العَمَاية عن القريب، والعمل الدؤوب
سؤال: ثمة أناسٌ نشؤوا في عصور أشخاصٍ عظامٍ، بل وعاشوا في محيطٍ قريبٍ منهم، وبالرغم من هذا لم يستطيعوا الاستفادة منهم، ويبدو أن هؤلاء كثيرون كثرةً لا يُستهان بها على مرِّ التاريخ؛ فما هي أسبابُ ذلك؟ وما السلوكُ الذي ينبغي لنا التحلّي به لئلّا نقعَ في مثلِ هذا الموقِفِ؟
الجواب: قد لا يستطيع الإنسان رؤيةَ وتقديرَ ما لا يُقدَّرُ بثمنٍ من قيمٍ قريبةٍ جدًّا منه؛ وذلك أحيانًا لعجزِهِ عن ضبطِ وجهةِ نظرِه، وأحيانًا بسبب تعصُّبِهِ لشيءٍ ما وتأثُّره بمجموعةٍ من الأحكام المسبقة، وأحيانًا أخرى بسبب الحالةِ الروحيّة النابعةِ ممّا وقعَ في داخله من حَسَدٍ وحقدٍ، وناهيكم عن التقدير فإنه أحيانًا ما يعادي تلك القيمَ عداءً لا هوادةَ ولا رحمةَ فيه، ويمكنكم أن تُطْلِقوا على مثل هذه الحالة داء “العَمَاية عن القريب”.
أبو لهب: نموذج حقيقي في الحسد والغيرة
إن من يقعون في مثل هذا النوع من العمى والداء تستحيل عليهم -بأية حال- الاستفادةُ من الشخصيات العظيمة، ورؤيةُ ما تنبغي لهم رؤيته بسبب ما يكتنف نظرتهم إلى الأشياء من نقص وقصور؛ يتعذر عليهم ذلك حتى وإن عاشوا معهم ولازموهم كل الملازمة، تمامًا كما هو الحال في مثال أبي لهبٍ، العم الشقيق لرسول صلى الله عليه وسلم، والذي عاش معه صلى الله عليه وسلم في نفس البيئة والمحيط المنزلي، وكثيرًا ما احتضن أبو لهبٍ تلك الشخصيةَ العظيمة عليها أفضل الصلاة والسلام، ولاعبَهُ في صغرهِ، وقد أَذِنَ لجاريتِهِ “ثويبة” بأن ترضعه عليه الصلاة والسلام[1]، وتجاورَ منزلُهُ مع منزلِ النبيّ صلى الله عليه وسلم سنين عددًا، فكثيرًا ما كانا يلتقيان في الطريقِ، كما أسَّسَ أبو لهب رابطةَ قرابةٍ أخرى حينما زوّجَ ولديه “عتبة” و”عتيبة” بالسيدتين: رقية وأم كلثوم كريمتي الرسول فخر الكائنات صلى الله عليه وسلم.
وبإيجازٍ: فلقد شهد أبو لهب ورأى ما تحلَّى به مفخرة الإنسانية في حياته كلها من أخلاق حسنة طيبة، ومع هذا كان تعيسَ الحظِّ؛ إذ لم يؤمن برسالة سيِّدِ الأنبياء؛ فانغرسَ في وحلِ داءِ “عَمَاية القريب”، ولم يقفْ الأمرُ عند كفرِهِ به صلى الله عليه وسلم؛ بل صار من ألدِّ خصومِهِ وأعدى أعدائِهِ. أجل، لم يرضَ، بل قُلْ لم يرغبْ أحدُ أقربِ أقرباءِ مفخرةِ الإنسانيّة -الذي اصطفَّت النجوم تحت قدميه مرصوفةً كأحجارِ الرصيفِ- أن يُقْبِلَ ويؤمنَ بعظمتِهِ ورفعتِهِ عليه الصلاة والسلام.
