معيار الاشتغال بوسائل الإعلام
سؤال: ما هي المعايير الرئيسة التي يجب مراعاتها عند الاشتغال بوسائل الإعلام وتتبّع الأحداث الراهنة؟
الجواب: على الإنسان أن يطّلع على مستجدات عصره حتى يتعرف جيدًا على العالم الذي يعيش فيه، ولا جرم أن أيسر الطرق العملية لتحقيق هذا الأمر هو متابعة مختلف وسائل الإعلام، والواقع أن هذه المؤسسات الإعلامية قد أضحت أكثر الوسائل السريعة والعملية للوصول إلى المعلومة في أي مجال، ناهيك عما تتيحه من فرصٍ للاطلاع على الأحداث الجارية، لا سيما وأن الإنسان في ظل الإنترنت يستطيع الحصول على المعلومات التي يحتاجها بيسر وسهولة، وإجراء دراساته وأبحاثه بشكل سريع.
وسائل الإعلام وبحور الخطايا
ولكن الأمر ليس بهذا القدر من البساطة؛ لأن وسائل الإعلام وإن كانت تتيح للناس الفرصة للاطلاع على التطورات الراهنة والوقوف عليها فإنها تفتح الباب لدخول العديد من السلبيات؛ فقد تأخذ الإنسانَ وتجرّه إلى المنكرات، وتغمسه في النجاسات، فمن الممكن أن تكون هذه الوسائل أنفاسًا وأصداءً للملائكة، وقد تكون مصيدةً للشياطين، وكما يصل الإنسان إلى بعض المعلومات النافعة من خلال هذه الوسائل فكذلك قد يُبحر بسببها في بحور الخطايا والعصيان، وبينما يعتقد الإنسان أنه في طريقه إلى الكعبة يُفاجأ بمنافذ وممرات تنحدر به إلى أودية مختلفة تمامًا.
بتعبيرٍ آخر فإن وسائل الإعلام لو استُخدمت بنيةِ التعرّفِ على ما يجري في الدولة والعالم، ومشاهدةِ البرامج الوثائقية، والتزودِ بمعلوماتٍ عن بعض الموضوعات، وإثراءِ الحياة العلمية والمعرفية؛ فحينها يمكن الاستفادة منها استفادة جمّة، ولكن كثيرًا من الناس يتعذر عليهم التحكم بأنفسهم، وبعد الإبحار في نهر النيل أو نهر دجلة يكتشفون أن لهما فروعًا أخرى، وحينذاك يقومون باختراقها واستكشافها، فما يكون من هذه الفروع إلا أن تأخذهم دون وعيٍ منهم إلى ساحات مختلفة؛ ولهذا يجب قطعًا مراعاة بعض الضوابط والمعايير في هذا الشأن.
أجل، إن الإنسان لو عكف على قراءة الجرائد، وأصبح لا يفارق الإنترنت؛ فقد يعيش تناقضًا مع نفسه من حيث القواعد الدينية؛ لأنه قد يُفاجأ بصورٍ مُخلّة على صفحات الجرائد أو مواقع الإنترنت؛ فيتكدر سمعه وبصره وفمه وقلبه، ويبتعد عن عالمه الخاصّ، ولا يستطيع الحفاظ على قيمه الذاتية، ويُقلع إلى بحار الخطايا والذنوب، وقد لا يقدر على العودة مرة أخرى، ومع الأسف بِتْنا نشاهد اليوم كيف اختلت الأساليب، وتكدّرت الأفكار، وغدا الناس غير متزنين، يتأرجحون بين الإفراط والتفريط، ولم يعد لديهم أيُّ معيارٍ يحتكمون إليه، وعلى ذلك فإن السبيل إلى تجنب هذه الأمور هو تحديد المساحة التي يتجول فيها منذ البداية والالتزام ببعض المعايير المحددة.
