التحذير من الشرور وتصوير الباطل
سؤال: يقول الأستاذ بديع الزمان: “إن تصوير الباطل تصويراً واضحًا إضلالٌ للأذهان الصافية”، غير أنه يتوجب الحديث عن شر الباطل لإبعاد الناس عنه، فكيف يمكن تحقيق التوازن بين هذين الأمرين؟
الجواب: أولًا، هناك فرق بين التحذير من شيء بوصفه شرًّا وبين تصويره بكل تفاصيله؛ فلا بد من التذكير بسوء التصرفات الضارة بالفرد والمجتمع ولفت انتباههم إليها حتى يمكن إبعاد الناس عنها وتنفيرهم منها وإثارة اشمئزازهم تجاهها، بيد أنه ينبغي عند القيام بهذا ألا تُرسم تلك الأفعال والتصرفات السيئة رسمًا بيِّنًا واضحًا بحيث تكون صورة تتجسم في الأذهان، لأن تصويرها تصويرًا فاضحًا وإبرازَها قد تستثير هوى إلى تلك الفجة الشنيعة.
ولكي لا يؤول الأمر إلى خلاف مقصده يجب عرضُ المساوئ والذنوب عرضًا إجماليًّا دون الدخول في التفاصيل، مع بيان أضرارها، ثم ذكرُ العاقبة السلبية التي ستدفع تلك المساوئُ الإنسانَ إليها في الدنيا والآخرة. فمثلًا يحسن التذكير بأن من يرتكب المنكرات ويجري في إثرها دائمًا سيفقد الفيوضات المعنوية ويستحيل عليه التمتع بعباداته وطاعاته، وأن بصيرته ستعمى، وسيعجز عن تحريك أحاسيسه، ويعيش منقطعًا عن الأحاسيس الذاتية، كما أنه سيعجز عن التخلص من الإسلام الصوري وتكون معرفته بالله تعالى معرفة نظرية فحسب، وأنه يستحيل عليه الوصول إلى الشعور بالعيش في حضرته تعالى… أي ينبغي لفت الانتباه إلى عاقبة الذنب السيئة بدلًا من الاهتمام بتصويره.
التأثيرات الهدامة للتداعيات السلبية
إن الشيطان يستغل -كما هو معلوم- بعض المشاعر السلبية الموجودة لدى الإنسان استغلالًا جيدًا كي يدفعه إلى الذنب، فمن المهم ألا تستيقظَ هذه المشاعر وألا تُوقظ. أما الكلمات التي تقال في تصوير الباطل فإن كلًّا منها يبدو وكأنه سائق يؤدي إلى إيقاظ تلك المشاعر؛ إذ إنها تحرك هذه المشاعر الكامنة لدى الإنسان، فيستغل الشيطان هذه الفرصة، ويحاول التأثير على الناس ودفْعَهم إلى الشرور مستخدمًا تلك التداعيات السلبية.
وحين يُذكر تصوير الباطل يخطر بالبال غالبًا تلك الأمورُ التي تثير الغرائز البشرية، لكن ليس من الصواب ربط المسألة بالأحاسيس الشهوانية فحسب، إنها مجلبة لكل أنواع الشرور التي يمكن أن تُشكّل لدى الناس رغبةً وطلبًا لفعلها. فإذا رمتم مثلًا أن تشرحوا شناعة النفاق، فإن قدَّمتم المسألة تقديمًا يُفهم منه أن النفاق نوع من المهارة تسببتم في تكوّن مشاعر الإعجاب تجاه تلك الصفة السيئة عند بعض الناس، فلا بد من استخدام أسلوب يصطبغ بالترهيب في جميع التصرفات والسلوكيات التي تدخل ضمن إطار المساوئ، وأن يكون الحديث عن عقاب مرتكبها يوم الحساب.
إن هذه الحساسية الشديدة لازمة عند تصوير الشرك أيضًا، فمثلًا لا داعي للتكرار الكثير لأسماء الأصنام والأوثان التي تُشرَك بالله تعالى إن لم يكن ثمة أية ضرورة، ولا بد من الإجمال في هذا والتركيز على أن من يشرك بالله يفقد دار السعادة الأبدية، وتكون الحياة الأبدية في جهنم حظَّه.
عند ذكر مساوئ كعقوق الوالدين، وشهادة الزور والسرقة والغيبة… لا بد من اتباع أسلوب إجماليّ، ومن لفْتِ انتباه الناس إلى عاقبة هذه الذنوب حتى يتكون عندهم شعور المقاومة تجاه ارتكاب تلك الأمور.
إن هذا المنهج منهج نبويّ، فمثلًا يقول سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: “مَنْ يَضْمَنْ لِي مَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ وَمَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ أَضْمَنْ لَهُ الجَنَّةَ” (البخاري:الرقاق، 23). وبهذا يوضح لنا النبي صلى الله عليه وسلم كيف يصبح الإعراض عن آفات اللسان وتجنب الزنا سبيلًا للفوز في الآخرة. فهنا يعرض النبي صلى الله عليه وسلم المسألةَ إجمالًا وبأسلوب الإيماء المعجز، لافتًا الأنظار إلى جزاء المرء في الآخرة، إذا هو نزّه نفسه من هذه الشرور.
