أيام الله في تركيا – 1
- قراءة في تجربة الأستاذ فتح الله كولن وتيار الخدمة الإيمانية في تركي
- وضوح الرؤية والهدف والصبر يصنع القائد القادر على تغيير مجتمعه
- تيار الخدمة الإيمانية لم يسع إلى الحكم، لكنه صار القوة التي ترجح الكفة في السياسة التركية
- الإسلاميون الأتراك تركوا الثرثرة للعرب وانطلقوا هم للعمل والإنجاز
- هل حالت العسكرة السياسية بين الإخوان المسلمين وبين إقامة المجتمع المسلم؟
أمضيت مؤخرًا أربعة أيام في إسطنبول، برفقة مجموعة من الزملاء الكتاب والصحفيين بضيافة تيار الخدمة الإيمانية، الذي نذر أبناؤه أنفسهم وحياتهم لخدمة دينهم لله، فكانت أيامهم لله.. فجاء الغلال وفيرًا والثمار ناضجة، وهي الثمار التي جاءت حصادًا للجهد الإيماني الذي بذله الداعية المسلم الأستاذ فتح الله كولن. ورغم قصر المدة التي أمضيناها للاطلاع على جوانب هذا الانجاز العظيم، الذي يسري في المجتمع التركي سريان الروح في الجسد، والصحة في الجسد العليل، ويفعل فعله الطيب فيه، مثلما يقدم الدليل الواضح على أن وضوح الرؤية، وتحديد الهدف، ثم الصبر على المتابعة والإصرار على تحقيق الهدف كفيل بصناعة القائد القادر على التأثير في مجتمعه بل وتغيير ذلك المجتمع ليس عبر العنف والانقلابات العسكرية ولا عبر الغرق في تفاصيل العمل السياسي اليومي، بل عبر العمل الاجتماعي والتربوي الموصول والمحدد الهدف.
لقد كانت زيارتنا لتركيا رغم قصرها غنية بحصادها، ثرية في قدرتها على إثارة التأمل في عقل المرء، والأمل في وجدانه، وعلى ترسيخ القناعات في عقله ونفسه. ومن هذه القناعات التي رسختها زيارتي الأخيرة لإسطنبول، قناعة تكونت عندي منذ زمن طويل، خلاصتها أن الإمام حسن البنّا، مؤسس جماعة الإخوان المسلمين، لم يكن أعمق مصلحي القرن الماضي فكرًا، ولم يكن أكثرهم إنتاجا فكريًّا، ومع ذلك كان أكثرهم تأثيرًا وحضورًا في حياة الأمة، منذ عشرينات القرن الماضي. والسر عندي في ذلك، أن الرجل انتقل بتجربته من مجال التنظير، واقتصار الجهد على الوعظ والإرشاد، إلى عالم الحركة والعمل والبنّاء، والانخراط في حياة المجتمع؛ فأنشأ للإخوان صحفهم ومجلاتهم، مثلما أنشأ لهم مدارسهم وعياداتهم الصحّية. ولو ظلّت الجماعة على نَهجها الأساسي في طرح البديل الإسلامي، عبر مواصلة إنشاء المؤسسات المختلفة، لتغيّر المسار التاريخي للجماعة، ولتغيرت معه الكثير من صفحات تاريخ المنطقة. غير أن العسكرة المبكرة للجماعة، استجابة لظروف المنطقة السياسية والعسكرية، سواء في مصر وعلى شواطئ قناة السويس تحديدًا، أو في فلسطين، غيّرت مسار الجماعة إلى وجه غير الوجه الذي كان يريده الإمام المؤسس. الذي خاطب إخوانه في أواخر عمره قائلا: "لو استقبلت من أمري ما استدبرت، لعُدت بكُم إلى أيام الأسر". وأيام الأسر هي أيام التربية والإعداد، وبناء الإنسان المؤمن المتوازن. وهي في الوقت عينه أيام إنشاء المؤسسات التي تخدم المجتمع وتغيّر مساره وهويته عبر تقديم البديل الإسلامي الملموس للناس.
