الشاشات اليوم عبرَ عديدٍ من الأفلام الوثائقية والبرامج التجاربُ والخبراتُ المكتسَبَة في مسيرةِ الانفتاح هذه، وتُسْرَد حكاياتُ أولئك المهاجرين في سبيل خدمة القيم الإنسانية وقصصُهم، غير أنه لا يستطيع أيٌّ من تلك البرامج والأفلام أن يعكسَ بالضبطِ ما وقعَ من أحداث وخِيضَ من تجارب، وما عِيشَ في ذلك الوقت من مشاعر وأفكار بكل رَحَابَتِها وعُمْقِها؛ لأن من نذروا أنفسَهم سلكوا طريقَهم بِصِدْقٍ وإخلاصٍ وعدم تشوف لأيِّ أجرٍ، حتى إنهم ظلّوا حيث ذهبوا شهورًا أحيانًا دون أن يحصلوا على ما يتقوَّتون به من مالٍ؛ ولقد حدثَ ذلك عندما لم تكن تسمحُ ظروفُ من يدعمونهم من المتطوِّعين في تركيا؛ فكانوا يدبرون أمورهم بقدرٍ قليلٍ من المال يُقيمُ أوَدَهم بالكادِ، وعملوا أحيانًا في بلاد الغربة كأُجَراء، وبهذا تدبَّروا أمرَهم، ومن ثم رأى مخاطبوهم تصرُّفاتِهم الصادقةَ تلك فصدقوهم من صميم قلوبهم، وإنني لأسأل الله تعالى أن يثبتهم اليوم أيضًا على الإيمان والإخلاص والصدق والوفاء! لأن استمرارية حركة كهذه بدأت حين بدأت بصدقٍ وإخلاصٍ ووفاءٍ حقيقيٍّ مرتبطٌ بالحفاظ على ذاتِ الموقِفِ صامدًا شامخًا؛ فأحيانًا ما يؤدِّي التناغمُ والاتّساقُ الرتيبُ في نظامٍ إلى نوع من العمى -لا قدر الله-، وإن النجاح والتوفيق المتحقق أحيانًا ما يدفع الإنسان إلى الغرور، أو يتسبب في أن يُسلم نفسه إلى الراحة والكسل، وأحيانًا أخرى يُرجع الإنسانُ محاسن الأمور التي تحققت نتيجة لتصرفاته وسلوكياته الشخصية -بالنظر إلى الأسباب الظاهرية- إلى استعداداته ومَلَكَاته الشخصية وإلى فطنته الرفيعة وأفكارِه الحكيمة، في حين أنَّ كلًّا من هذه الأشياء مثله كمثل فيروسٍ قاتلٍ يتسلّلُ إلى الجِسمِ ، وبوسعها جميعًا أن تهدمَ البنية الأساسية ما لم تُتَّخَذْ التدابير اللازمة.
ولهذا فالجِدَّ الجِدَّ في الحفاظ على الكيفية والمنهج، إلى جانبِ التضرُّعِ إلى الله تعالى بأن نقول: “اللَّهُمَّ يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قُلُوبَنَا عَلَى دِينِكَ”، ونلزم الدعاء طلبًا لذلك فنقول: “اللَّهُمَّ يَا مُصَرِّفَ الْقُلُوبِ ثبِّتْ قُلُوبَنَا علَى طَاعَتِكَ”، ونلح في طلب ذلك حتى لا نَنْزلق ولا ننخدع ولا ننخرط في السبل الخاطئة الضالة.
ولقد خُتم مقام النبوة بنبوَّة الرسول الأكرم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وليس لأحد نبوة ولا رسالة من بعده أبدًا، غير أن للإنسان –بل عليه- أن يسير على هديه وفي طريقه صلى الله عليه وسلم وعلى منهجه النبوي، وبصدق وعصمة وعفة وحكمة وفطنة عالية، وأن يتعقب أفق النبوة والرسالة شبرًا بشبر، فمن المرجو أن يتسنى بفضل منهجٍ وسبيلٍ يتخذ على هذا النحو سدُّ الطريقِ أمام طرح الآخرين مجموعة من التحليلات والتفسيرات الخاطئة بشأننا.
