النور الخالد محمد (صلى الله عليه وسلم) مفخرة الإنسانية
من معجزات هذا الدين أنه يستقطب في كثير من الأحيان من غير العرب الذين نزل القرآن بلغتهم مَن يقوم بخدمة الدعوة ربما بشكل يتفوق على الكثيرين ممن فتقت ألسنتهم بغلة القرآن الكريم. ومازال الناس وإلى قيام الساعة يتباهون بالبخاري ومسلم وغيرهما من أئمة الحديث، وهؤلاء لم يكونوا نتاج الأرض العربية بل هم نتاج الإسلام العالمي. ومن هؤلاء بطلنا اليوم الشيخ محمد فتح الله كولن الذي لا يحب أن ينسب إليه أي فضل أو زعامة، مع أنه لفت إليه جميع الأنظار بما قدمه من خدمات لدين الله تمثل بداية لعهد جديد ومرحلة جديدة، والذي ولد سنة 1938 (أو سنة 1941 رسميًّا)، ونشأ في قرية صغيرة من قرى الأناضول وهي قرية "كُورُوجُكْ" التي يسكنها عدد قليل من العائلات. ويذكر التاريخ أنه تلقى القرآن الكريم من والدته وعمره لم يتجاوز الرابعة، وختم القرآن في شهر واحد.
هذا الكتاب نتاج علمي مميز يقدم فيه المؤلف نبي الإسلام بلغة عصرية محتفظًا بكل الثوابت الشرعية، كتب بقلم أديب، وباستخدام مشرط جراح، وريشة فنان، ولهجة عاشق، وتنسيق مهندس. وتلمح فيه حبًّا لا ينارى ولا ينقطع برسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو لا يقدم هذا الحب عن عاطفة مجردة منفصلة عن الأسباب، بل هي عاطفة لها ما يبررها.
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخر للبشرية جمعاء، فأكبر الفلاسفة وأشهر العباقرة وأذكى رجال العلم يقفون وراءه خاشعين، ويتراكضون حوله ويحومون كما تحوم الفراشات حول النور. وبينما تتعفن المبادئ والأفكار البشرية وتتهاوى، تبقى منـزلة النبي محمد صلى الله عليه وسلم وساما على الصدور ونضرة في القلوب. فقد كان صلى الله عليه وسلم يمثل الصفات الإنسانية في ذروته فلا مثيل له ولا نظير، أُرسل إلى الدنيا كي ينظمها من جديد، وزُوّد بروح وبقابليات متميزة فريدة، وبالتالي فإن تقييمه أمر يخرج عن نطاق قدرتنا.
هو رحمة للعالمين؛ فلقد سبق البعثة عهد مظلم اهتزت فيه عقيدة التوحيد لدى المشركين الذين عميت بصائرهم فعبدوا الأصنام والأوثان وملأوا بها الكعبة، ووأدوا البراعم الصغيرة بلا ذنب جنته، وتغيرت جمع القيم الإنسانية لديهم فانحدر المجتمع إلى هاوية مظلمة، هذا الظلام الدامس كان يحمل في طياته نورًا مرتقبًا انعقدت كل الآمال عليه، ولم يكن هذا النور سوى الرسول العظيم صلى الله عليه وسلم الذي ولد من سلسلة نسب ذهبية، فقال لكل هذا الفساد: "قف!".
لقد كانت مراحل طفولته وشبابه ونضوجه بمثابة مقدمات وسلالم لنبوته، وتهيأ منذ البداية للوظيفة المهمة والعبء الثقيل الذي ينتظره، فنشأ يتيمًا ليبلغ ذروة التوكل على الله، وحفظه الله من الغنى المفرط المؤدي إلى البطر والكبر، كما حفظه الله من الفقر المدقع المؤدي إلى الذل والعجز، وأنشأه شخصًا معتدلاً ومستقيمًا في شؤون حياته، وظهرت علامات نبوته صغيرًا ويافعًا وتعرف عليه بعض رهبان النصارى الذين كانوا قد اعتزلوا الناس بدينهم في انتظار النبي الخاتم، مثل بحيرى الراهب ونسطورا الراهب.
لقد أرسل الله الأنبياء والمرسلين لتحقيق العبودية لله وحده، كذلك لتأمين التوازن المطلوب بين الدنيا والآخرة، بحيث يتخلص الإنسان من الإفراط والتفريط، إذ تقتضي مهمة الإنسان على الأرض عدم ترك الدنيا، وفي الوقت نفسه يجب أن يحذر الانغماس فيها، فالمطلوب أن يكون وسطًا بين الأمرين ولا يمكنه أن يحقق ذلك بعيدًا عن الوحي، ولذلك أُرسل الرسل والأنبياء لسدّ باب معذرة الناس أمام الله تعالى.
ولقد تحلى الأنبياء والرسول بمجموعة من الخصائص التي تؤهلهم للقيام بدورهم؛
فمن تلك الخصائص الربانية والتي مؤداها ومنتهاها أن كل نبي ورسول مكلف بإبلاغ دعوة الله عز وجل، فليست الدعوة نتيجة تفكير ذاتي أو نظام ارتضاه أي نبي أو رسول..
