بعض المعايير الخاصة بالأخلاق الحسنة
سؤال: تأمرنا السنة النبوية الشريفة بالحذرِ من تعيِير المؤمنين، واحتقارهم أو فضحِ عيوبهم، ثم تأمرنا أيضًا ومن ناحيةٍ أخرى بعدمِ السكوت على المظالم والشرور وبضرورةِ التصدي لها.. فما الموقف الواجب على المؤمن التزامه في هذا الشأن، وكيف ينبغي أن يحقق التوازن بين الأمرين؟
الجواب: يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “مَنْ عَيَّرَ أَخَاهُ بِذَنْبٍ لَمْ يَمُتْ حَتَّى يَعْمَلَهُ“[1]، وبهذا نهى عن تعييب الآخرين وتعييرَهم، ولفت الانتباه إلى المصير الذي يؤول إليه مرتكبي مثل هذه الخطيئة.
عدم التعيِير
وفقًا للحديث السابق فإن من عاب أخًا له وعيَّره على جرمٍ -فعلَه أو لم يفعلْه- لن يموت دون أن يرتكب الجرمَ ذاته، وقد يتسبب هذا التعييب والتعيير أحيانًا -حفظنا الله- في مشكلة تقع لزوجة العائب أو ابنته أو ابنه أو قريب آخر له، أي إن الله جل جلاله قد يُعاقب ذلك الشخص في نفسه عما ارتكبه من ظلم، وقد يُعاقبه في أحد أفراد أسرته.. وكثيرًا ما يجد الإنسان سبيلًا للتخلص من مشكلاته الشخصية، ولكن المشكلات التي يتعرض لها أقرب الأقربين إليه قد تقصم ظهره.
إننا لا نستطيع معرفة حقيقة الأمر؛ فربما يكون مثل هذا العقاب رحمةً بمن يستحقه؛ إذ قد يكون كفارة عن خطيئته، ومثل هذا الضيق والخجل الذي يعانيه في الدنيا ربما ينقذه من العقاب في الآخرة، وبعبارة أخرى: إن المرء بتحمله أخفّ العقابين يكون قد نجا وتخلص من أشدّهما.. وقد تكونُ الخطيئة المرتكَبة كبيرةً لدرجة أن الأزمات والعقوبات الدنيوية لا تكفي لتطهيرها؛ فمثلًا: إن جزاء الجرائم الجسيمة من انتهاكٍ للقانون، وتعدٍّ على حقوق العباد، وتهديد سلامة أرواح الناس وممتلكاتهم، والتلاعب بأعراضهم وشرفهم، ومقارفة أدناس الكفر والشرك والنفاق؛ لا يُرى إلا في الآخرة.
يستحيل علينا أن نعرف الحكمة؛ فالله يذيق البعض العذاب هنا، والبعضَ الآخر في الآخرة، فإن كنا لا نريد أن نعاني مثل هذا الخجل في الدنيا والآخرة فعلينا أن نضبط ألسنتنا عند الحديث عن الناس جميعًا، لا سيما المؤمنين منهم، بل وأن نراجع أفكارَنا بشأنهم.
ذلك أن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “مَنْ يَضْمَنْ لِي مَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ وَمَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ أَضْمَنْ لَهُ الجَنَّة“[2]، ويقصد بالأول اللسانَ، وهو ما يسهُلُ إلجامه في البداية، ويصعبُ للغاية إصلاحُ ما تحطم وانهار بعد أن يمرّ منه الكلام، لذا فعلى مَن اغتابَ أحدًا أو عابه بسبب أخطائه وذنوبه أن يأتيه فيستسمحه عن ذلك على الأقل، وإلا يكون قد انتقل إلى الآخرة وعليه حقٌّ لِعبد، ومن المسلَّمِ أن هذا ليس بالأمر السهل؛ إذ يجب على الإنسان أن يغلق فمَه منذ البداية ويضمنَ سلامةَ ما بين لحييه بدلًا من الانسحاق تحت وطأة المشكلة وفداحتها.
