الصلاة
لكي يكون الإنسان في يوم القيامة أبيض الناصية، نوراني البصر، يتقدم على الآخرين بالأمارات الموجودة على أعضائه نتيجة الوضـوء والسجود، بأيدٍ نقية، ووجـوه طاهرة، بضمائر نـزيهة مثل العالم الداخلي لأهـل السماء... لكي يتحقق كل هذا فعليه بالصلاة وبالأعمال الصالحة قبلها. وفي الوقت نفسه نستطيع أن نطلق على عبادة الصلاة -التي هي الاسم الآخر والعنوان الآخر للقرب من الله والتي تملك أعماقا مختلفة- اسم "الرباط" الذي يعني الاستغراق في فكر العبودية لله طوال العمر.
أما الوضوء -الذي ننوي تناوله بشكل مستقل في بحث لاحق- فهو أول تنبيه في درب الصلاة، وأول تهيؤ لها. أما الأذان الـذي يجب تناوله أيضا بشكل مسـتقل فدرب معنوي مهم. بالوضوء يتطهر الإنسان من الدنس البدني ومن السلبيات المعلومة وغير المعلومة، ويستمع الإنسـان بالأذان إلى وجدانه. وعندما يصلي وحده الصلاة الأولى يحاول أن يجد الصوت الداخلي في أعماقه وأن يقتنصه، ثم ينتظر صلاة الجماعة لكي يحقق بالجماعة البدء بالحركة الكبرى.
إن هذه العبادة المباركة ذات الأبعاد الشاملة وذات الطابع المعراجي تقوم بنقل الإنسان إلى سماء اللانهاية لتصل بـه إلى عالم الملائكة. والإنسان يدع نفسه في لجة هذه العبادة خمس مرات في اليوم وكأنه يتطهر ويغتسل في جدول دافـق. وفي كل مرة ننغمر فيه في هذا الجدول نشعر بأننا تطهرنا أكثر. ثم ينقلنا هذا الجدول إلى بحر واسـع ويتجول بنا بين نقطتي البداية والنهاية، وهذا يعني تمرينات لنقلنا إلى نقطة من عالم الآخرة والخلود هي خارج أبعادنا الاعتيادية.
ينقسم الليل والنهار بشكل غامض بالصلاة... وتُنظم الحيـاة حسب مفهوم زمني يتخذ العبادة محورا له، وبفضل هذا تجري تصرفاتنا وسـلوكنا مجرى حسنا تحت رقابة الله تعالى، وتأخذ حركاتنا وسـكناتنا خارج العبادة حالة عبادة أيضا، وتتلون بلون العبادة، وتبدو حيـاتنـا الفانية على وجه الأرض وقد تلونت بلون السماء.
وفي اللحظة التي يفيض ويحين وقت الأذان من خلال ضجة الحياة، أو من خلال الصمت المخيم عليها، ومن إشارات عقارب السـاعة، ومن تغيير الشمس لموضعها، وزيادة الحركة والضجة حول الجامع، ومن سماع خرخشة مكبرات الصوت بينما يحاول المؤذن تعيير صوته تهيؤا للأذان... بعد كل هذه الإشارات حول قرب وقت الصلاة، تبدأ في الصدور أحاديث صامتة، وسماع أصوات غير واضحة المعالم مثل هذيان المستيقظ توا من النوم، وسماع كلمات تتجاوز أبعادنا الجسمية، وكأن الإنسان بدأ يعيش حياة برزخ بين الدنيا والآخرة. ومع أن الصلاة لم تبدأ بعد إلا أن أحاسيس أخرى تبدأ بالظهور نتيجة مناورات الفكر ومحاولته البحث عن مجار وقنوات جديدة... ويدمدم الإنسان بأشياء لا تعد ولا تحصى... وهنا وبعد قليل وقبيل بدء العبادة المزمع إقامتها تتوجه القلوب إلى نوع من التوثب والتركيز الروحي... وتحاول بمعاونة جميع الملكات الروحية والقابليات الوصول إلى حالة من التهيؤ والاستعداد المرجو.