ومن الخصائص أيضًا التجرد والتوجه إلى الله وحده، فهم لا ينتظرون أجرًا مقابل دعوتهم بل كانوا مستعدين للتضحية في سبيل دعوتهم حتى بمشاعرهم..
ومن تلك الخصائص أن جميع الأنبياء والرسل على اختلاف أزمنتهم وأماكنهم متفقون على دعوة أقوامهم إلى توحيد الله تعالى، وما اتفاقهم إلا لأنهم جميعًا مبلغون وليسوا مخترعين.
الصفات التي تجب للأنبياء ومكانتها من النبي صلى الله عليه وسلم
تجب للرسل والأنبياء صفات تضمن عدم الطعن فيهم أو التشكيك فيما حملوه من الوحي، هي:
أولا: صفة الصدق، والتي هي محور النبوة ومدار ارتكازها، فكل ما تلفظه الأنبياء هو صدق خالص، وكل نبي صادق لأنه الشخص الذي يبلّغ عن عالم الغيب إلى الناس. ولو كان هناك احتمال أي خطأ -ولو كان قليلاً- لانقلبت الأمور رأسًا على عقب.
لقد تجسّد الصدق حقيقة في شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد شهد له العدو قبل الصديق بصدقه. وكانت أقواله علامة صدقة؛ فقد كان يصف ملامح الأنبياء السابقين فيصدق أهل الكتاب على تلك الأوصاف، وكم من مرة أخبر عن غيبيات متعلقة بزمانه صلى الله عليه وسلم تحققت كما أخبر، ومنها ما نحن في انتظار تحققه من أخبار المستقبل البعيد والذي تحقق بعضه بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، بل هناك جملة من الحقائق أوضحها النبي صلى الله عليه وسلم ولم يُعرف معناها إلا بعد تقدم العلوم.
ثانيًا: الأمانة، وهي صفة تربط الناس به وتربطهم بالله عز وجل. وقد تجلّت الأمانة عند رسولنا صلى الله عليه وسلم في أروع صورتها؛ فلقد كانت أمانته في تبليغ الرسالة مضرب الأمثال وهي الذي كان حريصًا ألا تفوته كلمة واحدة من الوحي فكان يكرر بسرعة ما يسمعه من جبريل كي يحفظه بشكل تام فنهاه ربه عن ذلك. وما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخفي شيئًا من الوحي حتى لو كان مما يسبب له حرجًا شخصيًّا أو حتى عتابًا من الله له.
ثالثًا: التبليغ، وهي الهدف من وجود كل نبي، وبالتبليغ تجلّت رحمة الله على البشرية التي لولاها لظل الناس حيارى في صحراء الجهل والكفر والضلالة، وأسس التبليغ ثلاثة هي: 1-النظرة الشمولية، 2-وترك النتائج لله عز وجل، 3-وعدم انتظار الأجر من الناس.
ولقد تميز التبليغ عند رسولنا صلى الله عليه وسلم بالعديد من الأسس؛ فهناك منطق النبوة الذي يخاطب الإنسان من الجانب المنطفي والجانب العاطفي في نفس الوقت، واستخدم النبي صلى الله عليه وسلم أساليب ديناميكية في دعوته بأن جعل طراز حياته مطابقًا تمامًا للمقام الذي يدعوا إليه، فكل من رآه ولو مرة واحدة فقد كان هذا كافيًا لإيمانه دون أن يبحث عن دليل آخر.
رابعًا: الفطنة، وفطنة الأنبياء تقوم بوظيفة الغلاف الجوي لشهب الوحي الحارقة التي لا يتحملها الناس مباشرة، فقد كان كل نبي يملك قدرة إدراك كبيرة مَكّنت الأنبياء من الإجابة على كل اعتراضات أعدائهم وإيضاح المسائل لأنصارهم.
والفطنة في نبينا صلى الله عليه وسلم شأن خاص، فقد كان يخاطب الناس على درجات مختلفة من الفهم والإدراك، وكل مشكلة أو معضلة كانت تعرض عليه صلى الله عليه وسلم -سواء كانت مشاكل اجتماعية أو اقتصادية أو سياسية- تجد لها حلاًّ بكل تأكيد، ومن صور الفطنة جوامع الكلم؛ فكان سيد البلغاء، وصاحب البيان العذب والتعبيرات الساحرة التي تخفق لها القلوب. وكذلك كانت الرحمة النبوية بعدًا من أبعاد فطنته صلى الله عليه وسلم. وكذلك كان كرمه وتواضعه صلى الله عليه وسلم.
خامسًا: العصمة، وتعنى أن الأنبياء أطهار من الذنوب، فلن تجد في حياة أي منهم أي انحراف مقصود؛ فهم معصومون من الذنوب كبيرها وصغيرها، وعصمة الأنبياء فطرة وطبيعة وليست عارضة ولا مؤقته.
