نار الفتنة والدعاء
سؤال: ما الدروس المستفادة من قول الله تعالى في سورة الممتحنة: ﴿رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ (سُورَةُ الْمُمْتَحَنَةِ: 5/60)؟
الجواب: التصريح باسم سيدنا إبراهيم عليه السلام في الآية الكريمة السابقة يشير إلى أن هذا الدعاءَ قد توجه به الخليلُ عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والتسليم إلى ربه؛ ففي الآية السابقة يقول ربنا تبارك وتعالى: ﴿قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ﴾ (سُورَةُ الْمُمْتَحَنَةِ: 4/60).
وليس بالإمكان فهمُ البعد والعمق الحقيقي للقرآن الكريم من خلال تأويلاتٍ سطحية بسيطة؛ ولذا سنعمل على تفصيل هذه المسألة بعض الشيء، وأن نعكس محتواها على مرآة إدراكنا، وكأن القرآن الكريم يقول: يمكنكم أن تجدوا القدوة كلها في حياة إبراهيم عليه السلام ومن معه من المؤمنين؛ في أقوالهم وأحوالهم وأفعالهم وتصرفاتهم؛ فكل منهم بمثابة قدوة مجسمة لكم.
وبعد أنْ أكّد الحقّ سبحانه وتعالى على الأفضلية العظمى لسيدنا إبراهيم عليه السلام وجّه الأنظار إلى الدعاء الذي كان يتضرَّعُ به الخليل عليه السلام بين يدي ربه سبحانه وتعالى، على اعتبار أنه من الأمور التي كان يقوم بها عليه السلام في حياته السنية، ومن الممكن الاقتداء به.
الفتنة كلمة واسعة المعنى
وفهم هذا الدعاء يعتمد على حسن فهمنا لكلمة “فتنة” الواردة فيه؛ ولذا لزامٌ علينا هنا الوقوف برهةً عند هذه الكلمة: “فتنة” أَصلها مأْخوذ مِنْ قَوْلِكَ “فتَنْتُ الْفِضَّةَ وَالذَّهَبَ” إِذا أَذبتهما بِالنَّارِ لِتُمَيِّزَ الرَّدِيءَ مِنَ الجيِّدِ، وتعني بمعناها العام: الِابْتِلَاءَ والامْتِحانَ وَالِاخْتِبَارَ[1]، ولكن الكلمة لها في التصوُّر الإسلامي مجالاتُ استخدامٍ واسعة مترتبةٌ على المعنى الحقيقي، مثل: إثارة الاضطراب والفوضى والفساد والهرج والمرج، والإيقاع بين الناس، كما أنها تُطلق على الرغبات البدنية والجسمانية، والمال والملك، والزوجة والأولاد، والصحة، والفتوة، والمقام والمنصب وغيرها من وسائل الابتلاء التي قد تؤدِّي بالإنسان إلى أن يخسر حياته الأخروية.
ويدخل في الفتن أيضًا؛ تعرّض المؤمنين لإيذاء واضطهاد وظلم الآخرين بسبب القيم التي يؤمنون بها، وإجبارهم بسبلٍ شتى على أشياء منافية للدين، ومقاضاتهم في المحاكم بسبب تديُّنهم، والزجّ بهم في غياهب السجون، ونفيهم خارجَ البلاد، وما ذكرناه هنا مستفادٌ من كلمة “فتنة” الواردة في الآية التي نحن بصددها.
