مسؤوليات رجال الخدمة
قد نشكو حالنا أحيانًا لأننا وُلِدنا في زمن تتراكم فيه المشكلات بعضها فوق بعض، ونبحث عن الخير والكمال كأحد متطلبات الطبيعة البشرية، ونشتاق إلى الأيام الجميلة الخالية التي كانت في الماضي، فنقول “ليتنا جئنا قبل ذلك!”، وقد تأخذنا مشاعرنا للرغبة بالعيش في زمن الصحابة أو التابعين، وأحيانًا أخرى نتنقل بين صفحات التاريخ المجيدة، ونقول كما قال محمد عاكف وهو يكتنفه شعور الحزن:
لو أنني أدركت عصر الورد لكنت عندليبه
ماذا لو أنك جئت بي قبل ذلك؟ رباه!
وأعتقد أن مثل هذه المشاعر والأفكار تجيش بها صدورُ معظمِنا.
على المرء ألا يفرّ من المشكلات التي يمر بها، وإنما عليه العمل على مواجهتها وحلها؛ فهناك أعمال كثيرة يجب أن يقوم بها الإنسان الذي خلقه الله تعالى “خليفة” له في الأرض واستعمله لإعمارها؛ وقد يرفع الله تعالى مَنْ يتعهدون بهذه الأعمال ويقومون بها إلى مقام الصحابة، وبالتالي فإن الواجب علينا هو أن نقول هكذا: “يا إلهي، لا أعرف لو عشتُ في عصر الورد مَن سأكون، أنا سعيد لأنك أوجدتني في هذا العصر، لك الشكر يا ربّ!”.
بالطبع إن كل مؤمن يبحث عن بيئة ملائمة يتمكن فيها من ممارسة القيم التي يؤمن بها بشكل مريح، إننا مثل كثير من الناس نحلم ببيئة ديمقراطية تسودها حرية الفكر والاعتقاد، ويعيش الجميع فيها كما يؤمنون، ويستطيعون بسهولة تمثيلَ القيم التي يؤمنون بها، والتعبيرَ بحرّية عن آرائهم وأفكارهم، لا شك أن العيش في بيئة كهذه يتبنى المجتمع فيها ثقافة الديمقراطية المتطورة ستقدم للناس أشياء كثيرة. لكنني على قناعة بأن تعميرَ حصن تهالكت بعض أجزائه منذ قرون، وترميمَ القيم المدمرة والمحطمة، وإعادة الناس إلى الاستقامة إنما يتمّ عبر إزالة ما في المشاعر والأفكار من انحرافات، وإعادةِ الفضائل المفقودة إلى المجتمع… والخلاصة فإن التجرّد لعمليّة الانبعاث من جديد واجبٌ فوق الواجبات وهو أكثر أهمية وفائدة.
وبالنظر إلى حجم الواجبات التي تترتب علينا اليوم ومدى أهميتها يترتب علينا أن نقول: “لِحُسن الحظ أن الله تعالى أوجَدَنا في هذا العصر!”، لأن هذا يعني تمثيلًا لوظيفةٍ تركها الأنبياء أمانة لنا ولو كان ذلك على مستوى الظلية بطول موجة تجلٍّ مختلفة تخصُّ هذا العصر، ولا شك أنه يبشرنا بأمور في غاية التميّز حين يعبر عن مظهرية مختلفة للغاية، ولا يمكن ولا ينبغي الاستخفاف بمثل هذه المظهرية والفضيلة التي قد ترقى بالإنسان إلى أوج الكمالات.
ومن ثمَّ فعلينا بدايةً أن نعرف في أي موضع نحن نقف، وما نوعُ المسؤوليات المنوطة بنا، ثم نبذل قصارى جهدنا للوفاء بحق موقعنا.. فإن تحرّكْنا على هذا المنوال فإننا نسير في طريق جيد، ويمكن للإنسان أن ينطلق وينفتح على الخلود من خلال طريق كهذا بحسب قدراته وإخلاصه.
