ملاحظة حول البدعة

ملاحظة حول البدعة

سؤال: ما معنى البدعة؟ وما ماهيتها وإطارُها؟

الجواب: البدعة هي استحداث أمور جديدة في الدين، وإلحاق إضافات جديدة به بعد اكتماله على يد صاحب الشريعة الغراء صلى الله عليه وسلم، أو الإتيان بأفعال وتصرفات تخالف الأدلة الشرعية.

فمثلًا يقول سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم معلّمًا أمّته شروط الصلاة وأركانها تفصيلًا: “صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي[1]، وعلى ذلك فكل إضافة أو تغيير يطرأ على الصلاة فيما بعد يسمى بدعة.

ومن البدعة أيضًا أن يستحدث الإنسانُ بعضَ الأمور في الصوم بعد أن بيّن الكتاب والسنة كيفيته بالتفصيل؛ مثل التلاعب بأوقات الصوم أو الاقتصار على تناول بعض الأطعمة كما يفعل أتباع الديانات الأخرى.

يقول سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديثه الشريف: “إِنَّ خَيْرَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ، وَخَيْرُ الْهُدَى هُدَى مُحَمَّدٍ، وَشَرُّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ[2]، وعلى ذلك فالمبتدِع هو مَن خرج عن الإطار الذي حدده الدين الحنيف.

حيطة الصحابة

ونظرًا لهذا الخطر الجسيم تعامل الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين مع الأمر بحيطة وحذر كبيرين تجاه البدع، فمثلًا عندما دخل عبد الله بن عمر رضي الله عنه برفقة تلميذه “مجاهد” المسجدَ للصلاة فثوَّبَ المؤذّن -أي نادى بعد الإقامة ودعا الناس للصلاة مرة أخرى دون داعٍ- غادر ابن عمر المسجد على الفور دون أن يصلي فيه وقال لتلميذه مجاهد: “اخْرُجْ بِنَا مِنْ عِنْدِ هَذَا الْمُبْتَدِعِ”[3].

والواقع أنه ليس من اليسير الحكم بحرمة شيء كهذا، ولا سيما القول بضلالته، ولكن هؤلاء القوم كانوا يتعاملون بهذا الحذر الشديد حتى لا يلتبس في الدين ما ليس منه؛ لأنهم كانوا يرون أن الدين قد وصل إلى ذروة تمامه وكماله بالأحكام التي وضعها صاحب الشريعة صلوات ربي وسلامه عليه، ويوقنون بأنهم سيصلون إلى مرضاة الله تعالى بهذه الأحكام فحسب، دون الحاجة إلى أي شيء غيرها.

نستنبط من هذا أن الطريق الأحوط في العبادات هو عدم الخروج عن الأحكام الثابتة بالقرآن أو السنة سواء أكانت فعلية أو قولية أو تقريرية، وتجنب خلطها بأي شيء لم تأت به السنة قدر المستطاع، فمثلًا لا بأس أن يجلس الإنسان في مكان ما، ويقرأ سورة الإخلاص ألف مرة، أو سورة الفاتحة عددًا من المرات، أو يدعو ربه سبحانه وتعالى كيفما يشاء، أو يسبّحه بالقدر الذي يريد، فإن قراءةَ القرآن والدعاءَ والذكرَ من جملة العبادات والطاعات التي يؤجَر عليها المؤمن، أما أن يعبث الإنسان بصلاته، ويتلاعب بركوعها وسجودها وقيامها، ويضيف عليها ما ليس منها؛ كأن يأتي بأدعية خاصة أو آيات معينة لم تنصّ السنة على تلاوتها في هذه المواضع، بل ويرى ضرورة قراءتها في مثل هذه الأركان؛ فهذا كله من قبيل البدعة.

أركان الأذان

ولذا فليحذر الإنسانُ أن يأتي بأمور تخالف روح الدين وجوهره في العبادات والطاعات، فالبدعة ليست عبارة عن إحداث أمور جديدة في الدين فحسب، بل من البدعة أيضًا تبديلُ العبادات الموجودة، وصبُّها في قوالب مختلفة، وعلى سبيل المثال فلا يجوز التلاعب ولا التبديل أو الاستعاضة عن ألفاظ الأذان المعروفة التي تبدأ بـ”الله أكبر”، وتنتهي بـ”لا إله إلا الله”؛ لأن الأذان لم يُشرَّع إلا بعد أن رآه اثنان من الصحابة في الرؤيا، فتعلماه، ثم أخبرا به رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي استحسنه وأقره، فكان إقرار النبي صلى الله عليه وسلم تشريعًا له، وعليه لا يجوز تبديل هذا الحكم فيما بعد.

