الفصل الخامس: المسؤولية عند كولن وسارتر

ركزنا في الفصلين الأخيرين على الإنسان المثالي كما يراه كونفوشيوس وسقراط وكولن، والدورِ الذي يلعبه البشر المثاليون في الدولة، أو الحكم الوطني، وكذلك في قيادة المجتمع. وخلصنا إلى التأكيد على أن المفكرين الثلاثة كانوا فلاسفة "إنسانيين" بالمعنى الواسع للكلمة؛ فهم بالأساس يؤيدون بشدةٍ فكرةَ أن البشر قادرون على تحقيق مثالية أخلاقية وعقلية في أنفسهم، وأن أي مجتمع إنساني يمكن أن يتقدم ككل بشكل جمعي نحو تلك المثالية، وأن التعليم هو الآلية الرئيسية التي يتحقق بها ذلك. وقد قامت المناقشة في الفصلين السابقين بالكامل على قناعة أساسية تناولها كولن في مختلف أعماله وهو مؤمن بها تمامًا، وهي أن البشر مسؤولون عن هذا العالم.

وقد كانت مسؤولية الإنسان عن العالم وعن حياته الخاصة وحياة الآخرين كذلك وعن المجتمع وعن المستقبل موضوعًا ثابتًا عبر القرون في الفلسفة الإنسانية وفي جزء كبير من الخطاب الديني. فالمبادئ الأساسية للفلسفة الإنسانية الخاصة بما في البشر من قوة وقدرة وجمال فردي وجمعي لا يكون لها أي معنى -أو على الأقل تكون عرضة للاتهام بالفراغ الأخلاقي- ما لم يصحبها إيمان قوي بالمسؤولية الإنسانية في هذا العالم وعن هذا العالم. والتأكيدُ على القوة والقدرة الإنسانية في هذا العالم من دون المسؤولية الإنسانية عن توظيف تلك القوة في صناعة الجوانب المسخرة للإنسان في هذا العالم سيبدو في أفضل الأحوال أمرا غير منطقي، أو مدعاة للسخرية في أسوئها. إذن فقد كانت الفلسفة الإنسانية -أي الإيمان بقدرة البشر ومسؤوليتهم عن أن يكونوا صناعًا للعالم بطريقة ذات معنى- هي الخلفية التي في ضوئها حَقق الأفراد والمجتمعات بعض أعظم الإنجازات الإنسانية. فكم وُجدت عجائب العالم في الفن والأدب والعمارة والسياسة والاجتماع فلسفةً وتطبيقًا والطب وغيرها من المجالات لأن الناس آمنوا بقدرتهم على صنع أشياء جديدة، والنظر من زوايا جديدة، وتحقيق طفرات جديدة. والبعض نظروا إلى قوتهم باعتبارها منحة من الله أو من الآلهة، واعتبروا ما يقدمونه من خدمات وإنجازات نوعًا من العبادة لله، في حين نَظَرَ البعضُ الآخر إلى قوتهم من منظور غير ديني. ولكن في الحالتين كان الناس يعترفون بقوتهم -أيًا كان مصدرها- وكذلك بمسؤوليتهم عن استعمال تلك القوة لخير المجتمع.

وقد كان يمكنني اختيار أي عدد من الفلاسفة الإنسانيين من القائمة الطويلة التي تتضمنها الثقافات الشرقية والغربية ليكون الطرفَ الآخر أمام كولن في المحاورة الأخيرة في هذا الكتاب عن موضوع المسؤولية. فقد اهتم الكثير من الفلاسفة والكتاب ورجال الدولة والمنظرين والمفكرين من مختلف القرون والثقافات بموضوع المسؤولية بدرجات متفاوتة في أعمالهم، وحتى من لديهم إيمان عقدي قوي بوجود إله قدير وعليم بيده القضاء والقدر يمكنهم عمل قائمة كهذه بمن يؤكدون بقوة على المسؤولية الإنسانية عن العالم (وكولن نفسه ينتمي إلى هذه الفئة). لكنني اخترت لهذه المحاورة الأخيرة الاسمَ الأبرز في واحدة من أكثر المدارس الفلسفية تأثيرًا في القرن العشرين، وأكثرَ مَنْ دَافَع عن فكرة المسؤولية الإنسانية عن كل شيء، وهو الفيلسوف جان بول سارتر، صاحب المدرسة الوجودية.

وتثور على الفور أسئلة حول هذا الاختيار، وهي أسئلة مشروعة يجب علينا بحثها أولاً قبل المضي في الموضوع. بدايةً، قد يبدو مثيرًا للجدل الجمع بين كولن وملحد مثل سارتر، فكيف يمكن أن يوجد أي اتفاق أو محاورة بين ملحد من ناحية وعالم مسلم من الناحية الأخرى؟ ولماذا نريد أن تكون هناك أي محاورة بينهما؟ فكلٌّ من الملحدين والمؤمنين -وخصوصًا الموحدين- لا يتقبل الآخر، وبالتالي فليس لديهم استعداد للحوار. لكن هذا هو السبب في أن حوارًا كهذا ينبغي أن يحدث، حتى وإن كان ذلك في حالتنا هذه على صفحات كتاب. فالطبيعة الحرة للضمير الإنساني تضمن أن الملحدين والموحدين -وكل درجات الإيمان أو الكفر فيما بينهما- سيظلون موجودين في هذا العالم كما هو حاصل الآن، وكما كان يحصل دائمًا، وكل ما يفعله الرفض المتبادل بين الملحدين والمؤمنين هو أنه يقلل من فُرص التعايش السلمي في عالمنا اليوم بكل ما فيه من عولمة وتنوع مذهل. وليس بإمكاننا أن نسمح للرفض المتبادل بأن يصبح -أو أن يظل- هو الأصل والقاعدة بين من يختلفون في أمور الإيمان، بل علينا أن نشجع الحوار حتى بين من ليس لديهم -أو يبدو أنه ليس لديهم- شيء يقولونه لبعضهم البعض.