فالحذرَ الحذرَ حتى حينما يقتضي الأمرُ إبلاغًا عن حادث ما، وعلينا ألا نتجاوز الإطار، وألا ننتهك الحدود، وأن نبرأَ من الغرض والطمعِ عند طرح أية مسألة للحديث، وأن نحذرَ من إيذاء أيِّ أحدٍ بسبب كلماتنا، وإلا فإن كانت جلساتنا وأحاديثُنا من قبيلِ “فلانٌ فعل كذا، وعلّانٌ فعل كذا، ولهذا السبب أصابنا ما أصابنا”، وانشغلنا بخطايا الناسِ وهفواتهم وسوء الظن بهم فإننا نؤلم الكثيرين ونظلم الناس ونرحل إلى الآخرة محمّلين بالخطايا والآثام.
من جانب آخر فقد صرّحَ النبي صلى الله عليه وسلم بأنّ من يعيب أخًا لذنب فعله يُعاقب بأن يأتي مثل ما أتى أخوه، وعليه يا تُرى كيف يكون موقف من يعيبون إخوانهم لأخطاء وذنوب لم يرتكبوها؟! من المؤكد أن أفعالًا مثل تشويه حيثية الأبرياء بالأكاذيب والافتراءات، ووسمهم بالجريمة من خلال المؤامرات والمكائد؛ ذنوبٌ جسيمة، كلٌّ منها أعظم من الآخر عند الله تعالى، لا سيما إذا كان المستهدفُ مجموعةً كبيرة وليس شخصًا واحدًا؛ فإذا ما سعى المفترون إلى تشويه طائفةٍ كبيرة من الناس بإلقاء الوحل والقاذورات عليهم والتلاعب بكرامتهم؛ فقد تحتّم الفشلُ واستحال الفلاحُ على أولئك المفترين.. لا توجد وسيلةٌ لتخليصهم من الذنوب والآثام إلا إذا قام كل امرئ منهم بطلب السماح من أفراد تلك المجموعة التي عابوها وعيّروها فردًا فردًا، لذلك فإنه من غير المحتمل أن يقوم مؤمن حقيقي بفعل مثل هذه الألاعيب الخاصة بذوي النفاق والكفر.
أجل، بقدر حساسية المؤمن في حماية كرامته وشرفه؛ فإنه مطالَبٌ بأن يُظهر الحساسية ذاتها بحق الآخرين أيضًا، يجب عليه ألا يؤذي أحدًا، لا بيده ولا بلسانه، بل عليه أن يطهّر حتى ذهنه من الأفكار القذرة، ويجعل إحسانَ الظن بالناس طبعَه وفطرتَه، فالأصلُ أن المؤمن -بالنظر إلى معنى الكلمة- يعني الشخص الأمين الذي يثق به ويأمنُه الجميع، فالمؤمنُ الحقيقيُّ يغرسُ ثقة هكذا في محيطه بحيث لا يقلقُ أو يتخوّف أحدٌ منه أبدًا؛ فلا يجد الآخرون قبالته أيَّ ذعر حقيقي أو وهمي؛ ولا يخافون أن يطعنهم من الخلف إذا ما أداروا ظهورهم، بل يعلمون أنهم حتى لو تسبّبوا بإيذائه فلن يتسبَّب هو في إيذائهم وإن استطاع، هذا لأن للمؤمن حدودًا معينة لا يستطيع تجاوزها أبدًا ومبادئ أساسية لا يمكنه انتهاكها ألبتة.
من المهم جدًّا أن تصبح بعض المواقف والسلوكيات سمة وسجية في المرء، وكل شخص لديه سجية خاصة به تنبع من الفطرة الإنسانية، ولكن هناك أيضًا السجية والشخصية الإسلامية المكتسبة لاحقًا، ويستطيع المسلم الذي يمثل الشخصية الإسلامية أداء بعض السلوكيات التي تستلزمها الأخلاق الحميدة دون أية صعوبة، فإن عُجِنَ إنسان في بوتقة إسلامية وتخلَّق بالأخلاق الإسلامية، فإنه لا يتخلى عن شخصيته حتى عند مواجهة المواقف العدائية للطغاة والمعتدين، ولا يرد عليهم بمثل ما فعلوه معه، أو بالأحرى لا ينزل إلى مستوى الناس العاديين.