ويجب أن نعرف أنّ الإنسان قد يظلّ ذهنه مكدّرًا أيامًا وربما أسابيع إنْ تعرض لتصوير الباطل، بل قد تشغل ذهنَه بعض الأمور القبيحة حتى في أثناء عبادته لربه سبحانه وتعالى. ومن ثمّ ينبغي للإنسان أن يكون من البداية قويًّا مصرًّا على تجنّب مثل هذه الأمور السلبية؛ وإلى جانب تحاشيه كلّ هذا عليه أن يشغل ذهنه دائمًا بالأمور الحسنة، حتى إذا عنت له هذه الصور القبيحة ظهرت أمامه أجمل الأقوال والأفكار واللوحات، فإن تلوثت عينه أو أذنه أو ذهنه بشكل ما أو ران على قلبه أمر سلبي فعليه ألا يعمّره طويلًا، وأن يهرول على الفور إلى أقرب سجادة صلاة، ويحاول أن يتطهر من أدرانه التي علقت به في حوض التطهر هذا.
ذهنٌ صافٍ وعاقبة حسنة
الحقّ أن الأذهان معرّضةٌ في أيامنا هذه لأكدار شتّى في الشوارع والأسواق، بل حتى في بيوتنا التي تُعدّ أكثر الأماكن حصانة بالنسبة لنا، وبمرور الوقت تكدِّر هذه التصاوير والمناظر السلبية المتراكمة مخَّ الإنسان وذاكرتَه، ثم تشغل الإنسانَ، وتثير فيه مشاعر سوءٍ، وتقمع هذه الصورُ الكامنة في ذهن الإنسان عالمَه الفكري والشعوري، وتُملي عليه رغباته وشهواته، وإذا ما واتتها الفرصة قيدت إرادته وجرّته إلى الذنوب والمعاصي التي تدمّر حياته الأخروية.
أجل، إن هذه الصور الخليعة والمناظر المثيرة تشكِّل لدى الإنسان مع الوقت مكتسباتٍ لاشعورية، وتشرع في تدنيس خواطره، بيد أن الإنسان لا بدّ وأن يكون لديه عزمٌ على أن يظل نزيهًا حتى في أحلامه، إننا إذا ما استرشدنا بأدعية الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم وواظبنا على الأدعية التي تُقرأ عند النوم ليلًا، فهذا يعني أننا نلجأ إلى ربنا قائلين: “اللهم يا من لا تضيع ودائعه، أستودعك مشاعري وأفكاري وأحلامي، اللهم جنِّبها الكدر والدنس حتى لا أستيقظ والأفكارُ القذرة تراودني”. عند ذلك نكون قد أودعنا عالم ليلنا إلى حفظ الله ورعايته.
ولا جرم أن مراعاة المرء لهذا القدر من الدقة لها أهمية عظمى لحياته الأخروية. يجب أن نعلم أن الإنسان يقيد له في دفتر حسناته أي نية له أو دعاء أو سعي صادر منه، بل إنّ أيّ جهد يبذله لئلا تتكدّر أحلامه ولا تقمعَ المكتسباتُ اللاشعورية أحاسيسَه ولِيحافظ على نقاء مشاعره وأحاسيسه قد يكون أولى من صلاة مائة ركعة، غير أنَّ تنزُّهَ الإنسان في العوالم النزيهة حتى في أحلامه وسيرَه في الجنات بين الأزهار مرهونٌ بمدى عزمه وإصراره على إعطائه إرادتَه حقَّها.
وبقدر تورّعِ الإنسان عن التفكير في المعصية وبُعدِه عن العوامل التي تدفعه إليها بقدر سلامته من الوقوع في الآثام. يشير الرسول صلى الله عليه وسلم بدعائه هذا إلى ضرورة تجنب الخطايا: “اللَّهُمَّ بَاعِدْ بَيْنِي وَبَيْنَ خَطَايَايَ، كَمَا بَاعَدْتَ بَيْنَ المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ” (البخاري: الأذان، 89). فإن مَن حام حول حمى المعاصي فلا جرم أنه سينجرف بعد زمن مع التيار ولن يجد فرصة للخروج إلى الشاطئ مرة أخرى.
أجل، لو أبحر الإنسان مرة في بحر المعاصي لَما استطاع الخروج إلى الشاطئ مرة أخرى؛ ولذا لا بدّ وأن يسعى الإنسان إلى تنقية ذهنه وفكره ومشاعره على الدوام، وأن يكون على حذرٍ ويقظةٍ دائمة من الفخاخ النفسانية والشيطانية.
- تم الإنشاء في