عمق النية
نقطة أخرى يلزم الانتباه إليها في هذا الشأن، ألا وهي أن تتم جميع الأنشطة والفعاليات بصدق وإخلاص وأن تُربط تمامًا برضا الله سبحانه وتعالى، ومن ثم ستحظى الأعمال التي يتم القيام بها على هذا النحو ببركة مختلفة، وسيحصل فاعلوها على مكافآت كبيرة؛ فالإخلاصُ لا يتعلّق بالصلاة أو الزكاة أو الصوم أو الحج فقط، على العكس من ذلك، يجب ربطُ كلِّ عملٍ يتمّ القيام به برضا الله تعالى، فالإنسان بوسعه أن يجعل غايةَ حياته العملَ من أجل الله، والبدء من أجل الله، والحديثَ من أجل الله، والنومَ من أجل الله، والنهوضَ من أجل الله، والتبسّمَ من أجل الله… إلخ. يمكن استهداف رضا الله تعالى دائمًا؛ عند إزالة حجر من الطريق قد يضر بالناس، وعند مدِّ يدِ العون للمحتاجين، وتسوية الخلافات بين الناس، وجمعِهم حول نقاط الالتقاء والاتفاق وما شابه ذلك، عندئذ سيكون مردود كل هذه الأعمال مختلفًا للغاية في الآخرة.
وزيادةً في التوضيح فإن علاج إنسان واحد أحيانًا، ومداواته وتسكين آلامه وأوجاعه، والظفرَ بدعائه قد يرفع المؤمن إلى مستوى الولاية بحسب مدى إخلاصه وصدقه، لذا لكم أن تحسبوا أنتم كم أن علاجَ السرطانات التي انتشرت في المجتمع وتطويرَ مشاريع لمنع النزاعات والصراعات على مستوى الإنسانية وربطَ ذلك بطلبِ رضا الله يمثّل عبادة شمولية كلية!
إن رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم ذو رسالة عالمية، أي إنه أُرسل إلى الإنسانية جمعاء، وواجبُنا نحن باعتبارنا أمته عليه الصلاة والسلام هو أن نتطلّع لتمثيل هذه النبوة العالمية، فإذا كنا نطمح إلى ذلك ونعيش دائمًا بهذه النية والعزم، ونُعلي دائمًا من همتنا فإن جزاءَنا وثوابنا سيكونان وفقًا لذلك؛ لأن الناس يكافَؤُون حسب نياتهم ومثابرتهم وجهودهم؛ وليس بحسب نجاحهم وما حققوه من نتائج! لماذا نقع في تشوّف أمام الله في الإطار الضيق للأعمال التي قمنا بها؟ لماذا لا نبحر في فضاء النية؟ إذا كانت الأفعال مبنية على النيات وسيجازي الله الناس على نواياهم، أليس واجبنا هو الاهتمام بالاستفادة من هذا الكم الهائل من النيات والعزائم؟!
يجب إعلاء الهمم والعزائم دائمًا، وينبغي -مثلًا- استهداف الوصول إلى كل البشرية قاطبة في المنطقة الممتدة من القطب الشمالي إلى القطب الجنوبي، ومن أمريكا إلى جرينلاند، وجمع هؤلاء كلهم حول نقاط الاتفاق المشتركة المعينة، وتحقيق التفاهم والتواؤم بينهم، يجب علينا السعي إلى ألا نترك مكانًا في العالم إلا وتصله أطياف مشاعرنا وفكرنا، فإن إعلاءَ الأهداف والـمُـثُلِ ورفعتَها هو أحد جوانب عمق النية والعزيمة، وقد يثيب الله تعالى من يعيش مشغولًا بهذه النوعية من المشاعر والأفكار كما لو أنه حقق غاياته المثالية تلك.
الارتباط بالحقائق
يجب ألا يؤدّي إعلاء المُثُل والأهداف إلى الانفصال عن الواقع، بل يجب الانتباه إلى أن يتم تناول جميع الأهداف في إطارٍ قابلٍ للتحقيق، وعند تحديد الأهداف لا بد من وضع الزمان والمكان والإمكانيات في الحسبان، ويجب أن تُحدَّدَ بشكل صحيح الخطواتُ التي سيتمّ اتخاذُها، وتُربطَ بفصولٍ ومراحلَ معينة، فإن كان يلزم إحالة جزء من المسألة إلى الأجيال القادمة وتركها أمانة لهم فلا يجب التعجل في الأمر إذًا.
