التذبذب والثبات
كما أن العثور على الحقيقة وعشقها مهم، فإن التمسك بها والوفاء لها والثبات عليها مهم بالدرجة نفسها. إن من وصل بروحه إلى نور الحقيقة من الصعب عليه تغيير وجهته وطريقه. أما الذين يغيرون محاريبهم صباح مساء فهم إما أشخاص بؤساء لم يصلوا إلى الحقيقة، أو حمقى لم يدركوا قيمة الحقيقة حق الإدراك.
المحظوظون الذين جعلوا قلوبهم شواطئ لبحر الحقيقة لا يعرفون الارتواء منها، فتراهم كلما ضربت موجات الحقيقة شواطئ قلوبهم يقولون بكل شوق ورغبة "هل من مزيد؟" عند هؤلاء انتهى البحث عن الطريق... لقد عثروا على محرابهم واستقرت أرواحهم.
أما المتذبذبون فهم إما من قصيري النظر الذين لا يعرفون أسلوب البحث، أو من عديمي الإدراك ممن لا يميزون الفرق بين البحث وبين الظفر بما يبحث عنه واكتشافه. فالذي يبحث هو الذي سيجد ويظفر. أما القاعدون في أماكنهم الذين يحسبون أنهم عثروا على بغيتهم... هؤلاء سيبقون في أماكنهم وسيدورون حول أنفسهم طوال حياتهم.
الذين يحافظون على مواضعهم ولا يتخلون عنها يعلمون أن هذه المحافظة أول شرط للتغلب على الأعداء والوصول إلى الهدف المرسوم. أما الذين يتركون مواضعهم في الجبهة فليعلموا أنهم دخلوا في دائرة الخسران منذ أن فارقوا مواضعهم وابتعدوا عنها.
كل فار من الجبهة سيكون مُداناً أمام ضميره أولا ثم أمام التأريخ وأمام الأجيال القادمة... مُداناً من قبل نفسه لأنه يكون قد نال صفعة لسيره ضد هدفه. والثبات في الموضع والمحافظة على الجبهة يعد رمزاً للشجاعة في كل دعوة كبرى. أما عبيد النفس الذين يدورون مع الريح أينما دارت فلا يمكن أن يفهموا هذا، وهم لا يريدون أصلاً فهمه. أما الإنسان الحقيقي فما أن يدرك الحقيقة ويفهمها حتى يستحيل على المنافع والمصالح تقييد رجليه، ويستحيل على الخوف أن يقطع طريقه ويمنع سيره، ولا تستطيع الشهوات إغراءه وربطه بالدنيا... يعجزون عن هذا لأنه يتخطاهم جميعاً وكأنه طائر أفرد جناحيه وطار.
إن المذبذبين يغيرون آراءهم ومواضعهم دون توقف عند أداء الخدمة الإيمانية، لذا تراهم لا يهزون ثقة الآخرين بهم وحدهم، بل حتى ثقة أصدقائهم وإخوانهم في الدعوة. فكما تتقلقل وتفسد المسيرة المنتظمة لجماعة أو لفصيل بخروج أحدهم من وسطه وتفسد المسيرة المتناغمة، ويظهر الاضطراب فيها، كذلك فإن خروج بعض الأعضاء من جماعة متساندة ومتناغمة فكرية يؤدي بأصدقائهم إلى الإحباط والتشاؤم، ويغرق أعداءهم في الغبطة والسرور.
الذين يسقطون في درك التردد وعدم الاستقرار، وينقضون العهد الذي قطعوه على أنفسهم بين فينة وأخرى، سيأتي يوم يفقدون الثقة بأنفسهم، ويدخلون شيئاً فشيئاً تحت تأثير الآخرين. وبمضي الوقت يفقد هؤلاء المشلولين روحيا شخصياتهم تماماً، لذا يصبحون عناصر ضارة لأنفسهم وللمجتمع الذي يعيشون فيه.
هؤلاء الذين إنسحقوا أمام حسابات تافهة من حسابات المنصب أو الشهرة أو المقام أو الشهوة... ماذا سيقول هؤلاء وكيف يتصرفون عندما تحيط المنافع بأفق الدعوة مثل قوس قزح، وتقبل الدنيا عليها؟ وكيف سيتصرفون في الأيام التي يحيط فيها الخوف والإرهاب والفتن بالدعوة؟
إن تاريخ البشرية حافل بقصص آلاف الأبطال الذين استولوا على القلاع والحصون والمدن بكفاحهم وعرقهم ودمائهم، ثم كيف خسروا هذه القلاع والمدن إلى الأبد نتيجة خيانة شنيعة لأحد الخونة... هذه الحوادث والأمثلة من الكثرة بحيث يمكن تأليف مجلد كامل عنها لكل أمـة.
آه... آه أيتها الشهرة القاتلة، وأيتها الشهوة الكافرة وأيها الطمع الخالي من الشرف! كم من روح مر من دياركم فذبل من الزيارة الأولى!! وكم من قلب سقط في دياركم مثل أوراق الخريف الصفراء!! وكم من قامة سامقة سمعت ضحكاتكم المغرية فتركت المعبد وأصبحت من رواد الحانات!! أجل كم من شجاع جاء إليكم فتحول إلى جبان رعديد، وكم من رجل تحول إلى مخنث وخصي وكم من شابٍ شابَ من قربه منكم ثم ارتحل.
- تم الإنشاء في