ومن هذه الناحية فلا بدَّ أن نعلمَ أن مَنْ استعملهم الحقُّ تعالى في كثيرٍ من الخدمات العظيمة ربما يتعرّضون لتحقيرِ وإساءةِ بعضِ من يعيشون في المحيطِ القريبِ منهم بالرغم من أنشطتهم وفعاليّاتهم التي تستحقُّ تقديرًا عظيمًا، بل إنهم قد يتعرّضون لخيانتهم وعداوتهم، وأهمّ أسباب ذلك سَخَطُ الخصوم على حكمِ القَدَرِ، وعدمُ رضاهم بتقديرِ الله، ووقوعُهم في دوّامة الحسد، والفهم السقيم، بينما جميع الإمكانيات والملكات التي يحظى بها الإنسان إنما هي من تقدير الحقِّ تعالى، والحكمُ بيده سبحانه ليس إلا.
استعمال البسطاء في مهام كبرى
كما يكلِّفُ الله جلَّ جلاله الكبار والعظام بأعمال كبرى أحيانًا؛ فقد يستعمل الأشخاص البسطاء أيضًا في مهمات عظيمة جدًّا، ويوفِّقهم إلى إنجازِ أعمالٍ فائقةٍ، وربما أنَّ ما يجبُ على الإنسان فعلُه في هذا الشأن إنما هو توجهه إليه سبحانه وسؤاله بصفاءٍ قلبيٍّ، وعدم استحقاره أحدًا ولا الاستخفاف به إطلاقًا؛ فكم من الناس من يبدو وكأنه متشرد بينما قلبه مليء بالكنوز، وهو ما عبر عنه “إبراهيم حقي” شعرًا فقال:(ترجمه)
يقول حقي:
إذا أردت أن تكون ماهرًا بهذا الطريق
فلا تُفشِيَنْ سرَّكَ أيُّها الصديق
ولا تَحْقِرَنْ أهلَ الخرابات يا “ذاكرُ”
فكم من خرابات بالكنوز تزخرُ
ويُروى أنّه كان لإبراهيم حقِّي ولدان؛ أحدهما يُدعى ذاكرًا والآخر يُدعى شاكرًا، فكان ذاكر ولدًا صالحًا مشغولًا دائمًا بذكر الله، أما شاكر فكان في تلك الحقبة لا يبرحُ الخمّارات ولا يفيقُ من السُّكر، وفي يوم من الأيام اصطحب حقي أفندي ولده ذاكرًا، وسارا سويًّا؛ فمرَّا خلال طريقِهما على خمّارةٍ، فأمر إبراهيم حقي أفندي ولدَه أن ينتظرَه في الخارج ودخل هو تلك الخمارة، فلما دخلها وجدَ ابنه شاكرًا ثملًا مطروحًا على الطاولة؛ فسأل صاحب المكان: كم على ولدِهِ من دين، ثمَّ سدّده عن ابنهِ، ثم خرج وواصل المسير هو وولده ذاكر، فلما أفاق شاكر أراد أن يسدِّدَ ما عليه من مالٍ لصاحبِ الخمارة ويخرجَ، لكن صاحبها قال له: “لا شيء عليك، لقد سدَّدَ والدُك كلَّ دينِك”، وعندها كادَ شاكرٌ أنْ ينهار، واعتصره شعورٌ مذهلٌ بالحياء والخجل، فاقتفى أثر والده من فورِه ينشدُه، فوجدَهُ على حافَّةِ هاويةٍ قد جلس هو وذاكرٌ، فاستمع شاكرٌ حديثَهما خلسةً منهما؛ فإذ بأبيه حقي أفندي يقول لذاكرٍ: “أي بنيّ! توفِّيَ واحدٌ من الأولياء الأربعين، فإن تقفزْ أنت من تلك الحافّة، فإنّك تَنُوبَ منابَهُ”، غير أنَّ ذاكرًا تردّد، ولم يستطع القفز بأية حال، فقال شاكرٌ الذي كان يسترق السمعَ: “أبتاه! ماذا لو قفزت أنا؟ أينفع ذلك؟”، ثم طلب منه أن يسامحه وقفز في الحال، وبهذا صار واحدًا من الأولياء الأربعين، وبناءً عليه قال السيد حقي أفندي ذيكما البيتين المشهورين وسط ذهول ابنه ذاكرٍ ونظراته الحائرة.
