الاستغناءُ هو الرصيدُ الأعظمُ لِرجال الدعوة والإرشاد
سؤال: ما هي المبادئ الأساسية الجوهرية في مهمَّةِ إرشاد القلوب وتعريفها بالحقِّ والحقيقة؟
الجواب: ينبغي للإنسان المؤمن أن ترتقي عبوديتُه لله المعبودِ المطلَقِ إلى درجة “العُبودة المُطْلَقَة”، فلا يُخلِّل في عبوديَّتِهِ لله أيَّ شيءٍ آخَر؛ لأننا مُكبَّلون بقيودِ عبودِيَّتِنا له، وأمْرُنا بِيَدِهِ هو فحسب، وهذا ما تُظهره حقيقةُ العجزِ والضعفِ والفقرِ التي تكتَنِفُنَا، يتفلت من أيدينا كلُّ شيء نريد الإمساك به والوصول إليه، وكلَّما ظنَنَّا أنَّنا قبضْنا عليه بأيدينا تفلَّتَ مجدَّدًا، ويتعذر الوصولُ إلى ما نرغبُ فيه، ومِن ثمَّ فَمِنَ الواضحِ أننا لا نملِكُ أنفسَنا؛ فثمَّةَ هيمنةٌ وسيادةٌ مُطلقةٌ تُسيطر علينا.
والواقع أن الإنسان ربما يتعذَّرُ عليه الشعورُ بهذهِ الحقائقِ في كلِّ حين؛ فقد يضبطُ جهازُ الاستقبالِ أحيانًا على تردُّدٍ معينٍ لإذاعةٍ ما، فإذا ما اختلَّ هذا التردُّدُ تتقاذَفُ إليه بعضُ المؤثِّرات والتردُّدات الأخرى من هنا وهناك فتُفْسِدُهُ، والإنسانُ يُقحِم أفكارَهُ وآراءَهُ الشخصيّةَ في الأَمْرِ، فعليه أن يسعى للعثور على الصوت الصحيحِ بواسطة الجدّيّة في ضبطِ العيارات. أجل، عليه ألّا يبوح بأفكارِه وآرائِهِ إلا بعدَ أن يزِنَها بميزان الضمير العارف، فإن شابَ الأمرَ شيءٌ من أخطائنا الخاصّةِ بنا -رغمَ كلِّ الجهد والسعي المبذول لتجنُّبِها- فإننا نرجو الله جلَّ جلالُهُ أن يعفوَ عن ضعفِنا هذا ويتجاوز عنه، وإلا فإنه لا يمكن أن تتَّسِقَ التصرُّفات الماجنةُ غيرُ الـمُباليةِ مع شعورِ العبودية أبدًا.
مطرقةٌ إثرَ مطرقة
تخيلوا أنكم سجدتم في صلاتكم فأطَلْتُم السجودَ، ورُحْتُم تتضرَّعون إلى الله بضعَ دقائق، غير أن الشيطان همسَ إليكم من فورِهِ في تلك الأثناء بمشاعِرِ الإعجاب بالعملِ واستعظامِه من قبيلِ: “ما أَحسنَ عبوديتكَ لله!”؛ مستخدمًا في همسِهِ هذا آليَّةَ النَّفْسِ، فإن حدَّثَتكم أنفسكم بمثْلِ هذا الحديثِ فلْـتُقاوِموها في الحال قائلين: “ما عبدناك حقَّ عبادَتِكَ يا معبود، وما ذَكَرْناكَ حقَّ ذِكْرِكَ يا مذكورُ، وما شكرناكَ حقَّ شكرِكَ يا مشكور، وما سبَّحْناكَ حقَّ تسبيحِكِ يا من تسبِّح له السماواتُ السبعُ والأرضُ ومَن فيهنّ”، وعلينا أن نطرقَ بمطرقةٍ إثر مطرقة فوق رأسِ كلِّ الملاحظات والأفكار التي لا تُوافِقُ رضاه سبحانه وتعالى طَرْقًا يَفُتُّ في عضدِها فلا تَقومُ لها قائمةٌ بعدُ.
