عمى النظام
إنّ الذين يعملون داخل نظامٍ وكيانٍ معيّن قد يُصابون مع مرور الوقت بما يُسمى “عمى النظام”؛ أو ما يمكن أن نسميه بالرتابة والاستسلام للإلف والتعوّد، فلا جَرَمَ أنّ تكرار الأعمال على الدوام بشكلٍ معين وتنسيقٍ محدَّدٍ روتينيٍّ يؤدّي إلى الرتابة، فإن لم يُراجَع هذا النظام ويُجدَّد على فترات معينة، ولم تُسدَّ الثغرات وتُكمَّل النواقص؛ حصل مع الوقت نوعٌ من عمى النظام، وهذا من شأنه أن يقف حائلًا دون الابتكار والتجديد، وأن يصيب الناس بالعمى في أفكارهم ومشاعرهم.
فإن لم تأخذ الأنظمة -دنيويةً كانت أم أخرويةً- بالتدابير اللازمة السليمة وتلتمسْ أسباب التجديد أصيب العاملون فيها بالعمى، فلا شكّ أن حبس كلِّ شيءٍ داخل أنماطٍ معينة، ووضْعَ كلِّ أمرٍ داخل قوالب محددة؛ يصيب الناسَ بشللٍ في أفكارهم ومشاعرهم، وهذا يؤدّي بدوره إلى تعطُّلِ عجلات العمل والإنتاج وتوقّفِها عن الدوران.. فإن لم يُعالَجْ عمى النظام هذا؛ ضعفت الأنظمة الكبيرة والدول والمؤسسات القائمة وانهارت مع مرور الوقت.
لا أحدَ ينكر أن إنشاء نظامٍ قويٍّ يعمل بانتظامِ ودِقّةِ الساعة له أهميّةٌ بالغةٌ في تحقيق الكفاءة وزيادة الإنتاج، ولكن إذا تعذّر تطوير فلسفة التجديد والابتكار المستمرّ أصبح ذلك بمرور الوقت عقبةً في طريق التجديد والتميّز والكمال؛ لأن الناس إذا رأوا أن كلَّ شيءٍ ثابتٌ في مكانه لن ينهضوا بعمل أبحاثٍ جديدة، وبذلك يكونون قد بنوا بأيديهم سدودًا لا يمكن تجاوزها؛ فلن يشعروا بالقصور والعيوب من حولهم، ولن يستطيعوا مواكبة الزمان، وعليه؛ يُصاب النظام الذي يدورون في فلكه بالتقادم والشيخوخة.
وقد يحدث عمى النظام في كلِّ مكانٍ أو مجالٍ يهيمن عليه نظامٌ ما -صغيرًا كان أو كبيرًا- بدايةً من نظام الدولة حتى الحياة الاجتماعية، ومن عالم التكنولوجيا إلى مؤسّسات التكافل الاجتماعي، فمثل هذه الأنظمة لم تستطع -بعد قيامها- أن تتقدّم عن المركز إلا مسافة بسيطة مكتفية بما لديها من إمكانات متاحة، فلو أن الناس اعتقدوا أن النظام يعمل من تلقاء نفسه ولم يُعملوا عقولهم وقوة تفكيرهم، وكان همُّهم تخفيفَ العبء فقط على النظام القائم؛ فلن يبقى هذا النظام طويلًا، وبعد فترة سيُصاب بالأعطال والعِلل، ويصبح الانهيار أمرًا لا مفرّ منه.
من الواضح متى وماذا سيفعل العاملون ضمن نظام أو مؤسسة قائمة، فهؤلاء -عامة- لا يتجاوزون الأعراف والعادات، ولا شك أن تكرار نفس الأعمال على الدوام يؤدّي إلى الملل والضجر، ويصيب الناس بالعمى، وفي هذا الجوّ تتعذّر الاستفادة -بقدر الكفاية- من القابليات والقدرات الموجودة، وللتّخلّص من ذلك لا بدّ من تجديد الصوت والنفس، وتعديل الأسلوب، وتغيير نمط الحركة، من أجل ذلك فإن تبديل مواقع العاملين من وقت لآخر ووضعهم في أماكن جديدةٍ دون خلق فراغٍ خطيرٍ في مواقعهم القديمة؛ يحول دون عمى النظام، فهؤلاء سيذهبون بتجاربهم إلى مواقعهم الجديدة، ومن يأتون بدلًا منهم يهبُّون على المكان برياحٍ جديدة؛ فيُحقِّق الفريقان نجاحًا غير مسبوق في الأماكن التي لم يطرقها الأقدمون، أو التي لم يستطيعوا النجاح والفلاح فيها؛ وذلك طالما يسمح النظام القائم للقادمين الجدد بإظهار مواهبهم وقدراتهم، ولم يعمل على قمعها وإضعافها.
فإن لم يستطع الناسُ تحقيق هذا بإراداتهم واختياراتهم خلّصهم الله بلطفه الجبري من الوقوع في عمى النظام هذا، ووضعَهم في مأزقٍ حتى يشعروا بالحاجة إلى قلب النظام الذي أسّسوه، وإن مراجعةَ كلِّ شيءٍ من البداية يُشعر الناس بالكشف عن أشياء جديدة تتوافق مع قيمهم وعوالمهم الروحية.. وإن انسلاخهم من العالم السحري الذي يعيشون فيه؛ يفتح أعينهم، ويجعلهم يرون المسائل التي ينبغي تغييرها وتجديدها بشكلٍ أفضل؛ ومن ثَمّ يعملون على تغيير أنماطهم، ووضع أنظمة جديدة تتوافق تمامًا مع روح التجديد.