ولا بد في المناقبِ من النظر إلى معنى الحوادث والعبرةِ المُستَخلَصَةِ منها لا إلى أصلها؛ فقد تكون تلك الحادثةُ صحيحةً أو خاطئةً، بيد أنَّ الحقيقةَ المراد التعبير عنها إنّما هي في غاية الأهمّيّة، وقد قال سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم تعبيرًا عن هذا المعنى: “كَمْ مِنْ أَشْعَثَ أَغْبَرَ ذِي طِمْرَيْنِ لاَ يُؤْبَهُ لَهُ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللهِ لأَبَرَّهُ مِنْهُمُ البَرَاءُ بْنُ مَالِكٍ“[2].
أجل، إن الله جلَّ جلالُهُ قد يستعمل أناسًا -ربما تستصغرونهم ولا تبالون بهم- في أعمالٍ عظيمةٍ، لدرجة أنكم تعضون على أناملكم دهشة وحيرة أمامها، ومثلما أنَّ الله تعالى يَسْتَنْشِئُ النمل الأبيض أو ما يُسمَّى بـ”الأَرَضَةِ” أبنيةً أعلى بكثيرٍ من قامتِه، فإنه يَسْتَنْشِئُ أناسًا تستصغرونهم وتعدّونهم عاديّين كالنمل الأبيضِ أبراجًا شاهقةً، حيث إن قادةً مثل ساداتنا: أبي عبيدة بن الجراح والقعقاع وسعد بن أبي وقاص رغم أنهم كانوا أفرادا عاديين نشؤوا في البادية؛ فقد أخضعوا خلال فترةٍ زمنيّةٍ قياسيّةٍ الإمبراطوريتين الفارسية والبيزنطية التي ظُنَّ أنهما لا تسقطانِ، وأنّه ليسَ من الوارِدِ وقوعهما، وأرشدوهما إلى الطرق المؤدّية إلى الإنسانية الحقيقية.
عبارات يخالطها الشرك بالله: “إنما أوتيته على علم عندي”
يقول الله جلَّ جلالُهُ: ﴿ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ (سُورَةُ الْمَائِدَةِ: 5/54)، والنفس على حدِّ تعبير الأستاذ سعيد النورسي: “أدنى من الكل، والوظيفة أسمى وأعلى من الكل”[3]، وإن كنا أناسًا بسطاء عاديين فهذا لا يمنعُ من أن يستعملنا الله جلَّ جلالُهُ بعنايتِهِ وقدرتِهِ الأبديّة في خدماتٍ عظيمة جدًّا؛ وهذا لطفٌ وإحسانٌ إلهيٌّ صرفٌ لا يتأتّى إلا منه تعالى، وكلُّ ما يُقال في هذا الشأن من كلمات مثل: “نحن فعلنا، ونحن عملنا، ونحن خطّطنا لهذا بينما الآخرون ما كانوا يرون هذا ويفكرون فيه ولو حتى في أحلامهم” يفوحُ شِركًا، ولذلك فلا بدَّ من البُعْدِ التامّ عن مثل هذه المزاعمِ والأقوالِ، وعلى حدّ قولِ الأستاذ بديع الزمان -وكما هي القاعدة العربية- أيضًا فإنَّ: “نفي النفي إثبات”[4]، وعليه فإنكم لا تستطيعون الوصول إلى أية قيمة طالما أنكم لا تنكرون أنفسكم، وإن كان لا بدَّ من استيضاحِ المسألة بعبارة تتردّد وتتكرّر كثيرًا؛ فإنَّ الخالدَ الباقيَ حقًّا واحدٌ ولا أحدَ خالدٌ باقٍ غيره، وإن كانت ثمة قيمة محدّدةٌ للموجودات الأخرى أمام الخالد المطْلَقِ فإنها الصفرُ ليس إلا، ولذلك فإن العلاقة بين الإنسان والله جلّ جلاله تُشبه العلاقة بين الصفر والخلود؛ فالله هو الخالد الباقي، أما الصفر فهو الإنسان الفاني، غير أنه بالرغم من خلو الصفر من أية قيمة ذاتية إلا أنّه يكتسب قيمة إذا ما استُخدِم عن يمين الأرقام؛ وهكذا الأمر بالنسبة للإنسان فإنه حين يلجأُ بعجزه وفقره إلى الله تعالى يكتَسِبُ قوّة عشرات، بل مئات، بل وآلافٍ كالأصفارِ التي توضَعُ إلى جوارِ أَلِفِ لفظِ الجلالة.
