رجال أحبوا الله فنذَروا نفوسهم للخدمة في سبيل الله
وكان عطاء هؤلاء الرجال مثلا يحتذي به ونموذجا نقدمه للبشرية المرهقة الضائعة اليوم كي يدركوا أن الإسلام بخير، وأن المسلمين فيهم خير كثير، والأمل معقود علي نواصيهم حتى يصنعوا سلام العالم الذي نعيش فيه من خلال عمل يقدمونه وجهد يبذلونه ودعوة عظيمة للحوار بين كل البشر من أجل تحقيق التعايش السلمي بين جميع شعوب العالم.
ونماذج العطاء أكثر من أن تحصى وهي نماذج مشرفة لكل إنسان مسلم تعطي في مجالات عدة منها:
مجال التعليم: مجال التعليم من خلال المدارس المنتشرة في أنحاء تركيا في جميع مراحل التعليم من رياض الأطفال حتى الجامعة وطلاب هذه المدارس احتكروا كل المراكز المتقدمة في جميع المراحل حتى صارت هذه المدارس موضع اهتمام المجتمع التركي بكل طوائفه وفئاته ومستوياته الاجتماعية من وزراء وبرلمانيين ورجال أعمال ورياضيين وفنّانين. الكل يرغب ويطلب ملحأ أن ينتظم أبناؤه في هذه المدارس، التي تتمتع بمستوي رفيع من الأساتذة خلُقيا ومعرفيا وتنظيميا مما ينعكس علي سلوك الطلاب في حياتهم العلمية والعملية. وانتشرت هذه المدارس وامتدت الخدمة خارج تركيا، وصارت مضرب المثل في العطاء والخدمة والتضحية... ومن النماذج المشرفة للعاملين في هذه المدارس؛ شاب يذهب للخدمة في سيبيريا وما إدراك ما سيبيريا مناخها شديد البرودة لدرجة أن السيارات تسير فوق المسطحات المائية من شدة تماسكها بسبب الجليد. ومع هذه البرودة تأتي حرارة الإيمان فتملأ الكيان الإنساني بالدفئ والحيوية. وهذا نموذج آخر رجل من أفضل الرجال يصحب تلاميذه في رحلة ويتعرض أحد التلاميذ للغرق في بُحيرة، فيُلقي الأستاذ بنفسه لإنقاذ تلميذه وينجوا التلميذ ويذهب الأستاذ إلي ربه شهيدا مجاهدا أمينا صادقا مع نفسه ورسالته.. والسؤال: ما الذي صنع هؤلاء الرجال؟ إيمان قويّ بالله وبالخدمة في سبيله. هل نرى مثل هذه النماذج وغيرها كثير في مجتماعتنا اليوم؟ إنهم رجال أشد حبا لله واقتداء برسول الله صلي الله عليه وسلم.
الخدمة العامة: أما في مجال الخدمة العامة فالتنافس بين هؤلاء الرجال علي أشده، وصدق الله إذ يقول: ﴿وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ﴾ (المطففين:26). فمن الرجال من يقيم علي نفقته الخاصة صروح العلم ومراكز الإقامة للطلاب والمساجد والمؤسسات الخيرية في مجال خدمة ذوى الاحتياجات الخاصة وكبار السن والمرضى... وإذا سألت أحدهم ماذا أبقيت لأهلك قال مقالة الصديق أبو بكر t "أبقيت لهم الله ورسوله"... إننا أمام سيل الخير يتدفّق، إنهم أحبّاب الله... وقد صدق فيهم قولُ رسول الله r «إذا أحبّ الله عبدًا أَجرى الخَير على يدَيه للناس»، وصدق فيهم قول الله عز وجل ﴿وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ﴾ (العاديات:8)
مجال الاقتصاد: وفي مجال الاقتصاد تأتي مؤسّسات تقدم خدمه استثمارية إنتاجية في مجالات عديدة ترتقي بالاقتصاد التركي وتدعمه حتى صارت ذات نشاط اقتصادى رفيع. أضفْ إلي ذلك نشاط رجال الأعمال في كل مناحي النشاط الاقتصادي أنهم يمثلون نماذج رائعة جمَعوا بين سعادة الدنيا ولم يتناسوا العمل من أجل الآخرة، لقد جمع الله لهم خير الدنيا والآخرة وتحقق فيهم قول الله عز وجل ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلاَ تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ﴾ (القصص:77)... فأتاهم الله من فضله وأسبغ عليهم نعمه ظاهرة وباطنه.. فلم يبخلوا بعطاء الله لهم على خلق الله فقدّموا بين يدي الله الكثير وأعطاهم الله خيرا كثيرا.. إنهم رجال جعلوا الدنيا مزرعة للآخرة.