ولكنه ينبغي لكم حتى وإن طرقتم عليها بأثقل المطارق أن تعلموا أن مثل هذا النوع من المشاعر التي تبُثُّها وساوسُ الشيطان وتُسوِّلُها وَتُزيِّنُها النفسُ الأمَّارةُ سرعانَ ما تقفِزُ وتصحو مجدّدًا حيث لا يُتوقّع وكأنها مخلوقٌ بسبع أرواح، لدرجة أن النفس والشيطان لن يكفَّا أبدًا عن بثِّها وإثارتِها في ذهنِ الإنسان حتى وهو يطوفُ حول الكعبة، ويبتهل إلى الله ويدعوهُ في “عرفات”، ويبيتُ في “المزدلفة”، بل حتى وهو يرجمُ الشيطان ويُمْطِرُهُ بالأحجارِ وكأنه يرجم رأسَ نزواتِهِ ورغباتِهِ الشخصية وهو في “مِنًى”، فإنهما يسعيان دائمًا لإغوائه والإيقاع به.
ولهذا السبب أمر الله تعالى في القرآن الكريم قائلًا: ﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ﴾ (سُورَةُ هُودٍ: 112/11)، ونسأل الله تعالى الاستقامةَ والهداية بقولنا ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ (سورةُ الفَاتِحَةِ: 6/1)، فإن كنَّا نُصلِّي الفروضَ وسُنَنَها كلَّها فنحن إذن نكرِّرُ هذا الطلبَ أربعين مرَّةً في اليوم والليلة، وإن كنا نصلي النوافل الأخرى كصلاة الأوابين والتهجُّد والضحى فربما أننا نطلبُ من الله تعالى كلَّ يومٍ ستين مرة أن يهدينا الصراطَ المستقيم، لأنه تعالى إن لم يأخذْ بأيدينا إلى الطريق المستقيمِ ويهدِنا إليه فلا شكَّ أننا سنتعثَّرُ في دروبِ النفسِ الأمّارة ودهاليزِها وسنتَسبَّبُ في كمٍّ هائلٍ من الحوادثِ المروريّة التي يتعذَرُ معها إعمارُ وإصلاحُ ما نتجَ عنها من كوارث وانهيارات.
إن الله لا يوفِّق من يسأل على خدماته أجرًا
إننا حينما نردِّدُ اسمَهُ تعالى دومًا ونقومُ له ليلًا ونذكره حيثُ يَجِبُ علينا ذِكْرُهُ ونتنفَّسُهُ “هو” تستمرُّ صِلَتُنا وارتباطنا به سبحانه حتى ونحن في أيِّ حالٍ مما تقتضيهِ الطبيعةُ البشريّةُ، وفي ذلك على سبيل المثال قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “مَنْ أَتَى فِرَاشَهُ، وَهُوَ يَنْوِي أَنْ يَقُومَ فَيُصَلِّيَ مِنَ اللَّيْلِ، فَغَلَبَتْهُ عَيْنُهُ حَتَّى يُصْبِحَ، كُتِبَ لَهُ مَا نَوَى، وَكَانَ نَوْمُهُ صَدَقَةً عَلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ“[1]، وهذا هدية ومنة يَمُنُّها علينا تعالى من رحمته الواسعة. أجل، إن رحمته واسعة؛ فلم يُحمّلنا ما لا نطيق من الأعمال والواجبات، بل كَلَّفَنَا بما نطيقُهُ فحسب؛ فليس في الدين تكليفٌ بما لا يُطاق كما تشير إليه الآية الكريمة: ﴿لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا﴾ (سُورَةُ البَقَرَةِ: 286/2).