ولكننا إن لم نتمكن من جعل الأخلاق الحميدة طبيعة فينا، فإننا نعاني صعوبة في بعض القضايا، ولا يمكننا دائمًا إظهار الصمود والثبات ذاته، وحتى لو تصرفنا برحمة إزاء الجميع فقد ننفعل إذا ما أُغضِبنَا ولو قليلًا، قد نعاني من عدم الخبرة في ردود أفعالنا، وتعاملِنا مع الناس بين الحين والآخر، ونفسد الأعمال التي سنقوم بها، ومن هذه الزاوية، فإنه مهمٌّ للغاية أن نجعل الأخلاق الإسلامية طبيعةً وجبلَّةً فينا بالضغط على أنفسنا قليلًا والتمرس والتدريب والترويض الدائم على ذلك.
النهي عن التجسُّس
أجل، حرَّم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم تعييرَ المؤمنين بسبب أخطائهم وذنوبهم، وأشارَ إلى أن الإسلام ليس فيه أيُّ تكليفٍ بالتحرِّي عن الشرور والسعي إلى الاطلاع على خطايا الآخرين، على العكس من ذلك، لقد حرّم القرآن الكريم هذا الأمرَ تحريمًا قاطعًا بقول الله تعالى ﴿وَلَا تَجَسَّسُوا﴾ (سورة الْحُجُرَاتِ: 49/12).
إن من ينشغلون دائمًا في التحقيق بأخطاء وعيوب الناس، مثلهم في ذلك مثل صياد شرير، سوف تتلوث طبائعهم وتتشوه فِطَرُهم شيئًا فشيئًا، وإذا ما تلوّثت طبائعهم فلن يقتصر التعييرُ والإساءةُ على المذنبين والمخطئين فقط؛ بل سَيَشْرَع ذووا الطبائع الملوثة في تشويه الأبرياء الأطهار أيضًا.. وخلافًا لذلك، فإن المرء إذا درَّب نفسَه على عدم الخوضِ في خطايا الناسِ حتى المذنبين منهم، ونزّهَ نفسه عن ذلك مهما خاضَ الناسُ فيه، وبرمَجَ نفسه على أن يكون ذلك فيه سجيّةً وفِطرةً؛ فإنه سينثر الضياء في من حوله وما حوله.
إنني كثيرًا ما أذكّر بقول الإمام الخادمي في تعليقه المسمى “البريقة” الذي كتبه حول “الطريقة المحمدية: “حتى وإن رأيتَ مؤمنًا في حالة سيئةً جدًّا، فلا تحكم عليه فورًا، امسح عينيك، وقل: “يا تُرى هل أنا أُبْصِرُ بشكل صحيح؟ هذا الرجل لا يرتكب ألبتة مثل هذه الخطيئة”، واستدِرْ ثم انظر ثانيةً، وتحقّق مما إذا كنتَ ترى بشكل صحيح أو لا حتى لا تتخذ قرارًا خاطئًا، تحقّقْ مرة أخرى معتقدًا أنك قد تكون مخطئًا، فإن فعلت هذا عشر مرات، وتكوَّنَتْ لديك القناعة بأن ما تراه صحيحًا فابتعِدْ قائلًا “إلهي! اللهم خلِّصْه من هذا الحال المشين، واحفظني من أن أقع في مثله”.
ومع أن الإمام الخادمي يريد بكلماته هذه أن يذكرنا بحقيقة مهمة، فإنني أعتقد أن السلوك الأصوب لأي شخص يواجه مثل هذه الخطيئة هو أن يقول: “ربما أنني رأيت بشكلٍ خاطئ”، ويولّه ظهره من أول نظرة، ويبرح المكان فورًا، ويبتعد من هناك، وألا يذكر ما رآه في أي مكان على الإطلاق؛ لأن الله لم يعيِّنَّا مدّعِين عموميين ولا محققين عن خطايا الآخرين.
