الحذر من إثارة شعور الغبطة
سؤال: ترى القلوبُ المخلِصةُ المتفانيةُ نفسَها مسؤولةً عن تبليغ الحق والحقيقة إلى الآخرين بشكل دائم ودون توقّف، فما الذي يجب أن يراعيه أصحابُ هذه القلوب أثناء قيامهم بوظيفتهم حتى لا يثيروا شعورَ الغبطة عند أحد؟
الجواب: على الرغم من أننا نفتح قلوبنا للجميع ونتعامل انطلاقًا من مبادئ الحب والتسامح باستمرار؛ فإنه ينبغي في الحقيقة ألا نتجاهل وجود جبهاتٍ على شكل دوائر متداخلةٍ تضمر لنا الحقد والعداوة.. فرغم أنكم لم تطمحوا إلى سلطة، ولم ترغبوا في حكم، ولم تتطلّعوا إلى الهيمنة على العالم فإن أولئك الذين جعلوا همّهم الدنيا فقط لن يفهموكم أبدًا، بل إن منهم مَن ينتقدون حتى أكثر أنشطتكم إخلاصًا وصدقًا مثل تأليف قلوب الناس بالحب، وتطوير ثقافة التعايش المشتَرَك، وإقامة جسور السلام والوئام بين مختلف شرائح المجتمع؛ فيحيكون المؤامرات مِن خلفكم لمنع هذه الأنشطة والحيلولة دون القيام بها، فعليكم توخي الحذر الشديد حتى لا تصبحوا هدفًا لهؤلاء الذين يضمرون لكم العداوة والبغضاء.
لا بد من تجنب الأفعال والخطابات الرنّانة التي تلفت انتباههم نحوكم، والابتعاد عن إثارة الضوضاء والضجيج، والحرص على أن تسبق الأفعالُ الأقوالَ، والإعرابِ عن صفاء وصدق النوايا والأهداف؛ حتى تمنعوا وصول ضررهم -ولو جزئيًّا- إليكم.
وإلى جانب هؤلاء هناك من المؤمنين الذين يتوجّهون معكم إلى قبلة واحدة، ويسجدون معكم لرب واحد، ويصطفون معكم في صف واحد؛ مَن يحملون في أنفسهم حسدًا وغيرةً منكم؛ حيث يرونكم منافسين لهم، ويتمنون أن يقوموا هم -وليس أنتم- بالخدمات التي تبذلونها، ويحاولون اعتراض سبيلكم ووضْعَ العصيّ في العجلات.. من هنا يجب على مَن يركضون للخدمة في سبيل الله أن يكونوا على وعي بمشاعر الحسد تلك، وأن يأخذوا كل التدابير حيال ذلك؛ حتى يستطيعوا تأمين طريق سيرهم.
ومن أهم الأمور التي يجب القيام بها في هذا الصدد هو الارتداد إلى الخلف خطوتين حتى يمكن تجاوز مثل هذه المشاعر السلبية عملًا بالمعيار الذي وضعه بديع الزمان سعيد النورسي: “إيثار البقاء في مستوى التابع دون التطلع إلى تسلم الـمسؤولية التي قلـما تسلم من الأخطار”[1].
وعلى الشاكلة نفسها فمن الأمور التي يجب مراعاتها أيضًا في هذا السياق هو إظهار التقدير والثناء لما يفعله الآخرون الذين يبذلون جهدهم وسعيهم في سبيل الحق تعالى. أجل، لا بد أن نقابل الأعمال الجميلة والخدمات الجليلة التي يقوم بها الآخرون بتقدير واحترام، ولا نستخف بأي منها، بل وحتى يجب أن نؤكد على أن لهم نصيبًا من الخدمات التي نقوم بها قائلين: “جزاكم الله خيرًا دائمًا وأبدًا، أنتم روّادنا في هذا الطريق بالأعمال التي قمتم بها حتى اليوم، فلقد مهدتم السبل حتى يتيسّر السير لِمَن خلفكم، فمنحتمونا الفرصة للركض في هذا الطريق”.
وليس علينا فقط أن نتجنّب المشاعر السلبية التي تقوّض وتدمّر العلاقات بين الناس مثل الحسد والغيرة، بل يجب أن ننأى بأنفسنا عن التنافس والغبطة وإن كان لا حرج فيهما على ما يبدو في الظاهر، ولا نسمح حتى بإثارة هذه المشاعر بين المؤمنين؛ لأن الغبطة تقع على حدٍّ متاخم للحسد، وقد ينتقل الإنسانُ دون وعي منه من طرفٍ إلى طرف، وتتحول فكرة: “ليت لي مثل ما عنده” في لحظةٍ إلى: “ليته يخسر ما ليس عندي”، أو: “ليكن عندي لا عنده”.
