التصرف السليم إزاء التعيينات وتكليفات العمل
سؤال: ما التصرف السليم تجاه التعيينات والتكليفات بالعمل التي تتم في مؤسسةٍ ما؟
الجواب: إن ضمان استمرارية نظام التعيين والتوظيف في أية مؤسسة دون قصور أو خلل يعتمد في الأساس على توافر شعور الثقة المتبادلة بين الإدارة والموظفين العاملين تحت مظلتها، ولو أن من يمتلكون سلطة توظيف الناس، وكذلك الذين يتحملون وظائف ومسؤوليات معينة يقومون بأداء حق الأمانة التي حُمِّلوها، ويتجنبون الوقوع ولو حتى في أدنى أنواع الخيانة، ويبثون الثقة فيمن حولهم لَما حدثت مشكلة ولا حتى احتقان في النظام.
المسؤوليات الواقعة على كاهل هيئة التعيين
زيادةً في التوضيح يجب على المسؤولين عن التعيينات مراعاةُ مبدإ المساواة في معاملة الجميع، وألا يُحابوا أحدًا، وألا يقوموا بأفعالٍ مبنية على الحسابات الشخصية، بل يجب عليهم أن يُراعوا أوضاع مَنْ يُعيّنونهم، وأن يتصرّفوا وفقًا للمصلحة العامة، ذلك أنهم إذا فكروا في مصالحهم الشخصية وانصاعوا لوساوس أنفسهم، فقد أكلوا حقّ العباد، وسيحاسبهم الله على ذلك، وإن لم يُحاسَبوا على ذلك في هذه الدنيا، فإنهم سيُحاسبون عليه في الآخرة حيث تنكشف جميع الأسرار، وعندها يتحرّقون خجلًا وحرَجًا في حضرة الله بسبب ما في قلوبهم من أحقاد وسوء نيّة وحسابات شخصية.
يجب على مَنْ هم في موقعٍ يسمح لهم بقيادة الناس وإدارتهم أن يراعوا قدرة الأشخاص الذين سيكلفونهم بالعمل وملَكَاتهم؛ فقد أعطى الله ملَكاتٍ وقابلياتٍ مختلفةً للجميع، على سبيل المثال قد يكون أحدهم رجلَ نظام وانضباط بشكل كامل.. ويكون آخر ذا همة بحثية عالية؛ فهو يتجول باستمرار بين الكتب، يفتش فيها فيعثر على أفكار أصلية ويستخرجها.. وآخر لديه روح فنية رائعة.. وآخر لديه قدرة على البيان؛ يعرف كيف يتكلم وأين وكيف يتحدث… إلخ. إذا تم توظيف كل واحد من هؤلاء حسب قدرته وموقعه، فسوف يُوفَّقون بإذن الله تعالى.
لكل فرد جانبٌ يتقنه ويبرز فيه، والمهم هو اكتشاف وتحديد هذا الجانب بشكل صحيح، وتوزيع المهام والوظائف وفقًا لذلك، فمثلًا إن تُجْبِروا شخصًا لم يرسم يومًا في حياته على رسم صورة، أو إن تتوقعوا من شخص لم يُمسك قلمًا طيلة حياته أن يكتب مقالًا جميلًا أو أن تقترحوا على شخص محروم من البيان أن يُلقي خطبة؛ فمن المرجح ألا يروقكم العمل الذي سينتج عن ذلك، إذا كنتم لا ترغبون في التسبُّبِ بهذه النوعية من الأعطال وأوجه القصور والخلل فعليكم أن تسعوا إلى اتخاذ خيارات صائبة منذ البداية.
لقد كانت تكليفات رسول الله صلى الله عليه وسلم في محلها تمامًا، فما من أحد وظَّفَه في مكانٍ يستهدف منه تحقيق شيء ما إلا وقد تحقّق ذلك الهدف؛ لأنه عليه الصلاة والسلام يعرف جيّدًا ملكات وإمكانات أصحابه، وفي أي مجال يمكنهم أن ينجحوا، فكان يوظّفهم وفقًا لذلك، إنكم حتى وإن وصفتم النبي عليه الصلاة والسلام بالعبقري، فما منحتموه الدرجة التي يستحقها، إن الأنبياء أصحاب “فطنة”، وهي تفوق العبقرية بكثير وكثير.