ورغم المنافع الجمة التي يجنيها الناس من وراء الإنترنت ووسائل الإعلام فلطالما تكلم المختصون عن الأضرار الجسيمة التي تسببها هذه الوسائل في أيامنا؛ فقد تسبب يُسر الوصول إلى الإنترنت، واستخدام غالبية الناس له إلى ظهور العديد من المساوئ والمفاسد، فمثلًا بات الكثيرون يهدرون أثمن أوقاتهم أمامه، وتزلزلت العديد من الكيانات الأسرية بسببه، وانتُهكت حياة الناس الخاصة تحت مُسمّى أخبار النجوم، وانحطت الأخلاق، وشُوِّه المجتمع، وطبيعي أن تظهَر مثل هذه الأضرار في بيئةٍ بات الوصول فيها إلى المنكرات سهلًا ميسورًا، فكما تأمر النفسُ الأمارةُ الإنسانَ بالسوء دائمًا فإن الشيطان أيضًا يدعو إلى الأغراض النفسية والعبثية على الدوام.
فمن الصعوبة بمكانٍ على الإنسان الذي يستخدم التلفاز أو الإنترنت أن يتحكم في إرادته، وأن يعرف النقطة التي يتوقف عندها، وأن يستغلّ هذه الوسائل في الاتجاه النافع فقط، فيا ليتنا نُجمِعُ على “ميثاق شرفٍ” يصون المجتمع، ونَضَعُ بعضَ المعايير الخاصة باستخدام وسائل الإعلام، وتُفرَض عند اللزوم بعض القيود فيما يتعلق بهذه المسألة، أو تُغلَق السبل التي تتسبّبُ في سوقِ الناس إلى الموبقات وتشويهِ المجتمع وتآكلِ الأسر.. ويا ليته يُحظَر الدخول إلى المواقع أو القنوات التي تدفع الناس إلى الخطايا. أجل، ثمة حاجة ماسّة إلى فرض بعض القيود والضوابط حول هذا الأمر، لا سيما في هذا العصر الذي تيسر فيه الوصول إلى كل شيء، وبات الإنترنت فيه هو الشغل الشاغل للجميع صغيرهم وكبيرهم، كما أننا بحاجة مُلحّة أيضًا إلى أشخاصٍ يضعون حدًّا لهذا التخريب والإفساد، وكما أن مثل هذا التدبير يفوق استطاعتنا فأعتقد أنه قد يتجاوز حتى قدرة الدولة، فيا ليت هذه القضايا تُعالج على الصعيد الدولي، وتُقدَّم بعض التدابير حول هذا الأمر.
وسائل الإعلام وتشتت الأذهان
من جانب آخر فإن تعقُّبَ الأحداث الراهنة، والوقوفَ على كل حادثة بتفاصيلها، ومعرفة خلفيّاتها؛ ليس مسعًى يضطر إليه الجميع؛ لأنه لا فائدة ألبتة تعود على حياة الإنسان الفردية والأسرية والمجتمعية والدينية من معظم هذه الأشياء.. وَدَعْكَ من الفائدة التي لا تعود؛ فإن هذه الوسائل تجرّ الناس إلى بحار الخطايا والذنوب، فمثلًا قد تعوّدهم على الثرثرة وإطلاق الشائعات، وتُلجئهم إلى ادعاء المعرفة؛ بمعنى أنهم يتكلمون أو يفترون أمام الناس حتى يظهروا بمظهر العلماء وذوي الخبرة الواسعة؛ أي إنهم يُبرزون أنفسهم، ويسوِّقونها عن طريق هذه الوسائل الإعلامية.
فضلًا عن ذلك فإن الناس عندما يستغرقون كثيرًا في الاطّلاع على الأحداث الجارية فإنهم يُهملون الأعمال التي من المفترض القيام بها، ويبتعدون عنها؛ ومن المسلَّم به أن لدى الناس قدرة استيعابية معينة، فلو أنكم شحنتم أذهانكم التي تتمتع بهذه القدرة الاستيعابية بالكثير من المعلومات الخانقة التي لا فائدة منها، وقصرتموها على هذه الحوادث الجارية فقط؛ فإنكم بذلك تضيِّقون على الذهن وتمنعونه من القيام بوظيفته في الساحات والأعمال النافعة التي لا بدّ منها، وتحرمونه من المعلومات المفيدة التي يجب معرفتها، وتهدرون هذه القوة الاستيعابية المحدودة في مثل هذه المسارات، ولا تجدون فرصة مواتية للقيام بالخدمات التي يجب القيام بها في الأصل.