ثانيًا، أن كولن نفسه ينتقد سارتر والوجودية صراحةً، ففي كتاب (The Statue of Our Souls) [ونحن نقيم صرح الروح] يضع كولن الوجودية ضمن قائمة طويلة من المدارس والفلسفات الضالة التي اكتسحت تركيا والغرب في القرنين التاسع عشر والعشرين، ومن ضمنها الماركسية والدوركايمية واللينينية والماوية. يقول كولن عن حال الشباب التركي في تلك الفترة:

"فمنهم من واسى نفسه بأحلام الشيوعية ودكتاتورية البروليتاريا، ومنهم من غاص مع فرويد وعُقَدِه، ومنهم من ضيع عقله في الوجودية ووقع في شراك سارتر، ومنهم من سال لعابه متأثرًا بأفكار ماركوس، ومنهم من أهدر عمره لاهثًا خلف هذيان كامو..."([1])

وكما هو واضح، فإن كولن ليس من المعجبين بالوجودية أو باثنين من أكبر مؤيديها وهما سارتر وكامو. إذن، كيف، ولماذا نضع سارتر في أي نوع من الحوار العقلاني مع أفكار كولن، في حين أن كولن لديه مثل هذه النظرة السلبية نحو أفكار سارتر؟ يعد هذا تكرارًا للسؤال الأول ولكن بصيغة مختلفة، فكولن يرفض الوجودية في كثير من الجوانب، ولو أن سارتر مازال حيًا كان سيرفض الكثير من أفكار كولن. ولكن هذا لا يمنع من إجراء محاورة بينهما، إذ لو كان الأمر كذلك لكان هذا ضربة قوية في صميم مشروع الحوار بأكمله، والذي يمثل محورًا أساسيًا في حركة كولن؛ لأنه عندئذ لن يوافق على الحوار إلا مع من يوجد بينهم اتفاق كبير. فالعلاقة الصادقة والاحترام المتبادل يمكن أن يوجدا بين أناس يختلفون بشدة في وجهات النظر مع بعضهم البعض، كما هو الحال بين كولن وسارتر أو أي مؤمن مع أي ملحد. علاوة على ذلك، فإن كولن يمكن أن يؤدي واجبه كعالم مسلم يُلزمه القرآن باستنكار الإلحاد ورفض الأفكار الإلحادية ولكن مع احترام الشخص نفسه، ببساطة لأنه إنسان له قيمة وكرامة متأصلة. والحوار هو الوسيلة التي تجعلنا نستمر في الإحساس بإنسانية الآخرين، حتى عندما -أو ربما خصوصا عندما- نختلف بشدة مع أفكارهم. فاكتشاف جوانب مشتركة من بين نقاط الاختلاف الجذرية يُعد إستراتيجية مجربة للتعايش السلمي بين من توجد بينهم خلافات حادة، بل ربما تكون مثل هذه الحوارات الصعبة أَولى الحوارات بإجرائها. ومن هذا المنطلق، هيا بنا ننتقل إلى كولن وسارتر لنرى أي روابط -إن وجدت- يمكن أن تجمع بين أفكارهما.

لقد عانت أفكار سارتر -والأفكار الوجودية بشكل عام- من الشعبية التي اكتسبتها الحركة الوجودية في منتصف القرن العشرين، حيث زادت شعبيتها كفلسفة -سواء في فرنسا نفسها أو في جميع أنحاء الغرب- إلى درجة أنها تحولت إلى موضة قصيرة العمر. وكانت الوجودية، ومازالت، تنتشر بين العامة بسبب شخصيات تعكس تفسيراتُهم فهمًا شعبيًا "جماهيريًا" لأفكارها أكثر مما تعكس قراءة قوية وشاملة لموضوعاتها الأساسية كما تعبر عنها أعمال الكثيرين من ممثلي هذه المدرسة. ومما يزيد الأمر تعقيدًا أن معظم الوجوديين ليسوا متفقين حول الكثير من النقاط، أو جميعِها في بعض الحالات. ويَعتبر معظم الناس سارتر -أحد أغزر الكتاب إنتاجًا في الوجودية- هو المعبر الأول عن المفهوم الوجودي بأكمله، وهي مكانة يعترف بها هو نفسه بدرجة معينة في بعض اللحظات في مؤلفاته.

لقد كان سارتر على وعي بالتفسيرات الضيقة والخاطئة غالبًا للوجودية والادعاءات التي تثار في الثقافة الشعبية حول تلك المدرسة الفكرية ككل، وقد رد على هذه الإدعاءات في مقالة معروفة بعنوان "الوجودية كفلسفة إنسانية" (Existentialism as a Humanism) أو باختصار "الوجودية" (Existentialism) ضمنها في كتاب نشر عام 1957 بعنوان "الوجودية والمشاعر الإنسانية" (Existentialism and Human Emotions). وفي هذه المقالة يحدد سارتر الأخطاء الرئيسية التي يقع فيها الناس عند تفسير الوجودية أو عند تحديد مواقفها الأساسية من الواقع الإنساني. وفي دفاعه عن الوجودية ضد تلك الإدعاءات المثيرة للجدل، نلمح رؤية للوجود الإنساني في العالم تختلف تمامًا عن التفسيرات الأكثر شيوعًا للوجودية، حيث يتحدث سارتر عن موضوع المسؤولية الإنسانية التي تحفز على العمل المتحمس والتأكيد الشديد على القدرة الإنسانية على تشكيل هذا العالم، لدرجة أنه يكاد يستعمل مصطلح "الواجب" (duty) لوصف علاقة البشر تجاه العالم الذي يُـمْكنهم تشكيلُه وتغييره. وتلوح ظلال هذه الكلمة من بين السطور حتى وإن لم يذكرها صراحةً، فهو يقول: إن من يختارون الحياة في هذا العالم ولا يتحملون المسؤولية عنه يعيشون حياة إنسانية ناقصة ويعيشون جبناء. وهذا المبدأ -وغيره كثير- تتفرع عنه مجموعة من الأفكار التي تتوافق بدرجة كبيرة -كما يتضح لنا- مع موضوعات معينة في فكر كولن.

ويلخص سارتر في بداية المقالة التهمَ الموجَّهة ضد الوجودية ثم يشرح تصوره لها. ومن خلال شرحه للعناصر الأساسية للوجودية يرد على التهم الأكثر شيوعًا التي تُلصَق بها، وهي تُهَمٌ بسيطة ومعروفة تنبع من الفهم الشعبي للوجودية: أنها تشجع على السلبية والعزلة الصوفية (Quietism)، وأنها تتلقف كل ما هو قبيح في الحياة وتركز عليه، وأنها تنكر جدية الأعمال الإنسانية. وباختصار، ينتقد الناسُ الوجودية الإلحادية الفرنسية لأنهم يفسرونها باعتبارها نوعا من العدمية (Nihilism) أو الاحتفاء بالعدم، فلا وجود فيها لشيء ثابت؛ فلا إله، ولا قيم مطلقة، ولا معنى حقيقيا للحياة أو للناس؛ وبالتالي فليست هناك فائدة من أن يصبح المرء فاعلاً سياسيًا، أو اجتماعيًا، أو أن يبذل جهودًا جادة لتحسين العالم أو لتحقيق قفزات في مجالات المعرفة.