إذًا فينبغي لنا ألا نبتغي شيئًا آخر سوى رضا الله تعالى الذي يُمطرنا ويفيض علينا برحمته الواسعة ولُطفه العميمِ زخًّا زخًّا؛ لأنه ليس هناك ما يسمو فوق هذا ولا ما يفضلُه، فأكبر هدايا الحقِّ تعالى لعباده المؤمنين في الجنّة بعدَ رؤيتِهِ المباركة هي رضوانُه عنهم: ﴿وَرِضْوَانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ (سُورَةُ التَّوْبِةِ: 72/9)، والجائزةُ العظمى هي أنْ يقول لهم تعالى: “أُحِلُّ عَلَيْكُمْ رِضْوَانِي، فَلاَ أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أَبَدًا“[2]، ويتعذَّرُ علينا ههنا ونحن في هذه الدنيا أن نُخَمِّنَ ونتصوَّرَ مدى المتعةِ التي ستُحْدِثُها هذه النفحةُ الإلهيّة في روحِ المؤمن، ربما أن أولياء الله تعالى مثل الشيخ الجيلاني، وأبي الحسن الشاذلي، ومحمد بهاء الدين النقشبندي، ومولانا خالد البغدادي، والإمام الرباني، وحضرة بديع الزمان أحسُّوا بِلَذَّتِها على مستوى الظِّـــلِّـــيّــةِ بقدرِ ما سَمَحَتْ به الظروف في هذه الدنيا، ولا أمتلِكُ طاقةً ولا قدرةً على بيان شيءٍ كهذا ولا تصويره؛ لأن الله قال في حديثٍ قدسيٍّ متحدِّثًا عن نِعَمِ الجنة ونعيمِها: “أَعْدَدْتُ لِعِبَادِيَ الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ“[3]، ومن هذا الإطار المرسوم المحدد هنا نفهمُ أن هذه المسألة تتجاوزُ تمامًا إدراكَ الإنسان وعلمَه.
ومن هذه الناحية فإنه ليس ثَـمَّةَ شيءٌ لا في الدنيا ولا في العُقبى على حدٍّ سواء أعظمُ وأقيمُ من طَلَبِهِ سبحانه وتعالى واستنهاض همّة الآخرين في طَلَبِهِ، ولأجلِ هذا فإن الأنبياءَ العظامَ نذروا حيواتهم السنيّة وربطوها بالمبادئ الأساسيّة للتعريفِ بالله تعالى فحسب، وتحبيبِ الناسِ فيه، وتقويةِ صلةِ الآخرين وارتباطِهم بالله تعالى، ولم يسألوا أحدًا أجرًا على هذا ولم ينتظروه، لأن هذا يضرُّ بالإخلاص ويُضيع العمل، بالإضافة إلى ذلك لم يَثبُتْ أنه قد نجح ووُفِّق من طلبوا ثمنًا أو أجرًا على ما أدّوه من خدمات، وإن نجحوا فنجاحٌ مؤقَّتٌ سرعان ما كانت تعصف ريحٌ معاكسة فتذروه كما تذرو العواصفُ التبنَ.
حقيقةٌ واحدةٌ نطقَ بها الأنبياءُ أجمعون
ذكر الله تعالى الأنبياء العظام مثل نوح وهود وصالح ولوط وشعيب عليهم السلام واحدًا تلو الآخر في سورة الشعراء، ثم بَيَّنَ أنَّ الكلمةَ القاسمَ المشتركَ بينهم جميعًا هي: ﴿وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ (سورة الشعراء: 109/26، 127، 145، 164، 180)، فقد قاموا بما كُلِّفوا به من أجل الله تعالى فحسب، واتجهوا إلى الله تعالى وقصدوه هو دائمًا، ولم يتشوَّفُوا ولو حتى إلى مثقال ذرَّةٍ من الأجرِ عوضًا عمّا قاموا به من خدمات.
وبالرغم من تغيّر العصر وتبدُّلِ الظروفِ والأحوالِ وتسبُّبِ مراحلِ الزمنِ المختلفةِ في تفسيراتٍ وتحليلاتٍ مختلفة فإن جميعَ الرسلِ المذكورين آنفًا ثبتوا على نفسِ الموقِفِ وتمسَّكوا بالعبارة عينِها في هذه المسألةِ، فقال سيدنا هود مثلما قال سيدنا صالح، ونرى سيدَنا لوطًا يقول نفسَ ما قاله مِن قبله سيدُنا نوح… على نبينا وعليهم الصلاة والسلام. أجل، كلمتُهم سواء، في حين أنّ لكلِّ مجتمعٍ من تلك المجتمعاتِ التي أُرسلوا إليها مَشاكله المختلفة الخاصّة به، وهذا يعني أنه مهما اختلَفَتْ المشاكلُ وتبايَنَتْ فإنَّ الإخلاصَ والاستغناءَ هو سبيلُ حلِّها.
