فدائيّوا المحبّة ومهمّة إنقاذ أرواح الشعوب
في الحاجة إلى مهندسي الروح
فتح الله كولن إذن رجل معلم بفتح اللام لأنه وضع نصب عينيه الصفات المثلى للسالكين إلى الله تعالى وعلى رأس هذه الصفات رضا الله عز وجل وتعليم الناس الخير. وما أحوجنا إلى أناس من هذه الطينة لحجز الناس عن هذا التردّي إلى الهلاك، أناس يبذلون الرحمة والشفقة لأجل استنقاذ الناس من التطبيع مع المعصية، مع دعم قدراتهم ومناعتهم الدفينة للتصدّي لوصفات الشيطان التخريبية للإنسان والحضارة.
يقول فتح الله كولن في ذكر صفات أولئك الذين نذَروا أرواحهم لخدمة الناس: "لن تجد في خططهم وحساباتهم أنهم يعيرون أهمية لأمور يسعى طلاّب الدنيا للحصول عليها كالأموال والأرباح والثروة والرفاهية... هذه الأمور لا تشكل عندهم أيّة قيمة، ولا يقبلون أن تشكّل عندهم أي مقياس. فهم قد نذروا أنفسهم لإرشاد الناس إلى الحق تعالى وتحبيبه إليهم لتحقيق الحصول على محبّته تعالى، وربط حياتهم به لإحياء نفوس الآخرين... ونظرًا لكل هذا فلن تجد عند أمثال هؤلاء شعارات تفرّق، ولا تجمع وتشتّت، ولا توحّد وتقود إلى النّزاع من أمثال "هم" و"نحن" و"أنصارنا" و"أنصارهم"... ولا توجد أيّ مشكلة ظاهرية أو خفيّة مع أحد، ليس هذا فحسب، بل تراهم في سعي دائم ليكونوا ذوي فائدة لكل مَن حولهم، ويبدون عناية فائقة لعدم إثارة أيّ مشاكل أو حسّاسيات في المجتمع الذي يعيشون فيه، وعندما يرون سلبيات في مجتمعهم فلا يتصرّفون كمُحاربين غلاظ، بل كمُرشدين رحماء يقومون بدعوة الأفراد إلى الأخلاق الفاضلة". [أرواح نذرت أنفسها للحق تعالى].
إن هذا الصفات الربانية هي صفات المسار النوراني للأنبياء والرسل، تشرّبوها وحيًا تضمّنته الكتب السماوية، وطافوا بمصابيحها بين الحيارى والضالّين، وعلى امتداد فترات نُبوّتهم سعوا لاقتلاع نبتات الشيطان وغرْس بذور الإيمان في القلوب بكل الرحمة التفهّم، فآمن بهم مَن آمن، وكذّب وعصى الأشقى، حتى إذا جائت الفترة النبوية المحمدية، كان الزرع الرسالي قد استغلظ واستوى على سوقه، فجاء نصر الله والفتح، ودخل الناس في دين الله أفواجًا.
وقد صاغ الأستاذ كولن في مقالات رائعة بمجلّة "حراء" معالم هذا الدرب النبوي، وملامح الذين يتطوعون للانخراط في سلكه، وهم الذين تقع على عاتقهم مهمّة إعادة الروح الإيمانية للناس، وعليهم أن يتذكروا أنّ حصاد جهدهم وإن كان هزيلا على المدى المنظور، فثماره بفضل الله عز وجل ستؤتي أكلها ولو بعد حين.
وفي السياق تطالعني تلك القصّة المليئة بالحكَم والتي تقول: إن طفلا رأى جدّه يقرأ ويحفظ من كتاب الله عز وجلّ يوميًّا، فأراد كما جدّه أن يحفظ القرآن، فلم يفلح، فأخبر جدّه بمحاولاته الفاشلة لحفظ كتاب الله عز وجل. فأخذ الجد سلّة من قصب وسلّمها لابنه وطلب منه أن يملأ الجرة بالماء، فركض الطفل إلى النهر، وحاول ملْء السلّة، لكنه كان يفقد الماء المتسرّب من شقوق السلة في كل مرة. فعاد باكيًا حزينًا إلى جدّه، فأجلسه إلى جانبه وسأله: ألم تكن السلة متّسخة؟ فال الولد: بلى. قال الجد: ألم تلاحظ أنها غدت نظيفة؟ قال الولد: نعم، هي كذلك. قال الجد: ألم تلاحظ أن السلّة غدت ثقيلة؟ قال الولد: نعم. قال الجد: إنه الماء الذي أمسكَتْه السلّة.. وكذالك القرآن، لا يذهب أثره من روح وكيان الإنسان، وإن كان يتفلّت كما يتفلّت الماء من السلّة.
وهو الأثر الذي يبذل في سبيله الأستاذ كولن، فكره وجسده العليل، لتركيزه في قلوب الناس، ولينفخ في أعماقهم روح الجهد والعمل للدين. وسبحان الله، ألم يقل المصطفى صلى الله عليه وسلم: "من ليس في جوفه شيء من القرآن فهو كالبيت الخرب".
المصدر: جريدة "المحجّة" المغربية، العدد: 376 (17 مارس 2012)
- تم الإنشاء في