ويرفض سارتر هذا الفهم للوجودية بل ويتهكم به، ويخصص الجزء الأول كاملاً من رده على تلك التهم لتعريف الوجودية بدقة، فيشير إلى أن كل أشكال الوجودية -سواء المسيحية أو الملحدة- تتبنى رأيًا واحدًا مشتركًا وهو أن الوجود يسبق الجوهر (Essence). ويقول سارتر دفاعًا عن الأشكال المتعددة للوجودية الإلحادية؛ إن هذا الرأي ينطبق بشكل خاص على هذا النوع من الوجودية، ذلك أن "الجوهر" هنا يشير إلى هدف أو مقصد أو طبيعة معينة، فمعظم الجمادات خُلقت لتحقق هدفًا أو غاية قصدها خالقها وصانعها.. فقاطعة الورق مثلاً جاءت إلى الوجود بعد أن صممها مخترعها وصنعها استجابة لغرض أو هدف أو مقصد يريده منها، فقد احتاج إلى شيء يقطع به الورق ولكنه لم يجد شيئًا يؤدي تلك الوظيفة، لذا قام باختراع قاطعةِ ورق يكون غرضُ ومعنى وجودِها هو قطيع الورق، وهكذا فإن جوهر قاطعة الورق قد سبق وجودها. ويقول سارتر: إن معظم الناس يفكرون في الله بنفس القياس مع البشر: أن الله خلق البشر لغاية أرادها وأن معنى وجودهم يرتبط بتلك الغاية، أي أن جوهرهم يسبق وجودهم تمامًا كقاطعة الورق. وهذا المعنى أو الغاية أو الطبيعة يحددها سلفًا مَن قام بالصنع في كلتا الحالتين، والأشياء تأتي إلى الوجود وتسعى -كما في حالة البشر- إلى التعرف على تلك الغاية حتى يمكنهم العثور على السعادة.

إلا أن سارتر ملحد، وهذا يعني أنه لا يؤمن بإله كانت توجد في ذهنه غايةٌ أو معنى أو طبيعة إنسانية -أي "الجوهر" الإنساني- قبل حتى أن يقوم بخلق البشر أنفسهم. وبما أنه لا إله فإن البشر يأتون إلى هذا الوجود أولاً ثم يأتي جوهرهم بعد ذلك، أي أن الوجود بالنسبة للبشر يسبق الجوهر، وهذا هو المبدأ الأول في الوجودية. يوضح سارتر ذلك فيقول:

ماذا يعني هنا القول: إن الوجود يسبق الجوهر؟ هذا يعني أولاً أن الإنسان يوجد ويأتي إلى هذه الحياة، ثم يبدأ بعد ذلك في تحديد ماهيته. فإذا كان الإنسان -كما يراه الوجوديون- لا يمكن تحديد ماهيته، فذلك لأنه في الأساس لم يكن شيئًا، ولكنه بعد ذلك أصبح شيئًا، وهو نفسه من يصنع ماهيته. وعلى ذلك فليست هناك طبيعة بشرية؛ لأنه لا يوجد إله لكي يدركها، والإنسان ليس هو ما يعتقد أنه هو فحسب، بل هو أيضًا ما يريد أن يكون عليه بعد مجيئه إلى الوجود. فالإنسان ما هو إلا ما يصنعه من نفسه، وهذا هو المبدأ الأول في الوجودية.([2])

إذن، فليس هناك مقصد أو غاية محددة سلفًا للحياة الإنسانية؛ لأنه لا يوجد إله لكي يحدد هذا المقصد أو الغاية. والبشر يوجَدون في هذه الدنيا هكذا دون مسبب ويجب عليهم أن يوجِدوا لأنفسهم معنى وغاية وطبيعة لوجودهم في الحياة. ونحن نرى في هذا المبدأ بذور المسؤولية التي ينثرها سارتر في فلسفته عن البشر، خاصةً وأن البشر يأتون إلى الوجود ككائنات مفكرة ثم -مع نموهم المعرفي- يصبح لديهم الوعي الذاتي. ويستطرد سارتر قائلاً:

الإنسان في الأصل هو عبارة عن خطة تدرك نفسها بنفسها، وليس قطعة خشب أو قمامة أو ريشة في مهب الريح، وليس هناك شيء موجود قبل هذه الغاية، لا يوجد شيء في السماء، والإنسان يكون ما يخطط لأن يكونه... ولكن إذا كان الوجود يسبق الجوهر حقًا، فإن الإنسان يكون مسؤولاً عما هو عليه. إذن، فإن أول هدف للوجودية هو أن تجعل كل إنسان يعي من هو، وأن تجعل المسؤولية الكاملة عن وجوده الإنساني تقع على عاتقه هو. وعندما نقول: إن الإنسان مسؤول عن نفسه فنحن لا نعني أنه مسؤول عن فرديته الخاصة فحسب، بل هو مسؤول عن البشر جميعًا.([3])

وتظهر في هذه الفقرة مسألتان جديرتان بالمناقشة؛

أولاهما: أن المسؤولية التي يتحدث عنها سارتر تتعدى الإنسان الفرد إلى جميع البشر. وهذا الرأي يرتبط بفهم سارتر للذاتية (Subjectivity) والذي يتلخص في أن البشر دائمًا مرتبطون بهذا العالم، العالم الإنساني، عالم البشر. فنحن لا يمكن أبدًا أن نخرج من هذا العالم، من ذاتنا الإنسانية، وأن ننظر من منظور "موضوعي" أو غير ذاتي (objective) بمعزل عن العالم وعن الآخرين. فنحن بطبيعتنا نوجَد جميعًا في هذا العالم مع الآخرين، نوجد كجزء من هذا العالم، نشترك فيه جميعًا بإنسانيتنا. وبالتالي، عندما نختار لأنفسنا ونتحمل مسؤولية بناء حياتنا، فإننا لا نفعل ذلك من أجل أنفسنا وحدنا، بل نفعل ذلك من أجل الجميع لأننا نرتبط بالجميع. فنحن متجذرون في الذاتية، وعندما نقرر أو نختار فإننا نقدم القرار أو الاختيار، ليس فقط لأنفسنا كأفراد بل نقدمه للجميع. يقول سارتر: "ونحن إذ نخلق الإنسان الذي نريد أن نَكُونَه، فإنه لا يكون هناك تصرف واحد من تصرفاتنا لإلا ويعكس في نفس الوقت صورة للإنسان الذي نعتقد أنه ينبغي أن نكونه".([4])