يمكن أن يعد التوضؤ أول خطوة للتهيؤ لعالم العبادة، ثم يأتي التوجه نحو المسجد... كل هذه الأمور تعدّ تعييرا وجهدا للوصول إلى نقطة معينة من النضوج في هذا الأمر. أما الأذان فكأنه دعوة للدخول إلى الحرم، وصوت لَدُني يساعدنا للوصول إلى تركيز معين في أعماقنا، وريشة عود تضرب على أوتار أحاسيسنا. ومع أن آذاننا تعودت على صوت الأذان الذي يتكرر كل يوم، إلا أنه يظهر أمامنا فجأة على الدوام وكأنه قمر يرتفع من وراء التلال الموجودة بيننا وبين العوالم الأخرى... ويقصف كالرعد ليحول أنظارنا الدنيوية إلى السماء. وهنا يبدأ فاصل موسيقى إلهي كأنه صوت نافورة فوارة أو صوت شلال هادر. وما أن يبدأ هذا حتى ينهمر على أرواحنا أعذب الحان الدنيا... ألحان تحيي القلوب وتوقظها. ولا يقف أمر الأذان هنا، فهو يسحبنا بتداعياته إلى إقليمه الحريري ليهمس في قلوبنا سحر العهود النورانية، وليأخذ بيد خيالنا الذي يتجاوز الزمن ليتجول بنا في دروب التاريخ، ليجد ما فقدناه هناك، ويهبه لنا، مما يثير هذا الخيال ويهيجه. وهو يهب لنا في كل مرة باقة نضرة من صوت ومن شعر متناغم. نحن نتلقى الأذان في كل مرة ونسـتشعره في أعماقنا وكأننا نغتسل في جدول من الموسيقى، ونجد فيه سحرا آخر وطعما آخر ولطافة وسعادة أخرى. ويثير سماعه وحدس معانيه عندنا في أكثر الأحيان شعورا وكأننا نرتفع إلى السماء ضمن سلّم حلزوني سـحري، أو نتجول ببالون في الأعالي. وأما إن كان الأذان يُؤدى على أصوله وكصوت للوجدان وكنَفَسِهِ... فما أرقّ دقائق الأذان وما أنورها عندما يتردد صدى هذا الأذان المحمدي في السماء ويتماوج!.. ولو استطاع الإنسان أن ينـزل في تلك الدقائق إلى أعماق روحه ليستمع إلى وجدانه لأحس بمعان لم تُكشف عنها وهي تنساب إلى داخله، واستمع لتداعيات متماوجة في أعماقه!
أما أصحاب الضمائـر الحيـة الذيـن يجددون أنفسهم على الدوام، ويحافظون على نضارة حياتهم القلبية والروحية، فإنهم يحسون عند كل أذان بحلاوةِ وطراوةِ أول أذان في العهد الذي نـزل فيه لأول مرة من السماء، ويتخيلون في أصوات الأذان هذه وكأنهم يسـتمعون إلى نداءات الأنبياء... ويصلون في عوالم قلوبهم إلى كورس الملائكة وهـم يكبرون ويهللون ويشهِّدون... ويخيل إليهم وكأنهم يسمعون أنفاس جبرائيل التي تهب الحياة، وأنفاس إسرافيل التي تبعث من في القبور.