وسيد الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وسلم كان أسمى من العصمة، ولهذا لم يجد ألد أعدئه ما يقولون مِن طعنٍ حقيقي في حقه، ولقد تمثلت العصمة في حياته صلى الله عليه وسلم في أشكال عدة: فقد كان أزهد الزاهدين، وكما كان في غاية التواضع، وتراه في حياته منصرفًا إلى العبادوحدها وكأنه لم يفعل في حياته سوى العبادة.
النبي صلى الله عليه وسلم مربّيً
وهذا من الأدوار المهمة التي قام بها النبي صلى الله عليه وسلم في حياته، إنه دور التربية، ولا يزال عطائه في التربية مستمرًّا إلى يوم القيامة؛ فعائلته كانت أفضل وأسعد عائلة في تاريخ الدنيا كلها على الرغم من أنها كانت من أفقر العائلات من ناحية القدرة المادية وموت جميع أبنائه في حياته أو بعد موته بزمن قصير. فمجموعة النسوة اللاتي تركهم من أمهات المؤمنين كن على مستوى رفيع نتيجة تربية الرسول صلى الله عليه وسلم لهن، فهم لم يبدين غضبًا أو حدة لعدم وجود ما يطعمنه في البيت لمدد طويلة، وكن راضيات بالعيش مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذه الحالة مخالفة لما هو مألوف عن طبع النسائ من حب الزينة والمتاع.
كما أن الرسول صلى الله عليه وسلم قام بتربية المؤمنين الذين اتبعوه تربية غالية، وكان حريصًا على السمو بنفوسهم إلى المعالي، ويدعو أصحابه إلى الحركة والعمل، ويدفعهم لخوض مجالات التجارة والزراعة بالتوازي مع الجهاد، لهذا فقد حصلت البشرية على يده صلى الله عليه وسلم على أفضل رجال الإدارة والاقتصاد والسياسة. فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أكثر المربّين تأثيرًا في طول التارخ وعرضه وأكثرهم مصداقية.
حل المعضلات
الإداري والقائد والزعيم الناجح يجب أن تتوافر فيه بعض الأمور المهمة، وقد توافرت جميعها لرسول الله صلى الله عليه وسلم كما لم تتوافر لأحد غيره، ومنها:
أولا: ألا يحمل رسالة تتناقض مع الحياة أو تتصادم معها؛ والمتأمل يدرك أن كل المبادئ التي أتى بها الرسول صلى الله عليه وسلم ليس منها ما يتصادم مع الحياة.
ثانيًا: وعليه أن يكثف جهوده مع العنصر الإنساني بتربية وإعداد الأفراد؛ فلم يهمل النبي في أي وقت من الأوقات العنصر الإنساني، بل ربى الأمة تربية صحيحة ومتوازنه، وكان صلى الله عليه وسلم بارعًا في استخراج الإداريين من بين أفراد المجتمع.
ثالثًا: أن يكون على معرفة تامة بعناصره وقدرتهم على تحمل المسؤولية؛ فلقد استخدم الرسول أصحابه بشكل صحيح ووضع كلاًّ منهم في المكان المناسب، وذلك لتحقيق الاستفادة من أمكانات كل واحد منهم.
رابعًا: كما يجب أن يكون منفتح الصدر لحل مشاكل أتباعه، وهو أمر لازم للحصول على ثقة أتباعه ورضاهم عنه، وهو البديل لحل المشكلات عن طريق للجوء للضغط واستخدام القوة؛ لهذا نرى احترام النبي صلى الله عليه وسلم للإرادة الإنسانية، فصنع مجتمعًا آمنًا مطمئنًّا.
خامسًا: وأن تكون تعاليمه قابلة للتجبيق، وهذا يرتكز على وحدة الفكر والتطبيق، واستخدام التخطيط ومحاربة العنصرة.
الجانب العسكري للرسول صلى الله عليه وسلم
وعلى الجانب العسكري فهناك شخص واحد اجتمعت فيه كل صفات القائد الناجح دون أي نقص وهو محمد صلى الله عليه وسلم. فجمع قراراته صلى الله عليه وسلم كانت سريعة وصائبة، وكان صلى الله عليه وسلم شجاعًا بفطرته؛ فقد سلك طريقًا طويلاً وصعبًا تحدَّى به العالم أجمع، ومنذ الصغر تربى صلى الله عليه وسلم على التوجه إلى منبع الثقة والأمان إلى ذات الله تعالى، ولا توجد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم لحظة ذعر واحدة حتى في اللحظات التي تَفرّق فيها أصحابُه عنه. وكان صلى الله عليه وسلم صاحب رؤية وفراسة تتجاوزان أبعاد الزمان والمكان، كما أن هناك عظمة المبادئ التي قاتل من أجلها النبي صلى الله عليه وسلم والأسس التي استخدمها في جهاده، فجميع الحروب التي خاضها النبي صلى الله عليه وسلم قامت على أسس إنسانية، وكانت من أجل الحفاظ على حرية الإنسان، ولم يجرح النبي صلى الله عليه وسلم من خلالها الكرامة الإنسانية أو الشرف الإنساني.
المصدر: مجلة "التبيان" المصرية، العدد: 42 (يناير 2008)
- تم الإنشاء في