النجاح الحقيقي والحفاظ على المستوى المعنوي
سؤال: عندما ننظر إلى ما قامت به حركة المتطوعين هذه من فعاليات تعليمية وتربوية نرى أنها حقَّقت نجاحًا طيبًا جدًّا في مجالات كأولمبيادات العلوم؛ فهل نجحت أيضًا بنفس المستوى في تحقيق الفضائل الإنسانية وروح التفاني؟ وما هي أسباب القصور في هذا إن وُجدت؟
الجواب: هناك عدة عوامل بعضها معلوم والآخر مجهول تقف وراء الأعمال التي نالت التقدير، فعواملُ مثل: العمل المنظَّم، وجودة الأداء، والعزيمة الجادة، والجهد، والمثابرة، والعمل القائم على الوعي الجمعي وروحِ الشورى… تمثِّل الوجه الخارجي المُحَسّ المرئي من المسألة، وثمة أمورٌ أخرى ترجع إلى طويّة الإنسان، ولا سبيل للوصول فيها إلى حكم قاطع بالآخرين؛ فمثلا لا يمكن أن نعرف نيات الناس في إنجازاتهم وما إذا كانوا يراؤون أم لا، وما إذا كانت لمنفعة شخصية أم لا، كما لا يمكن أن نعرف درجة صلتهم بالله تعالى؛ فإننا مكلَّفون بالحكم بظواهر الأمور، وعلينا أن نحسن الظنّ بالآخرين، فنحن نظنّ بمهندسي هذه الإنجازات الصِّدقَ؛ ونتذكّر هذا التقريعَ “أَفَلَا شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ؟!“[1] في كلِّ ما لا طاقةَ لنا بمعرفة حقيقته، ونتحاشَى الخوض في نوايا الآخرين؛ فأمر السرائر بين العبد وربِّه، فهي ليست موضوعًا لأحكامِنا، فإن ساوَرَنا شكّ في هذا دعونا ربَّنا: “اَللّٰهُمَّ يَا مُحَوِّلَ الْحَوْلِ وَالْأَحْوَالِ حَوِّلْ حَالَنَا إِلَى أَحْسَنِ الْحَالِ“.
وإذا نظرنا إلى أداء المتطوعين في التعليم والتربية واستمرارية هذا الأداء، يتضح أن هذه الأعمال ليست سهلة المنال، بل إنها تقتضي تحمل مشقة عظيمة، وصبرًا على الزمان؛ إذًا فما أبعدَ الظنَّ بأنها نُفِّذت رياءً ومباهاةً وتظاهرًا؛ ومن يمعن النظر فيما يعانيه رجال الخدمة المغتربون من عقبات يستيقن أنّ وراء هذه الخِدمات إيمانًا وفدائيّة فذّة؛ فعندما نقيِّم المسألة في ضوء صعوبة الخِدْمات العظيمة المنجزة في سبيل العلم والمعرفة مع لزوم الحكم بالظاهر وحسنِ الظنّ بالآخرين ينبغي أن نعتقد أن هؤلاء العاكفين على تنفيذها مخلصون صادقون.
الأمانة والشعور بالمسؤوليّة
إنهم مثلًا يعملون على إقامة “جُزُر التسامح والسلام” في أنحاء العالم كافّة بتمثيلهم لما منَّ الله عليهم من فضائل وخصائص، ويستخدمون لغةَ القلب ولهجة الحال، ويرغبون في إرساء جسور الحوار والتسامح بين مختلف الثقافات والاتجاهات، ومثلما يُعدّ أناس لمواجهة الحوادث الجيولوجية مصدّاتٍ تمنع انتشارها، وتحول دون تضرّر البشر بها هناك؛ فالأرواح التي نذرت نفسها للحق تفعل مثل ذلك؛ فهي تضطلع بفعاليات التعليم والحوار كي تُعد مصدّات تمنع ما ينجم عن الجهل والتعصُّب من صراع وصدام بين المجتمعات والثقافات المختلفة، وتحول دون انتشار هذه السلبيات التي يزيدها اشتعالًا وقودُ الحالة النفسية للجماهير؛ فعلى الذين نذروا أنفسهم لأداء مثل هذه المهمة أن يُعدّوا أنفسَهم معنويًّا مثلما يعدون ماديًّا حتى يتسنى لهم حملُ أمانة ثقيلة كهذه؛ أجل، إن إيمانهم بالله وتوكلهم عليه لا بد أن يكون قويًّا جدًّا حتى يدركوا عند مواجهة الحوادث أن كل توفيق ونجاح إنما هو من عند الله تعالى، وأن الأمور السلبية ناتجة عن فداحة تقصيرهم؛ لكن ليس لغيرهم أن يسيء الظنَّ بهم قائلًا: “ما حدثت هذه السلبيات إلا لأخطاء ارتكبوها!”، لكن على الإنسان أن يعلم أنه هو المتسبب في أيّة مصيبة تنزل به، معنويةً كانت أم مادية، وعلى ذلك دّلت الآيات وصحيح السنة.