فمثلًا قومُ سيِّدنا نوح عليه السلام اتخذوا عظماءَهُم آلهةً، وأسموا هذه الآلهة بأسماء شتى مثل “وَدّ” و”سُوَاع” و”يَغُوث” و”يَعُوق” و”نَسْر”، فكانوا يُألِّـهون مَن في القبور، ويَطلبُونَ منهم المددَ وما لا يستطيعونه لأنفسهم: ﴿وَقَالُوا لاَ تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلاَ تَذَرُنَّ وَدًّا وَلاَ سُوَاعًا وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا * وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلاَ تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ ضَلاَلاً﴾ (سُورَةُ نُوحٍ: 23/71-24)، وهذا خطرٌ يمكن أن يحدثَ في كلِّ عصرٍ.
أما قومُ عاد فكانوا يفتخِرُون بِعَظَمَتِهِم وضخامَتِهِم، فانسحَقوا تحتَ آفةِ الكِبرِ والغرور، ﴿وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً﴾ (سُورَةُ فُصِّلَتْ: 15/41)، وكانوا يبنون قصورًا مشيَّدة محكمة يرجون الخلود في الدنيا كأنهم لا يموتون، وكأنهم لن يصيبَهم أيُّ ضررٍ لا من الأرضِ ولا من السماءِ، ولو اجتمعت ضدّهم كلُّ أسبابِ الهدمِ وعوامل الصدعِ فلن تستطيع أن تهدمَ بُنيانَهم، ومن ثمَّ كانت مشكلتُهم مختلفةً عن مشكلةِ قومِ سيِّدنا نوح عليه السلام، وقد أكَّدَ سيِّدُنا هود عليه السلام لقومه مدى ما هم فيه من خطإ؛ وعبَّر لهم عن فداحتِهِ مُخاطِرًا بكلِّ ما قَدْ يَحِلُّ بهِ وغيرَ آبهٍ بتهديداتهم، وصرّح باستغنائه تمامًا عن أيِّ أجرٍ في مقابل قيامه برسالِتِه كما حكى ذلك القرآن الكريم، فقال تعالى: ﴿كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلاَ تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ * أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ * وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ * فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ * وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ * أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ * وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ﴾ (سُورَةُ الشُّعَرَاءِ: 127/26-136).
وحين ننتقل إلى حقبة سيدنا صالح عليه السلام نرى أن الناس في عصره كانت لهم مشكلة مختلفة أيضًا؛ فقد انغمسوا في مفاتن الدنيا وانهمكوا في بُــلَـهْـنِـيَــةِ العيشِ بين البساتين والحدائق والجنان، وراحوا يعيشون بشكلٍ فارهٍ فاخرٍ في أبنيةٍ محكمةٍ محصّنةٍ، وما كان مِن نبيّهم صالح إلّا أنْ واجَهَ كلَّ الصعوبات فأدّى رسالةَ التبليغِ دون أن يتشوَّفَ إلى أيِّ شيءٍ على الإطلاق، ودعاهم إلى التوحيد، وحذرهم من الإسراف والفساد، قال تعالى: ﴿كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلاَ تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ * أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ * فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ * وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ * فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ * وَلاَ تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ﴾ (سُورَةُ الشُّعَرَاءِ: 141/26-151).
أما في عصرِ سيدنا لوط عليه السلام الذي جاء بعده فقد وقعَ الناس في أمور مستهجنةٍ لا تليق بالإنسانيّة؛ فانحرفَ مجتمعُهم وعربدَ وفسقَ، وكغيره من الأنبياء ودون أن يأبَهَ بأيٍّ من تهديداتِ الطردِ والتجريدِ من كلِّ شيءٍ؛ دعا هو أيضًا عليه السلام قومَهُ إلى التوحيد والفضيلةِ والاستقامة، ولم يبتغِ في مقابل هذا أيَّ أجرٍ منهم على الإطلاق، قال تعالى: ﴿كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِين * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلاَ تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ * أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ * وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ * قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ * قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ * رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ * فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ * ثُمَّ دَمَّرْنَا الآخَرِينَ * وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ﴾ (سُورَةُ الشُّعَرَاءِ: 160/26-175).