النقطة الثانية التي تستحق المناقشة في الفقرة السابقة هي تعريف سارتر للإنسان؛ حيث يميز فيها بين البشر و"قطعة الخشب أو القمامة أو الريشة في مهب الريح"، فالبشر -حسب رأيه- ليسوا مجرد أشياء ضمن غيرها من الأشياء تعبث بها يد التاريخ أو الغريزة الجسدية العمياء أو ظروف الطبيعة. وقد أبرز سارتر هذه النقطة بشكل أكبر في موضع لاحق من مقالته، فيقول عن نظرية الوجودية:

هذه النظرية هي النظرية الوحيدة التي تمنح للإنسان الكرامة، وهي الوحيدة التي لا تهبط بقدره إلى أن يكون مجرد "شيء". وما تفعله المادية هو أنها تعامل البشر جميعًا -بمن فيهم الفلاسفة الماديون أنفسهم- كأشياء، أي كمجموعة من ردود الفعل الثابتة التي لا تختلف إطلاقًا عن مجموعة الخصائص والظواهر التي تكوِّن الطاولة أو الكرسي أو الحجر. ونحن بالتأكيد نريد أن نعتبر العالم الإنساني كمجموعة من القيم التي تتمايز عن العالم المادي.([5])

هنا، يميز سارتر الوجودية عن المادية، التي يرفضها كولن وكثيرون غيره ممن لديهم منظور ديني، إما باعتبارها مظهرًا للاختلال الروحي أو جانبا من جوانب الإلحاد، وإما باعتبارها رؤية اختزالية (Reductionist) للحياة الإنسانية. وسارتر أيضًا يرفضها ولكن لاعتبارات مختلفة؛ فوجودية سارتر لا تسمح أبدًا بوضع الناس في مستوى الأحجار أو الكراسي أو قِطَع الخشب، وإنما تصر على أن البشر أكبر من ذلك، ليس لأن الله خلقهم لهدف أو لغاية معينة، ولكن لأننا نُظهر بوضوح منذ ميلادنا ملكة الوعي والوعي الذاتي والوعي الذاتي بالذات (Self-Self-consciousness)، وهو ما نختلف فيه مع أي كائن حي آخر. فخلافًا للكائنات الأخرى، نحن نفكر -بكل المعنى الديكارتي للكلمة- وهذا يتضمن التفكير الذاتي أو التفكير في الذات، وهو ما يمثل فارقًا كبيرًا بين البشر وجميع الكائنات الحية الأخرى. علاوة على ذلك، فإن هذا الجانب من الكينونة الإنسانية هو ما يدفع إلى إيجاد القيم والمثل العليا والغاية، فلكوننا بشرًا بهذا الشكل ومتجذرين في الذاتية الإنسانية، علينا أن نقول لأنفسنا في بداية أي فعل إذا كنا صادقين ومتحملين للمسؤولية في هذا العالم: "هل أنا حقًا الإنسان الذي يحق له أن يتصرف بحيث تسترشد الإنسانية بتصرفاته؟"([6]) يقول سارتر: إن الإنسان الذي لا يسأل نفسه هذا السؤال يعيش في ما يسميه "سوء نية" (bad faith) مع نفسه ومع العالم.

ومما هو واضح أن أي شخص محبطٍ ومرهق وسلبي ومنعزل ليس هو من يجول بخاطر سارتر هنا عندما يتحدث عن شخص يتحمل مسؤولية نفسه ومسؤولية العالم، فشخص كهذا سيتهرب من مسؤوليته عن حياته الخاصة -وكذلك عن حياة الآخرين- كمن ينفض يديه من الأمر: "ماذا يمكن عمله؟ لا شيء". على العكس تمامًا، هناك الكثير مما يمكن عمله كما يقول سارتر، ونحن الوحيدون الذين ينبغي أن يقوموا به، ونحن "نقوم به" فعلاً حتى عندما نجلس ونقول: "إننا لا نفعل"، وننكر مسؤوليتنا عنه قائلين: "إننا ولدنا هكذا" أو "إنه لا يمكننا فعل شيء حياله" أو "إن القدر شاء هذا". إن الاستسلام والسلبية هما نتاج فلسفة تتخلى عن الحياة الإنسانية وتتركها لتصرف القدر والحتمية المادية، أما الوجودية فهي ترفض فكرة الجبرية والحتمية المادية وتعتبر الحياة الإنسانية ميدانًا للحركة والمسؤولية، انطلاقًا من الاقتناع بأنه لا يوجد غيرنا وأننا سنكون ما نريد أن نكونه وأن العالم سيكون كما نصنعه، لا أكثر ولا أقل. ويفرد سارتر معظم مقالته لوصف "مظاهر" الحياة بهذا الوعي بالمسؤولية والفعل، وهو يلخصها في ثلاث كلمات: الألم (anguish) والحرمان (forlornness) واليأس (despair). وهذه الكلمات عندما يساء تفسيرها تجعلنا محبطين وسلبيين، ولكن عند فهمها فهمًا سليمًا فإنها تجعلنا نتحرك في هذه الحياة ونحن نحاول تحقيق أفضل الخطط التي نضعها لأنفسنا وللعالم من حولنا.