أساس الأمر: صدق النية
كما أن أخطاء الإنسان وعيوبه المادية الظاهرة قد تفرز سلبيات مختلفة، فكذلك بعض الأخلاق السيئة كسوء النية، وخيانة المسؤولية، والميل إلى أهواء النفس، وعبادة المنفعة الشخصية قد تؤدِّي إلى أن يُجازيه القدَر الإلهي، وتُعرِّضه لإخفاقات فاضحة؛ نعم فالعوامل المعنوية مثل العوامل المادية في تأثيرهما بوقوع الأحداث وعدمه، ولا يُغير هذه النتيجة أننا لا اطّلاع لنا على ما وراء الطبيعة؛ فما نراه من الحوادث يمثل في حقيقة الأمر وجهها في عالم الأسباب فحسب، فمثلًا إلقاء بذرة في الأرض حدث يقع في عالم الطبيعة، غير أن ثمة أسبابًا أخرى لا يمكن أن نراها هنا لها أثر في انشقاق الأرض عن هذه البذرة لتخرج نبتة صغيرة، إننا نرى الأرضَ والماء وأشعة الشمس، لكن لا يمكننا رؤية القوة الإنباتية في البذرة، بل لا يمكن أن نرى الهواء الذي يؤثر في نموها رغم وجوده في عالم الأسباب؛ وقل مثل هذا هنا، فالحوادث في حياة الإنسان والمجتمع لها جوانب معنويّة بإزاء الجوانب المادية؛ فالعزم، والإصرار، والمواظبة على الأعمال الصالحة، والإخلاص، والصدق، والوفاء، والمقاومة، والسعي نُصبَ أهداف مثالية سامية، والتسليم لإرادة الحق تعالى ومشيئته، كلها أسباب معنوية ربما يفوق تأثيرُ كلٍّ منها تأثيرَ جميع الأسباب المادية في تحقيق نتائج مبهجة؛ فمثلًا هناك أناس لهم أحلام وأفكار مثالية عايشوها منذ طفولتهم وسعوا في تحقيقها، فإننا لا نعلم كيف يستجيب الله لها ويمهد لها السبيل ويمنّ على صاحبها بالإمكانيات ويحقِّقها له في صورة فِعال حميدة.
وقد يحدث عكس هذا أيضًا، يعني أن الهواجس الشريرة، والنوايا العكرة، والأنشطة القائمة على منفعة خفية، والحسد، والغيرة، كلّ منها سبب مؤثّر قد يفرز نتائج سلبية، فمثلًا رُوِيَ عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم:
“إيَّاكُمْ وَالْحَسَدَ فَإِنَّ الْحَسَدَ يَأْكُلُ الْحَسَنَاتِ كَمَا تَأْكُلُ النًارُ الْحَطَبَ“[2].
يشير إلى أن الحسد مصيبة كبرى تأكل الأعمال الصالحة التي قمتم بها؛ فمثلًا قد يحمل الحسد والضغينة وردّ الفعل فلانًا ليبني مدرسةً ليعرقل بها مسيرة من لا يحبهم، فينجم عمّا يكنّه من إحساس سلبي أن تحترق هذه المدرسة حسيًّا أو معنويًّا؛ يعني أن الحقّ تعالى عاقبه بهواجسه السلبية هذه لسوء نيته، لكن الذين انجرفوا في دوامة الحسد والحقد لا يمكنهم فهم هذه الأسباب المعنوية.