نحن لسنا أنبياء، إننا لا نملك الفطنة النبوية مثل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أصحاب فراسة وكياسة بمستواه عليه الصلاة والسلام، قد لا نستطيع دائمًا قراءة الناس بشخصياتهم وسماتهم، ربما لا نتمكن من النظر إلى الحوادث نظرة مخروطية شاملة، ربما نخطئ في اختياراتنا، قد نظن أن “فلانًا يتقن هذا العمل”، إلا أننا نخطئ فلا تكون النتيجة كما نأمل، وعليه لا ينبغي ترك مثل هذا العمل المهم للمبادرات الشخصية، بل يجب أن يُحال إلى الوعي الجمعي، فإن تم تناول المشاكل بمبدإ المشورة؛ قلَّت احتمالية حدوث أخطاء، ذلك لأنه، وعلى حد قول سيدنا رسول الله: “مَا خَابَ مَنِ اسْتَخَارَ، وَلَا نَدِمَ مَنِ اسْتَشَارَ“[1].
علاوة على ذلك، فإن القرارات التي تتخذها هيئة ذات معرفة وخبرة تُعتبر قرارات مقبولة لدى المعنيين بها؛ إذ يشعر الناس براحة أكثر إزاء تقديرات هيئة تتكون من أشخاص يحملون هذه الأوصاف والمؤهلات، فإن يجتمع أشخاص ذوو خبرة يعرفون المجال جيدًا، فيكلفون بمهام يمكن النجاح فيها فقد تمت الحيلولة دون الخسائر والأضرار التي قد تنشأ، ولم يُفسح المجال لخيبة الأمل والاستياء، وأثمرت الأعمال المنجزة بنجاحات كبيرة.
مسألة أخرى يجب على هيئة التعيين الانتباه إليها، ألا وهي إعداد مَنْ سيُكلفونهم بمهمة جديدة إعدادًا ذهنيًّا وفكريًّا بما يناسب تلك المهمة الجديدة، وتزويدهم بالمتطلبات والتجهيزات اللازمة المتعلقة بالعمل الذي سينجزونه، فمثلًا إذا كان ثمة أشخاصٌ سيرسَلون إلى مكان جديد، فيجب ضمان أن يتعرفوا بشكل جيد للغاية على الناس في ذلك المكان الجديد وعلى ثقافتهم وأن يعرفوا تفاصيل المهمة التي سيضطلعون بها، وذلك من خلال عقد ندوات ودورات وتنظيم عروض تقديمية تتعلق بها، يجب الوقوف على الصعوبات التي ستواجههم والمخاطر المحتملة بشأن العمل الذي سيقومون به، ويجب توضيح أهمية العمل الذي يتعين القيام به، والعملُ على أن يذهبوا لأداء المهمة المنوطة بهم وروحُهم المعنوية وحافزهم الذاتي عالٍ.
أمر آخر مهم هو الأسلوب الذي سيتم استخدامه عند الإعلان عن المهمة والكشف عنها، يجب على المسؤولين عن هذا الأمر أن يشرحوا للمكلفين بالمهمة الجديدة مدى أهمية مهمتهم شرحًا وافيًا جيدًا، وأسباب اختيارهم لهذه المهمة من ناحية، كما يجب عليهم، ومن ناحية أخرى أن يجعلوهم يعتقدون بأنهم يستطيعون القيام بعمل جيد أينما ذهبوا، وذلك بفضل علمهم وخبرتهم، يجب ألّا يُسمح أبدًا لأية شكوك بأن تساور أذهانهم، وألا يُسمح لأية عقدة أيضًا بأن تستقر في أنفسهم، كما يجب ألا يُسمح لأي استياء أو انزعاج بأن يتسلل إلى صدورهم.
المسؤوليات الواقعة على عاتق المُوظفين
إن الواجب على هؤلاء المُعينين لوظائف مختلفة في بلدان ومدن شتى هي التعامل مع المسألة بحسن ظن واحترام للتكليف الصادر بحقهم، فإن لم يتصرفوا هكذا وراودتهم أفكار من قبيل: “إنهم يقصونني عن هنا لتأنيبي وتأديبي، مع أنني قد كوَّنت أرضية جاهزةً هنا، وكنت سأضطلع بأعمال أكثر فائدة، لا يمكنني أن أكون مفيدًا بهذا القدر حيث سأذهب”؛ فقد قيموا المسألة من جانب واحد ووفقًا لحساباتهم الخاصة، وكما أن موقف هؤلاء مجهول بالنسبة لأولئك، فإن موقف أولئك مبهم أيضًا بالنسبة لهؤلاء، لا أحد يستطيع أن يعرف نوايا أو أفكار أي شخص أو ما يدور في قلبه، لهذا السبب، نحن مأمورون بحسن الظن ما أمكن، فنفكر بإيجابية في المهمة المُناطة بنا، بل إننا نجد مجموعة من الأوجه المعقولة نحمل عليها الأشياء التي تبدو في الظاهر وكأن فيها تقليلًا للمرتبة، فنقول: “لا بد وأن ذلك المكان يحتاجني، لذلك فكروا في إرسالي إليه”، فنذهب إلى مهمتنا الجديدة دونما تردد، أي إننا نؤدي ما يُناط بنا ونقوم بدورنا، فإن كانت هناك بعض الاعتبارات والمآرب وراء هذه المسألة أحلناها إلى الله، وإلا فإن رضا كل فرد عن المهمة المكلف بها أو عدم رضاه عنها بحسب آرائه الشخصية تُكبّل إرادة الهيئات التي تتولى الإدارة، ويصير من المستحيل عمل توزيع جيد للمهام، وإنشاء آلية صحية لها.