لنضعْ نصب أعيننا دائمًا أن أحدَ أسماء الله الحسنى “الستار”؛ أي ستَّار العيوب والذنوب، وواجبُ المسلم هو أن يتحلى بهذا الخلُق، وانطلاقًا من هذه الحقيقة يقول صلوات الله وسلامه عليه: “مَنْ سَتَرَ عَلَى مُسْلِمٍ سَتَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ“[3]، وقد تعرض لنا أشياء كثيرة في الدنيا تخجلنا في الآخرة، إن لم نتحلَّ بهذا الخلق في هذه الدنيا فقد نفتضح في الدار الآخرة؛ أي إن الفضيحة والذلة التي نذيقها الآخرين في هذه الدنيا تحط علينا وتطوقنا في الآخرة، ومن الأفضل كفُّ البحث عن عيوب الآخرين وهفواتهم، فإذا ما اطّلَعْنا على ذلك صدفةً علينا ألا نكشفه للآخرين أو نتحدّث فيه.
النهي عن التحقير والإيذاء
قال سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث آخر من أحاديثه الشريفة: “بِحَسْبِ امْرئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ“[4]، لا يمكن الاستهانة بأي شخص يؤمن بالله تعالى، وحتى وإن لم يكن مسلمًا؛ فإننا بحسب فهم سيدنا عليٍّ رضي الله عنه لا يمكننا تحقير أحدٍ أبدًا لأن جميع البشر متساوون معنا من حيث كونهم بشرًا، قد تكون لدى البعض صفات سيئة لا نقبلها؛ مثل الكفر والنفاق والضلال، وفي هذه الحالة يكون من غير اللائق بالنسبة للمؤمن مهاجمة هؤلاء الأفراد من خلال استهدافهم، بل يجب بذلُ الجهود لإنقاذ هؤلاء الأشخاص من تلك الصفات السيئة التي نبغضها؛ ذلك أن مفخرة الإنسانية صلى الله عليه وسلم لم يُهن أو يُقلّل من شأن أيِّ شخص طوال حياته السَّنية.
بالشكل نفسه لا يمكن للمؤمن أن يقول بالنسبة لإنسان زلَّت قدمُه أو سقط على الأرض: “لأركلَه أنا أيضًا ركلةً أخرى”، لا يمكن للمؤمن أبدًا أن يكون واحدًا من السفاحين الذين يتسابقون إلى طعنِ من زلّتْ قدمُه وفقًا للمثل القائل: “إذا وقع الجملُ كثرت سكاكينه”، لا يمكن للمؤمن أن يطعن في حقِّ مَن وقعَ أو أخطأَ ولا أن يشنّعَ به ويتكلّم بعيوبه ويجعل منها حكاية تتناقلها الألسن، ولا يُخجله أو يُحرجه بأن يتحدث معه عن ذلك أمام الآخرين، لا سيما وأن إفشاء الأخطاء والذنوب التي وقعت وتضخيمَها والمبالغةَ فيها والحديث عنها هنا وهناك ليس من سلوك المؤمن بالتأكيد، إن الواجبَ على المؤمن هو أن يقدر ويحترم ويحفظ كرامة ومكانة وشرف جميع الناس كما يفعل ذلك لنفسه، إن واجبه إزاء أخطاء الآخرين وذنوبهم هو الاعتبار من حالهم، وبذل الجهد في مساعدتهم إن كان بوسعه، والتضرع إلى الله بالدعاء ألا يضعه في نفس الموقف.
إنه لَأَمْرٌ مؤلم حقًّا -خاصة بالنسبة لمن يتمتعون بسمعة عالية ومناصب اجتماعية- أن يجري الحديث هنا وهناك عن أخطاء وذنوب ارتكبوها، لأن أُسَرَهم وبيئتهم ومجتمعهم ينظرون إليهم نظرة مختلفة، لقد اعتادوا على التقدير والتصفيق لهم، ورفعوهم على كفوف الراحة، وبذلوا لهم الاحترام والتقدير، فمن غير المناسب الحطُّ من مكانتهم في أعين الناس تجاهلًا لوضعهم وموقعهم طالما لم يكن ذلك واجبًا علينا، ولنحذر من التورُّطِ في الحوادث التي تقع ضدهم، وحتى إذا كان هناك أيُّ جانب من المسألة يتعلق بنا، فينبغي لنا ألا نترك أو نتخلّى عن خُلُقِ اللين وخصلةِ الرفق، وأن نتنبّه ألا نضر أحدًا؛ فأخلاقُ المؤمن تتطلب هذا.
