سـورة الأنفال
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
﴿وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولاً لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾(الأَنْفَال:42)
والحقيقة أنه حسب آية ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا﴾ (يونس: 99) كان من الممكن أن يكون هناك نظام معين آخر في الدنيا. غير أن الإرادة الإلهية قضت بوجود صراع أزلي بين الإيمان وبين الكفر طوال الحياة في الدنيا. ويمكن مشاهدة هذه الحقيقة السافرة عند النظر إلى التاريخ الإنساني منذ آدم عليه السلام حتى اليوم. لذا فما دمنا نريد العيش في دنيا الإيمان علينا ألا ننسى لحظة أننا سنتعرض إلى أذى الكفر وجبروته وتسلطه وخيانته وعدائه. إن عداء الكفر المتأصل ضد الإيمان يدفع جبهة الكفر إلى ممارسة العدوان على المؤمنين بشكل مستمر، يجب ألاّ يحصل لديهم احساس أنـهم يمشون بين أموات لا يحسون ولا يشعرون بشيء ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة لكي لا يكون لأحد أي عذر عندما يمثل أمام الله تعالى، ولا يستطيع أن يقول: لماذا؟ ولأي سبب؟
وقد يحدث عكس ما عرضناه آنفاً. أي يكون المؤمنون مغلوبين على أمرهم، وتكون دنيا الكفر هي الغالبة. ولكن النتيجة لا تتغير مع هذا. ولا يملك أي طرف من هذين الطرفين أي عذر يقدمونه أمام ربهم، لأن كفاحا ونضالاً معيناً قد تم عيشه وممارسته وفيه هلك من هلك و حيّ من حيّ.
لنوضح الأمر أكثر فنقول: إن الله تعالى جعل الفئتين تلتقيان في موضع لو تواعدتا لاختلفتا في الميعاد، وهيأ مناخ المواجهة وجوها والشروط التي جعلت هذه المواجهة ضرورية. وتم تخطيط هذا الأمر تخطيطاً تجاوز الإدراك الإنساني حتى تم الوصول إلى مرحلة القتال وجهاً لوجه، فظهر بكل وضوح وضع من استحق الحياة عن بينة ومن استحق الموت عن بينة. فتساقط الضعفاء بكل ما يحملونه من حقد ونفور وغيظ وبُعد عن الإستقامة وعن المشاركة في الخير، ولم يبق لديهم أي عذر في هذا. أما الذين لم يقترفوا أي جريمة أو جناية بل قاموا فقط بتأديب من يستحق التأديب في بدر وفي غيره فقد لمسوا أفق الحياة الحقيقية بكل الإطمئنان القلبي والروحي والوجداني.
والخلاصة أن ما جرى في بدر وفي جميع المواجهات من أمثال بدر لم يبق هناك شيء يمكن الحديث عنه خارج التشخيص الصحيح للأمر... لا عند الذين قُتلوا ولا عند الذين عاشوا… لا عند المؤمنين، ولا عند الكافرين… لا عند الفائزين، ولا عند الخاسرين… لم يبق هناك شيء لأن الأمور جرت حسب ما خططه السميع العليم.
﴿وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولاً﴾(الأَنْفَال:44)
حدث هذا في معركة بدر. فالذين اشتركوا من المسلمين في هذه الحرب لم يكونوا حتى ذلك اليوم قد شاهدوا حرباً حقيقية. ويجب ألاّ ننسى أنهم عندما خرجوا من المدينة لم تكن نيتهم الدخول في حرب، بل تعقب القافلة. لذا فلو رأى المسلمون الأعداء بكامل قوتهم وعددهم لربما خافوا وارتعبوا. ولكن عندما بدأت الحرب ولم يعد هناك أي مجال للتراجع أراهم الله الوضع الحقيقي لاعدائهم، لكي يتوكلوا على الله ويلتجئوا إلى عنايته. ولو دام المسلمون في رؤية أعدائهم قلة لاستهانوا بـهم ولم يأخذوهم مأخذ الجد، لأن الإنسان عادة ما ينسى العناية الربانية في أوقات الراحة والرخاء والإرتخاء.