ومثلما ساهمت العسكرة فيما نظنّ، في تغيير مسار الجماعة، وظهور بوادر الانشقاق في صفوفها. وهو الانشقاق الذي وصل حدّ تمرد عبد الرحمن السكري رئيس الجهاز الخاص، على مرشد الجماعة ومؤسسها كما تقول المصادر، لعبت السياسة والدخول في تفاصيلها اليومية، دورًا رئيسيًّا ومركزيا في إنهاك الجماعة، خاصة عبر سلسلة الانشقاقات التي تعرّضت لها. والقارئ لتاريخ الجماعة وانشقاقاتها في كل بلد لها فيه وجود، سيجد أن المواقف السياسية، وتباينها بين أبناء الجماعة من القضايا المعروضة عليهم كانت سببا في انشقاق الجماعة، وضعفها وإنهاكها. حدث ذلك في لبنان وسوريا والأردن والجزائر، وفي كل مكان. ولعل هذا الغرق في التفاصيل السياسية قبل نضوج المجتمع، هو الذي حال بين الجماعة والوصول إلى هدفها النهائي، بل والابتعاد عنه. أعني إقامة المجتمع الإسلامي.
مناسبة هذا الحديث هي المقارنة التي قامت في ذهني بين تجربتي الإمام البنا، (مؤسس جماعة الإخوان المسلمين في مصر)، وتجربة الأستاذ فتح الله كولن (مؤسس جماعة الخدمة الإيمانية في تركيا)، الأب الروحي للتيار الإسلامي الجارف في تركيا، الذي استطاع بهدوئه وصبره وبُعده عن تفاصيل العمل السياسي اليومي، أن يكون محلّ الْتقاء كل القوى السياسية والاجتماعية التركية.. الأمر الذي أهله لتحقيق انجازات عملاقة في كل ميادين الحياة، خاصة تلك التي تسهم في بناء الإنسان المسلم المؤمن، والمجتمع الإسلامي. وفي ظني أن السر الحقيقي وراء نجاح تجربة الأستاذ فتح الله كولن، يكمن في نجاح الرجل في فهم حقيقة الإسلام، وجوهره، باعتباره دين عمل وتطبيق. لذلك كان صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، يحفظ الواحد منهم الآيات العشر من القرآن الكريم لا يبرحها حتى يفهمها، ثم يطبّقها في حياته ومجتمعه. فقد ربّاهم رسول الله على العمل استجابة لآيات القرآن التي تحث على العمل وتكره الثرثار، الذي يكتفي بشقشقة اللسان مصداقاً لقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ﴾(الصَّف:2-3).
نعم لقد فهم الأستاذ فتح الله كولن الإسلام على أنه دين عمل وإنجاز، لا دين ثرثرة وشقشقة ألسن، كما يفعل الإسلاميون العرب الذين أصموا آذان الأمة من محيطها إلى خليجها بالخطب والمواعظ، دون أن يتمكّنوا من تحقيق إنجاز يشار إليه بالبَنان في البلاد العربية. آخذين بعَين الاعتبار أن الظروف التي عمل بها الأستاذ فتح الله كولن خصوصا، والإسلاميون الأتراك على وجه العموم، أشد صعوبة بمئات المرات، من تلك التي عمل بها الإسلاميّون العرب. فكُولَن وإخوانه كانوا وما زالوا، يعملون في دولة علْمانية تُعلن عداءها السافر للإسلام، وتمنع معظم مظاهره، وتعتقل دعاته، ومنهم الأستاذ فتح الله كولن. تمامًا مثلما فعلت مع نجم الدين أربكان ومن قبله الشيخ النورسي ومن بعدهما طيّب رجَب أردوغان وغيرهم. ومع ذلك فقد استطاع الإسلاميون الأتراك تحقيق المعجزة. لأنهم أوّلاً لا يتصارعون فيما بينهم، ولا يتبادلون الاتّهامات. ولأنهم ثانيا مارسوا الحكمة في التعامل مع النظام السياسي في بلدهم. ولأنهم ثالثاً انطلقوا للعمل والبناء، ولم يتوقفوا عند حدود الثرثرة.
وفي هذا المجال يتميز الأستاذ فتح الله كولن وتيّار الخدمة الإيمانية الذي يلتفّ مِن حوله. والذي لا تجد في تركيا مجالاً من مجالات الحياة ليس فيه لهذا التيار بصمة واضحة ومؤثرة. وأعتقد أن معجزة تيار الخدمة الإيمانية بزعامة الأستاذ فتح الله كولن في المجال السياسي، أنه لم يسعَ للوصول إلى الحكم فصار هو القوة التي ترجح كفة من سيصل إلى الحكم. كما أنه صار ضمير المجتمع في الرقابة على أداء الحكومات. وهكذا فقد صار هذا الداعية الذي لم يتعاطَ السياسة يومًا، من أكبر المؤثّرين فيها من خلال تأثيره في المجتمع وتوجهاته.
المصدر: جريدة "اللواء" الأردنية، 19 أبريل 2011.
- تم الإنشاء في