ويعني سارتر بالألم الخبرة التي يمر بها المرء عندما يعيش ولديه وعي كامل بالمسؤولية، فيقول:

ومعنى هذا [الألم] هو أن الإنسان الذي يشغل نفسه والذي يدرك أنه ليس الشخص الذي يختار أن يكونه فحسب، بل هو أيضًا مشرِّع يقوم في ذات الوقت باختيار البشرية كلها علاوة على نفسه، لا يمكنه التوقف عن الهروب من شعوره الكامل والعميق بالمسؤولية. صحيح أن هناك كثيرين لا يشعرون بالقلق، ولكننا ندعي أنهم يُخفون قلقهم وأنهم يهربون منه.([7])

وكلا هذين النوعين -اللذين يهربان من الألم نفسه أو من فكرة تحمل المسؤولية ككل- يمثلان سوء نية في نظر سارتر، وهو يرى أن كل من يشغل موقع قيادة يعرف هذا الألم، مثل القائد العسكري الذي يقرر ما إذا كان سيقود جنوده إلى خوض معركة، مدركًا أن حياة رجاله تتوقف على هذا القرار، وهو بالطبع يمكنه تفادي المسؤولية وإحالتها إلى رؤسائه قائلاً: إن قيادته للرجال إلى المعركة كانت مجرد تنفيذ للأوامر. غير أن سارتر يقول: إن القائد قد فسر تلك الأوامر وقرر تنفيذها من عدمه، وبالتالي فهو مسؤول عن اختياره. وعدمُ الشعور بالألم في هذا الموقع لا يكون تحملاً للمسؤولية، كما أن الشعور بالألم لا يسمح بالتراخي من جانب القائد، فمازال عليه اتخاذ قرارِ إرسال جنوده إلى المعركة من عدمه، وهذا الألم -الذي لا يمكن اعتباره مبررًا للتراخي- هو الشرط الأساسي للتحرك والعمل. وهذا الألم كما يقول سارتر "ليس حاجزًا يفصلنا عن العمل، بل هو جزء من العمل ذاته".([8])

الحرمان أيضًا بسيط للغاية، من وجهة نظر سارتر الذي يقول: "لا نعني بالحرمان سوى أنه لا يوجد إله، وأنه علينا مواجهة عواقب ذلك".([9])

ويرفض سارتر ميل أنصار الحداثة في الغرب إلى ادعاء الإلحاد مع الاستمرار في التصرف وكأنه يوجد عالم سامٍ من المبادئ الأخلاقية والغاية أو المعنى للأشياء. ففي هذه المنظومة الفكرية يعتبر الإله مفهومًا عتيقًا ينبغي التخلي عنه، إلا أن القيم والمعاني المبنية على وجود الإله مازال من الممكن بطريقة ما إعطاؤها نفس المكانة والأهمية القصوى كما لو كان الإله موجودًا، حتى يمكن للمجتمع أن يتقدم للأمام بشكل مطمئن. وسارتر لا يجد هذا غير منطقي فحسب بل وغير مسؤول أيضًا، فيقول:

والإنسان الوجودي على العكس يعتقد أنه من المحزن للغاية ألا يوجد إله؛ لأن كل إمكانية للعثور على القيم في سماء الأفكار تختفي معه، إذ لا يعود هناك خير بدهي لأنه لا يوجد وعي مطلق وكامل لكي يفكر فيه. يقول دوستويفسكي: "إذا انتفى وجود الله، فإن كل شيء سيكون ممكنًا". وهذا هو المنطلق الرئيسي للوجودية، أن كل شيء يكون مباحًا إذا لم يكن هناك إله، ونتيجة لهذا يكون الإنسان بائسًا لأنه لا يجد أي شيء سواء في نفسه أو خارجها لكي يتشبث به، فلا يمكنه أن يبدأ في اختلاق الأعذار لنفسه.([10])

والجملة الأخيرة هي الشاهد هنا، ومن السهل أن تغيب عنا. فسارتر لا يقول: إننا ينبغي أن نفعل ما يحلو لنا لأنه مع عدم وجود إله لا يوجد شيء له قيمة محددة إلهيًا ولا وجود لفكرة الخير أصلاً. بالعكس، فهو يقول: إننا عندما نحيا بوعي كامل بهذه الحقائق، فإننا نرى بوضوح أننا نحن المسؤولون عن كل شيء وليس الله، إذ لا يوجد لدينا أي أساس يجعلنا نُرجع ما يحدث في حياتنا إلى "إرادة الله" أو مشيئته أو أي شيء من هذا القبيل، فنحن نقرر ما هو جيد وقيم وليس الله، ونحن نشعر بالألم الذي يصاحب هذا الموقع بما يتضمنه من المسؤولية المطلقة عن كل شيء، والحرمانُ أو الوحدة التي نعيش فيها في هذا العالم، وعدم الشعور بهذا -أو محاولة تجاهله- يعد اختلاقًا للأعذار لأنفسنا.

ويذهب سارتر إلى حد القول: إنه حتى لو كان هناك إله فإن هذا لن يغير موقفنا الإنساني، ويَضرب عدة أمثلة في مقالته على المؤمنين الذين يعيشون كما لو أن الله قد اختار لهم طريقهم: امرأة تسمع أصواتًا روحانية تأمرها بعمل أشياء، وطالِبٌ يحصل على التوجيه الإلهي في حياته عن طريق قس، وشخص كاثوليكي يتصرف تبعًا لعلامات من الله، وشخص يسوعي يرى يد الله تسيِّر مجريات حياته. يقول سارتر: إن الناس في كل هذه الأمثلة يحاولون تجنب المسؤولية، ليس لأنهم يجرؤون على الإيمان بالله، ولكن لأنهم يرفضون رؤية مسؤوليتهم الخاصة فيما يؤمنون به، فهم لا يرون أنهم هم أنفسهم يحددون ما يُعتبر علاماتٍ من الله وما لا يعتبر، وما إذا كانت الأصوات المسموعة صادرة من الله أم من الشيطان، وما إذا كان القس صادقًا أم لا، وكيفية تفسير النص المقدس، وغير ذلك. فحتى لو كان الإله موجودًا وكان يرسل الملائكة للحديث إلينا وإملائنا الوحي الذي نكتبه كلمة كلمة، فنحن من يقرر ما إذا كانت الملائكة تستحق الاستماع إليها أم لا، وكيفيةَ تفسير الكلام الذي ينزلون به علينا. فنحن في النهاية مازلنا مسؤولين، ولا نستطيع اختلاق الأعذار لأنفسنا أو التنصلَ من الأمر. ويوضح سارتر في نهاية مقالته أن الوجودية لا تضيع وقتًا في الدفاع عن الإلحاد لأن هذا في النهاية لا يُحدث فرقًا فيما يتعلق بالمسؤولية الإنسانية. يقول سارتر:

الوجودية ليست من الإلحاد بحيث تستميت في سبيل إثبات أن الله غير موجود، بل هي تؤكد أنه حتى لو كان هناك إله فإن ذلك لن يغير شيئًا. هذه هي وجهة نظرنا، فليس الأمر أننا نؤمن بوجود الله، ولكننا نعتقد أن مشكلة وجوده ليست هي القضية.([11])

وفي كلتا الحالتين فنحن مسؤولون عن هذا العالم وعن قيمنا وعن معنى وغاية وجودنا فيه. هذا أمر لا يمكن الهروب منه، ومن يحاول أن يفعل ذلك سيعيش بسوء نية مع هذا العالم.