والإنسان المبتلى بمثل هذا الحسد قد تصبح صلاته وصومه وكل خير يقوم به وأي حسنةٍ يفعلها هباءً منثورًا، وفي ذلك يقول سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إِيَّاكُمْ وَالْحَسَدَ، فَإِنَّ الْحَسَدَ يَأْكُلُ الْحَسَنَاتِ كَمَا تَأْكُلُ النَّارُ الْحَطَبَ -أَوْ قَالَ: الْعُشْبَ-“[2].
ولذلك عندما يأتيني أحد أصحاب المشارب المختلفة ويقول لي: “جزاكم الله خيرًا يا شيخنا، فقد قدّمتم للأمة خدمات جليلة بالمدارس التي فتحتموها، والأنشطة التي قمتم بها، ومنصَّات التسامح والحوار التي دشّنتموهما”؛ يكون جوابي عليه في كل مرة: “أستغفر الله، فأنتم مَن ذللتم لنا الصعوبات في هذا البلد بفضلٍ من الله وكرمه، وهيَّأْتم الجوّ المناسب للقيام بهذه الخدمات، وتحولَت الثلوج بفضلكم إلى قطراتٍ تهطل بالرحمات، أما نحن فربما حاولْنا الاستفادة من هذا الجو الإيجابي الذي هيَّأْتموه”.
ولم يختلف ردّي عندما أعرب أحد كبار رجال الدولة عن تقديره للخدمات المنجزة، ففي كل مرة أعتبر أن من واجبي شكرهم، ومقابلة دعائهم بالدعاء لهم، ولفت الأنظار إلى الجماليات التي قاموا بها، وفي الحالات التي لم يكن فيها ذلك ممكنًا حاولت أن أعزوَ المسألة إلى شعب الأناضول، وأستنكر دائمًا عزو الخدمات التي رعتها أمةٌ بأكملها إلى أشخاص معينين، وهذا وإن كان تعبيرًا عن الحقيقة فإنه في الوقت نفسه مهمّ في كبتِ بعض المشاعر السلبية التي يمكن إثارتها وهو بنفس القدر من الأهميّة في عدم إثارة شعور الغبطة لدى الناس.
المؤمن إنسانٌ منصفٌ
المؤمن إنسانٌ منصِفٌ مقرٌّ بالجميل، لا ينسى ولا ينكر حتى أبسط الخيرات، فلا يفعل كما يفعل أهل الكفر والضلال؛ فلا ينسب الأعمال الجليلة التي قامت بها الأمة إلى شخص أو جماعة بارزة على الساحة، ولا يغتصب حقَّ الآخرين وحقوقَهم، فإن مثل هذه الأفعال المنصفة من شأنها أن تحول دون ظهور حسدٍ محتمَل وأن تقوّم بعض هذه المشاعر السلبية، لا سيما في هذا العصر الذي استشْرَت فيه الأنانيّة والنرجسيّة.
ولا ينبغي أن يكون تقديرُنا لأصحاب المشارب والمذاهب المختلفة مرهونًا بلقائنا بهم أو بامتداحهم وتقديرهم لنا.. هب أننا عقدنا مؤتمرًا أو أعددنا ندوة في مكانٍ ما، فلا بد حتمًا من أن نتطرّق في كلامنا إلى الجماليات التي قام بها الآخرون، وأن نثني على الأنشطة الخيرية التي يضطلعون بها ونصفّق لها، حتى إنه ينبغي ألا نقصُر المسألة على الثناء فقط، بل علينا أن ندعمهم ونساعدهم بقدر الإمكان، فلا نحرم أحدًا أو طائفة قامت بعملٍ جميلٍ وجليلٍ من دعمنا المادي والمعنوي كالسلطان الذي يبادر إلى توزيع عطاياه بغض النظر عن مدى أهلية الجميع لذلك، فلو أننا تعاملنا بمثل هذا الجود والمروءة مع الآخرين لاستطعنا أن نضع السدود أمام الطرق المؤدية إلى الحسد.
لا بد أن تكون الغاية المثلى للمؤمن هي استغلال جميع الوسائل والإمكانات في خدمة الدين الإسلامي المبين، ومحاولة تبليغ القيم الثقافية الذاتية إلى القلوب المتعطشة، ودعوة الإنسانية إلى الصلح والسلام، ولكن إذا لم يضمن هذا المؤمنُ سلامةَ الطريق الذي يقوده إلى الهدف، ولم يضع اعتبارًا للغيلان التي قد تظهر أمامه، أو أنه لم يستهدف من خدماته عدم إثارة الآخرين ودفعهم للهجوم عليه؛ فإنه بذلك يكون قد خان القضية التي يؤمن بها دون وعي منه.