الخلاصة أنه إلى جانب عُمقِ النية وسموّ الأهداف تبقى مراعاة الواقع أمرًا مهمًّا للغاية، كما يجب أن تؤخذ في الاعتبار ظروفُ العصر، والفرصُ والموارِد البشريّة المتوفرة، والصعوبات والمشاق التي في الطريق، والعقبات التي قد تنتج عن الأرواح المعادية المنغلقة على العداء.. وبمعنى آخر، يجب تقييم قوة الأقطاب الإيجابية والأقطاب السلبية معًا، وعدم تجاهل عداوة الجبهات المعادية إلى جانب الكوادر الحالية، فإن بادرتم بفعل بعض الاعتبارات الخيالية مثل إيصال البشرية جمعاء إلى شاطئ السلامة في نفس واحد، والإطاحة بالقياصرة والأكاسرة في ضربة واحدة وقعتم حينئذٍ في اليأس بعد فترة، وشعرتم بانكسار وانكسار؛ فهذه الأمور تتعارض مع الحقائق الإنسانية والاجتماعية، ولم تحدث مثل هذه الأحداث والتطوّرات غير العادية من قبل.
والواقع أن محمد عاكف يقول في أحد المواضع:
أنقذَ ذلك المعصومُ البشرية في نفحة
وطرح الأكاسرة والقياصرة في حملةٍ
وبُعثت كل حقوق الضعيف المهضومة
وكان الظلم لا يخطر بباله زوالٌ فقُبِر وغار
إلا أنه بالنظر إلى الحياة السنية لمفخرة الإنسانية صلى الله عليه وسلم يتضح أن خلاصَ الإنسانية لم يتحقّق في نفَسٍ واحد، ولا في حملةٍ واحدة، ويظهر أن هذه هي ثمرة حياة دامت ثلاثة وعشرين عامًا منسوجة بالألم والمعاناة، ثم إن الأمر لا ينتهي عند سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فبعد أن انتقل إلى أفق روحه وقعت إحدى عشرة حادثة ردة، واستمرّ الصراع والفتنة في الفترات اللاحقة أيضًا، ولولا وجود سادتنا أبي بكر وعمر وعثمان وعليٍّ رضي الله عنهم -وذلك في إطار دائرة الأسباب- ربما ما استطاعت هذه الأمانة أن تصل إلى حيث وصلَت؛ فقد أخمدوا حوادث الردة، وقوّموا العديد من القبائل المتمردة، وأزالوا الأخطار، وجعلوا الإنسانية يعانق بعضها بعضًا، وإن كان ذلك مؤقتًا وفي منطقة محدودة.
أجل، إن تحقُّقَ النتائج مرهونٌ بزمن معين، وليس من الممكن تحقيقها بصورة أسرع، وإنها لحقيقة أن الإمكانيات التكنولوجية قد تطورت كثيرًا اليوم، ويمكن الحصول على أشياء كثيرة بشكل أسرع وأسهل عبر تحقيق أقصى استفادة منها، ومع ذلك فإنه مهما تكن الإمكانيات التي تحشدونها، فلا يمكنكم أن تحقّقوا التأثير الذي حقّقه نبيُّنا بقوّته القدسية وبما حظي به من إلهامات ومعاملة خاصّة، ومن هذه الزاوية فإنه يلزم أن نكون واقعيين وعقلانيين للغاية في الطريق الذي نسلكه في سبيل تحقّق الغاية المثالية.
غايتنا المثالية الفريدة
هناك الكثير من الناس في عصرنا بنوا كل مسائلهم على الشك والتردد، يعانون باستمرار من جنون العظمة، ويقولون كلما تكلموا: “تُرى هل لديهم حسابات خفية يسعون لتحقيقها؟”، لهذا السبب أشعر بحاجة إلى تقديم توضيح قصير هنا لتجنب سوء فهم هكذا: أجل، لدينا حساباتنا، ولدينا قضيتنا، ولدينا غايتنا المثالية، وهي كسب رضا الله تعالى، وكوسيلة أعظم لتحقيق ذلك تحبيبه عز وجل للناس، وكذلك تحبيب الناس بعضهم ببعض، وغالبًا ما نُحرِّم على أنفسنا التفكير في أي شيء سوى هذا؛ فمن يتمسكون بنيل الرضا الإلهي لا يطمحون إلى قصور وفيلات على مضيق البوسفور، ولا يركضون وراء شهرة ولا يطمعون في المناصب والمواقع الدنيوية؛ فقد أسلموا الفؤاد وعشقوا جَميلًا يعتبرون الانفصال عنه جل وعلا خيانة له وإهانة لأنفسهم أيضًا.