إذًا إنّ الأسباب المعنوية مهمة بقدر أهمية الأسباب المادية على الأقل في سبيل بلوغ التوفيق الإلهي، يقول الأستاذ بديع الزمان: “إن الذين يبحثون عن كلّ شيء في المادة، عقولُهم في عيونهم، والعينُ في المعنويات عمياءُ”؛ علمًا أن على الإنسان ألا ينسى أبدًا أن للأحداث جانبًا مردُّه إلى البصيرة، وآخر مردّه إلى البصر أي العين المجردة؛ والبصيرة تستند إلى الإيمان، والإدراك، والإحساس، ومعرفة الله، والإلهام، والواردات، فينبغي ألّا تُتَجاهل هذه الأمور حتى وإن لم يدركها بعضُهم، فهناك من هم حاذقون بها، يفهمونها، وهي في أيديهم كأي عنصرٍ ماديّ يقلّبه الإنسان بيده.
وينبغي على أولئك الذين نذروا أنفسهم لله تعالى أن يعرفوا جيدًا الأسباب المعنوية والمادية التي تبلغ بهم التوفيقَ الإلهي، وأن يعوا حدودها من بدايتها إلى نهايتها ليحققوا نجاحًا حقيقيًّا دائمًا؛ أي على الأرواح التي نذرت أنفسها في سبيل الله أن يكون مستواها المعنوي على أتم استعداد كما كان مستواها المادي الذي جعلها تُعِدّ الخطط في أنحاء العالم، وتناقش مشاريع متعلقة بافتتاح مؤسسات كالمدارس والجامعات، وتنفذ منها كلها إلى القلوب المؤهلة لتصبغها بما استقته أرواحها من إلهامات، هذا مع الثبات في مواجهة الحوادث السلبية، وعدمِ السأم، والصمودِ في مواجهة العواصف بعون الله ومشيئته، وهذا كلُّه مرتبط بمعرفة قيمة الحوافز المعنوية.
الحفاظ على المستوى
رجال المعنى الذين يجاهدون أنفسهم في هذا السبيل مرارًا كلّ يوم، ويحاسبون أنفسهم حتى على الخواطر السيئة، عليهم أن يطوروا أنفسهم وإخوتهم بإعادة التأهيل دوريًّا، وعليهم أن يحافظوا على مستواهم المعنوي؛ فالحفاظ على المستوى مهمٌّ بقدر أهمية بلوغه؛ فقد يبلغ الإنسان أحيانًا مقامات معنوية يشعر فيها بالوجود شعورًا مختلفًا، ويراه مختلفًا، ويحس به إحساسًا مختلفًا، ويقيّمه تقييمًا مختلفًا تمامًا، ويتحرك بشعور الإحسان، ويستشعر دائمًا أن الله يراه. والمهم هو دوام هذا الحس والشعور، لأن الانقطاعات قد تقضي على مكتسبات مهمة جدًّا؛ أجل، ثمة أشياء كثيرة مكتسبة سرعان ما تُهمَل فتزول وتهدر، لذا ينبغي الحفاظ على المستوى كما ينبغي الجد في بلوغه.
والحاصل أنكم لو كانت عندكم إمكانيات كثيرة من حيث الأسباب المادية، بل لو امتلكتم أقمارًا ترصد الفضاء، فكل هذا ليس سوى جانب واحد في سبيل الوصول إلى رضا الحق، واعلموا أن جانبكم القوي الأصيل هو اعتمادكم على حول الله وقوته، واستقامتكم المتينة في صلتكم به وتعزيزها، فعلى الأرواح التي نذرت أنفسها أن يلقّن بعضُها بعضًا هذه الحقيقةَ على الدوام، وأن تنظّم حياتها على هذا الأساس.
[1] مسلم: الإيمان 158؛ أبو داود: الجهاد 104.
[2] سنن أبي داود: الأدب 53.
- تم الإنشاء في