بلية اللسان
الثرثرة مرض يدل على عدم توازن العقل والروح. والكلام المعقول والمقبول هو الكلام الذي يصل إلى عقل المخاطب عن أقصر طريق ودون تشويشه. ولكي تفهم مخاطبك شيئاً لا تحتاج إلى ثرثرة طويلة، بل إن الثرثرة تجلب أضراراً في أحيان كثيرة. لأن الكلام الكثير قد يحتوي على تناقضات عديدة ويجلب أسئلة جديدة لفكر المخاطب، وهذا الأمر أقرب إلى الضرر منه إلى النفع بالنسبة إليه.
الإنسان العاقل هو الإنسان الذي يدع فرصة الحديث والكلام للآخرين ويُؤَمِّنُ فرصة لتحدث الآخرين -ممن يرجو منهم الفائدة له وللغير- أكثر من تحدثه هو.
والحقيقة أن تحدث الآخرين أمام من تنور عقله بنور الكون وقلبه بالمواهب الإلهية يعد عدم احترام وعدم توقير، كما أن صمت أمثال هؤلاء الأشخاص الكاملين يعد خسارة للمجتمع.
التحدث قليلاً والاستماع كثيراً أمارة من أمارات الفضيلة والنضج في الإنسان. أما شهوة إجبار الآخرين للإنصات والاستماع له وإن لم تدل في كل حين على مرض نفسي، إلاّ أنها بلا شك علامة من علامات عدم التوازن وعدم الحياء في الإنسان.
يجب أن يكون كل كلام إما لحل مسألة أو إجابة على سؤال. ويجب الانتباه عند التحدث ألا يكون سبباً وجالباً لملل وسأم السائل او المستمعين.
من الطبيعي أن يصمت الإنسان عند وجوب الصمت، ويتحدث عند وجوب الحديث. غير أنه من الأفضل أن يتكلم أكثر الأشخاص إفادة. وهذا مرتبط بالأدب وبفهم فضيلة السكوت. وما أحسن ما قاله أجدادنا: "ان كان الكلام من فضة، فالسكوت من ذهب".
لا ترتفع قيمة الإنسان وقدره بطول كلامه، بل بمدى فائدة هذا الكلام، بل على العكس فالشخص الذي يتحدث على الدوام سيقع في أخطاء كثيرة لا سيما إن كان حديثه يتناول مواضيع فكرية دقيقة أو مواضيع تتطلب الاختصاص، فيخل بذلك بقيمته ويهبط بمنـزلته، وما أصدق من قال: "من كثر كلامه كثر خطؤه".
يُظهر الإنسان نفسه بكلامه، وتعكس تصرفاته وسلوكه سمو روحه. والشخص الذي يتصور أن من واجبه أن يدلي في كل موضوع بدلوه ولا يدع فرصة الحديث للآخرين... مثل هذا الشخص الثرثار سرعان ما يقابل بالنفور والضيق من قبل أصدقائه ويتعرض لإهاناتهم. وفي مثل هذا الوضع قد نفقد فرصة الاستماع إلى آراء جيدة من الآخرين، كما أن حقائق سامية ستتعرض للاستهانة وللهزء لكونها صدرت من فم ثرثار، وهذا عدم توقير لها.
لقد كان شعار قلة الكلام شعاراً من شعارات الناضجين إلى جانب شعار قلة الأكل وقلة النوم. وأول وصية لمن يريد تربية ملكاته الروحية هو وجوب سيطرته على لسانه والحذر من الكلام عشوائياً. والذي يفتح فاه ويكثر من الهذر... مثل هذا الشخص قد يسوقه لسانه هذا - الذي يكون عادة أكبر من عقله وأطول - إلى الخسران هنا في الدنيا وفي الآخرة ايضاً.
أما الذين يدعون فعل ما لم يفعلوا فأمرهم أمرّ، وحالهم أسوأ. لذا فقد بين الصادق الوعد الأمين أن المحافظة على اللسان وعلى ما بين الفخذين وسيلة وطريق من طرق الوصول إلى الجنة.
على قدر ابتعاد الإنسان عن مرض العجب بنفسه وبكلامه وعن عدم إعطاء فرصة الحديث للآخرين يكون قريباً من الخالق ومن المخلوقين ومحبوباً لديهم، وبعكسه لن يجد المكانة التي تأملها لا عند الخالق ولا عند الناس.
- تم الإنشاء في