السماحةُ أمانةٌ في أعناقكم
إن الله سبحانه وتعالى هو الذي منّ على فدائيّي الخدمة الإنسانية بالنجاح في المجهودات التي قاموا بها، وكما منّ عليهم بهذه الألطاف فإن إحساناته تعالى ستستمر إن شاء الله، وإن فدائيّي الخدمة الإنسانية سيستمرّون بأداء مهامهم النبيلة باستخلاص جوهر القيم الروحية والمعنوية ومشاركتِها مع الآخرين سواء في بلدهم الأصلي أو في بلاد مختلفة حول العالم.. وكما حدث سابقًا وفي كل عصر وزمان؛ فعلى الضفة الأخرى هناك بعض المجموعات ستستمر بالتضييق والضغط عليهم، وستقوم بمشاريع عدائية ضد الخدمة الإنسانية.
وإلى جانب عداوة الأعداء سترون غدر الأصدقاء، فمع أنهم يستقبلون معكم القبلة نفسها، ويقفون إلى جانبكم في نفس الصف متوجهين إلى الله تعالى ساجدين إليه، إلا أنهم ينكرون النجاحات التي منّ الله بها عليكم.. وسيدفعهم هذا الإنكار إلى تشويه صورتكم تحت مسميات مختلفة، وسيشنِّعون أجمل أعمالكم الإنسانية، وسيمنعونكم حتى من حقوقكم الأساسية كمواطنين.. وباختصار: سيبذلون كل ما في وسعهم لوضع أيديهم على الطريق الذي مهّدتموه، وربما ستتعرضون لِـجفاءٍ وظلم من هؤلاء الأصدقاء أكثر من الأعداء، وها نحن اليوم نرى هذا النوع من الظلم والأذى بجميع أشكاله ولذلك نشعر باضطراب يقدّ ظهورنا.
إنكم لو استطعتم قراءة طبيعة الإنسان، وفهمَ حيل النفس والشيطان، لأدركتم أن جَور الأعداء وجفاءهم، وحسد الأصدقاء وجحودهم سيظلّ مستمرًّا ومكرّرًا بأشكال وألوان مختلفة؛ إذ يصبح رموز الشيطان يومًا بعد يوم أكثر احترافيةوخداعًا في علاقة عكسية من قلة خبرتنا وسلامة طويتنا.. وبجوار الأعداء ستجدون الأصدقاء يعادونكم ويجورون عليكم، وسيظلم المؤمن أخاه المؤمن.
ولكن أيًّا ما كان الذي سيفعله الآخرون، فالواجب علينا عدم مقابلة الظلم بالظلم، ربما يوجهون لنا الصفعات واللكمات، وربما يحرموننا من حقوقنا في الحياة، ولكن أيًّا تكن الظروف فعلينا ألا نغيّر خُلقنا ونلتزم بسلوك أمثال يونس أمره، ومولانا الرومي.
أجل، عليكم أن تفتحوا صدوركم للأصدقاء والأعداء على حدّ سواء، فتعهدوا بمسامحتكم ولينكم إلى تخفيفِ شِدّتِهم وحدّتهم وغِلّهم وحقدِهم وغيظِهم وحيلهم وخداعهم، وإلى إبطالِ مفعول ذلك كله.. إنكم بسلوكياتكم وتصرّفاتكم الإيجابية ستُجهضون الحيلَ التي يقوم بها من يمكرون بكم، ويدبرون لكم السوء والمكروه.. إن أمطروا السماء فوقكم بالشهب فعليكم أن تُفَتِّتوها بالرفق واللين في المعاملة، فتحوّلوها إلى أشعّة ضوء منيرة، تبتهج تحتها النفوس وتُقام في ظِلالها الولائمُ والأفراح.
فإن عجزتم عن فعل ذلك ما كان بمقدوركم المحافظة على روح الوحدة داخل بلدكم ولا المساهمة في نشر الصلح والسلام في العالم على حدّ سواء، ومما يستدعي الأسف أنه ليس هناك سوى قلة قليلة ممن يدركون حساسية ودقة المسألة إلى هذه الدرجة، لا يُدرك المسألة، لا هؤلاء الذين يعادون الدين والتدين، ولا أولئك الذين يسيرون رافعين راية الدين.. وإنكم لو غفلتم كما غفلوا لقامت القيامة.
إنتاج المشاريع البديلة
ولذلك فما يقوم به الآخرون من أخطاء وسيئات تجاهكم يجب ألا يحرك في نفوسكم مشاعر مواجهة الخطإ بالخطإ، ولكن على العكس من ذلك فما يمارسونه تجاهكم من سوء معاملة لا بد أن يسوقكم للقيام بإنتاج مشاريع بديلة، فمثلًا: يجب أن نفكر؛ كيف يمكننا إزالة تأثير هذا الإشعاع الضار، وكيف يمكننا تجنب هذه القنبلة الذرية؟ وكيف يمكننا صد هذه الأنظمة المتحدة ضدنا؟ فعلينا تطوير مشاريع مختلفة في هذا الشأن.
ولو أنكم لم تنتجوا مشاريع بديلة في مواجهة السلبيات الموجَّهة إليكم، وفكرتم في مواجهتها بما يماثلها لتكوّنت الدائرة الفاسدة، ولو أنكم قابلتم أخطاء الآخرين بأخطاء أخرى فحينها تكونون قد ضاعفتم الفساد ليس إلا؛ فالخطأُ الواحد سيصبح خطأين، والخطآن سيصيران أربعة، والأربعةُ ثمانية وهكذا لن تستطيعوا إيقاف الفتن الناتجة عن هذه الدائرة الفاسدة.
