الحيـطة
اتخاذ الحيطة تصرف مهم يحول دون الوقوع في الخسارة في أي أمر أو في أي فعالية من دون مواجهة المصائب ثم إطلاق الحسرات. فما أكثر المحاولين الذين لم يراعوا الأسباب حق الرعاية وكانت النتيجة الحتمية أنهم لم يجدوا أمامهم إلاّ إطلاق الزفرات أو ندب حظهم ولوم القدر. فهم يقصرون في رعاية الأسباب في البداية، ثم يقعون في الخطأ عندما ينتقدون القدر.
تتناسب أهمية الحيطة ومراعاة اتخاذ التدابير اللازمة مع أهمية الهدف الذي تستهدفه أي محاولة أو نشاط. لذا فإن لم يقم أي شخص بتنظيم أعماله والأخذ بنظر الاعتبار الأرباح والخسائر المحتملة للمسؤولية التي أخذها على عاتقه، ونسبة أهمية ومقدار هذه المسؤولية فهو إما شخص غير جدي في أعماله هذه، بل شخص مغامر، أو هو شخص ساذج وأحمق. وقيام هؤلاء الحمقى بمثل هذه المحاولات أسوأ من الجمود وعدم الحركة.
إن اتخاذ الحيطة والتدابير اللازمة رأسمال كبير للإنسان الذي يأمل الوصول إلى مبتغاه. وإبداء أي تراخ أو إهمال خطأ كبير، إذ سيؤدي في النتيجة إلى تبادل الاتهامات، والإنسان العاقل هو الشخص الذي يجد الحلول اللازمة للأضرار المتوقعة ويتلافاها قبل ظهورها. أجل فكما قال أجدادنا: "عليك أن تمسك بتلابيب النشال قبل أن ينشلك".
على كل إنسان أن يتناول كل عمل ضمن خطة مسبقة وتدبير، وعليه تجنب كل شيء لا يؤدي في النتيجة إلى فائدة مادية وفضيلة معنوية تجنباً قطعياً. فكل محاولة لم يؤخذ لها مثل هذا التدبير منذ البداية تعد عبثاً. والاشتغال بالعبث يدل على نقصان عقل ذلك الشخص وطفولة عقليته.
إن أي شخص يستطيع أن يظهر قدره وقيمته ويبرهن عليها عندما ينجح في اجتياز الامتحانات الصعبة والظروف غير المواتية. ونجاح الدعوة في ظل هذه الشروط يستند قبل كل شيء إلى خطة محكمة والتصرف والحركة ضمن هذه الخطة. وعلى هذا فقدر أي شخص وقيمته تتناسب مع مقدار نجاحه، ويتناسب نجاحه مع صحة القرارات التي اتخذها قبل البدء في مشروعه وعمله تناسباً طردياً.
كما أن اتخاذ الحيطة لا يعني الخوف والتراجع إلى الوراء لأنهما شيئان مختلفان تماماً، كذلك فإن التصرفات البعيدة عن الحيطة وعن اتخاذ التدابير اللازمة لا علاقة لها بالشجاعة والبسالة.
صحيح أن الإفراط في الشق الأول قد يؤدي إلى بعض الأضرار والخسائر ولكنها أضرار يمكن تلافيها. أما الذين يعدون عدم أخذ الحيطة شجاعة وتكون تصرفاتهم متسمة بالدونكيشوتية فإن أسلوبهم هذا يكون خطراً وضاراً على الدوام.
وككل خصلة رديئة فإن الخروج لاصطياد الجماهير تحت عناوين تحبها هذه الجماهير هو مما ورثناه عن الغرب. ويرى الذين يتبنون هذه الفكرة اللقيطة أن من الطبيعي إحداث ضوضاء في كل حركة كالضوضاء التي تطلقها الدجاجة وهي تضع بيضة واحدة، بينما نرى نحن أن كل نشاط يجب أن يجري في سكون وصبر يحاكي سكون وصبر المرجان الذي يتكاثر بهدوء ودون ضوضاء في أكثر الأماكن هدوءاً وبعداً عن الأنظار.
إن منـزلة الإنسان عند الله تعالى تقاس بعلو همته. وأبرز علامات علو الهمة هو تضحية الإنسان بمنافعه وبملذاته الشخصية في سبيل سعادة الآخرين. ولا أدري أهناك تضحية أكبر من قيام الإنسان بالدوس على كرامته وشرفه في سبيل سلامة المجتمع وكظم غيظه بدلاً من إطلاقه زئير الغضب، ووضع القيود على جميع رغباته الشخصية فيما يتعلق بسعادته في كل مرة... أهناك تضحية أكبر من هذه التضحية؟
كما أن حصر نجاح "جيوش الفاتح" في شجاعة وبسالة هذه الجيوش وعدم الالتفات إلى الخطط العسكرية الحكيمة لهذه الجيوش وعدم إعطائها أي أهمية يعد غفلة وقصور فكر، كذلك فإن ربط كل أسباب النجاح بالجرأة العمياء وبالتهور وعدم إعطاء أي أهمية لاتخاذ التدابير اللازمة حماقة لا تغتفر.
إن أي حملة نشاط وفعالية مثلها مثل اتخاذ التدابير، إنما هي دعاء متوجه لله تعالى. وهما في الوقت نفسه وجهان لحقيقة واحدة. وأي قصور يطرأ على أحدهما يؤدي في أحيان كثيرة إلى انقطاع المدد الإلهي والعناية الإلهية مما يؤدي إلى الفشل. والاستمرار في السير دون تعثر إنما يمكن فقط عندما يكون هذا السير مستنداً كل لحظة إلى البصيرة الواعية. فطوبى لمن أدرك هذا وفهمه.
- تم الإنشاء في