فلتعلم العوالم السبعة أنه ليست لدينا أية رغبة في شيء سوى نيل رضا الله تعالى، كل ما يهمنا هو أن نتمكن من جعل القلوب تشعر بحب الله، ومن جمع البشرية كلها حول الحب، وأن ننشئَ عالمًا لا يأكل فيه الناس بعضهم أو يضطهد أو يستغل بعضهم بعضًا.. حيث يمكن قبول جميع من فيه رغم اختلاف مواقعهم الخاصة، وتسوده روح المشاركة والتضامن، ولا يُترك المظلومون والضحايا وحدهم، نعتقد أن الإنسانية بحاجة ماسة إلى سماع صوت جديد وأن هذا لا يقل أهمية عن الهواء والماء.
إننا لا نعرف ما هو الاستغلال والانتهاز، وإن كان الجهلُ نقصًا بالمعنى العام، فإنَّ عدمَ معرفة بعض الأشياء أمارةٌ على الكمال، وكذلك لا نعرف التمييزَ والنبذ.. ونعرّف أنفسنا إزاء الألوان والأعراق المختلفة بأننا من ذوي “عمى الألوان” و”عمى الأعراق”، لدينا شعور عميق بالمحبة لدرجة أننا نريد أن نجيش كالمحيطات ونمد يد العون للجميع حتى لا يبقى هناك أحد حزين، إننا نتطلع بفارغ الصبر إلى الأيام التي تتعاون فيها البشرية وتتشارك أحزانها وآمالها فتضحك وتبكي معًا.
باختصار، نحاول إنتاج نسيج جديد يعبّر عن الحب والمودّة والرحمة، نؤمن بأنه من الأهمية بمكان أن تدخلَ المحبّة في القلوب إلى أن تمتلئ حبًّا، وأن يتلاحم الناس بعضهم مع بعض، وإننا لا نستبدل هذا بألف سلطنة دنيوية، ولا ينبغي النظر إلى هذه الكلمات على أنها شعوري الشخصي؛ على العكس من ذلك، إنني أحاول ترجمةَ شعورٍ عام.
قد يجد البعض هذه الكلمات خيالية للغاية ويرون أيضًا أننا نعيش في عالم الخيالات، لكن لا ننسَ أن للحب كرامات خاصة به، إذا كنتم تحبّون وتهتمّون وتصفحون عن العيوب فإنكم تخلقون جوًّا مختلفًا من حولكم، ومن ناحية أخرى، فإن الحب يشبه إكسيرًا سحريًّا؛ فهو من جانبٍ يُغلِق الطرق المؤدية إلى السلبية، ويُصلح بين الناس ويجمع بينهم من جانبٍ آخر.. إن العالمَ ينتظرُ أبطالَ الحب الذين يحبّون الحبّ ويكرهون الكراهية، ينتظر الفدائيين الذين يستطيعون جعل الحب هدفَ حياتهم، أَلَا تريدون أن تكونوا من هؤلاء؟
إن بديع الزمان بكلماته هذه: “ما حيلتي لقد استعجلت وشاءت الأقدار أن آتي إلى خضم الحياة في شتائها.. أما أنتم فطوبى لكم ستأتون إليها في ربيع زاهر كالجنة”[1]؛ يحفّز آمالنا ويحرك مشاعر الرجاء فينا ويشير أيضًا إلى أن العالم سيصبح ورديًّا؛ حيث ستنبت الورود في كل مكان وتصدح العنادل في جنباته، إلا أن توفر مثل هذا الجمال لن يتحقق في لحظة واحدة كما ذكرنا سابقًا، وإذا كان هذا الأمر مرهونًا بوقت معين، فلا يمكننا تغييره، يجب أن نكون عقلانيين في هذا الصدد، وأن نتعامل مع الموضوع في إطار خطة وإستراتيجية معينة أثناء تحقيق ذلك.
والأهم من ذلك، أنه يجب علينا أن نسعى إلى نثر البذور في كل مكان وتحويل كلِّ الأماكن إلى ربيع، مهما كانت الظروف شديدة، يجب ألا تغير طريقَنا ومنهجَنا شدّةُ الفصول والأوضاعُ المختلفة وهجومُ العالم علينا.. لا يجب أن نعلق بالرياح أو العواصف التي تهب، ولا يجب أن نتفرق أمامها، يجب أن نحاول في كل موسم القيام بما يلزم القيام به حسب ظروف ذلك الموسم، وحتى وإن أجرينا بعض التغييرات في خططنا ومشاريعنا حسب الظروف وضَبَطْنا سرعتنا بحسب حالة الطريق، فيجب علينا أن نواصل الركض مثل عدَّاء في الماراثون.
[1] بديع الزمان سعيد النورسي: الملاحق، ص 350.
- تم الإنشاء في