وتتواصل قوافل الخير وأعمال الخدمة آناء الليل وأطراف النهار. فقد رأيتُ رجالاً رهبانا بالليل فرسانا بالنهار، فالرجل منهم يعمل، ينتج، يخدم طوال النهار، ثم هو في الليل حريص علي الأوراد؛ يقرأ القرآن، يتهجد، يذكر الله بكل أنواع الذكر من استغفارٍ ومدارسة العلم والتفقه في الدين... وقد شاء الله أن أشاهد ذلك بنفسي فقد مارستُ معهم هذه الألوان من العبادة والتقرّب إلي الله عز وجل.
إننا أمام أصحاب عزائم قوية وإرادة مخلصة أخلصوا لله دينهم وصدقوا ما عاهدوا الله عليه علي الرغم من كل التحدّيات والصعوبات والمغريات التي أحاطت بهم من كل جانب.. لقد أقبلت عليهم الدنيا بكل مغرياتها وأحاطت بهم المخاطر من كل ناحية وحاصرتهم عوامل الضعف والهدم الدنيوية إلا أنهم بقوة إيمانهم وارتباطهم بشخص رسول الله صلى الله عليه وسلم التي أحاطت به التحديات في مكة المكرّمة خلال ثلاث عشرة سنة عاشها في جو من الإرهاب والتحدّي إلا أنه صمد وجاهد في الله حق جهاده وواجه الإساءة بالإحسان حتى هاجر وأسس دولة المدينة وعاد من جديد إلي مكة حيث نصره الله وأيّده وقابل الإساءة بالإحسان... إن رسول الله صلي الله عليه وسلم كان ولا يزال المثل الأعلى الذي يجب علي كل مسلم أن يقتدي به قولاً وعملا ويسلك منهجة في الحياة. ثم إنهم تعلّموا من سيرة أستاذهم الشيخ محمد فتح الله كولن ومن أستاذه الشيخ الإمام سعيد النورس. كيف أنهم صبروا وثابروا حتى أيّديهم الله بنصره، وجعلهم مناراة هدي للبشرية وسط ظروف غاية في الصعوبة والقسوة إلا أنها عزيمة أهل الإيمان الصادقين في حبّهم لله وللرسول وحرصهم عمل فعل الخيرات وعمل الطاعات والدعوة إلي الحق بمنطق الحق الذي لا يزيغ ولا يضل ولا ينحرف ولا ينساق وراء الدنيا بكل مباهجها.
إن الرجال الذين عرفناهم في هذه الرحلة المباركة من جند الله المخلصين الذين عز أن نجد أمثالهم إلا نادرا. ونسأل الله أن جعل في بلاد الإسلام أمثالهم في التقوى وحب الله وحب رسوله.
لقد كانت رحلة مباركة طيبة تركت في النفوس دروسا عظيمة، وحفرت لها في القلوب مكانا بارزا، وصارت في عقولنا نماذج مشرقة بنور الإيمان. نسأل الله عز وجل أن يديم عليهم التوفيق والتأييد والثبات علي هذه المبادئ وتلك القيم السامية الرفيعة التي نحتاج إليها زادا يقوّينا في مسيرتنا الإيمانية نحو الله سبحانه وتعالى.
لقد تركتْ هذه الرحلة المباركة تأثيرا عميقا في عقلي ووجداني، إما في عقلي فقد أشغلت وأوقدت تفكيري بكثير من المعاني والتأملات والدروس والصبر... وإما في وجداني فقد أججت مشاعري وملأت عواطفي وأثارت شجوني حيث إنني تعرفتُ علي رجال يحترمون العلم ويقدرون العلماء. فالاحترام والكرم والحفاوة التي لقيتها من الأفراد والمؤسسات من كبار السن والشباب والأفراد والأسر ما زاد عن الحد وبلغ غاية القصد من مرضاة الله عز وجل. إن هذه الرحلة لم تكن مجرد انتقال من مكان إلي مكان، ولكن كانت انتقال عبر عصور مشرقة من تاريخ الإسلام منذ عصر النبوة المنيرة إلي عصر الخلافة الرشيدة إلي عصرنا هذا الذي استطاع الأستاذ الشيخ محمد فتح الله كولن وأستاذه الإمام سعيد النورسى إن يعيد للإسلام والمسلمين عبق العصور الإيمانية المشرقة والمتنعمة بحب الله وحب رسول الله صلي الله عليه وسلم. لقد كنت قبل الرحلة أتطلع لعودة الإسلام إلي دنيا الناس بكل عظمته وبكل معانيه السامية السامقة... وعدت من تركيا وقد شاهدت رجالا أقوياء رحماء فيما بينهم يشقّون الأرض كي تشرق بنور ربها من جديد برسالة النور التي أتانا بها "النور الساطع الخالد: محمد صلى الله عليه وسلم ". نورا يبعث الأمل ويجدد العزائم بقوة الإيمان وصدق اليقين بأن اللهَ ﴿غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ﴾(يوسف:21).
المصدر: هذا المقال كتب بعد زيارة الأستاذ سعيد مراد لتركيا التي تمت في سبتمبر 2005.
- تم الإنشاء في