وأما سيدنا شعيب عليه السلام فقد أُرسل في عصرٍ اختلَّتْ فيه الموازينُ والأكيالُ في الأسواقِ والمتاجِرِ، فلم يكن يُفرَّق بين الميزان والموزون، وكانت الحياةُ التجاريّةُ مليئةً بالتضاربات والتماوجات؛ فكانت الأموال تصبُّ في صالِحِ المنافعِ الشخصيّة لِأُولي القوّة والسلطان، فَحَذَّرَهم سيدنا شعيب عليه السلام قائلًا: ﴿أَلاَ تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ * أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ * وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ* وَلاَ تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ * وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الأَوَّلِينَ﴾ (سُورَةُ الشُّعَرَاءِ: 177/26-184).
ويأمر اللهُ مَفخرةَ الإنسانية محمدًا صلى الله عليه وسلم بنفس ما قاله أسلافُه من النبيين والمرسلين، يقول تعالى: ﴿قُلْ: لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا﴾ (سُورَةُ الأَنْعَامِ: 90/6، سُورَةُ الشُّورَى: 23/42)، ﴿قُلْ: مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ﴾ (سُورَةُ الفُرْقَانِ: 57/25، سُورَةُ ص: 86/38)، وهذا أمرٌ من الله بأن لا يطلب أيَّ شيءٍ أو أجرٍ من قومِهِ الذين أذاقوه كلَّ ألوانِ الأذى والضرّاء في مكّة المكرّمة خلال ثلاثَ عشرة سنة، وَاضْطَرُّوه للهجرةِ خارجَ بلدِه، وجعلُوه يُقاسي آلامَ الشوقِ لها. أجل، لم يطلبْ النبيُّ صلى الله عليه وسلم أيَّ شيءٍ ولم يتشوَّفْ إلى أيّةِ حاجةٍ من مخاطَبيهِ رغم أنَّه كان وسيلةً لِسَعَادَتِهم في الدنيا والآخرة؛ فكان ينامُ على الحصيرِ، ويُكابدُ الجوعَ أيامًا، غير أنّه لم يُغِّيْر سلوكَه وموقِفَهُ هذا على الإطلاق.
فقدان القيمة وتوعُّر الطرق
الواقعُ أنَّ طريقَ الاستغناء هذا هو الطريق الوحيد لبَثِّ الثِّقَةِ وإقناعِ المخاطَبِ، لأنّ مَن يتشوَّفُ ويطمَعُ في شيءٍ من المنافِعِ والفوائدِ عوضًا عمّا أنجزه من خدمات؛ إنّما هو يُسيءُ إلى ما يحظى به من التفاتٍ وقبولٍ لدى الآخرين، ويفقدُ سُمعته واعتباره في نظر مخاطبيه، فإذا عزمتم على خدمةٍ فعليكم ألا تبرحوا منهجَ رسولِ الله وسبيلَه، فإنّه يُؤمَلُ أن يقول مَن يُراقبُ عملكم: “إن هؤلاء حين بدؤوا العمل كانت لديهم مائة ليرة، فلما غادروا رأينا أنه تبقت لديهم تسعون ليرة، يعني أنهم لم يستطيعوا الحفاظ حتى على مالهم بل أنفقوه في هذا السبيل”، إن مبدأَ الاستغناءِ وعدم التشوُّفِ لأجرٍ ما كما أنه صفةٌ ضروريّةٌ لكلِّ الإداريّين في الدولة بدءًا من عمدة القريةِ وصولًا إلى رئيسِ الدولة؛ فإنه ضروريٌّ ومطلوبٌ أيضًا بالنسبة لمن نذروا أنفسَهم لِإِبْلَاغِ الحقِّ والحقيقةِ والتحديثِ بها؛ لأن أعظمَ ديناميّاتهم هي الاستغناءُ والتضحيةُ.