التشوُّفُ رِقٌّ
يجب علينا أيضًا أن نَقْتَنِصَ كلَّ فرصةٍ للإفصاحِ عن عدمِ تشوُّفِنا لأيِّ شيء سوى رضا الله تعالى، ويجب أن نثبتَ ذلك ونؤكِّده بتصرُّفاتنا وسلوكيّاتنا، فإن عَلَّقَ من نذروا أنفسَهم لخدمة الإيمان والقرآن ما قاموا به من خدمات على تشوُّفات دنيويّة فسيضطرُّون لدفع مقابلٍ لكل شيء يحصلون عليه في سبيل تلك الخدمة، ويكونون بفعلِهم ذلك قد ضيَّقوا مجالات تحرُّكاتهم؛ لأن كلَّ تشوُّفٍ ينتقص من حرّية الإنسان.
وعليه فإنه حريٌّ بهذه الأرواح النيرة أن تنأى تمامًا عن كلِّ تشوُّفٍ من شأنه أن يُقيِّدَ حرِّيَّتَها، وأن تُصِرَّ على عدم الدخول في أيِّ نوع من الارتباطات والالتزامات، ولا ريب أن لكل إنسانٍ صوتًا في سياسة بلده في الاتِّجاه الذي يراه مناسبًا لمصلحة الدولة والأمة، وهذا لا يعني الارتباط والالتزام بحزبٍ ما دون قيدٍ أو شَرْطٍ، فعلى هذه الأرواح المباركة حين تختار اختيارًا سياسيًّا معيّنًا ألا تُسْلِم إرادَتَها أبدًا لأيَّةِ منظَّمةٍ سياسيّةٍ كانت، وألا تسمَحَ بتاتًا بالمساسِ بحرِّيَّتِها وإرادَتِها الحرَّة، فَسِرُّ حمايةِ الحرّية وصيانتِها يكمنُ في العبوديّة لله تعالى فحسب، فمن أسلمَ نفسه للعبودية لله فقد ملك حريته الحقيقية كاملة غير منقوصة، وتخلَّصَ من عبادة العبادِ بعبادَتِهِ ربَّ العِبادِ، وإلا فقد حَطَّم الإنسانُ حُرِّيّتَه وفقَدَها.
ناهيكم عن التشوُّفات الدنيوية، فأبطالُ الغايات المثالية يجب عليهم ألا يتشوَّفوا –بما يقومون به من أعمال الخير- ولو حتى إلى الجنة؛ إذ ينبغي لهم أن يطلبوا الجنةَ من فضل الله تعالى، وذلك –على حد تعبير الأستاذ بديع الزمان- لأن القيام بتكاليف العبودية ليس للحصول على نعمٍ ومكافآت آتية بل شكرًا لما حظينا به من نعم ومكافآت سابقة، فينبغي للإنسان أن ينشد الله فحسب، وأن يعدَّ كلَّ طلبٍ سواه ترجيحًا للفناء على الخلود.
ولكنه وبالرغم من تحرك هؤلاء الأخيار وفقًا لهذه المعايير فإنَّ من استولوا على إمكانيات معينة ويعيشون جنون العظمة لدرجة المرض به قد يسعون لتضييق مجالاتهم، ويُلبسون المسألة لباسًا دينيًّا بِهَمْزِ الشيطان وتسويلِهِ، ويرغبون في استغلال جميع الإمكانيات من أجل مَلْءِ خزائنهم الشخصية وجيوبهم الخاصّة فحسب، حتى إن من يبدون وكأنهم أقوياءُ الإيمان، بل ويقضون معظمَ حياتهم في التكايا والزوايا ربما يلهثُون وراء هذه النوعية من المنافع الصغيرة البسيطة. أجل، إن من يعيشون جنونَ العظمة خوفًا من فقدان ما نالوه وحصلوا عليه قد يرون حتى مجرد اجتماع الحمائم في مكانٍ ما تهديدًا لهم؛ وذلك لأنهم ركزوا تمامًا على مصالحهم ومنافعهم الشخصية؛ فيشعرون بالقلق من تجمعها وتدور بأذهانهم وساوس من قبيل: “تُرى هل يطمع هؤلاء في مناصب وأشياء معينة؟”.
الفاسدون لا يرغبون في وجود أناسٍ صالحين من حولهم!
ونتيجة لهذه الحالة الروحية فإنهم لا يرغبون في رؤية أناس أعفّاء شُرفاء مستغنين عن الدنيا وما فيها من حولهم، حتى إنهم يشعرون بالانزعاج من وجودهم، ويُفَضِّلون مَن هم من نفسِ طينتهم وعقليَّتهم حين يقومون بعمل ما أو يُكوِّنون محيطًا ما، ويرغبون بهذه الطريقة في تأمين أنفسهم، ويرون ضرورة أن يحيط بهم دائمًا من يفكرون مثلهم فحسب؛ حتى لا تنفضحَ عيوبُهم أو يعرفَ الآخرونَ مساوئَهم يومًا ما، ولأنهم يرغبون في إخفاء لصوصيّتهم وسرقاتهم وعدم كشفِها أبدًا فإنهم لا يطيقون أصلًا أن يوجدَ بينهم من يستنكرون العيبَ ويرفضونه، وقد قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: “الأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ، وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ“[1].