والتعرّف على مفهوم كلمة “الامتحان” التي يُستعاض بها أحيانًا عن كلمة “الفتنة” يفيد كثيرًا في فهم معنى”الفتنة” و”الامتحان” من مَحَنَ الفِضَّة: إِذا صَفَّاها وخَلَّصَها بالنارِ[2]، وبالنظر إلى هذه المسألة نجد أن الذين يتحملون مسؤوليةَ غايةٍ ساميةٍ يتعرَّضون لأنواعٍ شتَّى من الفِتَنِ والمحن، أما الذين يحاربون الدين والأخلاق والفضائل فلا يريدون لهم أن يعيشوا حياةً كريمةً ترتبطُ بقيمهم الذاتية، ويجبرونهم على أن يعيشوا مثلهم مُعرِضين عن الطريق الذي يؤمنون به، ولقد تعرض الخليل إبراهيم عليه السلام ومن معه من المؤمنين إلى اضطهاد وظُلم الكفرة والفجرة ومضايقاتهم الشديدة كما حدث وألقوا بهم في النار وأخرجوهم من ديارهم، وكل هذا بسبب إخلاصهم وصدقهم وصلابة موقفهم على الحقّ، وإزاء هذا الموقف رفع إبراهيمُ عليه السلام يديه بالدعاء سائلًا ربَّه سبحانه وتعالى السلامة والخلاصَ من ظلم الظالمين قائلًا: ﴿رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ (سُورَةُ الْمُمْتَحَنَةِ: 5/60)؛ يعني: اللّهم لا تجعلنا شيئًا في أيديهم يُرمَى به في النار، أو يُوضَع بين المطرقة والسندان، وهذا الدعاء يُعَبِّرُ عن العجز والضعف في فِطْرَةِ الإنسان؛ لأن الامتحان جدُّ عسير، ولا طاقةَ للإنسانِ تؤهِّله لتحمُّلِ السَّحْقِ والطحنَ بين فكّي المطرقة والسندان، ولا لمكابدةِ النار!ومن ثمّ استعاذَ إبراهيم عليه السلام بفِرَاسَتِهِ العالية من مثل هذه البلايا والمصائب.
تجلي طريق الحق
وفي الواقع فإن البلايا والمصائب والفتن والمحن هي قَدَرُ كلِّ من يعمل في سبيل الحقّ سبحانه وتعالى، لأن أهلَ الضلالة والكفر يستهدفون الشخصَ على حسب جدِّيَّتِهِ وصلابَةِ موقِفِهِ أمام الله عزّ وجل، فلو كنتم بإيمانكم ودعوتكم ومنزلتكم تُشكِّلُون مصدر قلقٍ ومثارَ فزعٍ للطرف المقابل فسيأخذون بتلابيبكم ولا ينفكون عنكم.
وعندما سُئِلَ سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلَاءً؟، قال: اَلْأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ“[3]، ومن هذا الحديث الشريف يتَّضح أن الأنبياء هم أكثر الناس عرضةً لأقسى البلايا والمصائب وأشدِّها وما لا يطاق منها، ثم المؤمنين الآخرين حسب درجاتهم؛ ومن ثمّ فلا طاقة لنا على تحمل نفس الابتلاءات التي تعرَّض لها الأنبياء عليهم السلام.
فهمُ الامتحانات فهمًا صحيحًا
طلب سيدنا إبراهيم عليه السلام النجاة والسلامة من الفتنة، ثم طلب المغفرةَ من الله تعالى بعدها مباشرةً قائلًا: “وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا”؛ فعلى المؤمن إن استُهدف أو ابتُليَ أو افتتن لأنه يسير فحسب في طريق الحق أن يُفكِّرَ في أن هذه الابتلاءات قد تكون ناتجةً عن ذنوبه وخطاياه، ومن ثمَّ فإنه يطلب ولا بدّ أن يطلب العفوَ والمغفرةَ من الله جلَّ جلاله.