ولأضرب لكم مثالًا من المجال الذي أعرفه: فمثلًا يتمتع الطلبةُ الذين يحفظون القرآن بقدرة محددة يستطيعون بفضلها حفظ قدر معين كل يوم، فلو أنكم حاولتم أن تجعلوا أحدَهم يحفظ مثلًا عشرين صفحة في حين أن قدرته على الحفظ لا تتجاوز خمس صفحات يوميًّا فسترهقونه وتُتْعِبونه وتجعلونه غير قادر على حفظ الخمس صفحات المعتادة التي يجب عليه حفظها.
ولذا يجب على الإنسان أن يكون على وعي بقدرته، وأن يستغلّها في مكانها الصحيح، وأن يبني تعامله مع وسائل الإعلام على ضوابط وأنظمة محددة، وأن يتجاهل بعض الأشياء وإن كان يُبصرها أو يدري بها؛ حتى لا يتشتت ذهنه؛ لأنه من الصعب على الأذهان التي جُرِحت وتأذَّتْ بشيءٍ من الأحداث الصادمة أو السلبية أن تكون مثمرة ومنتجة أو أن تقوم ببعض الأمور النافعة، ومن ثم يجب علينا ألا نلتفت أو ننشغلَ بما لا يمثِّل أهمية أو فائدة بالنسبة لنا.
فضلًا عن ذلك لا يقتصر الأمر على سريان المعلومات المتعلقة بالأحداث الراهنة إلى قشرة الدماغ وإشغالها لهذا المكان، بل تأخذكم وتتجول معكم في أودية مختلفة، وتُذهب نومكم، وتُشغل نهاركم، بل وتقلِب أحيانًا عالمَكم الحسّي والشعوري والقلبي رأسًا على عقب، فإذا اجتمعتم بأصدقائكم انشغلتم بتفسير وتحليل الظواهر التي ترونها أو تقرؤون عنها بدلًا من مدارسة الكتب النافعة، بل وتسرقون وقت الآخرين بحديثكم عن الأمور التي لا لزوم لها.
وكما أنَّ بِنيةَ الإنسانِ المادية تضمّ جهازًا مناعيًّا يشكِّل درعًا وستارًا للحماية من هجوم الجراثيم على الجسم فكذلك بنيتُه الروحية تضمّ جهازًا معنويًّا يوافق طبيعتها، ويحمي الإنسانَ من الضغط والتشوه والانهيار أمام الأحداث السلبية المؤذية الخانقة التي تفسد الأمزجة، ولكن لهذا أيضًا حدٌّ معين، فمهما حاول الشاغلون أنفسهم دومًا بالأخبار السلبية لوسائل الإعلام أن يستمرّوا واقفين في ثبات وشموخ فإنهم لن يستطيعوا ذلك، ولا يُتَصوَّرُ ثباتُهم وشموخهم دون الوقوع في اليأس وفساد الأمزجة، وأسوق مثالًا على ذلك؛ فلو أن الحرب قامت على قدميها، وأصبحت القذائف والقنابل تنفجر في كل مكانٍ حولكم، وأحيط بكم من كل ناحية وكنتم في وسط الميدان، فهل يمكنكم حينها أن تقولوا: “لن يصيبنا ضررٌ من هذا، علينا أن ننشغل بأعمالنا فقط”؟، أو أن تتبرؤوا من كل هذا قائلين: “قلْ كلٌّ يعمل على شاكلته، وهؤلاء بأكاذيبهم وافتراءاتهم وتشويهاتهم يعملون على شاكلتهم”؟ كلا، لا يمكن ذلك أبدًا؛ لأن جهاز مناعتكم الروحي سينهار بعد فترة، وتتدمّرون روحيًّا، ولا يُتصوَّر من روحٍ انهار أو عُطِبَ جهازُها المناعي أن تنجح في أعمالها، أو أن تقوم بخدماتٍ معتبرة، ولذلك علينا أن نراجع أنفسنا في كلِّ هذه الأمور مرة أخرى.
