2-الهداية التي تأخذ إرادة الإنسان بنظر الاعتبار

إن الله سبحانه يهدي الناس بإرساله وسائل شتى للهداية. فكما أن الأنبياء أسباب ووسائل لهداية الناس، فالكتب المنـزلة أيضاً أسباب ووسائل للهداية. والذين يسعون في سبيل التبليغ والإرشاد هم وسائل أيضاً بهذا المعنى للهداية، علماً أنه سبحانه رغم إرساله وسائل شتى للهداية لا يُخضع الناسَ كرهاً إلى قبول هذه الوسائل. أي لا يضطرهم إلى الإيمان بها اضطراراً. وحيث إن الأمر هكذا فقد يكون أحد وهو في بيت النبوة إلاّ أنه لا يهتدي، أو يكون معارضاً له، وربما في قصر فرعون يتربى مؤمن آل فرعون، وآسيا. وذلك لأن في هذا النوع من الهداية إرادة الإنسان وهي موضوع البحث. فالله سبحانه يخلق جميع الوسائل المؤدية إلى الهداية. ولكن خلقه للهداية مرتبط بإرادة الإنسان نفسه، وعلى الرغم من كونها مجهولة الماهية ونسبية إلاّ أنها شرط عادي في قيام الهداية عليها.

وفي القرآن الكريم هناك الكثير من هذا النوع من الهداية. سنذكر واحداً أو اثنين منها:

1-﴿وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾(فصلت:17).

بمعنى أن وسيلة الهداية قد بلغت قوم ثمود، بسيدنا صالح عليه السلام. ولكنهم استحبوا بإرادتهم السيئة الضلالةَ وتمردوا على الهداية غروراً وعتوّاً منهم، حتى أرداهم إلى النار والعذاب الأليم.

2-لقد أرسل الله سبحانه رسلاً كثيرين للناس كيلا يُعذَر الذين ضلوا بإرادتهم: ﴿رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾(النساء:165).

فالذين ضلوا السبيل لا يمكنهم أن يظهروا حجة ومعذرة لضلالتهم، لأن الرسل الذين أُرسلوا تترى قد بَلّغوا الحقائق بوضوح تام وعلى نصاعتها، ووضحوا مغبة السيئات، وما توصله الحسنات إليه من ذرى سامقة من الكمالات: ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ﴾ (فاطر: 24).

نعم ما من أمة إلاّ وأرسل إليها نبيّ بشيراً ونذيراً يبلّغهم الحقائق، والله سبحانه يخلق الهداية لمن يستمعون إليهم بإرادتهم. أما الذين استحبّوا الضلالة فيظلون في الضلالة التي أرادها الله لهم.

﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً﴾ (الإسراء:15).

نعم لقد أرسل الله سبحانه أنبياء ورسلاً كي يسدّ طريق الحجة على الناس ولا يبقى لهم محل للاعتراض، وهؤلاء أصبحوا هداة أضاءوا الطريق لأممهم. وكانت حصتنا شمس النبوة وسيد المرسلين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، فلا حجة لنا عند الله ولا عذر لنا قط. لأننا كما نسمع صوت الرسول صلى الله عليه وسلم، ونستشعر أنفاسه المباركة. كذلك الآيات الجليلة في القرآن الكريم تنير أرواحنا، وتلاطف وجداننا كل حين.

فضلاً عن هذا «إنّ الله يَبعث لهذه الأمّة على رأْس كلّ مائةِ سنةٍ مَنْ يجَدِّدُ لها دينَها» فضلاً منه وكرماً،[1] يطهّر أنفسنا من الأدران ويزكّيها ويجدّد إنسان كل عصر حياته الدينية بوساطتهم ويبعث فيها الحياة. وكل هذا وإرادة الإنسان موضوعة في الحسبان، أي أنه سبحانه وتعالى ربط الهداية بطلب العبد رغم أنه خالق الهداية ووسائلها. فالهداية الاضطرارية (الجبرية) غير واردة هنا إطلاقاً.

وأحياناً يخلق سبحانه الهداية والضلالة مباشرة آخذاً أهْلِيّتهم بنظر الاعتبار.

يرسل الله سبحانه نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم ويبلّغ الرسول الدين سيدَنا أبا بكر رضي الله عنه. فيؤمن دون تلكؤ أو كبوة ويتنور قلبه بنور الإيمان فوراً، وإذا به يرتفع إلى قمة "الصدّيقيّة".