وبعد أن يتم بالأذان التهيؤ المعنوي والإشباع الروحي، وقبل الإبحار في بحار القرب من الله قبل صلاة الفريضة، تعد صلاة النافلة، ثم إقامة الصلاة فترة استقبال لنسائم الرحمة الإلهية الهابّة على الأرواح، وزيادة في التركيز المتزايد بشكل تصاعدي حتى تلك الدقيقة، ويتم فحصه والتثبت منه مرة أخرى، ويعاد النظر مرة أخرى في حالة التهيؤ والتوجه والسـكينة النهائية. وهكذا يتم الإقبال على الصلاة وكأن الإنسان مقبل على العروج إلى السماء. وتتم في أوتار ضمائرنا عملية تنظيم لمشاعرنا الإنسانية النابضة في قلوبنا وتعييرها، وللأصوات والكلمات والتصرفات التي توجهنا نحو محرابنا الأبدي، إلى أن نجد النغمات الحقيقية العائدة لقلوبنا. ولا شك أن الصوت الحقيقي يبدأ بالسلوك المشترك والمشاعر المتوحدة للجماعة التي تقف تجاه القبلة وتصطف خلف الإمام وقد عقدوا أيديهم أمامهم تعبيرا عن التوقير والاحترام... يركعون ويسجدون للحق تعالى، ويظهرون أقصى آيات التعظيم له، ويقفون أمامه خاشعين، وعند السجود يستوي عندهم موضع أقدامهم مع موضع جباههم. وبنسبة إحساسنا بشعور الجماعة في قلوبنا نستطيع تذوق كل صور جمال عصور الأنبياء والإحساس بها.
أجل!.. إن من يتواصل مع تناغم الصلاة السماوية، فإن كل حركة وراء الإمام في الصلاة وكل كلمة، هي عند ابن آدم صوت داء الوصال وصوت حسرة للجنة المفقودة، وتظهر بشكل شعور بالأمل وبالفرح بالوصال. والصلاة بالنسبة لمعظم من ترك نفسه في الجو المعراجي للصلاة تعد إشراقات فجر للأيام الحلوة التي تملأ خيالاتنا لعهودنا في الجنة من قبل، أو للجنات المقبلة. أما نحن فعند وقوفنا لكل صلاة نحس -بنسبة سعة عالم الأحاسيس لدينا- وكأننا نرتشف بهجة صفو جيل نوراني وصمته... بهجة ممتدة من جمال الجنة إلى العهود الذهبية لتاريخنا. وبفضل هذا نستطيع جمع أذهاننا المشتتة بفعل المشاغل العديدة للدنيا، وتركيزها. أما أرواحنا فتنسلخ من الجو القاسي للجسد، وتنفعل مرة أخرى بأمل الوصال. ومع أنه لا يكون في كل صلاة ولا في كل صلاة فريضة فإن أرباب القلوب يستطيعون السياحة بين عالم الأزل والأبد عدة مرات في اليوم الواحد، ويمررون الماضي والمستقبل معا من منشور الفكر بوتائر متعاقبة. ويتأملون الشرائط الذهبية للزمن الماضي مع التلال الزمردية الخضراء للمستقبل المحفوف بالأمل في آن واحد. وبهذا نستطيع أن نشعر ونعيش حياتنا وحياة الآخرين في اللحظة نفسها، ونجد في أعماقنا لذة آلاف الذكريات وكأننا نرتشف ماء الكوثر. وكما يحدث في الأحلام نقوم بطيّ المسافات، والتجول في عوالم فوق الزمن... ونتذوق طعم جميع الأمور الخارقة وغير الاعتيادية... وننتقل من فكر إلى فكر، ومن شعور إلى آخر... ونقضي كل لحظة في جو من عرفان، وفي جو من محبة، وفي طوفان من شعور باللذة... وينطبق هذا على من استطاع الوصول إلى مثل هذا الأفق من العرفان.
عندما تمتزج الصلاة بالروح وبالقلب وتسري فيهما، تقوم هذه الحالة النورانية الفريدة بتقليب أعمالنا الاعتيادية لتضع تناغمها، وشعرها، وحالتها السماوية، وتقيمها بدلا منها.
الحركات السرية العائدة للصلاة التي تغذي أفكارنا وأخيلتنا كل يوم عدة مرات تجد على الدوام طرقا ومنافذ وراء أفق هذا العالم لتنقلنا إليها وهي تهمس في قلوبنا بأبيات الشاعر نسيمي:
مكاني أصبح لا مكانا،
انقلب كياني كله روحا،
وتجلى عندي نظر الحق عيانا،
فغبت عن نفسي من لذة الوصال...