وأخيرًا، يقصد سارتر باليأس أنه يجب علينا أن نعمل في هذا العالم -كوكلاء مسؤولين مسؤولية كاملة- دون أن نعرف مطلقًا ما إذا كانت أعمالنا ستحقق النتائج المنشودة أم لا. فنحن لا نستطيع أن نعتمد -كما فعل هيجل- على روح غيبية (geist) توجه حركة التاريخ نحو الأهداف الأسمى لأعمالنا، ولا نستطيع أن نعتمد على الخير الفطري داخل الإنسان أو الوجود المطلق للحق أو أيٍّ من هذه المفاهيم كي نضمن أن أعمالنا ستُحقق لنا المستقبل المنشود، فليس هناك شيء مضمون. يقول سارتر:

"إنني -بالأخذ في الاعتبار أن البشر أحرار وأنهم غدًا سيقررون بحرية ما سيكون عليه الإنسان- لا يمكن أن أكون متأكدًا من أن زملائي المناضلين سيواصلون ما أقوم به من عمل بعد موتي لكي يصلوا به إلى أقصى درجات الكمال. فغدًا بعد أن أموت، قد يقرر البعض أن يصفنا بالفاشية، وقد يكون الآخرون جبناء وفارغي العقول بما يكفي لتركهم يفعلون ذلك، وستكون الفاشية عندها هي الواقع الإنساني، وهو أسوأ شيء بالنسبة لنا. في النهاية، ستسير الأشياء على ما يرى البشر أنها ينبغي أن تسير عليه".([12])

إذن نحن ليست لدينا أية ضمانات على أن أعمالنا ستثمر بعد أن نموت ونصبح خارج دائرة الفعل، مما قد يجعل البعض يقولون: إن هذه الحقيقة وحدها تبرر التراخي والسلبية ويسألون لماذا ينبغي على المرء أن يزعج نفسه بإصدار الأفعال إذا كان من الممكن ألا تثمر أفعاله شيئًا. ويكرر سارتر: إننا مسؤولون، ونحن نبقى مسؤولين عن العالم بأكمله حتى مع أننا مقيدون بأعمارنا المحدودة، وهو ما يجعلنا نشعر باليأس. يقول سارتر:

هل يعني ذلك أنني يجب أن أهجر حياتي وأتجه للعزلة الصوفية؟ لا، عليَّ أولاً أن أشعر نفسي بالاهتمام ثم أعمل بالمثل القديم: "لا مكسب من دون مخاطرة". ولا يعني ذلك أيضًا أنه ينبغي ألا أنتمي إلى جماعة، بل يعني أنه لن تكون لديَّ أي أوهام وأنني سأفعل ما بوسعي. على سبيل المثال، لنفترض أنني أسأل نفسي: "هل المشاركة الاجتماعية بهذا الشكل ستحدث؟" لا أعرف. كل ما أعرفه هو أنني سأفعل كل ما بوسعي لإيجادها. وبخلاف هذا لا يمكنني الاتكال على أي شيء. فالعزلة الصوفية هي موقف من يقول: "دع الآخرين يفعلوا ما لا يمكنني فعله"، وما أطرحه هنا هو العكس تمامًا من العزلة، إذ يقول: "لا توجد حقيقة سوى في الفعل"، بل يذهب إلى ما وراء ذلك ويضيف: "ليس الإنسان سوى ما يخططه لنفسه، فهو يوجَد فقط بقدر ما يحقق نفسه، وبالتالي فهو ليس سوى مجموع أفعاله، ليس سوى حياته."([13])

إذن، فاليأس، مثل الألم، هو الشرط للتحرك والفعل، ولا يمكن أن يكون عذرًا للتراخي إذا ظل لدينا إحساس بالمسؤولية عن هذا العالم. إن الصورة التي تقدمها هذه الفقرة هي صورة أناس يهبون أنفسهم تمامًا للمهام الواجبة عليهم والمشاريع والخطط التي يشعرون بأكبر التزام تجاهها، ويجدون فيها أعلى درجات الإنجاز، مع إدراكهم طوال الوقت أنه لا توجد ضمانات بأن العمل سيكتمل، ولكنهم يدركون أيضًا أنهم مسؤولون مسؤولية كاملة عن هذا العالم، مهما كان الألم والحرمان واليأس.

وجدير بالذكر هنا أن تحمل المسؤولية وما يصاحبها من الألم والحرمان واليأس لا يعني بالضرورة الحياة في تعاسة، فسارتر يذهب إلى حد القول: إن الوجودية هي نوع من أنواع التفاؤل، وإن كان تفاؤلاً قاسيًا. فالحياة في إطار من المسؤولية تتضمن بالتأكيد التضحية والمعاناة، لكن هذا لا يعني التعاسة أو الإحباط طوال العمر، فالحياة في إطار من المسؤولية هي حياة العمل والإنجاز وتحقيق المشاريع، حياة الخلق والابتكار، فهذه الحياة وهذا العالم مصنوع ونحن من صنعناه، نحن البشر الذين يتميزون عن كل ما عداهم بما لديهم من الوعي الذاتي وما يكمن بداخلهم من إدراك القيم والضمير. ومعظمُ الناس -بالطبع- يشعرون بالرعب من فكرةِ إمكانية العيش في مثل هذه الحياة المصنوعة، فهم لا يريدون تحمل المسؤولية كاملة عن حياتهم أو عن العالم، ويفضلون بدلاً من ذلك تحميل القدر أو الله أو الظروف أو الطبيعة أو البيولوجيا المسؤوليةَ عن حياتهم. وعندما يواجهون هذه الهالة من الرعب التي تحيط بفكرة تحمل المسؤولية، نجدهم يهربون ويلجأون إلى سوء النية ومهاجمة المدرسة الفكرية التي تؤكد على تحملهم للمسؤولية.