نعم، صحيح أن وسائل الإعلام أصبحت مهمة للغاية في عصرنا، وأنها تعنينا في كثير من النواحي، ونظرًا لأن الجميع لا يمكنهم القيام بالأعمال اللازمة بشأن وسائل الإعلام، فإن كثرة انشغال من ليس هذا عملهم بالأمر ومحاولتَهم معرفة كل الأخبار المتعلقة بوسائل الإعلام حتى أدق تفاصيلها سوف يُشتتهم ويوقعهم في الفُرقة، لذا فمن الضروري تطبيقُ مبدإ تقسيم الأعمال الذي تحدث عنه الأستاذ بديع الزمان، وتركُ الأعمال التي يتعين القيام بها في هذا المجال لخبراء المجال نفسه، وبالطبع فمَنْ يتعين عليهم بحسب موقعهم معرفةُ ما يحدث في البلاد وفي العالم على حد سواء، وتحديدُ بعض الإستراتيجيات وفقًا لذلك سيكونون على دراية بهذه الشؤون إلى حد ما عبر تلك الوسائل، ولكنه ليس صحيحًا بالنسبة للجميع أن يُصِرُّوا على متابعة وسائل الإعلام عن كثب وإضاعة ساعاتهم في مواقع التواصل الاجتماعي وعلى شبكة الإنترنت.
وسائل الإعلام وتضييع الوقت
ومما لا شك فيه أن تضييع الوقت أحدُ أعظم أضرار الانشغال بالقضايا اليومية وبوسائل الإعلام في عصرنا؛ لأنه مع زيادة عدد الصحف وأجهزة التلفزيون، وانتشار مواقع الإنترنت وتطوير وسائل التواصل الاجتماعي بدأت تُبَثُّ أشياء كثيرة تجذب الإنسان إليها، أما تتبع الأخبار والتعليقات والمقالات وما إلى ذلك فإنه يسلُب الناس جزءًا مهمًّا من وقتهم لدرجة أن البعض منهم -على سبيل المثال- يُهملون صلواتهم أو يؤدّونها بسرعةٍ كيفما اتفق، ولا يستطيعون تخصيص وقتٍ كافٍ للدعاء وللأوراد والأذكار، ولا يقومون بأعمالهم المكلفين بها كما يجب، وهكذا يغلقون -عن غير قصد- أبوابَهم ونوافذهم أمام الواردات التي تأتيهم من الله سبحانه وتعالى.
إن علاقة الإنسان بربّه يجب أن تكون قوية بقدر سعة مجال خدمته، ومثل هذا الشخص ينبغي له أن يُولي مزيدًا من الاهتمام لعباداته وأدعيته وغذائه الروحي، ربما حين يؤدّي شخصٌ عادي ما عليه من فروض ويتجنب كبائر الذنوب يكون قد أدى عبوديته لله تعالى، بيد أنّ مَنْ يحظون بمجموعة خاصة من نِعم الله تعالى مُلزَمون بالتوجّه إلى الله عز وجل بقدر تلك النعم، بمعنى أنه يجب على الجميع أن يؤدي عبوديته وفقًا للمكانة التي أنزله الله تعالى بها ولذلك يتحتّم على مَن اختصّه الله ورفعَه وأنعَمَ عليه بِنِعَمٍ خاصة -إذا ما أدّى الفروضَ فحسب- ألّا يعتقد أنه بذلك قد أدّى واجباته كأي شخص في القاعدة؛ إذ يجب أن يكون متعمقًا أكثر في حياته التعبدية بقدر المعارف التي يمتلكها والنعمِ التي حظي بها، ويمكنكم أن تُطلقوا على هذا “الالتزام الذاتي”.
إلا أن الأحداث الراهنة قد زجَّت بالناس داخل أسوارها الخاصة لدرجة أن القضايا المهمة التي يلزم الانشغال بها أساسًا باتت تؤدّى من باب الطرح عن العاتق وكَفّ العَتَبِ، إننا نبخل في تخصيص زمن لله ربنا ندعوه فيه ونتضرّع ونتوجه ونبتهل ونتوسل إليه، ولكننا على الجانب الآخر ننفق وقتَنا بسخاءٍ حين نمسك الهاتف، أو نجلس أمام الحاسوب أو نلتقي مع الأصدقاء للحديث عن القضايا الراهنة، وتضيعُ ساعاتنا وتنقضي في اللَّهْوِ، ولسوء الحظ فإننا لا نرى مدى الإهدار الرهيب لوقتنا.