إن إحراجَ الآخرين وإيذاءهم لنا ليسَ عذرًا أو حجّةً لممارسة الفعلِ ذاته، لا يمكنُنا احتقارُ أيّ شخص حتى وإن احتقرَنا، لا يمكننا أن نُحرج أحدًا حتى وإن أَحرَجنا، لا نستطيع إيذاءَ إنسان حتى وإن آذانا، لأن إيذاء الناس وكسرَهم يُعتبر زلة وهفوة في منهجنا، إن إيذاءَ شخصٍ لآخرَ يُحسَبُ زلّةً على البادي المعتدي، فإذا ما قام المعتدى عليه بالرد بنفسِ الطريقة فسيقعُ في الخطإ نفسه وسيُحسبُ ذلك عليه زلة أيضًا، إذا كنتم تعتقدون أن الشتم والإيذاء والسلوكيات الوقحة أمر مخزٍ، فيجب عليكم ألا ترتكبوها مهما حصل، يجب ألا تنسوا كذلك أن الصبر على افتراءات الآخرين وتعييبهم إياكم وتشهيرهم بكم سيكون بمثابة كفارة لخطاياكم.
وما أجمل قول إبراهيم حقي:
لا تحْقِرنَّ أحدًا ولا تؤذه
ولا تحطِّمن قلبًا
لا تنصُرنّ نفسك
لِنرَ ماذا يقدر المولى
فما يقدر المولى هو الأجمل!
ويعبر الشيخ محمد لطفي أفندي كذلك عن الحقيقة نفسها بهذه الرباعية:
يقول عاشق الحقّ عن مُرهَفِ الحِسِّ:
لا تـمـتعـض مـمّـن يؤذي
فمن امتعض من الأذى
قلّتْ درجتُه عن المؤذي
تعلمون أن بعض الأوساط التي ناصبتنا العداء حتى اليوم هاجَمَتْنا وآذَتْنا عدة مرات، فهدّموا الجسور وقطعوا السبل، لقد قطعوا كل وسائل الاتصال البينية، وأحدثوا دمارًا وخرابًا خطيرًا للغاية بأكاذيبهم وافتراءاتهم وتشويهاتهم، واستباحوا بحقِّنا كل أنواع الظلم والقسوة عندما أُتيحت لهم الفرصة، ولا سيما في الفترة الأخيرة فقد ارتُكبت مظالم قاسية جدًّا هدفها السحقُ والإبادة التامة، ارتكبت شرورٌ تصل إلى حد الإبادة الجماعية، وبالرغم من كل ذلك فإننا لم نفكر في أن ننشغل بعيوب أحد على الإطلاق مثلما لم ننشغل في الرد بالمثل على ما فُعل إزاءنا، لم نفكر في ذلك ولو حتى مجرد تفكير.
منهج إصلاح الأخطاء
حاولنا فيما سبق الوقوف على مسألة عدم تعيير الناس أو تحقيرهم، والعفو عن تقصيراتهم، ويجب ألا يُستنبط من كل هذا ما مفادُه ضرورة السكوت على الأخطاء وعدم التدخّل والتصدّي لها بأي شكل على الإطلاق.. ذلك أن القرآن الكريم كلَّف المؤمنين من خلال عدد كثير من آياته بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بل إننا إذا ما نظرنا إلى قوله تعالى ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ﴾ (سورة آلِ عِمْرَانَ: 3/110) وجدْنا أن هذه الخيرية رُبطت ورُهنت بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بذلك أيضًا فقال: “مَنْ رَأَى مُنْكَرًا فَلْيُنْكِرْهُ بِيَدِهِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِيمَانِ“[5].