الظلم لا يدوم أبدًا
وإذا انتقلنا إلى الشطر الثاني من السؤال؛ فإن الأرواح المخلِصة التي نذرت نفسها للخدمة ابتغاءَ مرضاة الله قد يُحيطها ويطوقها بعدة أطواق الظالمون الجائرون الذين لا يعترفون بحقِّ أحدٍ غيرهم في الحياة، ويُخطِئُون في فهم معنى التنافس (التسابق في سبيل الله)، ويتحركون محشوِّينَ بِمشاعرِ المزاحمةِ ثم يقولون: “نحن فحسب ولا أحد غيرنا في هذا العالم!”، غير أنه يستحيلُ توقُّعُ استمرارِ هذا الوضع ودوامُهُ إلى الأَبَدِ، لأنَّ الظلمَ لم يدم في أيِّ زمان على الإطلاق، والله تعالى يُمهل الظالم، ولا يهملُهُ، وكما وردَ في الحديثِ النبويِّ الشريف فـ”إن اللَّهَ لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ ﴿وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ﴾ (سُورَةُ هُودٍ: 102/11)”[5]. أجل، “قد يدوم الكفر لكن الظلم لا يدوم”؛ فَيُرْجِئُ الله جل جلاله الكفر للنظر فيه في المحكمة الكبرى يوم الحساب، فيعاقب عليه في حضرة كبريائه، غير أن الظلمَ ينالُ عقابه في الدنيا إما عاجلًا وإما آجلًا، ويلقى الظالمون جزاءهم لا محالة لأنه اعتداء على حقوق العامة، وحقوق الأبرياء.
كما أن هذا الطريق هو طريقُ الله، والله جلَّ جلالُه لا يتخلّى أبدًا عمن يسير بإخلاصٍ وصدقٍ في هذا الطريق، وكما تفضّل سبحانه وتعالى في الآية الكريمة ﴿وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ﴾ (سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ: 140/3)؛ فإنه يُعرِّض للهزيمة أحيانًا، ويمتحنُ بابتلاءاتٍ ومصائبَ أحيانًا أخرى لِحِكَمٍ مختلفةٍ يعلمُها هو جلَّ وعلا، ويُشكِّلُ الأشياء والحوادث بِيَدِ قُدْرَتِهِ وفق ما يريد سبحانه، ولذلك فإن كان اليومُ عيدًا بالنسبة للبعض؛ فالغدُ عيدٌ بالنسبة للبعضِ الآخر، وإن كان اليوم مأتمًا للبعضِ فالغدُ مأتمٌ للفريقِ الآخر، إذن ينبغي للأبطال الراغبين في إبلاغِ الإنسانية بإلهاماتِ أرواحهم ألا ينشغِلوا بما يقوله ويفعلُه الجاهلون، على العكس تمامًا فينبغي لهم أن يقولوا: ﴿سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لاَ نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ﴾ (سُورَةُ القَصَصِ: 55/28)، وأن يشغلوا قلوبَهم وعقولَهم بالبحث عن “كيفية إيصال دساتير القرآن الماسيّة وجماليات الإسلام إلى الناس على أفضلِ نحوٍ وأحسنِهِ”، ولِقلوبِ المخاطبين حينئذٍ أنْ تقبلَ أو ترفضَ بإرادتها الحرّة؛ فالنتيجة ليست من شأننا، لكنَّ العملَ مطلوبٌ منا؛ فعلينا أن نُغَلِّفَ هذه القِيَمَ الخاصّةَ بنا بأجملِ الأغلفةِ، ونزيِّنَها بأكثر النقوش والزخارف بهاءً، ثم نُسَوّقها ونطرحُها في الأسواق العالمية بأكثرِ الأساليبِ جذبًا.