وعليه يجب علينا عندما نجتمع ألا نقتل وقتنا بالأحداث الراهنة، يلزم أن نتحدث دائمًا عن الحبيب سبحانه وتعالى، وأن نتدارس حوله باستمرار، بل وحتى حين نجتمع بنيّة التشاور ومناقشة بعض القضايا يلزمُنا أن نُكرِّس معظم أوقاتنا للحديث عن الله سبحانه وتعالى، والانشغال بمذاكرة عبوديّتنا، لدرجة ننسى معها موضوعاتنا الخدمية وأمورنا العادية، يجب علينا أن نحاسب أنفسنا بالمدارسات الدائمة، ونراجع صدقنا ونحاول التخلص من الغفلة.
وإلا فأيًّا كان الموضوع الذي اجتمعتم لمناقشته فإنكم لو ظللتم تتحدثون لساعات حول موضوعٍ ما، ثم نهضتم وتوليتم دون أن تفعلوا شيئًا في سبيل التوجه إلى الحق تعالى، وتجديد إيمانكم به مرة أخرى، والتعرف عليه بشكل أفضل؛ فإنه يستحيل أن تجدوا بركة لما تقومون به من أعمال، لا سيّما إذا ما تخلَّلَ مجلسكم شيءٌ من الغيبة والنميمة.. وحتى لو اعتقدتم أنكم توصلتم إلى نتائج مهمة من الناحية العقلية والمنطقية فإنني أقسم لكم أنكم لن تنالوا بركة أعمالكم بتاتًا ما لم يكن مدارُكم وهدفكم الحقيقي هو التقرّب الدائم إلى الله سبحانه وتعالى.
الخلاصة يجب ألا نضيّع اجتماعاتنا ولقاءاتنا، ليس فقط في مناقشة بعض القضايا الجديدة المتعلقة بالوضع الراهن، بل ولا حتى في التشاور حول المسائل المتعلقة بالخدمة، إن كنا نعتزم إنشاء مدرسةٍ، أو التخطيطَ لإنشاء صحيفة فعلينا أن نناقش ذلك بسرعة، وألا ننشغلَ إلا بالقضايا الرئيسة التي تحتاج إلى التعمّق حولها والتركيز عليها؛ لأن ديننا وعلاقتنا بالله ربنا مقدَّمةٌ على كل شيء، ويستحيل أن نستبدل العلاقة مع الله لا بالدنيا ومتاعها ولا حتى بالآخرة، وإننا في هذه الأمور كلها نحتاج لأن نراجع أنفسنا مرة أخرى، ونؤدبها ثانية.
الأضرار الأخرى لوسائل الإعلام
ما من إنسانٍ اليوم إلا وينشغل بالإنترنت ووسائل الإعلام، بل إن أولئك الذين يضنّون بأنفسهم عن الاشتغال به كثيرًا؛ ينشغلون به أثناء تناولهم الطعام وشربهم الشاي على الأقل، ولا سيما أن هناك فئة وصلت إلى درجة “إدمان” وسائل الإعلام، ومن مظاهر التدمير الخطيرة للإنترنت الذي دخل حياتنا بهذا القدر أنه بدأ يأخذُ مكان ومكانة “الكتاب”، ويعمل كأداة معرفية، فعلى الرغم من أنه يسهل الوصول إلى المعلومات ويسرّع ذلك، إلا أنه تسبب في بعض السلبيات بالنسبة لعالمنا الفكري وأنشطتنا العقلية والذهنية، ويمكنكم تفصيل الحديث عن هذه الخسائر بدءًا من قطعه السبيل أمام المحاكمة العقلية والتفكير العميق وصولًا إلى مجموعة من الاضطرابات العقلية والخَرَفِ المبكر.