إن محاولةَ منعِ الناس من فعل المنكرات وأمرهم بالمعروف واحدةٌ من أوصاف المؤمن الأساسية، إلا أن المنهج والأسلوب والنظام الواجب اتباعه هنا مهم للغاية؛ فعملٌ كهذا لا يمكن أن يتحقق بإحراج الناس وإخجالهم، لا سيما إذا اختلطَ المنهجُ والردُّ بما يعتبرهُ الإسلام مرفوضًا مثل الكذب والافتراء وتشويه سمعة الناس، فإن المشكلة تتضخّمُ وتكبر، والأصل هنا ضمان أن يستقر في القلوب جمال الأفعال التي وُصفت بأنها طيبة، وقبح الأفعال التي وُصفت بأنها سيئة، أي إقناع الناس بسوء أو حسن تلك الأفعال المعنية، والإسهام في أن يقوموا بضبط أنفسهم وفقًا لهذا، وإلا فإن فهمًا من قبيل “أنا أقول وأحكي، ولا شأن لي بخلاف ذلك” دون أخذ وضع المخاطب في الاعتبار، ودون التمكن من تحديد الأسلوب الصحيح، ودون التفكير في الطريقة التي يجب اتباعها؛ أمرٌ لا علاقة له بـ”الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر” لا من قريب ولا من بعيد.
وإذا نظرنا إلى حياة مفخرة الإنسانية صلى الله عليه وسلم، نرى نماذجَ وأمثلةً كثيرة على ذلك، ومنها ما قاله صلى الله عليه وسلم لماعز الذي جاءه معترفًا بخطيئته حاملًا فكرة التطهّر في الدنيا على أن يترك الأمر للآخرة: “وَيْحَكَ، ارْجِعْ فَاسْتَغْفِرِ اللهَ وَتُبْ إِلَيْهِ“، إلا أنه حين أصر ماعز على تنفيذ العقوبة على الرغم من أنه صلى الله عليه وسلم ردَّه أربع مرات، كان على رسول الله أن يطبق العقوبة عليه، لكنه صلى الله عليه وسلم بقوله “اسْتَغْفِرُوا لِمَاعِزِ بْنِ مَالِكٍ، لَقَدْ تَابَ تَوْبَةً لَوْ قُسِمَتْ بَيْنَ أُمَّةٍ لَوَسِعَتْهُمْ“[6]؛ حال دون أن يسيء الناسُ الظنّ بماعزٍ، لقد أراد ألا يُذكر ماعز على أنه إنسان عاصٍ، بل على أنه إنسان تطهّر من خطيئته وسار نقيًّا طاهرًا إلى الذات الإلهية.
لم يوجّه النبيُّ صلى الله عليه وسلم الإدانةَ واللومَ إلى أحدٍ طوال حياته السنية، ولم يكشف مساوئ أحد في وجهه، ومن خلال استقراءِ سيرته صلى الله عليه وسلم لا يمكن العثور على أي سلوك من قبيلِ فضح الناس، وتتبع مواضع زلاتهم وركلِ إنسان سقط على الأرض، ولا مقابلة السيئة بالسيئة، على العكس من ذلك، فقد منع المؤمنين من التجسس والبحثِ عن أحوال الناس الخفية، وأوصى بستر الأخطاء ما أمكن ذلك؛ فكان يتنفس دائمًا عفوًا وتسامحًا طوال حياته، وتلك الكلمات التي قالها بعد فتح مكة للمشركين -الذين كانوا قد مارسوا ضدّه كل أنواع الإيذاء لسنوات طويلة- لا تترك مجالًا لأي كلمة أخرى للتعبير عن عفوه ورحمته: “لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ، اذْهَبُوا فَأَنْتُمُ الطُّلَقَاءُ“[7]، فقد كان لينه هذا وصفحه وعفوه عليه الصلاة والسلام من أهم العوامل التي فتحت القلوب ومكّنت الناس من دخول الإسلام أفواجًا وجماعاتٍ.
من ناحية أخرى، كان سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ما لاحظَ تقصيرًا من أحد الصحابة لا يصارحه به ولا يضربه به في وجهه؛ بل يضمّن لذلك المعنى ولتلك الملاحظة من خلال حديثه عليه الصلاة والسلام وخطَبِه أمام العامة دون توجيه الكلام إلى شخصٍ بعينه، حتى إنه عندما يجدُ حركةً جماعية في الاتجاه الخاطئِ؛ فإنه يجمع أصحابه ويتحدث على العموم دون أن يوجه كلامه بشكل مباشر لمن ارتكبوا هذه الأخطاء، وهكذا حُلَّت المشاكل دون أن يتعرّض أحدٌ للإهانة أو التجريح أو الاستياء، ودون أن تتأذى كرامةُ إنسان، أو يخالطَ الأمر أية كراهية أو غضب.