ومن المهم للغاية مراعاة هذا المعيار الذي وضعه الأستاذ النورسي رحمه الله رحمة واسعة، إذ يقول: “يا أهل الحق والطريقة، إن خدمة الـحق ليست شيئًا هينًا، بل هي أشبه ما يكون بـحمل كنز عظيم ثقيل والـمحافظة عليه، فالذين يـحملون ذلك الكنـز على أكتافهم يستبشرون بأيدي الأقوياء الـممتدة إليهم بالعون والمساعدة ويفرحون بها أكثر.. فالواجب يـحتّـم أن يُستقبل أولئك الـمقبلون بـمحبة خالصة وافتخار لائق بهم، وأن يُنظر إلى قوتهم وتأثيرهم ومعاونتهم أكثر من ذواتهم، فهم إخوة حقيقيون ومؤازرون مضحّون، ولئن كان الواجب يـحتّم هذا، فلِـمَ إذًا يُنظر إليهم نظر الـحسد؟ ناهيك عن الـمنافسة والغيرة!”[3].
ومن المحزِن أن بعض الناس لا يستطيع أن يستوعب هذه الفكرة الدقيقة المعبَّر عنها هنا، ولا أن يحافظ على هذا المعيار؛ فيرتكب السيئاتِ في وقت هو أدعى فيه لكسب الحسنات، فبدلًا من أن تجمعهم الأخوة والوحدة والتضامن، أو أن يتنافسوا مع إخوانهم في الخير تنافسًا لا يجلب المشاكل ولا يثير القلاقل، ويتشاركوا في الثواب؛ تراهم يودّون لو فازوا هم بكلّ الثواب وحُرم الآخرون منه، فيلوّثون بذلك الخدمات التي قاموا بها، وغالبًا يتعذّر -مع الأسف- الحفاظ على خط الاستقامة في هذا الأمر، حيث تشوب الأمرَ مشاعرُ الحسد والغيرة إزاء النجاح والتوفيق الذي يحالف الآخرين، علمًا بأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء.
لا اقتداء بالقدوة السيئة
إن عدم استيعاب الآخرين لهذه الفكرة الدقيقة، وعدم وقوفهم في المكان المنوط بهم في هذا الموضوع؛ لا يبرر لنا أن نكون مثلهم، فلا اقتداء بالقدوة السيئة، وعلى كل حال علينا ألا نتخلّى عن احترامنا للآخرين بحجة أن هذه المسألة فقدت قيمتها، فنحن مضطرون إلى الحفاظ على هذه المعايير حتى وإن لم يقم أحد بما هو منوط به في هذا الموضوع، لأن الله عز وجل سيحاسب الجميع كلٌ على أفعاله وحده.
وما ذكرناه هنا ينطبق على ذوي الإنصاف والضمير، أما الذين تشرّبت أرواحهم بالكفر والإلحاد والضلالة والتخريب فمهما فعلتم فلن تتمكّنوا من إرضائهم، فليس بالإمكان إثناء “قابيل” عن قناعته، أو إجبار “فرعون” على الإنصات، فلا بدّ من تقبّل هذا الأمر على أنه حقيقة واقعة.
لقد اخترتم الطريق الوعر؛ لأنكم تسعون وراء التعمير والإصلاح.. إن التخريبَ سهلٌ لا يستغرق وقتًا طويلًا، لكن إصلاح ما تم تدميره وإرجاعه إلى هويته الأصلية مرة أخرى يستلزم وقتًا طويلًا وسعيًا حثيثًا.
وكما لا بدّ أن تكون الأهداف مشروعة مثل الفوز برضا الله تعالى، وإعلاء كلمة الله في كل مكان، وجمع الناس على الحبّ والود، وتأسيس عالم خالٍ من النزاع والصراع؛ فكذلك يجب أن تكون كلّ الوسائل مشروعة أيضًا، فلا يصحّ أن تقولوا أبدًا: “المهم بالنسبة لنا هو الوصول إلى هدفنا، وليسقط مَن يسقط، وينقلب مَن ينقلب، وينكسر مَن ينكسر”، ولا يصحّ أن تتحرّكوا بمثل هذه الأفكار الميكافيلية، فالمسلم لا يتبنى قطعًا مثل هذه الأفكار المعوجة، فمهما كانت قداسة الهدف الذي تسعون إليه فإنّ تحرُّككم على أساس ميكافيلي ولجوءَكم إلى وسائل غير مشروعة؛ يدمِّر هذه القداسة ويقضي عليها.
يجب أن يقرَّ الدينُ كلَّ الوسائل التي يستعين بها المؤمن، ويصدّق عليها القرآن والسنة، ويستحسنها العقل السليم والضمير السليم والمشاعر السليمة.
[1] بديع الزمان سعيد النورسي: اللمعات، اللمعة العشرون، ص 211.
[2] سنن أبي داود، الأدب، 52.
[3] بديع الزمان سعيد النورسي: اللمعات، اللمعة العشرون، ص 217.
- تم الإنشاء في