حقائق باتت ضحية الأسلوب – 2
إعلاء شأن الحق
ثمة حاجة لأن تكون أحوالُ وسلوكياتُ ممثلي دعوة النبي صلى الله عليه وسلم بصفة خاصة ليّنة هيّنة مطلقًا حتى يتمكنوا من التأثير في مخاطبيهم، وذلك لدرجة أن تتحلّل النيازك القادمة من اليمين واليسار إلى ذرات حين تدخل في بيئتهم، وتتحوّل هذه الذرات بمثابة الألعاب النارية التي تبثّ في الناس الفرحة والبهجة وليس الخوف والفزع، فعليهم أن يُعلوا من شأن الحق، وأن يفضلوه على سائر الشؤون، وألا يجعلوا الأصول ضحية الأسلوب مطلقًا، بالعكس عليهم أن يستخدموا أسلوبًا يؤدي إلى احترام أصولهم وتقديرها حقّ قدرها.
وإنه لو استطاع ممثلو الدعوة النبوية أن يكسروا بأحوالهم وتصرفاتهم شوكة العنف والحدة الموجهة إليهم مهما بلغت غلظة وفظاظة، فإن من يُعادونهم سيأتونهم -إن لم يكن اليوم فغدًا- مهيضي الجناح متذللين ويقولون: “نعتذر منكم، ذلك أننا لم نكن قد عرفناكم، ولم نستطع أن نعرفكم”.
ولا سيما الفدائيين الذين جعلوا الدعوة إلى الله ورسوله غايتهم المُثلى، ويتفانون من أجل الرسالة النبوية يجب عليهم أن يكونوا قادرين على أن يعضوا على ألسنتهم مراعاة لخاطر الحق، ويفوضوا الأمر إلى الله نزولًا عند مبدإ “لا حول ولا قوة إلا بالله”، ويتغلبوا على ما اعترض طريقهم، بل ويختلُوا بأنفسهم إذا ما جُنّ جنونهم في مواجهة الحوادث الغادرة التي تُشيب رؤوسهم، وتقصم ظهورهم، وتُذهب طمأنينتهم، وتُحرم النوم عليهم.
فكل جهد يبذله المرء في هذا الشأن يُرجى أن يكون عبادة عند الذات الإلهية، لأنه جهد في سبيل الارتقاء إلى مستوى الإنسان الكامل، وهو ما يمكننا تشبيهه بصعود الدرج، فكلّما يصعد الإنسان خطوة على الدرج يحظى بثوابٍ مختلف.
وبالطريقة نفسها، حتى وإن كان المرء يتلوى ألمًا ويئن حزنًا ويتوجع قلقًا وأسًى إزاء الإساءة إلى القيم التي يؤمن بها، فإن محاولتَه التحكم في سلوكه وتصرفاته تجاه ذلك، وتجنّبَه مواقف رد الفعل المفرطة، وحسابَه بدقة بالغة وإجهادَه عقلَه حد النهاية في كيفية دفع هذه السلبيات وتبديدِها بأكثر الطرق عقلانية ولينًا؛ عبادةٌ مهمّةٌ تقرّبه من الله تعالى.
عزم وإصرار نبويّ
إن السعي إلى إحقاق الحق محترِمًا القيم الإنسانية السامية حتى عند انتهاك الحقوق الأساسية، والتصرفَ باتزان نبوي تجاه أكثر الأفكار غلظة وجلفة، وعدمَ الانهزام للغضب والانفعال خصالٌ صعبة للغاية ومن الضروري التحلّي بها فعليًّا، وكي يستطيع الإنسان التغلب على هذه الصعاب يلزمه بداية أن يتحلّى بأخلاق وإرادة وعزم وإصرار نبوي شعورًا وفكرًا.
وعندما ننظر إلى قصص الأنبياء التي نقلها إلينا القرآن الكريم يتضح أن كلًّا منهم يمثل -بالنسبة لنا- قدوة حسنةً يجب علينا الاقتداء بها في هذا الشأن، لأنهم لم يحيدوا عن مبدئهم ولم يتخلوا عن هويتهم وواصلوا تمثيل الدعوة الحق التي جاؤوا بها، وذلك بالرغم من تعرُّضهم الدائم للإهانة والاعتداء والتعذيب من جانب أقوامهم، وعندما ننظر إلى الأحاديث التي دارت بينهم وبين أقوامهم يتضح لنا أن كلَّ واحدٍ منهم بطلٌ من أبطال الأسلوب.
فمثلًا سيدنا نوح عليه السلام عاش بين قومه ألف سنة إلا خمسين عامًا بحسب التعبير القرآني، ودعاهم خلال تلك السنوات الطويلة إلى الحق والحقيقة كما قصّت لنا سورةُ العنكبوت، ومع ذلك أُهين وأُوذِي وضُرب، لكنه إعلاءً لخاطر الحق واصلَ طرْقَ أبوابهم دون غضب ولا سخط، لدرجة أن موقف من ظلوا يواصلون تمرُّدَهم ضدّ عزمه وسعيه عليه السلام في مسألة التبليغ والإرشاد قد أثار غيرةَ الله تعالى.