وعليه فمن المهم للغاية أن يتعرف الناس إلى محيطهم، ولا سيما من في الريادة ومن يتحملون مسؤوليّات معينة، وأن يهتمّوا بمعالجة الأخطاء، كذلك يجبُ على المعلم في المدرسة أن يدرسَ الحالةَ العامَّة للطلّاب في فصله وأن يعرِفهم جيدًا، فهذا جانبٌ مهمٌّ من الواجب والمسؤولية، أما الجانب الآخر منها فهو معاملة كلّ فرد بإنسانية، وعدم الإساءة إلى أي شخص، ومحاولة دفع الشرور بأنسب طريقة، أي إنه يجب على المسلم أن يتصرف وفقًا لشخصيته حتى في الحالة التي يدفع فيها الشرور عن نفسه، وأن يظلّ مرتبطًا بمنهج رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكيلا يُساء إلى أي شخص ولا يُوسَّع نطاق المشكلة يجب تحديد الأسلوب وفقًا للحالة الخاصّة بكل شخص، ومراعاة كل حدث على حدة، وبدلًا من الرد الفوري على المشكلات التي تتم مواجهتها والتحدث عنها يمنة ويسرة من الضروري التفكير في المشكلة ومحاولة إيجاد أنسب حلٍّ لها، ومن المعلوم أن علاج القضايا بالفظاظة أو التجريح أو الإهمال يكسر قلوب الناس ويُبعدهم كما علّمنا الله جل جلاله، ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ﴾ (سورة آلِ عِمْرَانَ: 3/159)…
علينا أن نعلم جيدًا أن هذه المهمّة في تحديد الأسلوب الخاص بكل حالة يُرادُ علاجها إنما تتطلب خبرة وحساسية.. لذا يمكن اعتبار هذا العمل من شأن النخبة والمثقفين.
وتجدر الإشارة إلى أن المشاكل لا يمكن حلها دائمًا عن طريق الحديث عنها، فالحديث عن بعض المشاكل قد يضخم الأزمة أكثر.. يجب أن يكون كلام المؤمن حكمة، وسكوته تأمّلًا وتدبّرًا.. إذا كانت الكلمات التي سننطق بها حكمة وجب علينا أن نتكلم، وإذا لم تكن كذلك وجب علينا أن نصمت وننتظر الوقت المناسب.. هناك بعض المواقف التي يجب على المرء التوقف عندها والتفكر والتأمل فيها، لأن الحكمة تتطور في أحضان التأمل.. إذا كانت هناك حكمة في حديثنا فسنتحدث، وإلا فإن حديثَ كل فرد كما يحلو له وكما يخطر على باله ليس إلَّا ضجيجًا وجعجعةً، وكما نعرفُ أنّ لكلِّ مقامٍ مقالًا فعلينا أن نتعرّف إلى فضيلةِ التحلي بالصبرِ والصمتِ والانتظار.
محاسبة النفس
يشير سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في أحد أحاديثه الشريفة إلى أن الإنسان خُلق مهيأً لارتكاب الخطإ والوقوع في الزلل، وذلك بقوله عليه الصلاة والسلام “كُلُّ ابْنِ آدَمَ خَطَّاءٌ، وَخَيْرُ الخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ“[8]، وهذا يعني أن لدى الطبيعة البشرية ميلًا للوقوع في الخطإ، فالبعضُ يضيّق مجال هذا الميل أو يتغلب عليه تمامًا من خلال وفائه بحق إرادته؛ والبعضُ الآخر لا يستطيع النجاح في هذا الشأن بالقدر الكافي، والمهم هو أن يعتدل الشخص فورًا بعد أن يتعثر ويقع، وأن يتوجّه مباشرةً إلى المكان الصحيح، ويُدخل نفسه تحت صنابير التطهّر فيتطهر.