أجل، يلزم ألا ننظرَ إلى فتراتِ التعرُّضِ للظُّلْمِ والاضطهادِ على أنها ظلامُ ليلٍ حالكٍ دامس، وألا نَقْنَطَ وألا نتشاءَمَ أبدًا، لأنه وكما يُخَلِّفُ كلُّ شتاء ربيعًا؛ فكلُّ ليلٍ يعقبه صباحٌ بلا شكٍ، ولذا يجب ألا ننسى أنَّ نهارًا سيأتي بعد الليل البهيم، وأنَّ شمسًا ستُشرِقُ بعدَ السوادِ الحالك، فينبغي لنا أن نُعِدَّ في ظلام الليل خطَّةً لمستقبلٍ مشرقٍ منيرٍ، وبالشكل نفسه يلزمُنا أن نضعَ في حسباننا ونحن ننعمُ بالنهار أن ليلًا آخر سيخلفُه، وبتعبير آخر فإنَّه حريٌّ بالمؤمن بينما يحثُّ جوادَه في جوِّ النهار المنيرِ فرحًا فخورًا ويتبختر به يمنةً ويسرة؛ ألَّا ينسى أن ليلًا آخر سيحلُّ بعد النهار، وعليه أن يجهِّزَ خطَّةً وإستراتيجيّة مستقلّةً لهذا الليل؛ لأن أحداث التمرُّدِ والتنازُعِ لم تنقطِعْ ولم تتوقّف قطُّ على وجهِ الأرض حتى اليوم ولن تتوقَّفَ؛ فستظهر حركاتٌ من العناد والعصيان تتمحورُ حول الإلحاد والكفر أحيانًا، والحسد والغيرة أحيانًا أخرى، سوف تعترض طريق الناس بآلاف من الحِيَلِ والمؤامراتِ، ولهذا السبب يجب ألا نُبقيَ تفكيرنا معلّقًا بسواد الليل وألا نُصابَ بالذعرِ والهلعِ منه، وألا نفرحَ بِضياءِ النهارِ ونركنَ إليه؛ علينا أن نُعِدَّ ليلًا خُطَطَ النهار (المستقبل) ومشاريعه، ونجهز نهارًا أيضًا استراتيجيات الليلِ (الأزمات) وظلمتِهِ.
الحركة والعمل الدائمين المتواصلين
ينبغي لمثل هذه القلوب المؤمنة أن تستثمرَ كلَّ لحظة في عمرها في فلكِ العمل الصالح؛ فتحملَ إلى الليل ضوءَ النهار، وإلى الشتاءِ دفءَ الربيع، فالإيمان في حدِّ ذاتِهِ يُكلِّفُ الإنسان بالعمل الصالح في كلِّ موقفٍ وظرفٍ بقدرِ ما يطيقُه.
ويمكنكم من أجل فهمِ معنى العمل والحركة الدائمين المتواصلين بهذا المعنى أن تتذكَّروا ذلك المسير في أثناء الطواف، فكما هو معلومٌ فإنَّ المُسلِمَ حينما يرملُ في الطواف فإنّه يُسرعُ في إنجازِ الأشواطِ مع هزِّ الأكتافِ وتقاربِ الخطى ما دام صحنُ الطوافِ يسمحُ بذلك، فإذا لم يسمح المطاف بذلك لشدّة الزحامِ فإنه يُراوِحُ مكانه متلبِّسًا بالحركةِ والقفزِ دون إيذاءِ أحدٍ، أي إنه يتحرك على كلِّ حال، فيحافظ على شدّه المعنوي، ويواصل -بإذن الله وعنايته- مسيرَهُ في المكانِ والزمانِ المناسِبَينِ.