فإن تواكب العاملون في نظامٍ ما مع ظروف عصرهم، فعدّلوا أنظمتهم وجددوا أنفسهم؛ استطاعوا الحفاظ على ما في كيانهم من حيويّة، وهذا هو السبب في بقاء التكايا والزوايا في تركيا وصمودها مدة طويلة؛ فهؤلاء كانوا يثيرون حماس الناس بما يقومون به من تغييرات وتجديدات، وكأنهم قد أعلنوا الحرب على الرتابة والإلف والتعود.. وكذلك فما من نظامٍ يستمسك بالوسائل التي تزيح حجاب الإلف والتعوّد محافظًا على جوهره وهويته من ناحية، وساعيًا إلى التجديد الدائم من ناحية أخرى؛ إلا ضَمِنَ لنفسه عمرًا أطول في التاريخ وحيويّة أنضج في الهيكل.
لكن ليس الأمر يسيرًا كما يبدو؛ لأن الاعتقاد بأن النظام يسير بانتظام؛ يثبّط الهمّة نحو مراجعةِ النظام من جديد، والتدخّلِ بالإصلاح عند الضرورة، واستبدالِ المواضع التي تحتاج إلى تغيير، وتجديدِ الجوانب الخاملة.. كما أنه يُبطل عمل العقل والمنطق، وفي الحقيقة هناك قدر كبير من اللامنطقية ولكن لا يراها أحد، فكلّ شيءٍ يسير برتابة ويُكرّر نفس الأسلوب، ولذلك فمن الأهمية بمكان وجود أشخاص قادرين على تحطيم هذه الرتابة، والتخلّص من فخّ الروتين، ومراجعة كلّ شيءٍ مرّة بعد أخرى.
فمثلًا تسير معظم الأعمال في إدارات الدولة والأنظمة السياسية والمنظمات الحزبية على نسقٍ ثابت ووتيرةٍ واحدةٍ لا تتغيّر، ومعظم الذين يديرون هذه الأعمال يلتزمون بنصوص اللوائح والقوانين التي يحفظونها ولا يخرجون عنها قيد أنملة؛ ولهذا لا تضيف الأحزاب ولا رجال الدولة غالبًا أشياء جديدة للسياسة العالمية، ولا يطوّرون الدبلوماسيات التي تعد بالمستقبل، ولا يستطيعون إدارة المبادرات المدنية، علمًا بأننا في أمسّ الحاجة إلى كسر هذا الروتين، والبحث عن ابتكارات جديدة، والسعي وراء التجديد؛ دون خروجٍ عن الأُطُرِ والمقاصد الشرعية.
من الأهميةِ بمكان وجودُ نظامٍ قوي ناضج راسخ، وهذا يتطلّب التقويم الجيد، وابتكار أشياء جديدة، مع عدم التخلي مطلقًا عن التحليل والتركيب.
فيجب على الإنسان أن يتساءل حتى عن الموضوعات التي يعلمها جيّدًا، وأن يستفسر حتى عن أكثر الأمور المؤكَّدة لديه، بل يمكنه عند اللزوم أن يعيد النظر مرة أخرى في قوانين الطبيعة المسلّم بها منذ القدم مثل قانون الجاذبية، فأفكارُ البشر معرَّضةٌ للخطإ والقصور على الدوام، فلو اعتبرناها حقائق مطلقة، وجعلناها مسلّمات عقلية؛ فقد قيّدنا أيدينا بأنفسنا، وشللنا عقولنا، وعرقلنا التفكير الحرّ رغم أنه عنصرٌ مهمٌّ في الانفتاح على التجديد.. فلا ينبغي للإنسان أن يسمح لأيِّ شيءٍ بالاعتراض على التفكير الحر ما عدا أوامرَ الوحي المحكمةَ، بل عليه دائمًا أن ينفتح على الأفكار الجديدة، والابتكارات الحديثة، والتطوّرات العصريّة.
وهنا أريد أن أذكّر بما يلي: لا بدّ أن يجري التغيير والتجديد بشكلٍ فطريٍّ طبيعيّ، وأن تكون الاحتياجات محدّدة في هذه المسألة، وأن يُحدَّد جيدًا ما الذي يجب أن يتغيّر، وما الذي يمكن تركه إلى حينه، وليس على الإنسان أن يشدّد على نفسه، ويكلّفها بعمل أشياء جديدة تصنُّعًا وتظاهرًا، فلا يخرب الجماليات التي أنشأها الآخرون لمجرّد إثبات النفس، ولا يبادر إلى المخالفة، كما أنه من الأهمّية بمكان عدم الإقدام على هدمِ ما هو موجود دون وضع خططٍ بديلةٍ، وكذلك عدمُ مقاومة الأنظمة العاملة بدافع التمرّد فقط دون داعٍ، وإلا وقعنا في مزيد من الفوضى والاضطراب في الوقت الذي نرغب فيه بالتخلّص من النظام الأعمى.
- تم الإنشاء في