أجل، هناك درجة محدّدة إذا وصل الظلم والعدوان إليها تُثار غيرة الله، إذ إن الله لا يعفو إذا ما اجتيزت هذه الدرجة، فبعد أن أثار إنكار قومه وتمردّهم غيرة الله أمر الله تعالى نوحًا عليه السلام بأن يصنع الفلك، وبينما يصنع نوح فلكه كان أشقياءُ قومه يأتونه ويواصلون مضايقته وإيذاءه.
ويتناول القرآن الكريم هذا الوضع بقوله: ﴿وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ * فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ﴾ (سورة هُودٍ: 11/38-39).
وحتى في تلك اللحظات التي دنا فيها العذاب لم يغير سيدنا نوح عليه السلام من سلوكه وتصرفه رغم إصرار قومه على الكفر والإلحاد وعنادهم وتمردهم، وحين أنهى الفلكَ دعا المؤمنين وأخذهم إلى الفُلْك، وبدأ ينتظر الأقدار الإلهية، بل إنه حتى حين بدأ الماء ينهال من السماء كما ينصب الماء من كوب، ويتفجر من الأرض لم يقل ولو كلمة واحدة ضد قومه من قبيل “أما كنتم تقولون لن يحدث شيء! تبًّا لكم.. هيا خذوا نصيبكم مما قلتم!”، حتى إننا عندما ننظر إلى قوله لابنه: ﴿يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلاَ تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ﴾ (سورة هُودٍ: 11/42) عندما اشتد الأمر وبدأ الماء يرتفع نجده لم يُغير قطّ من موقفه في اتباع القول اللين والحال اللين والأسلوب اللين.
الصبر والعفو فضيلة
كما هو معلوم فقد أجاز القرآن الكريم مقابلة الفعل بمثله، وذلك بدليل الآية الكريمة ﴿وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ﴾ (سورة النَّحْلِ: 16/126) ولكن بقية هذه الآية ﴿وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ﴾ (سورة النَّحْلِ: 16/126) تلفت الانتباه إلى سلوك أكثر كمالًا وفضلًا.
وعليه فإنكم إذا لم تُقابلوا المعاملات الفظّة الخشنة والأذى والتعذيب والضرر بمثله وتحمّلتم وأعدتم ضبطَ أنفسكم وتهيئَتَها بحقٍّ، وقرأتم مشاعر مخاطبيكم مرة أخرى، وأحسنتم حسابَ وتوقُّعَ ما سيعود عليكم من وراء كل خطوة تخطونها، وتصرفتم وفقًا لذلك التصرف الأصح تجاه الآخرين فقد فعلتم الأفضل والأمر الخير بحسب التعبير القرآني.
وزيادة في التوضيح يجب اعتبار الحكم القرآني “المعاقبة بالمثل” رخصة وجوازًا لضعاف الناس، لأن بقية الآية أوصت أصحاب الهمم العالية والعزائم السامية بالصبر، ومن هنا فإن ما يقع على عاتق المؤمنين هو السعي إلى التحلي بعزم وصبر نبوي، ولما كان باب الوحي قد أُغلق فليس من الممكن أن يكون هناك نبي بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن الإنسان بوسعه أن يجتهد لأن يتخلق بأخلاق الأنبياء ويتحلى بصفاتهم العالية التي يمتلكونها.
تجنب مضاعفة المصيبة
الجانب الآخر من المسألة هو أن البعض ربما يتسببون في مجموعة من التخريبات بسبب خطئهم في الأصول أو الأسلوب على حد سواء، وكيفية التصرف إزاء مثل هذه الفئة من الناس مسألةٌ ترتبط بالأسلوب أيضًا، فلو تم تحميل الواحد منهم مسؤولية المحن والشدائد المعيشة ومخاطبته “بسببك حلَّ بنا هذا، لو أنك لم تقل هكذا، ولم تفعل هكذا لما أصابنا ما أصابنا”؛ هو أيضًا خطأ في الأسلوب، فمثل هذه الأقوال تُضاعف المصيبة، وتُعاظم من الآلام والمصائب الواقعة.
ربما يُخطئ البعض في الأسلوب، بل وربما يؤثّر خطؤُه هذا على الأصول، ولكن ما يجب فعله في هذا الموقف هو الاعتبار وأخذ الدرس من ذلك الخطإ، والسعي إلى عدم تكراره مرة أخرى بعد ذلك، وإلا فإننا إن بدأنا في الطعن والتشنيع على الطرف الآخر بأننا تعرضنا لطائفة من الأضرار ووصلنا إلى هذا الوضع بسبب الأخطاء التي وقعت، نكون قد أخَفْنا الناس وضيّعْنا أصدقاءَنا، وزعزعنا القوّة المعنوية بيننا.