أجل، إن الأدناس لا يرغبون في أن يروا حولهم من يعيشون بعصمة وعفة، ويلتزمون الصدق والتضحية، ويحافظون دائمًا على نزاهتهم وطهرهم، لكن مع هذا كله فإنّه ينبغي للأرواح التي نذرت نفسها لخدمة الإيمان والقرآن ألا تحيد عن الطريق المستقيم حتى في مواجهة هذا النوع من الظلم والعدوان، وكما أنها متوازنة معتدلة في مشاعر كالقوة العقلية والقوة الغضبية والقوة الشهوية؛ فعليها أيضًا أن تحافظ على توازنها واعتدالها في نضالها وكفاحها عندما تتعرض لِـحَسَدِ الآخرين وطمعهم وحقدهم وبغضهم.
الحفاظ على التوازن في مواجهة فاقديهِ
إن المهارة الحقيقية هي التمكن من الحفاظ على التوازن في مواجهة من فقدوا توازنهم، فمثلًا قد يتعدَّى عليكم البعضُ حَسَدًا وحقدًا، وقد يثورون ويتهيجون عليكم خوفًا من أن يفقدوا في المستقبل بعضًا مما في أيديهم من إمكانيات وميزات، وهنا يكون من المهم جدًّا ألا يُقابَل فعلُهم بمثلِهِ، وألَّا يُسمح بأن تجول في الأذهان هذه النوعية من السلبيات، وألا تُعطى الفرصة لها أن تسري إلى الخلايا العصبية، ولا بدَّ من ردِّها كما جاءت؛ فليس المهمُّ هو احترام الناس حين يُحبُّونكم ويصفقون لكم، وإنما القدرةُ على قول: “اللهم أسعد من لا يرغبون في سعادتي، وحقِّقْ مراد حتى من لا يرغبون في تحقق ما أريدُ”، حتى بالنسبة لمن لا يتقبلونكم وينزعجون من وجودكم، وإنَّ التوازن والاتزان في عالمنا الذي يسود فيه هذا القدر من اختلال التوازن يبدو أمرًا بالغ الأهمية.
وقد نزلت الآية الكريمة: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ (سُورَةُ الْمَائِدَةِ: 2/5) في العهد المكي؛ إذ لم يبق نوع من أنواع الظلم والعدوان إلا وارتُكِبَ ضدَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، وفي هذه الآية أُمِرَ المؤمنونَ بالصَّبْرِ وأن تتَّسِعَ قلوبهم وضمائرُهم لكلِّ تلك الأحداث، وألا يقابلوها بالمثل، وبالتالي فإنه يجبُ ألا ينصرفَ المؤمنون عن العدل والحقِّ بسبب تصرُّفات وسلوكيات شنيعة؛ فظلمُ الآخرين وجورُهم لا يجيز لكم أبدًا أن تظلموهم، فأنتم أيها المؤمنون مطالَبون بالعَدْلِ دائمًا أبدًا.
وإن شُنّت ضدكم حملة من التشويه والافتراء، وارتكبت المظالم بشأنكم دائمًا، وأُثيرت أسوأ المزاعم والافتراءات ضدكم صباح مساء؛ فَيُمْكِنُ في مثل هذا الموقف توضيحُ الأمر أو تصحيحُه أو تكذيبُه بحسب ما هو مُثار، ويمكن كذلك استخدامُ حقِّ التعويضِ، غير أنه يجب علينا حتى ونحن نستخدِمُ هذه الحقوق أن نتمثَّلَ ما تفرضه علينا شخصيّتنا وسماتنا الخاصة، وعلى النحو الذي يليق ويجدر بنا؛ فحقًّا ﴿كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ﴾ (سُورَةُ الإِسْرَاءِ: 84/17)، وما يقع على عاتقنا نحن هو أن نتحرَّكَ دائمًا وأبدًا وفق ما تقتضيه هويّتُنا الخاصة.
[1] صحيح البخاري، الأنبياء، 2؛ صحيح مسلم، البر والصلة والآداب، 159.
- تم الإنشاء في