أجل، إن الجمودَ قصورٌ ذاتيٌّ، والأشياءُ بطبيعَتِها جامدةٌ، ومن يُحَرِّكُها هو الله جلَّ جلالُهُ، والإنسانُ مرتبطٌ بنواميس عالَمِهِ الطبيعيّ، فحينما يقفُ في مكانِهِ يبدأُ في مرحلةِ السقوطِ والتشتُّتِ، مثلُهُ في ذلك مثل النيازِكِ تمامًا حين تتعرض لفراغٍ جوِّيٍّ؛ فإنها تقعُ تحت تأثيرِ جاذبيّةٍ أخرى، فتتآكل بالاحتكاكِ، ثم ما تلبثُ أن تذوبَ وتنقرِضَ، لكن الإنسان إن واصلَ الحركةَ حيث يكون مثلما تواصلُ الشمس والنجوم والقمر دورانها؛ فإنه يظل حيًّا، وينشر حوله الأنوارَ والأضواء التي يستمدّها من نورِ الحقيقة.
وإن تقسيم الحقِّ تعالى العباداتِ الواجبة على فتراتٍ زمنيّةٍ محدّدةٍ وموزّعَةٍ على مدارِ اليومِ وتكليفَهُ بها مثالٌ لافتٌ من أجلِ فهمِ روحِ وكُنْهِ الحركةِ الدائمةِ والمتواصلةِ.
فالإنسان يقومُ في جزءٍ محدَّدٍ من الليل امتثالًا لقوله تعالى: ﴿وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ﴾ (سُورَةُ الإِسْرَاءِ: 79/17)، فيتلو القرآن، ويصلّي صلاة التهجُّد، ويجأرُ في وقت السَّحَرِ أيضًا بالاستغفار ممتثِلًا قولَ الله تعالى ﴿كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ﴾ (سُورَةُ الذَّارِيَاتِ: 17/51)، فإذا حان وقتُ صلاةِ الصبحِ يُصلي سنَّةَ الفجرِ أوّلًا ثم الفرض، وحين تُشرِقُ الشمسُ ويزولُ وقت الكراهة يُصلِّي صلاةَ الإشراق، كما يصلي صلاة الضحى حتى قبيل صلاة الظهر، فيقيم صلاةَ الظهر في الوقتِ الذي تُثقِلُ كاهلَهُ أعباءُ عملِهِ اليومي، وعندما يُقبِلُ على الحضرةِ الإلهية بأداء صلاة العصر يكونُ وكأنَّهُ حوَّل تعب اليوم الساحِقِ الذي زاد عليه إلى رحلة تأملية في آفاق الروح، فينعمُ بقسطٍ من الراحةِ، ثم يؤدّي صلاتي المغرب والعشاء بنفس الشعور والفكرِ أيضًا، وبهذا يَسْلَمُ من أيّ فراغٍ وخواءٍ روحيّ.
لقد وزّعَ الله تعالى عباداتنا اليوميّة وفقَ تقويم زمني لا يتخلّلُهُ الفراغ، وعليه فينبغي تقسيمُ الخدماتِ التي ستُبْذَلُ في سبيلِ الإنسانية لِتُنْجَزَ على مدارِ أسابيع وشهور ومواسم بل وسنوات عملًا بمفهوم الحركة والعمل الدائِمَين المتواصِلين، وحريٌّ بكلِّ مؤمنٍ فيما يتعلَّقُ بهذا أنْ يعملَ وكأنَّهُ خبيرٌ إستراتيجيّ؛ فيُحدِّدُ الأعمال التي يستطيعها من أجل نفسه وعائلته والمجتمع الذي يعيش فيه، وبهذا يحمي حيويّته الذاتيّة وطاقتَهُ الإنتاجيّة؛ لأن أجدادَنا قالوا: “يلمعُ الحديد عندما يعملُ”، ومن هنا فإنَّ العملَ والنشاط الدائم هو السبيلُ إلى البريقِ والحياةِ دون اندثارٍ أو تعفُّنٍ.