أجل، ينبغي للإنسان أن ينظر إلى ما يَحُلُّ به من البلايا والمصائب وفقًا لفلسفة سيدنا عمررضي الله عنه وبنفسِ منظارِه؛ فكما هو معلوم أنه رضي الله عنه نسب إلى نفسه سببَ القحط والجدب الذي حدث عام الرمادة، ووضع رأسَهُ على الأرض، وقال: “اللّهم لا تجعل هلاك أمة محمد على يدي!”؛ فهذا هو سلوك المؤمن الكامل، إذ ينبغي للإنسان إذا ما ضربت صاعقةٌ مكانًا ما، أو اجتاحَ سيلٌ أرضًا ما أن يقول: “تُرى هل حَدثَ هذا بسبب ذنوبي!”. أجل، حريٌّ بالمؤمنِ أن يرُدَّ ويعزوَ إلى نفسه كلَّ بلاء ومصيبة يتعرض لها، وأن يعتبر تلك البلايا في الوقت ذاته وسيلة لتكفير الذنوب.
ومن جانب آخر فإنَّ من الشرك أن يظنّ المؤمنون أن النعم التي منَّ الله تعالى عليهم بها إنما هي من عند أنفسهم، وأن ينسبوا بعض الجماليات التي وقعت على أيديهم إلى أنفسهم؛ فهذا الأمر قد يتسبَّبُ في حلول بعض المصائب بهم؛ لأن الحقَّ تعالى لا يرضى أبدًا أن يخالط الشركَ الخدماتُ التي تُنجَز في سبيله، وإنّ إثمَ مخالطةِ الشِّرْكِ الأعمالَ التي تتمُّ باسم التوحيد لا يُدانيه أيُّ إثمِ ذنبٍ مغلَّظٍ آخر ولا أيُّ سلوكٍ قبيحٍ أو مشين.
وحين نُعبِّرُبـ”الشرك”فلا ينبغي أن يتبادر إلى أذهاننا إشراكُ مجموعة من الأوثان والطواطم -الرموز المصنوعة من الحجر والخشب- مع الله، ولا عبادة اللات ومناة والعُزَّة؛ فهذا شِرك بيّن صُراح، فإلى جانب هذا هناك شركٌ خفيٌّ قال عنه سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديثه الشريف: “إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمُ الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ” قَالُوا: وَمَا الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: “الرِّيَاءُ“[4].
وقد حَذّر النبي صلى الله عليه وسلم من مثل هذا الشرك في الحديث النبوي الشريف: “أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا هَذَا الشِّرْكَ؛ فَإِنَّهُ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ“[5]، يعني أن الرياء خفيٌّ وخبيثٌ إلى درجة أن الإنسان لا يستطيع إدراكه في معظم الوقت، ولذلك فإن عباداته وطاعاته وخدماته في سبيل الحقِّ تتبخَّر وتذهبُ هباءً منثورًا.
إن مَن يسعون ويعملون في سبيل الله جلَّ جلاله؛ إن خالط الشركُ أعمالَهم فربّما يُسلط الحق تعالى عليهم أهلَ الضلال أحيانًا لِيَشُدَّ بذلك آذانهم على سبيل اللطفِ الجبريِّ، وحين نطالع رسائل النور نرى أن فضيلة الأستاذ بديع الزمان سعيد النورسي قد سردَكمًّا هائلًا من الأمثلة المتعلقة بهذا الموضوع سواء في موضوع “صفعات الشفقة” أو في الملاحق، علاوة على ذلك فلا بدّ من معرفة أن البلاء الذي ينزل أو يتعرض له الإنسان يتناسب مباشرةً مع حجم الجرم والذنب المُرتكب، وكما تكون الصفعات النازلة وفقًا لحجم الخطإ والذنب صفعة نقمة وعذاب فقد تكون صفعةَ الشفقةِ واللطف.