وأَنْ يتركَ من نذروا أنفسَهم للإنسانيَّةِ آثارًا خالدةً أمرٌ مرهونٌ بِسيرهم في طريقِ الأنبياءِ عليهم السلام، وإلا فإنَّ أولئك الأشخاص الذين يستهلُّون طريقَهم محتذين بسيدنا هارون عليه السلام ثم يتحوَّلُ كلٌّ منهم إلى “قارون” سوف يأتيهم يومٌ تُخسَفُ بهم فيه الأرض؛ هم وخزائنهم، ويُلعنون كلما لُعِنَ، ولو كان يوجَدُ في قلبي موضعٌ صغيرٌ للَّعنِ والدعاءِ على الغير لكنتُ قلتُ لمن يُفكِّرون في منافِعِهِم الشخصيّة، ويربطون الأمورَ بمصالِـحِهم الخاصّة، ويختصّون أنفسَهم وحاشيتَهم بالمناقصات التجارية، ويُقرِّبون منهم من يمنحونهم تلك الأنصبةَ ويُفضّلونهم على غيرهم: “خسف الله بكم وأهليكم وتشوُّفاتكم وقضى عليكم”، ولكن لما لم يكن في قلبي أيُّ موضعٍ أو مكانٍ للدعاء على الآخرين فقد توسَّلْتُ وتضرَّعْتُ رغبةً في هدايَتِهم و-بعبارة الشاعرِ “محمد إقبال”- لم أُعَقِّبْ على الدعاء عليهم ولَعْنِهِم بقولِ “آمين”.
ومن هذه الزاوية فإنه ينبغي لِمن نذروا أنفسَهم لخدمةِ الإيمانِ والقرآن وعاشوا في محيطِها المباركِ ألَّا يستغلُّوا ما فعلوه من خدماتٍ لِصالِحِ أنفسِهم، وعليهم ألا يأخُذُوا مناقصةً لا يستحقّونها، وألّا يلهثوا خلفَ أيِّ منفعةٍ؛ مستغلِّين سمعتَهم واعتبارَهم لدى المجتمع من أجلِ تحقيقِ ذلك؛ عليهم ألّا يُضحّوا بمشاعر “التضحية” و”الاستغناء” -اللَّذَين يُمَثِّلان أكبرَ وأعظمَ ميزةٍ وخاصّيّةٍ بالنسبة لهم- في مقابل أشياءَ دنيويّــةٍ تافهةٍ عاديّــةٍ؛ فهناك مَن تكفّلَ بالسعيِ من أجلِ المال، وهم يفعلون ذلك في إطار دائرةِ الشرع، وقد منَّ ويَمُنُّ الله تعالى عليهم بأرباح ومكاسبَ عظيمةٍ في حياتهم التجارية، وهم يستخدمون مكاسبهم وثرواتهم أيضًا في سبيل الله، أما من نذروا أنفسَهم ويُـمَثِّلُ كلُّ واحدٍ منهم “مرشدًا وهاديًا إلى الطريقِ القويمِ” فإن أعظمَ ثرواتِهم هي الاستغناءُ والحِسْبَةُ لله، فإن تركوا هم هذا ولَـهَثوا وراءَ أشياء غيره فقد استبدلوا القليلَ بالكثيرِ.
إن مفخرةَ الإنسانيّة صلى الله عليه وسلَّمَ -كما روى ذلك ابن عباس رضي الله عنهما- انتَقَلَ إلى الرفيقِ الأعلى وَمَا تَرَكَ دِينَارًا وَلا دِرْهَمًا، وَلا عَبْدًا وَلا وَلِيدَةً، وَتَرَكَ دِرْعَهُ رَهْنًا عِنْدَ يَهُودِيٍّ بِثَلَاثِينَ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ[4]، ولم يكن سيدنا أبو بكر رضي الله عنه مختلفًا عنه صلى الله عليه وسلم في هذا الأمر؛ فقد جمعَ ما زاد عن حاجته مما وُضِع له من مخصَّصات راتب كخليفةٍ للمسلمين وألقى ذلك كلَّه في جَرَّة، ولما حضَرَتْهُ الوفاةُ قال: “انْظُرُوا مَا زَادَ فِي مَالِي مُنْذُ دَخَلْتُ الإِمَارَةَ فَابْعَثُوا بِهِ إِلَى الْخَلِيفَةِ مِنْ بَعْدِي”[5]، وأما الفاروقُ فكانَ زاهدًا في الدنيا وكثيرًا ما كان ينامُ على الرمالِ والحصباءِ في المسجد النبويّ.