وقد استخدم القرآن الكريم في أغلَبِ الآيات التي تحدَّثَ فيها عن المؤمنين عبارةَ ﴿وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ (سُورَةُ البَقَرَةِ: 25/2) فَلَفَتَ بذلك النظرَ إلى جانبِهم الحركيّ والعمليّ؛ فالعملُ الصالِحُ يعني العملَ التامَّ دون نقصٍ ولا قصورٍ، وكما سبقَ في مثال الصلاة؛ فثمة ضرورة إلى مراعاة الخشوع أي العمق الداخلي الذي يعكس العلاقة بالله تعالى إلى جانب مراعاة أركان الصلاة وشروطها من أجل أدائها أداءً تامًا كاملًا، وجميعُ الأعمالِ التي يضطلع بها المؤمن تقتضي منه أيضًا أن يؤدّيها مراعيًا شروطَها الداخليَّة والخارجية على حدٍّ سواء، وهكذا وبعد أن يؤمن المؤمنُ بالله وتنطبقَ عليه صفةُ الإنسان الأمينِ فإنه لا يتركُ اعتقادَهُ مجرَّدَ أمرٍ نظريٍّ، وإنما يؤيّده ويقوّيه بالحركة والعمل.
وكما كان الحال في عصر الخلفاء الراشدين خاصةً، وعصر السلاجقة وأوائل العصر العثماني فإنَّ الأفراد والمجتمعات التي كانت تضطلع بأعمالها في إطار روح الحركة الدائمةِ ليلَ نهار ثَبتَت وصمدت بإذن الله وعنايته؛ إذ سارَتْ قُدُمًا دون أن تتردَّى أو تتهاوى، ولكن يمكن القول ارتباطًا بفكرة الأتمِّيَّةِ والأكمليّة -ولا أقولُ هذا طعنًا في أجدادنا العِظام ولا تشنيعًا بهم؛ فأصغرهم تاجُ رأسي وسيّدي- إنه ما إنْ حدث فراغٌ وخواءٌ في خطَّةِ الفِكْرِ والحركةِ والعملِ حتى قعدَ الحكّام عن الخروجِ للجهاد على رأسِ الجيوش، وبدؤوا يعيشون حياة فارهةً في القصور، وبطبيعة الحال وبالتوازي مع هذا؛ أسلمَ الشعبُ نفسَهُ للراحةِ والفتورِ، ونسيَ السعيَ والركضَ من أجلِ تحقيقِ فكرةٍ مثاليّة سامية، وخلدَ إلى الفراش الوثيرِ الدافئِ، وقد تعرَّضَ من أسلموا أنفسَهم لقبضةِ وحشِ الدنيويّة على هذا المنوالِ لِغَدْرِ رغباتِهم، وانصهَرُوا وسقطُوا في شِباكِ رغباتِهم الدنيويّة وشهواتِهم البدنيّة، وفي فترةٍ كهذه تغيَّرَ فيها وفَسَدَ تمامًا مِحوَرُ “مفهومِ المجتمع” فَشِلَتْ وخابَتْ -رغمَ المحاولات المتكرّرة- آمالُ الحكّام من أمثال مراد الرابع، وعثمان الثاني اللذين كانا يعرفانِ جيِّدًا ما يقعُ على عاتقهما من مهمّات، وربما أنَّ هذا حدث بفعلِ أساليب شتى استخدمَتْها بُؤَرُ الشر الداخلية والخارجية.
والحاصل أن من أسلموا أنفسَهم للجسمانية ولِدَعَةِ وفتورِ الحياة الدنيويّة تعرّضوا -ودون أن يدرُوا أو يُدركوا أيَّ شيءٍ- لِغَدْرِ تلك الراحة والدعة، ووقعوا ضحيةً لها؛ فهلكوا.
[1] انظر: صحيح البخاري، النكاح، 21؛ البيهقي: السنن الكبرى، 262/7.
[2] سنن الترمذي، المناقب، 125؛ أبو يعلى: المسند، 66/7.
[3] بديع الزمان سعيد النورسي: الشعاعات، الشعاع الرابع عشر، ص 477.
[4] بديع الزمان سعيد النورسي: الكلمات، الكلمة السابعة عشرة، المقام الثاني، ص 233.
[5] صحيح البخاري، تفسير سورة هود 5؛ سنن الترمذي، التفسير، 12.
- تم الإنشاء في