وقد عاش سارتر حياته كناشط اجتماعي وسياسي وأيضًا كفيلسوف ومعلم وجندي ومواطن مهموم منفذًا لفكرة المسؤولية هذه ومتسقًا معها. يقول سارتر في نهاية مقالته:

وهكذا، أعتقد أننا قد رددنا على عدد من التهم الموجهة إلى الوجودية، فأنتم ترون أنه لا يمكن فهمها باعتبارها فلسفة تنادي بالعزلة والتصوف لأنها تعرف الإنسان من خلال ما يقوم به من أفعال وتصرفات، ولا باعتبارها وصفا متشائما للإنسان؛ فليس هناك مذهب متفائل أكثر منها؛ لأنها ترى أن قدر الإنسان موجود بداخله، ولا باعتبارها محاولة لتثبيط الإنسان عن العمل والحركة؛ لأنها تخبره أن الأمل الوحيد هو فيما يقوم به من فعل وأن هذا الفعل هو الشيء الوحيد الذي يمكِّن الإنسان من الحياة. إذن فنحن نتعامل هنا مع فلسفة تنادي بأخلاقيات العمل والمشاركة.([14])

ولا يرفض كولن سارتر بسبب أفكاره عن المسؤولية، فهما في الحقيقة متفقان إلى حد بعيد في هذا الموضوع، حتى وإن اختلفا في كل ما عداه تقريبًا. فكولن -كمسلم تنطلق أفكاره كلها من سياق إسلامي- يتحدث عن قضايا الخلافة والمسؤولية الإنسانية في هذا العالم بطريقة مشابهة لكل أقوال علماء الدين تقريبًا في الديانات الكبرى التي تنادي بالتوحيد عند التعاطي مع تلك الموضوعات. فهذه الموضوعات في الحقيقة ظلت تغذي وتثري النقاش والتحليل والجدل عبر القرون داخل كافة الديانات الكبرى التي تؤمن بوجود إله قوي وعليم.

والمشكل في هذه القضية هو التوفيق بين الإرادة والعناية الإلهية من ناحية وبين الإرادة والفعل الإنساني من الناحية الأخرى. فمعظم علماء الدين الموحدين -خصوصًا من يؤمنون بالثواب والعقاب- لا ينفون حرية الإرادة الإنسانية؛ لأن في ذلك نفيا لمسؤولية البشر عن أفعالهم، مما يشكك في عدالة دخول الجنة أو النار كجزاء لأفعال الإنسان، وهو اعتقاد أساسي في كلٍّ من المسيحية والإسلام. فإذا لم تكن للبشر إرادة حرة، فكيف يمكن معاقبتهم أو إثابتهم على أعمالهم؟ ومن الناحية الأخرى، فإن القول بوجود تفويض إنساني حر ومطلق يتعارض مع فكرة السلطة الإلهية، فالله ليس المدبر الأسمى للعالم لو اختار البشر بإرادتهم الحرة طريقًا آخر لهذا العالم. ولهذا فقد حظي ذلك الصراع بين التدبير الإلهي والإرادة الإنسانية الحرة بقدر كبير من الاهتمام في أوساط علماء الدين، وهناك محاولات كثيرة ومتعددة لتسوية هذا الصراع أو تخفيفه في مختلف الثقافات. ولسنا بحاجة هنا للإفاضة في الحديث عن تلك المحاولات، سنذكر فقط أن هذه المعضلة أو القضية تظهر في الخلفية عندما يطرح كولن أفكاره عن المسؤولية الإنسانية في هذا العالم. فهو لن يقول أبدًا -كما فعل سارتر- إن البشر مسؤولون مسؤولية كاملة عن هذا العالم كما هو عبر التاريخ؛ لأن ذلك يتعارض مع فكرة التدبير والتقدير الإلهي التي يؤمن بها تمامًا. وينادي كولن بمفهوم الله في الإسلام، الله القوي المطلع خالقِ السماء والأرض، الذي وسع علمه كل شيء. وكلُّ ما هو كائن في الواقع والوجود ما هو إلا تقدير أو قضاء إلهي، وليس له أي كينونة أو وجود خارج هذا القضاء. وهذا الإيمان يغلف كل رأي يقوله كولن عن المسؤولية الإنسانية، وهو فارق أساسي بين رؤية كلٍّ من سارتر وكولن لا يقبل التقريب بأي حال من الأحوال.

إلا أن كولن يتحدث عن هذه القضية بشكل يفتح لنا بضعة قنوات للنفاذ عبرها إلى تفسير حديثه عن "الوعي بالمسؤولية" بالطريقة التي تحدث بها عنه في كتابه (The Statue of Our Souls) [ونحن نقيم صرح الروح] ومواضع أخرى. ويستعمل كولن في حديثه عن هذه القضية كلمة محورية وهي "الخليفة" (Vicegerent) أو "الخلافة" (Vicegerency)، وهذا الاستعمال يدل بالفعل على أن كولن يحاول أن يحقق التوازن الدقيق بين التدبير الإلهي والإرادة الإنسانية الحرة. فالخلافة تعني بالتأكيد الإدارة والحكم والمسؤولية، إلا أنها توحي بوجود تفويض من سلطة عليا ربما حتى عن طريق حكم أو أمر بذلك. وهذا يلخص رؤية كولن ورؤية كثيرين غيره من علماء الدين الذين ينادون بالوحدانية أمام ذلك التحدي الصعب بالتوفيق بين التدبير الإلهي والإرادة الإنسانية الحرة. فالله القوي المطلع قضى بخلق الوجود بحيث يكون العالم الإنساني داخل هذا الوجود متأثرًا بالخلافة أو الولاية الإنسانية، والناس إما يؤدون هذه المهمة أو لا يؤدونها فيعانون من العواقب في هذه الحياة الدنيا وفي الآخرة. ولكن مهما يكن من أمر يظل قضاء الله أو حكمته المطلقة وبالتالي الغيبية (لأن عقولنا المحدودة لا تستطيع استيعاب ما هو مطلق ولكنها تستطيع فقط التلقي عنه) من هذا العالم وكل ما يوجد فيه نافذة وجارية. هنا أيضًا نرى توازنًا دقيقًا قد لا يحسم الصراع تمامًا بين القضاء الإلهي والإرادة الإنسانية الحرة، ولكنه ربما يقوم بأفضل ما يمكن القيام به في هذا الشأن حيث يدع مجالاً حقيقيًا للخلافة والمسؤولية الإنسانية في هذا العالم، وهو ما يهمنا هنا.