وهذا يعني أن تبديل ألفاظ الأذان يخرجه عن كونه أذانًا، فلا يجوز مثلًا استبدال ألفاظ الأذان العربية بالترجمة الموضوعة لها في أي لغة، ولو حدث لصار هذا بدعةً وتغييرَ حكم من أحكام الدين، فلا اعتبار للأذان بهذه الألفاظ المترجمة حتى لو كرّرها الإنسان خمسين مرة، ولقد ظهرت مثل هذه البدعة عندنا في فترة ما قديمًا، وعلى حد علمي لم تُمَس أركان الأذان في أي مكان بالعالم من عهد النبي صلى الله عليه وسلم حتى يومنا هذا إلا في تركيا.

ليس الأذان فقط، بل وحتى طُلب أيضًا أداء الصلاة مترجمة، إلا أن هذا الطلب قد أُلغي ولم يُعمل به بسبب معارضة العلماء له، ولو حدث وفُعّل هذا الطلب لكان بدعة أكبر، وخرجت الصلاة عن كونها صلاة، ولقد احتج البعض في هذه المسألة بفتوى للإمام أبي حنيفة رحمه الله، بيد أن هذه الفتوى كانت بشأن قراءة الفاتحة بالفارسية أو بلغة أخرى لفترة مؤقتة من أناس غير قادرين على قراءة العربية بشكل صحيح، فضلًا عن أن بقية الفقهاء العظام لم يوافقوا أبا حنيفة في رأيه هذا، بل إن مثل هذه الفتوى لم تشتهر حتى في المذهب الحنفي[4]، وعلى ذلك فلا يوجد مستند شرعي لجواز القراءة في الصلاة باللغات الأخرى؛ بحجة وجود مثل هذه الفتوى الخاصة بقراءة سورة الفاتحة فقط.

ولقد سُئل بديع الزمان سعيد النورسي رحمه الله فقيل له: “إن أهل الكشف قد قالوا بـحدوث بشارات وفتوح لأهل السنة والـجـماعة وتكشف عنهم الغمة في رمضان، ولكن لـم يظهر شيء من هذا القبيل، فكيف يـخبر أمثال هؤلاء من أهل الولاية والكشف عما هو خلاف الواقع؟! فأجابهم قائلًا: إن دخول البدع في الـجوامع في الشهر الـمبارك مع الأسف حجبت الاستـجابة والقبول، فلـم تفرج الكربة ولـم تكشف الغمة[5].

لم يبين بديع الزمان ماهية هذه البدع؛ لأن ذكرها في تلك الآونة كان جرمًا كبيرًا، والحال أن البدعة التي كان يقصدها الأستاذ النورسي هي رفع الأذان والإقامة باللغة التركية، وبسبب ذلك انقطع التوجه الإلهي، وهذا الرأي الذي قال به بديع الزمان يشير إلى مدى أهمية الحفاظ على الأركان والضوابط التي وضعها لنا الشارع الحكيم.

يقول ربنا تبارك وتعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ (سورة الْحِجْرِ: 15/9)، ومن ثَمّ فإن أهم جانب يقع على عاتق الناس في مسألة حفظ القرآن وبالتالي صيانة الدين هو تجنُّب البدع؛ لأن كل بدعة تعني المساس بجوهر الدين وأركانه، وتحريف جزء منه، والواقع أن التحريف في الأديان السماوية السابقة قد بدأ بمثل هذه البدع الصغيرة؛ حيث تم التلاعب بالكلمات، وأُبعِدت الألفاظ عن معانيها الأصلية، وكُسيت بمعانٍ أخرى مختلفة، ثم توالت التحريفات تلو التحريفات، والتغييرات عقب التغييرات، حتى ظهرت أمور جديدة بعيدة عن أصل الدين، وفي اللحظة التي تم التلاعب فيها بالكلام الإلهي وألفاظه ومعانيه انفتح المجال أمام التأويلات والتفسيرات التي توافق الرغبة والهوى.

وتُحاك على مدار التاريخ مثل هذه المؤامرات للنيل من القرآن أيضًا، ولكن في كل مرة يتمكن العلماء -بفضل من الله وعنايته- من استصال شأفتها والقضاء عليها؛ لأن الله قد تعهد بحفظ كتابه منذ نزوله على قلب حبيبه صلى الله عليه وسلم كما ورد بالآية القرآنية السابقة، فكان من المستحيل تحريف ولو حرف واحد فيه.