القدر من شأنه العدل
وعلى هذا فإن مخالطةَ الرغبات الأنانية النفسانيّة للخدمات المبذولة كالإعجاب بمقالة مكتوبة مثلًا أو انتظار التقدير والمديح على بناء معلومٌ مُشيّده قد تتسبَّبُ في تكرار الصفعة، كما أنها قد تعصف بكثير من الجهد والعرق والبذل والتعب، وعلاوة على ذلك كله فإن الله قد يُعرِّض المؤمنين لِلْفِتَنِ ويؤدِّبهم بالكفَّار، ومهما ظلمَ أهل الضلال فإن القدَرَ لا محالةَ عادلٌ، وإن التعرُّضَ لمثل هذه الأزمات كفارةٌ للذنوب، غير أنه لا بد من العلم يقينًا أن هناك شروطًا معينةً كي تكون هذه الفتن والابتلاءات كفارة للذنوب.
فإن عزا المؤمنون الأزمات التي يتعرضون لها إلى أخطائهم وأدركوا ذلك فتوجهوا إلى الله تعالى بالتوبة والاستغفار قائلين: “اللهم إنّي أستغفِرُكَ وأتوب إليك توبة نصوحًا” وتضرّعوا إليه تضرعًا حقيقيًّا وخالصًا؛ فقد يجعل الفتنةَ التي أَلَـمَّتْ بهم نافعةً لهم، ووسيلةً لمغفرة ذنوبهم.
وقد ذكر الأستاذ بديع الزمان سعيد النورسي أنه عرفَ السبب الحقيقي في قيام أهل الضلال وأهل الدنيا بظلمه وتعذيبه؛ وهو أنه استغلَّ خدمةَ القرآنِ والإيمانِ من أجلِ ترقِّيه وسموِّهِ مادِّيًّا ومعنويًّا[6]،(والواقع أنني لا أعلم شيئًا ولو بسيطًا يدُلُّ على أنَّه استغل خدمة القرآن والإيمان وسيلةً لترقيه ماديًّا ومعنويًّا، ولكنه يُقَيِّمُ المسألة على هذا النحو من زاوية أفقِهِ الخاصّ في المحاسبة) يعني أن الإنسان ينبغي له ألا يتشوَّفَ إلى أيِّ شيءٍ دنيويًّا كان أو أخرويًّا في مقابل ما قام به من خدمات في سبيل الله. أجل، ينبغي له ألا يتشوف إلى شيء دنيوي من قبيل التصفيق والتقدير، ولا إلى شيءٍ أخرويٍّ من قَبيلِ “لأنجزنَّ هذه الأعمال، ولأقطعنَّ مسافةً في السير والسلوك الروحاني، فأدخل الجنة، ولأنالنَّالفردوس”.
وإن حدث العكس فإن المعاناة والأزمات والمشاق التي يعانيها ربما لا تكفر الذنوب، فمثلًا إن قال إنسان تعرض للفتنة “إنني أسعى وأجتهد في سبيل الله، فماذا فعلت حتى تحُلَّ بي هذه المصائب والبلايا؟!”، ولم يرَ في نفسه عيبًا ونقصًا من جانب، وشكا من حاله من جانب آخر فإن الأزمات التي يعاينها سيظلُّ يعانيها دون أن تعود عليه بنفع، علاوة على أنَّ مثل هذا الشخص يقع -حفظنا الله- في ذنب ذمِّ القدر وعدم الرضا بالقضاء.
نسأل الله تعالى أن يقدر لنا الخدمة في سبيله حتى آخر لحظة ونفَس في عمرنا، وأن ينير حياتنا بوعي وشعور التوبة والاستغفار، وأن يقسم لنا الانتقال إلى الآخرة طاهرين أنقياء.
[1]ابن منظور:لسان العرب، 317/13.
[2]الزبيدي:تاج العروس، 153/36.
[3]سنن الترمذي، الزهد، 57؛ سنن ابن ماجه، الفتن، 23.
[4]مسند الإمام أحمد، 39/39؛ الطبراني:المعجم الكبير، 253/4.
[5]مسند الإمام أحمد، 384/32؛ ابن أبي شيبة:المصنف، 70/6.
[6]انظر: بديع الزمان سعيد النورسي: لاحقة أميرداغ-2، ص 336.
- تم الإنشاء في