وهكذا تقوم العبادة بإفشاء ما يستتر في القلوب من الجمال الأزلي الذي كان كنـزا مخفيا من قبل، والذي هو منبع جميع الإلهامات والهبات، بكل أعماقها التي لا تسعها الأبعاد والمسافات. لذا فما يُعاش في أثناء الصلاة -بجانب الأمور الواضحة المعروفة للجميع- هو في الأكثر طوفان من المشاعر المتسمة بالعظمة والمهابة والتي تتجاوز الكميات والكيفيات، ودوامة من الأحاسيس. في الصلاة يخيم على دنيا التعبير والبيان عندنـا ما لا يمكن أن يُقال، وتهمس مشاعر لا يمكن التعبير عنها بموسيقى فريدة في أرواحنا، وتشغل كياننا أحاسيس واسعة وعريضة لا تسعها الألفاظ اليومية الاعتيادية، وتنفرج فطنة -تتجاوز العقل المادي وتتسم وتتلون بلون وطابع غيبي مفتوح للحدس والإلهام- عن باب فكر أخروي مرتبط بالخط النبوي... لذا نستطيع أن نقول من هذه الزاوية إنه لا توجد للعبد عبادة أكبر من عبادة الصلاة، ولا توجد أحاسيس أصوب وأصح من الأحاسيس التي تظهر في تصوراته وخيالاته وهو قائم في الصلاة.
إن أفق الصلاة الذي تصله روح الإنسان التي تتجاوز بمشاعرها وإلهاماتها وحدسها الجسد وعالم الشهود، مع جميع الأرواح التي تحس به، تنطق بالحسرة وبآلام داء الهجران. كما تنطق في الوقت نفسه عن اطمئنان القلب، ورَوْحِ وريحان المشاعر الإنسانية، وعن المصير والقدر الأزلي للوجود، وعن تأمل النجوم لسطح الأرض، وعن أسـرار السماوات، وعن أضواء دار العقبى، وسفوح الجنة، والأشجار المتمايلة في تلك السفوح، وعن الأنهار الهادرة تحت هذه السفوح... تنطق بأركانها... وتنطق بالقرآن الموجود فيها، وبالأدعية... تنطق بكل هذا وتكرره بأداء وبأسلوب جديـد وكأنه يسقي أرواحنا مياه الكوثر.
وبعد الوقوف للصلاة يود هؤلاء العباد الصادقون أن يعلنوا عن طريق الركوع مدى انفعال أرواحهم الصافية، وعن ارتجافات ورعشات أفكارهم النيرة المستقيمة التي لا عوج فيها ولا التواء. وبشعور خليط من الإحساس بأنهم تجاه عظمة وجبروت، وأمام رحمة ولطف ينحنون مثل انحناء عصا... ينحنون وهـم يتمتمون بصوت خافت وبشـعور من العبودية يلف كل كيانهم... يتمتمون دوما عن العظمة الإلهية، ويدقون باب الحضرة الإلهية بالركوع الذي يعد أسلوب توجه أهل السماء وإبداء خضوعهم له. وبنسبة انفراج ذلك الباب يستطيعون الوصول إلى أعماق عالمهم الروحي. وكما في الحج أو في رحلات أخرى نحتاج فيها إلى تكرار التكبير والتهليل عند تسلق تلال، أو عند النـزول إلى سـهول، وكأننا ننتقل من فصل لفصل آخر، كذلك يتم في الصلاة التي هي عنوان رحلة الروح ومعراجها التعبير عن الانتقال من فصل فيها إلى فصل آخر بكلمات مباركة تحمل المعنى والشعور والفكر المبارك نفسه. ففي كل ركوع تقريبا يتم لمس مطرقة باب الحضرة الإلهية العظمى بالتكبير والحمد وبالمشاعر التي تتداعى بهذه الكلمات. ثم يتم انتظار الوقت المبارك بكل يقظة وانتباه ورسوخ لتقييمه بأفضل شكل، وتتم محاولة اصطياد التجليات الإلهية وهباتها وألطافها بصبر العنكبوت ودقة الهرّ في اصطياد فريسته.