والآيات الكريمة التي نزلت بشأن ما حدث في غزوة أُحد، وتصرُّف النبي صلى الله عليه وسلم أيضًا يخبرنا بأشياء كثيرة في هذا الصدد، فكما هو معروف لقد نبّه رسولنا الأكرم صلى الله عليه وسلم تنبيهًا شديدًا على الصحابة الذين مَوضَعَهم على جبل الرماة بألّا يبرحوا مكانهم، إلا أنهم حين رأوا أن العدوّ انهزم وفرّ هاربًا ظنوا أن الحرب انتهت، وما حدث كان مبنيًّا على عدمِ فهم ما في إطاعة الأمر النبوي بحذافيرِهِ من دقّة وحساسية، فتعقبوا العدو وتركوا أماكنهم لِأَخْذِ الغنيمة خطأً منهم في الاجتهاد، ولكن كان ثمة شيءٌ لم يتمكّنوا من حسابه جيّدًا؛ إذ إن خالد بن الوليد الداهية العسكري العظيم استفاد من تلك الفجوة استفادة جيدةً للغاية، فحاصر الجيش الإسلامي من الخلف وبدأ يُهاجمه؛ مما أدى إلى استشهاد سبعين صحابيًّا ولم يُستثنَ أحدٌ من الإصابات على اختلاف أنواعها، حتى إن وجهَ مفخرة الإنسانية شُجَّ، وكُسرت رباعيته.
قد تتبادر إلى أذهان الجميع بعض الانتقادات إزاء مثل هذه الصورة، نظرًا لوجود أحداث مهمة تتطلب ربطَ الجُرْمِ وعزوَه إلى فاعله، في لحظة كهذه كان من الممكن أن يقولوا: “كل هذا بسبب فلان وفلان”، وكان يمكن أن يُوبّخ سيدنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الصحابة، وأن يتذمّر السادة الصحابة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضوان الله عليهم، وتحدث حالة خطيرة من الهرج والمرج، ونتيجة لكل هذا كان من الممكن أن يحدث على سفوح “أُحُد” -التي تُعتَبَر شبهَ هزيمة وشبهَ انتصار- كوارث أكبر بكثير.
لكن الحق تعالى قطع السبيل أمام الأزمات المحتمل حدوثها من هذا النوع بتلك الآيات الكريمة التي أنزلها بسبب ما حدث، وأعطى رسائل مهمة بالنسبة للاحقين، فقال تعالى: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾ (سورة آلِ عِمْرَانَ: 3/159).
بعد أن امتدح الحق تعالى لين قلب سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ﴿وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾، وبينما يلفت الانتباه إلى أهمية التصرف برفق ولين من جانب، يجذب الانتباه أيضًا إلى العواقب المحتملة للعنف والشدة من جانب آخر، ليس ذلك فحسب، بل يأمر الله عز وجل رسوله الكريم بأن يعفو عن الصحابة، أي أن يتغاضى عن خطئهم، ثم يطلب منه أن يسأل الله تعالى لهم العفو، وثالث شيء يأمُر به هو أن يشاورهم في الأمر؛ أي إن الله تعالى يأمر رسوله -الذي خرج إلى أُحُدٍ بقرار تمّ اتخاذه عن طريق الشورى- يأمره أن يجمعهم ثانية بعد ما حدث ويستشيرهم مرة أخرى.
الواقع أن الله سبحانه وتعالى يُعطي المؤمنين بهذه الآية الكريمة درسًا في غاية الأهمية في الأسلوب، إنه يُعلمهم كيفية التصرف عند مواجهة الفشل وخيبة الأمل نتيجة عيوبٍ وأخطاء ارتكبها بعضُنا قدرًا، ويعلّمهم عدم مضاعفة وتفخيم المصيبة والبلوى عبر إلقاء اللوم وتخطئة الناس من حولنا.
اللجوء إلى الدعاء
ربما أول ما يجب قوله ههنا: إذا كنتم تريدون أن يتعرف الآخرون على ما تمتلكونه من قيم، وأن يهتدوا إلى الصراط المستقيم فاطلبوا هذا من الله بالدرجة الأولى، فإن كنتم لا تنهضون ليلًا، ولا تضعون رؤوسكم على الأرض، ولا تقولون “اللهم ربنا! لقد لجأنا إليك! اللهم اهدِ فلانًا وفلانًا”، فهذا يعني أنكم لستم مخلصين في هذا الشأن، ذلك أن الله تعالى يقول: ﴿وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ﴾ (سورة الأَنْفَالِ: 8/63).
وبما أن القلوب بين يدي الله فإنه هو من يؤلف بينها ويهديها إلى صراطه المستقيم، ومن هنا فيجب بالدرجة الأولى ألا يُهمل الدعاء، وبعد ذلك نفعل ما يجب علينا كبشر من أجل تحقّق ما دعَونا الله تعالى به.
وبتعبير آخر، إن الأسلوب -الذي هو مسألة فرعية- يجب أن يتّصف بالحساسية والدقة البالغة حتى لا يطيح بالأصل من جذوره، وكما يجب استخدام العقل والمنطق على الدوام، يلزم كذلك ألَّا يُهمل التوجه إلى الله قلبًا وروحًا، واللجوء إليه، وطلب العون والعناية منه، ويجب أن نقول في دعواتنا باستمرار “إلهي، أريد أن أدعو الناس إليك وإلى حبيبك، فألهِمْني يا الله حُسن الخطاب، وقني الخطأ والتقصير!”.
- تم الإنشاء في