التواؤم مع الضوابط الأساسية

من جانب آخر فإذا كان من الخطإ استحداث إجراءات وتأويلات وأحكام تُفسد هوية الدين الأساسية، فمن الخطإ أيضًا بل ومن الإضرار بالدين إطلاق كلمة البدعة على كل شيء دون النظر إلى مدى ملاءمته لروح الدين وجوهره من عدمه، فمثلًا الدعاء من العبادات المهمة للغاية في الدين، قال عنه سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: “الدُّعَاءُ مُخُّ العِبَادَةِ[6]، فالدعاء هو عبادةٌ خالصة وتوجّهٌ إلى الله فوق الأسباب لأنه تعالى مسبب الأسباب، ولكن لا يوجد حكم قاطع بشأن لغة الدعاء، وزمانه، وكيفيته، وعدد مَرّاته، فللإنسان أن يدعو بما يشاء؛ بأي لغة أو طريقة، وفي أي وقت شاء، فليس أيٌّ من هذا بدعة، المهم هو ألا يسأل العبدُ شيئًا يخالف محكمات الدين، أو يتلفظ بألفاظ تخالف الضوابط الأساسية حينما يدعو الله جل وعلا.

فلا يشترط اقتباس الدعاء من آيات معينة أو مأثورات خاصة، لكن ما أجمل أن يدعو العبد ويتضرّع بالأدعية الواردة في القرآن الكريم أو السنة المطهرة، ويفضلها على أدعية نفسه؛ فلا جرم أن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أدرى منا -على اعتبار أنه عبد ونبي قد وصل إلى مدارج الكمال- بالأسلوب الأفضل والطريقة المثلى لعرض مطالبه على ربه جل وعلا، لقد كان الناس قديمًا يتوجهون إلى كُتاب العرائض إذا ما أرادوا رفع طلبٍ ما إلى المقامات الرسمية؛ لأن هؤلاء كانوا يعلمون آداب هذا الأمر وأصوله، وكيفية التعبير عن الغرض والمقصد، وما يتناسب من الكلام لعرض المسألة، وهكذا يمكن النظر إلى أدعية سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضًا.

لكن ليس من الصواب إلزام كل إنسان بهذا، لأن فيه تكليفًا للناس بما لا يطيقون، وتضييقًا لمجال العبادة، ولا حقّ لأحد في هذا، فللإنسان أن يدعو ربه كيفما يشاء، فلا تقييد ولا إكراه في هذه المسألة، وله أيضًا أن يعبّر عن مرامه ومقصده بالأسلوب الذي يرتاح إليه.

فثمة أدعيةٌ وأذكارٌ وصلواتٌ لم ترد عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عن الصحابة ولا عن السلف الصالح ولا عن الفقهاء العظام، إلا أن هذا لا يدعونا أن ننظر إليها على أنها بدعة، فمثلًا جاءت رواياتٌ عديدة في السنة الصحيحة بشأن أفضلية وثواب بعض السور مثل الفاتحة والإخلاص والمعوذتين، وعلى ذلك يجوز للإنسان أن يجلس في مكان ما، ويقرأ سورة الإخلاص مثلًا مائة مرة، أو أن يستخلص بعض المناجاة من الآيات القرآنية كما فعل العديد من رجال السلف الصالح، ولا يُقال على مثل هذه الأشياء بدعة بحجة أنها لم تكن موجودة في عصر السعادة والصحابة؛ لأن هذه أمور حضَّ عليها الدين في الأصل، إذًا فهي تُوافِق روح الدين ولا تعارضه، والمعيار الأساس في تحديد البدعة من غيرها هو مدى مواءمتها لضوابط الدين الأساسية من عدمه.


[1] صحيح البخاري، الأذان، 18؛ مسند إمام أحمد، 5/53.

[2] صحيح مسلم، الجمعة، 43؛ سنن النسائي، العيدين، 22؛ سنن ابن ماجه، المقدمة، 7.

[3] سنن الترمذي، الصلاة، 31.

[4] انظر: السرخسي: المبسوط، 1/37؛ أكمل الدين البابرتي: العناية شرح الهداية، 1/286.

[5] بديع الزمان سعيد النورسي: اللمعات، اللمعة السادسة عشرة، ص 142.

[6] سنن الترمذي، الدعوات، 1.

Pin It
  • تم الإنشاء في
جميع الحقوق محفوظة موقع فتح الله كولن © 2024.
fgulen.com، هو الموقع الرسمي للأستاذ فتح الله كولن.