ويرسل الله سبحانه نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم أيضاً، ولكن يقابله هذه المرة أبو جهل، فيخلق الله سبحانه بحقه الضلالة لعلمه الأزلي بأنه معدوم الأهلية للهداية، وهو بدوره يصدّق هذا الحكم بحقه بأفعاله فيزيد من كفره وكفرانه يوماً بعد يوم. فيتردى أكثر وأكثر حتى يجد مصرعه في غزوة بدر. [2]

3-يجمع القرآن الكريم في آية واحدة نوعي الهداية معاً ملفتاً إليها النظر ﴿وَاللهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّـلاَمِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ (يونس:25).

إن الله سبحانه يدعو الناس بوسائل شتى إلى الهداية والصراط المستقيم، إلاّ أنه في الهداية يربطها بمشيئته. فيهدي من يشاء ويضل من يشاء.

إن جهة صغيرة من المسألة متعلقة بالإنسان. فإن استجاب إلى دعوة الله سبحانه وسعى للاستفادة من وسائل الهداية، يتجلّى الله سبحانه عليه بمشيئته ويبلغه الهداية.

إن القرآن الكريم منبع الهداية، ولا ينتفع به إلاّ من شاء الله أن ينتفع، فيكون منبع هداية لهم إذ هو ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾(البقرة:2). وحيث إن الكلمة "معنى مصدري" نفهم منها أن العبد يجب أن يسعى ليكون أولاً متقياً، ويكون أهلاً للاستفادة من القرآن، وهذه جهة تخص العبد. أما الجهة التي تعود إلى المشيئة الإلهية فتوضحها الآيات التي ترد بعدها بآيات: ﴿أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِم﴾(البقرة: 5).

فأولئك كانوا يؤمنون بالغيب، ويقيمون الصلاة، ويؤدون الفرائض، من صوم وزكاة، ويؤمنون بالكتب المنـزلة من قبل، ويؤمنون بالآخرة... فهذه العقيدة رفعتهم إلى مستوى "المتّقين"، والله سبحانه قد أراد لهم الهداية فخلق الهداية.

4-يقول الله سبحانه مخاطباً نبيَّه ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ اْلإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ أَلاَ إِلَى اللهِ تَصِيرُ الأُمُورُ﴾(الشورى: 53، 52).

تظهر مرتبتان للهداية في هذه الآية الكريمة:

الأولى ما هي إلاّ كونها وسيلة وواسطة ليس إلاّ. والقرآن الكريم يصف أحياناً هذه الواسطة والوسيلة أيضاً للهداية. فالهداية بهذه المرتبة لا تتجاوز حدّ الوسيلة.

أما المرتبة الثانية للهداية فهي خلق الله سبحانه الهداية في قلوب الناس. فكما يخلقها بوساطة الوسائل يخلقها سبحانه مباشرة أيضاً. وما هذه الهداية إلاّ تفضّل ولطْف منه سبحانه، وقد اختار العلماء السابقون لهذا عنوان "اللطف الجبْري". نسأله تعالى أن يرزقنا الهداية باللطف الجبري.

إن الهداية والضلالة من خلق الله سبحانه وتعالى مباشرة. والحديث الشريف الآتي ينور هذه الحقيقة: «عن عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بُعثتُ داعيًا ومبلغًا وليس إلي من الهدى شيء، وجُعل إبليس مزيِّنا وليس إليه من الضلالة شيءٌ».[3]

إن الإنسان إنما يسأل بإرادته، ثم يخلق الله سبحانه الشيء الذي سأله. فرغْم أن قدرة الإنسان للحصول على ما يثاب عليه محدودة جداً، فإن له قدرة صورية ظاهرية إلى جهة السيئات والآثام. لأن الشرور والآثام من نوع التخريب، إذ كما يتمكن الإنسان من أن يحرق بيتاً بعود ثقاب، يستطيع أن يقترف آثاماً وذنوباً عظيمة جداً بإرادته الجزئية. علماً أن جميع الأثوبة والحسنات التي ينالها آتية إليه من الله سبحانه. والواجب على العبد الثبات على باب الثواب والخير هذا. فكلما كان قصده وعزمه إلى الخير فإن الله سبحانه يكتب له الثواب والحسنات وييسر له طرق الخير جميعاً. فالهداية إذا نُظر إليها من هذه الزاوية، فهي ضرورية لكل شخص في كل زمان وفي كل مكان.

الهوامش

[1]  أبو داود، الملاحم 1.

[2]  البداية والنهاية لابن كثير، 3/287.

[3]  ضعفاء العقيلي، 2/8؛ ميزان الاعتدال للذهبي، 2/416؛ كنز العمال للمتقي، 1/546.

Pin It
  • تم الإنشاء في
جميع الحقوق محفوظة موقع فتح الله كولن © 2024.
fgulen.com، هو الموقع الرسمي للأستاذ فتح الله كولن.