إننا في معظم الأحيان لا نستطيع معرفة عاقبة الأمر؛ فما نراه في البداية شرًّا قد يكون مفيدًا لنا بالنظر إلى مآلاته، ومن ذلك على سبيل المثال، أننا عندما ننظر إلى حياة الأستاذ بديع الزمان، نرى أن ذلك الشخص العظيم قد نُفي من مكان إلى آخر؛ فقد تم ترحيله من جبل “أرك” ونُفي إلى “بارلا”، ومنها نُقل إلى “قسطمونى”، ثم إلى “دنيزلي” بعد مدة، وهكذا كانت حياته دائمًا في المنفى والسجون، تم ترحيله ونقله من مكان إلى آخر تجليًا للقدر، ولكن هذا قاده إلى نثر البذور أينما ذهب، وأن يوصِّل صوته وأنفاسه للمحتاجين، لقد حوَّل الظلم والجور والسجن إلى مكسب ونصر، وبعبارة أخرى، ينبغي ألا ننسى أن الله سبحانه وتعالى أحيانًا ما يكشف من خلال الاضطهاد والظلم الذي يقع على يد الناس، عما تقضي به مشيئته وإرادته أيضًا؛ فهذه الأعمال وإن بدت وكأن الناس هم من يقوم بها، إلا أنها في الواقع هي من تصرّف يد القدر.
إذا لم تكن هناك عقبة حقيقية فليس من الصواب عدم القيام بالمهمة المحددة، وعدمُ الذهاب إلى المكان المُشار إليه، أما اختلاق الأعذار لرفض ذلك فهو خطأ أكبر، لا بد من التصريح بالحقيقة مهما يكن، إن قول: “آسف، ليس لدي عذر في ذلك، لكن لا يمكنني الذهاب إلى مثل هذا المكان، لا يمكنني القيام بمثل هذه المهمة”؛ بصراحة ووضوح يجعل الموقف أكثر صحة وسلامة.
نعم، من القبح أن يستنكف الشخص عن وظيفة إيجابية وجيدة ويتخلى عن واجب ينبغي له القيام به، أما اختلاق الأعذار غير المعقولة وغير المنطقية، والتحجج بالوالدين، والأسرة والأطفال والصحب والرفاق فهو أعظم قبحًا.
بالإضافة إلى ذلك، قد يكون لدى الشخص المكلف بالمهمة الجديدة رأي مختلف بشأن هذه المهمة والتعيين المقرر، ولكن التعبير عنه بأسلوب مناسب من جملة واجباته أيضًا، كما أنه يُعتبر جانبًا من جوانب المشورة، فعلى سبيل المثال، يجب أن يقول: “أنتم توجهونني إلى الإرشاد والتبليغ، لكنني لست كفئًا في هذا المجال، سأكون أكثر نجاحًا إذا قمت بواجب مثل كذا”..
وقد تكون لدينا آراء شخصية أخرى؛ فربما قد تلقينا سابقًا تدريبًا في مجال مختلف، وبما أننا نمتلك شهادة في تخصص معين فيجب التعبير عن مثل هذه الحالات والتصريح بها، وإن واجب المسؤولين يتمثل في أن يضعوا كل هذه الأمور نصب أعينهم، ويتخذوا القرار وفقًا لذلك.