من المفيد هنا التعرض لأمر آخر. إن الملائكة الذين ارسلوا للمساعدة في معركة بدر لم يقاتلوا مقاتلة البشر، لأنـهم أرسلوا من أجل تحطيم الروح المعنوية للجبهة المعادية وتقوية الروح المعنوية لدى المسلمين. ولو اشتركت الملائكة في الحرب اشتراكاً فعلياً لاختل عالم الأسباب، ولما كان يتاح لأحد الوصول إلى مرتبة "الغازي" ولفترت الهمم واعتمد الناس على العناية الإلهية ومساعدتـها. أما العناية الإلهية في هذه الدنيا التي هي دار إمتحان فهي تأتي تحت نقاب وتحت ستار.
إن تقليل الله لعدد المشركين في أعين المسلمين قبل بدء الحرب واشتداد أوارها لمنع حدوث أي يأس في القلوب وكذلك لتحقيق التهيئة الروحية والشوق الروحي للشهادة في القلوب... كان هذا هو العناية الربانية الأولى والرحمة الربانية الأولى. كما كان تقليل عدد المسلمين في أعين الأعداء ضرباً آخر من العناية الربانية. وبذلك فقط تيسر استخدام أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لبلوغ المرام الإلهي. ثم شاهد كل طرف العدد الحقيقي للطرف المقابل، ولكن القدر الإلهي كان قد بدأ، حيث وجد المؤمنون أنفسهم في خضم الحرب وفي وسطها. وبينما وصل المؤمنون -بعناية من الله وتأييده وبخطة إستراتيجية جيدة للحرب- إلى النصر، ذاق المشركون -البعيدون عن التأييد والنصر الإلهي- مرارة الهزيمة وانقلبوا على أعقابـهم خائبين خاسرين.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾(الأَنْفَال:45)
من الممكن فهم ما يأتي من "ذكر الله":
1- يشار في هذه الآية إلى أن القلب يجب أن لا تطغى عليه الغفلة أبداً في الحياة العادية واليومية ولاسيما عند الدخول في صراع مع الأعداء. ويجب تنبيه أصحاب القلوب الغافلة إلى هذا الأمر بين الفينة والفينة، فينتبه المؤمن إلى ذكر ربه الذي يجاهد في سبيله بقلبه ولسانه، ويتحول المكان الذي يموت فيه الناس ويقتلون إلى مكان قدسي وإلى معبد.
2- والذكر في الوقت نفسه صيحة متكررة في الحرب: الله، الله، الله. هذه الصيحة مهمة لأنـها تؤثر سـلبيا على معنويات العدو، وتزيد من معنويات جبهة المسلمين حيث تبعث فيهم الشوق والحماس. وإذا كان مجرد قولنا اليوم "الله الله" بطرف اللسان يثير فينا الحماس والرعب في صفوف أعدائنا، فخمن إذن ما يستطيعه الذكر الهادر من أعماق القلوب، وماذا يستطيع أن يكسبه للإنسان.
3- إذا أتينا إلى موضوع أن النصر مرتبط بذكر الله وبالثبات فهو موضوع مهم يجب الوقوف عنده بكل عناية.
إذن هناك أمران يقعان على عاتق المؤمنين الملاقين للأعداء هما:
أ- في حالة الدخول في أي مواجهة حربية -مهما كانت أبعادها الكمية والكيفية- يجب رفع الحالة المعنوية لجبهتنا بإظهار الصبر والاقدام والثبات والعزم، ثم إظهار الجسارة والجرأة -داخل نطاق العقل- لإحداث هزة نفسية وتضعضع وتفكك في الجبهة المعادية.
ب- ذكر الله كثيرا لتمتين حالتنا الروحية والمعنوية وتقويتها، وهز الطرف المقابل بمشهد اللاَّمُبالاة الموجودة لنا عندنا حيال الموت، وربط حركاتنا وسكناتنا بنبض قلوبنا المتصلة بالله.