ينفث الركوع الذي يأتي بعد خطوة واحـدة من الوقوف في الصلاة نفحاته علينا، ويهمس في أرواحنا همسات أجمل من الحياة نفسها، وأثمن من الأذواق الجسمية، وعن رؤيا لا يمكن أن نتخيلها أو نتصورها، ولا يمكن أن تتحقق في هـذه الدنيا أبدا. ويَعِدُ قلوبنا أمورا تتجاوز بكثير ما ننتظره أو نتوقعه... يعدها بأيام ودقائق زمردية وراء هـذا العالم. ألسـنا جميعا أبناء أفكارنا وخيالاتنا وآمالنا بوجه من الوجوه؟ فعندما اهتدينا إلى الحقيقة بعد أن قاسينا الكثير في هذه الأيام الصعبة، فإننا نتجاوز الزمن الذي نوجد فيه ونثبت أنظارنا على "الزمن الآتي" بأمل الحصول على السعادة، حيث نتأمل باسمين سفوح الجنة.
الركوع ببُعده الذي يحمل معنى الانحناء أمام الحق تعالى توقيرا وتعظيما لـه، لذا فهو يأخذ معنى الانحناء من كل من أحنى ظهره، وأحياناً يقول: ﴿رَبِّ إِنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ﴾ أو ﴿إِنَّمَا أَشْـكُو بَثِّي وَحُزْنِي إلَى اللهِ﴾ فنشـعر برائحة قميص يوسـف من عالم يوسف عليه السلام أو صوت خرير ماء الحياة. يُسمعنا هذا ويهيج مشاعرنا بالخوارق المنتظرة من وراء الحقائق. يهيجنا إلى درجة أن شعورا بالحمد والثناء يلف كياننا فنعتدل في الوقوف لكي نهدي له تعالى عرفاننا بالمنة له. وهذه الوقفة القصيرة تختلف عن الوقفة الأولى، فهي مرحلة جديـدة من مراحل الرحلة والسير نحو الله تعالى، وشاطئ آخر من هذه الرحلة. في هذا الميناء النوراني نسترجع في أعماق قلوبنـا تسبيحات الركوع، ونحاول في هذه الوقفة القصيرة الإحساس بمشاعرنا التي لا تحد، وخيالاتنا اللانهائية، ونجعل قدرة الحس عندنا في استنفار لتصيد الألطاف، وبأطياف "الكنـز المخفي" الذي عرفناه ندع أنفسنا في شلال جديد من أحاسيس واسعة مصطبغة بصبغة القرب من الله. ومن الصعب معرفة مقدار اللذة والخشية ومشاعر التوقير التي تلف كيان الذين يشعرون بالصلاة في ركوعهم وقيامهم في أعماق ضمائرهم، وكيف ينفعلون بالأمل، ويرتجفون من الخيفة. هذا الشعور، وهذا الإحساس العميق هو أولى الخطوات التي يخطوها الإنسان نحو الوصال، وأكثرها جدية، والسجود هي الخطوة الثانية.
السـجدة هي أرضية وخلفية الشكر، ووعاء المهابة الذي تصهر فيه العبودية وتسكب إلى قلب وقالب الواصلين، وعرصة وخليج مشاعر وأفكار الوصال المتوجهة للذات الإلهية ونقطة اللقاء.
وكلما شعرنا بالسجود على وجهه الحقيقي، وتفاعلنا معه نحس -ونحن ننتقل من القيام في الصلاة إلى الركوع ثم إلى القيام- وكأن هناك عصارة من الإيمان ومن الإسـلام ومن الإحسان تنسكب إلى التلال الزمردية لقلوبنا وتنساب إليها.
عند السجود تلتقي جبهتنا وأقدامنا في المستوى نفسه، ونشكل نصف قوس، ونتوتر مثل وتر القوس، وننقلب إلى نَفَسٍ وإلى صوت أنين، فنحس أن وسعة آمالنا تسبق أعمالنا، وتكفي كل شيء، وأن رحمة الله تسبق كل شيء عندما تتحد مع إيماننا وتكوِّن وحدة معها، فنشعر وكأننا نمر من تحت أكاليل سماوية يقع طرف منها في عالمنا والطرف الآخر في دار العقبى محاولين تغيير حظوظنا.