ومن جهة ثانية، فكما يجب على المؤمن أن يتجنب المعاصي، كذلك عليه ألا يسوق الآخرين إلى ارتكاب المعاصي، بل وحتى عليه أن يَحُول ويمنع دون ارتكابهم المعاصي، وعليه أن يتحلى تجاه الآخرين بالتسامح واللطف والعفو والإحسان والتضحية.. وباختصار: فعليكم أن تشحنوا الجو العام بالأخلاق الإلهية العالية، وحينها فكل من يدخل في هذا الجو العام لن يجرؤ على ارتكاب السوء، وكما يقول الله جل جلاله: ﴿وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ (سورة التَّغَابُنِ: 64/14).
وقد لا يطول بعمري الزمان، فالحمل الأثقل والأكبر لهذا الأمر يقع على عاتقكم، المستقبلُ أمانة في أيديكم، إن حمل المشاعل لتبديد الظلمات وتحويلِها إلى نور هو أمانة في أعناقكم؛ وإن التزامَ السماحة والعفو والصفح والتغاضي والتخلّق بأخلاق الله تعالى أمانة في أعناقكم.. كم من معاصٍ ومساوئ نرتكبها! ولكن الله سبحانه لا يهلكنا، ويعاملنا بحلمه ويمهلنا مرات ومرات، وما يقع على عاتقنا هو التخلّق بأخلاق الله، ويجب أن يكون هذا هو هدفنا الذي نتعقّبه، وما يفعله الأصدقاء من أخطاء ومساوئ تجاهكم أو ما يقوم به الذين يُظهرون لكم العداء من جور وجفاء مستمرّ فكلاهما لا ينبغي أن يكونا سببًا في مسخ شخصيّتكم. بل يجب الحفاظ على مبدئكم كما تحافظون على شرفكم، وذلك بمقتضى قوله تعالى: ﴿كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ﴾ (سورة الإِسْرَاءِ: 17/84).
اللهم اغفر لقومي!
وكما تعلمون فإن الرسول صلى الله عليه وسلم في غزوة أحُد قد لاقى جَورًا وجفاءً من الأعداء، كما أن بعضًا من صفوف الأصدقاء لم يستوعبوا دقة الامتثال والطاعة لأوامر الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا في حقّ المقرّبين عدمُ وفاء.. ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم في مواجهة أولئك الأعداء الذين جاؤوا بهدف القضاء التام عليه وعلى الإسلام في “أُحد”؛ دعا لهم صلى الله عليه وسلم قائلًا: “اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ“[1]، أما في مواجهة الصحابة الذين أخطؤوا في اجتهاداتهم فلم ينبس ببنت شفة في حقهم، ولذلك جاء المدح والتبجيل للرسول صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾ (سورة آلِ عِمْرَانَ: 3/159)، فيقرّر الحق سبحانه مفهوم اللين في المعاملة، وبعد ذلك يذكّرنا بالسلوكيات الواجب مراعاتها فيقول سبحانه وتعالى: ﴿فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ﴾.
وهنا، بينما تبرز الآية عِظم خُلق مفخرة الإنسانية صلى الله عليه وسلم، تُنَبِّه في الوقت نفسه إلى أهمية الالتزام بالحال اللين، والسلوك اللين، والقول اللين، بل وتدعو أيضًا إلى العفو عن الخطإ والتغاضي عن التقصير، والتوجّه إلى الله لطلب العفو والمغفرة لهم، وعدم إهمال جانب المشورة في الأمر، والمخاطَبُ الأول بهذه الأوامر هو الرسول صلى الله عليه وسلم وفي نفس الوقت فنحن مطالبون باتباع هذه الأوامر بالتبعية للرسول صلى الله عليه وسلم، ولذلك فمهما كانت الظروف صعبةً فعلينا أن نتجنب الغلظة والفظاظة والغضب الذي يوقد النار ويشعلها حولنا، وإلا فسنجدُ أنّ من تجمّع حولَنا قد تفرّق وانفضّ.
من المعلوم أن مواجهةَ الإساءة بالإحسان أحد أهم الدساتير القرآنية، وكما تقول الآية الكريمة: ﴿وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾ (سورة فُصِّلَتْ: 41/34).
فليس مشروعًا لكم أن تقابلوا المساوئَ والمظالمَ والتعذيبَ بالمساوئِ نفسها، وإن فعلتم فسيحاسبكم الله سبحانه وتعالى، وإذا قابَلْتم الفسادَ بالفسادِ والظلمَ بالظلمِ فسيحاسبكم ربكم ويسألكم: “لماذا لم تتصرّفوا بصورة إنسانية؟”، “لماذا لم تقتَدوا برسولكم محمد صلى الله عليه وسلم؟”.
فعلى المؤمن أن يكون حذرًا يقظًا لكيلا يسوقه ظلمُ أحدٍ بالطرق والأساليب الشيطانية إلى الخطإ، وإن قابله أحد بالإساءة فعليه أن لا يقابله بمثلها، بل على العكس عليه أن يشحن ويقوّي نظامه الداخلي بالصبر والتحمل قائلًا:
ما أعذب البلاء إن كان من جلالِك!
وما أحلى الوفاء إن كان من جمالِك!
فكلاهما صفاء للروح
فما أحلى لطفك! وما أعذب قهرك!
(إبراهيم تنوري)
علينا أن نردّدَ هذه الكلمات ونُحسِنَ في مقابلة مساوئ الآخرين، ونتصرفَ بعدها كأن شيئًا لم يكن على الإطلاق، ونفتحَ طرقًا جديدة وبديلة من أجل الخدمة الإنسانية، ونُبدِعَ في الوسائل والأساليب في سبيل استدامة العمل والفاعلية.
[1] صحيح البخاري، الأنبياء، 51.
- تم الإنشاء في