أجل! لابد أن كل هذا مفاتيح مهمة للنصر. وإلا فانه عند عدم إظهار الصبر والثبات لا يمكن الوصول -حسب السنن الإلهية- إلى الفلاح، كما لا يمكن إدراك النصر في القتال في حالة الغفلة عن ذكر الله. وحتى لو تم ذلك فلا يتم نيل الثواب، أي لا يكون الفلاح الأخروي واردًا في حق أمثال هؤلاء.
إذن فعلى الذين يحاربون ويجاهدون في سبيل الله أن يثبتوا بكل عزم من جهة وأن يتوجهوا لذكر الله من جهة أخرى، وأن يتبرأوا من كل حول وقوة -حتى في أكثر أحوالهم قوة وقدرة- وأن يذكروا الله ويلتجئوا إلى حوله وقوته وأن يكرروا الدعاء الآتي:
"اللّهم تبرأنا من حولنا وقوتنا ولجأنا إلى حولك وقوتك".
﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ﴾(الأَنْفَال:73)
في الآيـة السابقة "الأنفال: 72" جاءت الآيـة بقرار أن الأنصار والمهاجرين يرث أحدهم الآخر على الرغم من عدم وجود آصرة القربى فيما بينهم. ثم تأتي هذه الآية التي نريد شرحها بحكم أن المسلمين والكفار لا يجوز أن يرث أحدهم الآخر، وأن الكافرين بعضهم أولياء بعض أي يرث أحدهم الآخر. وهناك حديث شـريف يشرح فيه الرسول صلى الله عليه وسلم هذه الآية: «وقال: أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين، قالوا يا رسول الله لِمَ؟ قال: لا تراءى ناراهما».[1]
أي على الرغم من إيمانـهم فإن النار التي يوقدونـها لا تنير، ولا يتميز العالمان المختلفان بعضهما عن البعض الآخر.
نستطيع تقديم التقييم الآتي:
للنار الموقدة في الصحراء أهمية كبيرة من ناحية الاستدلال على الأثر ومعرفة المكان... الخ. وقد يقيّم هذا المثال من زاوية عدم التمييز بين نار العدو ونار الصديق.
إن كان موقدا الكافر والمؤمن -أو منابع الضوء عندهما- معاً، صعب التمييز بينهما، مع العلم أنه يجب أن يكون موقد المؤمن على حدة وموقد الكافر على حدة، لكي لا تختلط الأمور على طلابـهما.
والأهم من كل هذا أن الملحد والمؤمن -خارج نطاق التسامح المتقابل وقبول أحدهما لوضع الآخر- إن بـهتت الخلافات الأساسية الموجودة بينهما في النواحي الملية والأخلاقية والفكرية غابت الفروق التي يجب وجودها بينهما. ولو استمر هذا الوضع لأصاب التعفن كلا الطرفين، ولاسيما الطرف الذي يرغب بإنشاء وتطوير عالمه الخاص على مكتسباته التاريخية.
كما أن التوارث لا يجري بين المؤمن والكافر من زاوية قانون المواريث بسبب "اختلاف الملتين". ولو قمنا بالتعبير عن هذا بلسان الفقهاء لقلنا بأن اختلاف الدار واختلاف الدين يمنع التوارث. ففي جانب المحبة الإنسانية والتفاهم إن لم تتم المحافظة على تمايز الخطوط، وإذا تم الاختلاط دون أي حساب أو ميعاد وغض الطرف عن بعض المبادئ القانونية نكون -بافعالنا وتصرفاتنا التي رجونا منها الإصلاح- سـببا في الفتنة وفي الفساد بينما يعدّ اكبر فتنة وفساد هي الفتنة والفساد النابع عن الأعمال التي تمت في الأصل بنية الإصلاح والخير. لأن الشرور الناتجة من النيـات الحسنة قد تكون لها صفة الدوام، والجماهير غير الواعية عندما تدخل في هذه الدوامة يصعب عليها التراجع.
الهوامش
[1] أبو داود، الجهاد 95؛ النسائي، القسامة 27.
- تم الإنشاء في