وعندما ينظر الإنسان من موقعِ ونقطة ذروة حظه التي يسـمو إليها بمشاعره في السجود، ويتطلع ويتأمل الحقيقة، ويشرح بلسان قلبه جميع الكلمات المعبرة عن أحاسيسه، يوجه دنياه قليلا نحو الآخرة، ويعكس بعضا من عالمه البعيد إلى عالمه الروحي، فيستطيع الإحساس بمناخ عبوديته والعيش فيها وكأنه يقرأ ويطالع مناقب هذه العبودية ومآثرها.
أجل!.. إن أدعيته التي يثيرها شـعوره بعبوديته، عندما تختلط بشلالات الرحمة الإلهية وألطافه، وتجريان معا لتلتقيا بالاستجابة الإلهية تعيش عندها مشاعرنا في جو جميل كجو الجنة، وتنشد أغاني الوصال. وجمال هذا -عند الذين يفهمون هذا الأمر- جمال أخاذ، وجمال جذاب وساحر إلى درجة أن من ذاق طعم هذا الجمال مرة واحـدة في حياته لا يدري كيف يشكر صاحب هذه النعم وصاحب هذه الأفضال.
إن بطل القرب من الله الذي يتعمق قربـه من الله كل حين، الواضع جبهته على الأرض، والذي يرتفع في سياحة سماوية وبشكل حلزوني إلى ذرى لا يمكن بلوغها... مثل بطل القرب هذا يشـعر وكأنه اقترب من "حظيرة القدس". وبسُكْر هذا الشعور، يرفع رأسـه بكل توقير من السجود مبديا تعظيمه وعرفانه بكرمه تعالى لكي يلوّن شعوره بالوصال ببعد آخر، لكي يقول: "التحيات لله..." بكل الأدب الذي يقتضيه وجوده في الحضرة الإلهية... يقول هذا ويأخذ بـه الوجد حتى كأنه لم يعد كائنا من كائنات هذه الدنيا، أي يأخذ حالا ومعنى وسحرا فوق الطبيعة.
وبعاطفة لا تعرف الارتواء ولا الشبع يتوجه بطل الصلاة بهذه المشاعر الفوارة -خارج حدود الكم والكيف، والمتعمقة بالنية الخالصة التي يخلد بها يقينه ويرتبط بها بالله تعالى- لأداء فرض الشكر للحق تعالى على كل نعمه من حياة ومال وسائر نعمه الأخرى، فيذكر الله بكل مشاعر كيانه ويئن... يذكر النبي، فيمتلئ داخله بالانشراح... ويفكر بالمؤمنين الذين يشاطرونه السعادة نفسها فيدعو لهم بالخير... ثم ينهي صلاته التي بدأها بالتكبير بالشهادة التي هي أساس الدين، وأساس رحلة المعراج هذه.
الذين تعودوا على أداء الصلاة، ويتغذون بها، لا يشبعون منها أبدا. ليس الشبع منها، بل يقول كل منهم عقب الانتهاء من كل صلاة: "هل من مزيد؟" فينتقل من صلاة نافلة، إلى نافلة أخرى، ويرتفع كالشمس في صلاة الضحى، ويلمس بصلاة الأوابين مطرقة باب القرب من الله، ويرسل الأنوار بصلاة التهجد إلى ظلام البرزخ، ويحاول أن ينسج حياته بالصلاة مثل دانتيلا جميلة، ولا يدير رأسه أبدا عن العالم النوراني الذي يعيش فيه، ولا عن المعاني التي تلف روحه... بل يَعْدو على الدوام ويسرع وراء أنواع صور الجمال التي تَعِد بها الصلاة.
المصدر: مجلة "سيزنتي" التركية، يوليو 1994؛ الترجمة عن التركية: اوخان محمد علي.
- تم الإنشاء في