نعم، قد تزل قدم أي فرد، لكن الهجوم فورًا على ذلك الإنسان، والحديث عن زلتِهِ هنا وهناك وإحراجه لا يوافق الأخلاق الإلهية ولا منهج رسولنا عليه الصلاة والسلام، من واجبنا أن ننظر في عيوبنا وننشغل بتصحيحها بدلًا من أن ننشغل بعيوب الآخرين وأوجُهِ قصورهم، لأن من يتعامى عن عيوب نفسه أو لا يراها بالفعل، يظلّ دائمًا يبحث عن العيوب لدى الآخرين، لكنني أعتقد أن من انشغل بعيوب نفسه ما تفرَّغ لتتبع عيوب الناس.
علينا أن نستدير وننظر إلى أنفسنا قبل أن نلقي بالحجارة على أي شخص، إذا كنا نرتكب عيوبًا مماثلة، فيجب علينا أن نخشى أن يرتد هذا الحجر علينا ويصيبنا في رؤوسنا، يُروى أن سيدنا عيسى عليه السلام قال لمن كانوا ينتظرون وقد أمسكوا بالأحجار في أيديهم أثناء معاقبة أحد المجرمين: “ليُلقِ الحجرَ الأول من لا خطيئةَ له”، وهنا يُسارع كل واحد من الحضور بالتخلص ببطء من الحجر الذي في يده.
وأخيرًا، من المفيد التذكير بأنه لا عذر لنا إذا لم ننتبه إلى مثل هذه الأمور وذهبْنا نخوض مع الجموعِ عن عيوب وخطايا الآخرين، فحتى لو وقع العالم كلُّه في خطيئةٍ ما فإن ذلك لا يشكل عذرًا منطقيًّا لمشاركتنا في مثل خطيئتهم، وكما ورد في المثل فـ”إن كُلّ شَاةٍ سَتُنَاطُ بِرِجْلِهَا”، لا عذرَ يوم القيامة لكلمات من قبيل: “الجميع كان يتحدث وأنا أيضًا تبعتهم”، لأنه كما ذكرت الآية الكريمة ﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾ (سورة فَاطِرٍ: 35/18) فهناك يواجِه كلُّ إنسان فداحةَ ووطأة ذنبه وخطيئته، والواقعُ أنه إذا تسبّب شخصٌ في فتنةٍ وفسادٍ بكلماتِهِ أو كتاباتِه أو ما يصدر عنه؛ فإنه سيعاني أيضًا من وبال الخطايا التي تسبب فيها إلى جانب وبال خطيئتِه نفسه.
وبدلًا من الانسحاق في الآخرة تحت هذه الأعباء الثقيلة فإن الطريقة الأكثر حكمة -حيث تتوفر القدرة لذلك في هذه الحياة الدنيا- هي التحكم بألسنتنا وضبطها على إيقاعٍ كفيلٍ بعدمِ حدوث مشكلات من هذا القبيل، ومن دون ذلك فإنه يجب على المرء أولًا أن يتحقق من مشاعره وأفكاره المتعلقة بإخوته وأن يحافظ عليها نقية طاهرة، لأن ما يصدر عن اللسان هو الأفكار، وإذا كانت الأفكار قذرةً تخرج قذاراتٌ كثيرةٌ من اللسان، ومن يركز على عيوب الآخرين ويشغل ذهنه بها دائمًا فإنه سيعبّر عنها بحديثه النفسي أولًا، ثم يتناقلها ويرددها هنا وهناك.
ومن المؤكد أن من ينشغل بالتجسس وسوء الظن والإهانة ويتحدّث عن عيوب الآخرين باستمرار سوف يرى في الآخرة عقوبة خطاياه، لكن لا يمكن لشخص هكذا أن يكون مرتاحًا في الدنيا، بل إنه بذلك سيحول بيده حياته إلى جحيم، وسيُلوّث خلاياه العصبية، وسينقلبُ الأمرُ عليه ليكون له عقوبةً.
[1] سنن الترمذي، صفة القيامة، 53.
[2] صحيح البخاري، الرقاق، 23.
[3] صحيح مسلم، الذكر، 38.
[4] صحيح مسلم، البر، 32.
[5] صحيح مسلم، الإيمان، 78؛ سنن الترمذي، الفتن، 11.
[6] صحيح مسلم، الحدود، 22.
[7] البيهقي: السنن الكبرى، 9/199.
[8] سنن الترمذي، القيامة، 49؛ سنن ابن ماجه، الزهد، 30.
- تم الإنشاء في