نهايةٌ مؤسفةٌ لِمَنْ ينتهِجون الفسادَ والاختلاسَ
أولئك الذين ذكرناهم آنفًا هم العظماء الذين يجب الاقتداء بهم، فالطريق والمنهجُ الصحيحُ هو طريقُهم ومنهجُهم، أما غيره فهو “التيهُ والضلال”، ومن ينحرِف عن منهجِهِم سينزَلِق في شتّى أنواع الفسادِ دون أن يَدري، وهذه الأوجهُ من الفساد سوف تجعله -وإن أسعدَتْه وسرَّته في أوَّلِ الأمر- يتحسَّرُ في النهايةِ قائلًا: “يا ليتني كنتُ ترابًا ونسيًا منسيًّا“.
إذًا ينبغي لأفرادِ تلك المجموعة السامية العالية الهمّة ألَّا يهتمُّوا بالدنيا أكثر مما ينبغي وألا يُعطوها أكثرَ مما تستحق، وكما قال صلى الله عليه وسلّم: “لَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ“[6]، ويُروى عن عَليّ بن أبي طَالب كرّم الله وجهه مرفوعًا إلى النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم قال: أوحى الله عز وَجل إِلَى دَاوُدَ: مَثلُ الدُّنْيَا كَمثل جِيفة اجْتمعت عَلَيْهَا كلابٌ يجرونها أَفَتُحِبُّ أَن تكون كَلْبًا مثلهم فتجرّ مَعَهم!؟”[7].
ليتنا نستطيع نسيان هذه الدنيا الخدّاعة باستثناءِ ما يجبُ علينا الاهتمام به من جوانب فيها، فقد أساءَ من لم يَنْسَوها إلى أنفسِهِم وإلى الأمَّةِ والتاريخِ على حدٍّ سواء، ولأخذِ العِبرَةِ من التاريخِ؛ فَقَصْرُ “طُوبْقابي” حَمَلَ أمّةً إلى سيادةٍ عالمية، فكان هذا المكانُ انعكاسًا لعالَـمِنَا الروحيّ على الخارج؛ فهناك تتجسَّدُ الفكرة المثالية التي حملها كلٌّ من “محمد الفاتح” و”بايزيد الثاني” و”ياووز سليم” و”سليمان القانوني”؛ فقد سلَكُوا سبيلَهم، وسافروا إلى ديار قاصيةٍ بعيدةٍ لإعلاءِ كلمةِ الله، وفعلوا ما يجب فعلُه من أجلِ تحقيق التوازن في العالم؛ فأطاحوا بالظالمين، وجعلوا المظلومين يتنفَّسُون الصعداء، وعندما رجعوا إلى ديارهم واصلوا القيام بأعمالهم وواجباتهم في قصر “طُوبْقابي” ذلك القصر المتواضع البسيط، أما القصور الفاخرة المبهرجة مثل “دُولْمَه باغْجَه” و”يِلْدِز” فإنها أطفأَتْ نجمَنَا برغم كل وميضِها وبريقِها، فهذه وإن أَظْهَرَتْ لنا الدنيا وكأنّها جنّةٌ، إلا أنها أنْسَتنَا اللهَ والجنةَ الحقيقيّة.
[1] سنن النسائي، قيام الليل، 63؛ سنن ابن ماجه، إقامة الصلاة، 177.
[2] صحيح البخاري، الرقاق، 51؛ صحيح مسلم، الإيمان، 302.
[3] صحيح البخاري، التوحيد، 35؛ صحيح مسلم، الجنة، 4-5.
[4] مسند الإمام أحمد: 473/4.
[5] ابن سعد: الطبقات الكبرى، 143/3.
[6] سنن الترمذي، الزهد، 13؛ سنن ابن ماجه، الزهد، 3.
[7] الديلمي: الفردوس بمأثورِ الخِطابِ، 142/1.
- تم الإنشاء في