وأبسط مثال على ذلك أن الناس يعتقدون أنهم يستطيعون الوصول بسهولة إلى المعلومات، ومن ثمَّ لا يحفظون أي شيء في ذاكرتهم؛ فتُصاب الذاكرة بالتبلّد والكسل، ومن ثم فإن مَنْ يتعامل مباشرة مع هذا النوع من المعلومات يعتاد على الاسترخاء والراحة مع مرور الزمان، فيُصابُ بالكسل الذهني.
من ناحية أخرى، فوفقًا للنتائج التي توصل إليها الخبراء، فإن هذه الوسائل تسبب الإدمان للبشر وتضر بمجالاتها المغناطيسية، وبالإضافة إلى ذلك، فإن الإنسان حين يستخدم أجهزة الوسائل الإعلامية يبتعد باستمرار عن الطبيعة ويغوص في العوالم الافتراضية منفصلًا عن الحياة الحقيقية، بينما الله تعالى خلق الإنسان في الطبيعة، مُحاطًا بالأسباب، وعندما تُبعدونه عن الطبيعة والأسباب فإنكم تدفعونه إلى طريق يتعارض مع الفطرة، والحقيقةُ أن أساسَ العديدِ من المشاكلِ المادية والروحية والدمارِ الذي نعانيه هو ابتعادُنا عن الطبيعة.
ومن الأسباب المهمة لتعاملنا بهذا القدر من الحساسية في هذه القضية هو السلبية المقترنة بوسائل الإعلام اليوم؛ فحين تضع أمامَنا هذا العدد الكبير من البرامج المشتِّتة للأذهان، وتنثر أمامنا أحلك الأشياء وأبشعها وأكثرها تعقيدًا، ثم لا تقدم لنا معلومات تدلّنا على طريق النجاة، وتعلّمنا كيفية التخلص من هذه المحن يجب علينا أن نتحرّك بحيطةٍ وحذَرٍ في هذا الصدد، والمؤسف أن البعض في هذه الأيام يشوّه الأحداث دائمًا لتكوين رأي عام معين، ودائمًا ما يظهرون الحقائق للناس خلافًا للواقع، ويُخفون عنهم خلفية القضايا وملابساتها، وعليه نتعلم الأحداث التي تقع بشكل مختلف عن ماهيتها الحقيقية دائمًا فنضطرب، ولو كانت هناك منظمات إعلامية تحافظ على ضوابط النشر وأخلاقيات الصحافة، تَبُثُّ وتنشر دون تضليل، ولا تشتيت ولا إفساد؛ لانْحسرَ الضررُ الذي تُسبِّبه وسائل الإعلام إلى أقلّ الدرجات.
من المؤسف أن وسائل الإعلام اليوم تتجاهل المعايير الأخلاقية، ولا تلتزم بالأخلاقيات الإعلامية، وقد تحولت إلى أداة دعائية أكثر من كونها وسيلة إعلام توعويّة للشعب، وهي تتلاعب بكرامة الناس وشرفهم من أجل المصالح السياسية، وتعلّق كل شيء على الأسباب المادية، لذلك فإن كثرة الانشغال بوسائل الإعلام تبدأ بعد مدة في التأثير علينا سلبيًّا؛ فنخسر الأرضية التي نقف عليها، ونتحرك وفق أرضية الآخرين ورؤيتهم وتقييمهم للأحداث، ونبدأ -دون أن ندرك- في التصرف وفقًا لضروريات هذه الأرضية الزلقة التي كوّنها أهل الدنيا وفقًا لمصالحهم الخاصة، وإذا ما أردنا حلًّا لمشكلاتنا فقد ننحرف -دون قصد منّا- إلى مجموعة من الطرق الخاطئة التي يستخدمونها لأنفسهم، ونتوهم أنه لا يمكننا الوصول إلى النتائج إلا من خلال هذه الطرق، لذلك من الضروري مراعاة هذه الجوانب من القضية فيما يخص الانشغال بوسائل الإعلام، وكذلك التصرّف بحذر ودقّة حتى لا يحدث تعوُّدٌ على الأخطاء الحالية وبالتالي تبنِّيها.
- تم الإنشاء في