طلب الوظيفة والتوقعات
غالبًا ما تكون هناك توقعات تتوارى وراء عدم الرضا والاعتراضات على التعيينات سواء في الدوائر الحكومية أو المنظمات غير الحكومية؛ فمَنْ يتطلعون إلى مناصب أعلى ومَنْ ينتظرون ترقية يفتعلون المشاكل عندما يتعذر عليهم نيل ما يأملونه؛ فيتخذون موقفًا ضد الوظائف التي يرونها بمثابة حطٍّ من الشأن، في حين أن هذا ليس صحيحًا، المهم هو أن يوفيَ الإنسان بحق إرادته ووضعه، وأن يقوم بواجباته ومسؤولياته بالطريقة المثالية، وعليه في أثناء القيام بذلك ألا يتشوف إلى أي شيء وألا يترك جانب الاستغناء، فالاستغناء مبدأ مهم جدًّا في الدين، ذلك أن من يقدرون الأمور حق قدرها إن لم يقدّرونه اليوم فسيقدرونه غدًا، ويأتون به إلى حيث يجب أن يكون، وما يظهر في هذا الشأن من طمع هو سبب الخسران؛ فالإنسان الطامع غالبًا ما يُقابل بعكس غرضه؛ ذلك لأن طمعكم يدفع الآخرين أيضًا للطمع، وهذا يثير مشاعر التنافس غير المحمود.
إن طلب تولي الإدارة والحكم لم يلق استحسانًا في الإسلام، ولم يُرحب به، ومن ذلك مثلًا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رفض طلبات الصحابة من أمثال سيدنا أبي ذر وسيدنا العباس اللذين طلبا الوظيفة، ويقول الشيخ بديع الزمان: “إن “التابعية” أفضل من “المتبوعية” التي هي سبب المسؤولية، ومكمن الخطر”، يجب أن يكون الأساس هو تقديم مَنْ يستطيعون النجاح، ويمكنهم إتقان العمل، ومنحهم الفرصة.
أجل، إنَّ طلبَ الإمارة أو الإدارة لم يحظَ بالترحيب والقبول في ديننا، إلا أن لهذا المبدإ العام بعض الاستثناءات، فمثلًا يمكن للإنسان في حال عدم وجود شخص غيره يستطيع القيام بعمل مهم أن يقول مثلما قال سيدنا يوسف عليه السلام: ﴿اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ﴾ (سورة يُوسُفَ: 12/55)، وبالمثل لا يُسمح للمرء بالتحدث عن الدين بأريحية ما لم يتم تعيينه في بعض المهام والوظائف، وفي هذه الحالة يمكن للمرء أن يطلب تولي منبر جامع أو محرابه أو منصته وتحديث الناس عن الحق والحقيقة، وكذلك يمكنه أن يفكر في أن يطلب العمل بالتدريس في مركز تعليم للقرآن ويفكر في تعليم من هناك من الطلاب القرآنَ الكريم والحقائق الدينية.
باختصار، يجب على المرء عندما يطلب وظيفة أن يُحكِّم ضميره، ويسأل نفسه هذه الأسئلة: “هل أريد هذه الوظيفة لله حقًّا أم من أجل تحقيق الهيبة والوجاهة أو كسب بعض المصالح الدنيوية؟” يجب على كل إنسان أن يزن نفسه وفقًا لهذا الميزان، وأن يضبط ما سيتخذ من خطوات.
وكما هو معروفٌ فإن سيدنا عمر رضي الله عنه حين عزل سيدنا خالد بن الوليد عن قيادة الجيوش لم يعترض رضي الله عنه قطّ، بل واصل الحرب بين صفوف الجنود[2]، وبالمثل فإن أبا عبيدة الذي عينه سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائدًا في سرية ذات السلال استطاع أن يتخلى عن حقه في القيادة كي لا يتسبب في وقوع خلاف[3]، إننا نطالع مثل هذه التضحيات التي بذلها الصحابة ونقدرها، ولكن المهم هو القدرة على الاقتداء بهم في هذا الموضوع والتمكن من القيام بما قاموا به كما ينبغي أن يكون الحال في كل مجال، إن التطبيق هو الأكثر أهمية من القراءة والمطالعة، فعلينا إن لم نتمكن من فعل هذا أن نترك هذه المعلومات كلها بين دفات الكتب إلى أن يأتيها من يقرؤونها ويجعلونها طبعًا وطبيعة فيهم!
لماذا نقرؤها؟!
إن كنا نعجز عن أن نتشكل وفقًا لهؤلاء فأية فائدة إذًا في قراءتها؟!
خلاصة القول إنه يجب على المرء أن يكون جاهزًا لأداء كل المهام دون أن يفرق بين كونها صغيرة أو كبيرة، يجب عليه أن يقبل أن يكون جنديًّا عاديًّا بدون حرج وانزعاج إذا لزم الأمر.
[1] الطبراني: المعجم الأوسط، 6/365.
[2] انظر: الحلبي: السيرة الحلبية، 3/279.
[3] انظر: سيرة ابن هشام، 2/623.
- تم الإنشاء في