ويبني كولن أفكاره عن خلافة الإنسان على الآية التي تقول: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً﴾(البقرة:30).([15]) فالبشر هم خلفاء الله في هذا الكون. يقول كولن:

"إذا كان البشر هم خلفاء الله في الأرض ومن اصطفاهم الله على سائر المخلوقات ومحور كل الوجود وعصارته وأجلى مرآة تعكس تجليات الخالق -وهذا شيء لا يرقى إليه أدنى شك- فإن الذات الإلهية التي أَرسلت البشر إلى هذا العالم قد منحتهم الصلاحية القدرة على أن يكتشف الأسرار الكامنة في روح هذا الكون، ويبرز القوى والإمكانات المكنونة بداخله، ويستعملَ كل شيء في الغاية التي خَلق من أجلها، فيكون ممثلا شعوريا لصفات الله من علم وإرادة وقدرة... حتى لا يتعرض لعقبات لا يمكن تخطيها وهو في طريقه نحو التدخل في الوجود وأداء دوره كخليفة الله في أرضه".([16])

هنا، نرى كولن يقوم بذلك التوازن الدقيق الذي ذكرناه من قبل، فهو يؤكد بقوة على طبيعة البشر كخلق من خلق الله وآية أو مرآة لوجوده، وهم عباد لله وممثلون له في الوقت نفسه. فهذا هو دور الخليفة: التسليم الدائم لأوامر الله وأداء المهمة المنوطة به في تلك الأوامر بتنفيذ ما يريده الله في هذا العالم من خلال ما أودعه الله فيه من طاقات وصفات تعكس الصفات الإلهية. ويستطرد كولن في شرح الخلافة الإنسانية قائلاً:

"وتتسع خلافة الإنسان للخالق في مجال واسع جدا لتشمل أفعالاً تتدرج من الإيمان بالله وعبادته إلى فهم الأسرار الكامنة في الأشياء والحوادث، ومن ثم امتلاك القدرة على التدخل في مجريات الطبيعة... فالإنسان الحقيقي ينظم مشاعره وأفكاره طوال حياته كلها في إطار إيمانه، ويبرمج حياته الفردية والاجتماعية في ظل أنواع مختلفة من العبادات، ويوازن بين معاملاته العامة وعلاقاته الأسرية والاجتماعية، ويجعل رايات أبناء جنسه ترفرف في كل مكان بدءا من تخوم الأرض إلى أعماق الفضاء، فيقوم بمقتضى الخلافة الحقة، ويعطي "الإرادة حقها، وبذلك يقوم بإعمار الأرض، والحفاظ على التناغم الموجود بين البشر وباقي عناصر الوجود وجني خيرات الأرض والسماوات لنعيم البشرية وسعادتها، ومحاولة تحسين مستوى المعيشة وشكلها ومضمونها، لتصبح أكثر إنسانية في حدود ما أنزله الخالق من شرائع وقوانين. هذه هي الطبيعة الحقة للخليفة، وهذا في الوقت نفسه هو معنى أن يكون الإنسان عبدًا ومحبًا لله".([17])

إن الخلافة الإنسانية للخالق تحدث في مجال كبير يتسع لأفعال تتدرج من الإيمان بالله وعبوديته إلى فهم الألغاز ضمن الأشياء ومعرفة أسباب الظواهر الطبيعية، وبذلك يستطيع التدخّل في مجريات الطبيعة... هذه الكائنات تحاول ممارسة إرادتها الحرة بطريقةٍ بنّاءة من العمل على تطوير العالم والحفاظ على التوازن بين الإنسانية والوجود وحصد ثمرات الأرض والسماء لإفادة الإنسانية بشكل عام، فهم يحاولون رفع مستوى المعيشة ليكون مستوى أكثر إنسانية ضمن إطار تشريعات وقوانين الخالق. هذه هي الطبيعة الحقيقية للخليفة وفي نفس الوقت هذا هو معنى أن يكون الإنسان عبد وحبيب الله في آن واحد

لاحظ ذلك المدى الواسع للفعل الإنساني في دوره كخليفة، حيث يتضمن الإيمان والعبادة وفقًا للتعاليم الدينية والمعرفة العلمية بالعالم الطبيعي، وأساليب "التدخل" في مكونات ذلك العالم الطبيعي، أو استغلالها للحصول على نتائج إيجابية، وتحسين الحياة الإنسانية بأساليب أكثر ثراءً وإنسانية. فالبشر، كخلفاء، مسؤولون أمام الله عن القيام بكل هذا، حتى يحققوا ما هو منوط بهم من واجبات في هذه المجالات.

ويناقش كولن الخلافة الإنسانية بالتفصيل في كتاب (The Statue of Our Souls) [ونحن نقيم صرح الروح] بطريقة تبدو أكثر قوة وراديكالية مما في كتاباته الأخرى، حيث ينطلق مع مطلع الكتاب في مناقشة التدبير الإلهي والإرادة الإنسانية الحرة، مؤكدًا في النهاية على التوازن الدقيق الذي ذكرناه سابقًا، وهو يقدم تأملاً مثيرًا للاهتمام في موضوع الإرادة الإنسانية قائلاً:

"إن الله تعالى قد أمر بقبول شيءٍ يرجع إلينا، شبيهٍ بأمرٍ اعتباري، كداعية إلى إرادته ومشيئته، وجعل لها أهمية، ووعد بتحقيق أعظم الأعمال بنـاء على هذا المخطط، وحققها... وقـد خلق هـذا الشيء الاعتباري وسيلة للإثم والثواب، وجعله أساساً للجزاء عقاباً ومكافأة، وقَبِله فاعلاً في إسناد الخير والشر... ومع أن هذا الأمر الاعتباري ليس مُعَبّراً عن أي قيمة في ذاته، لكنه سبحانه وتعالى أرجع إليه -باعتبار النتائج المترتبة عليه- قيَما فوق قيَم. ولو لم يكن كذلك، لتوقفت الحياة تماماً، وسقط الإنسان إلى درك الجماد، وبطل التكليف وذهب كل شيء انجراراً إلى العبث. فلا بد من إيلاء الاهتمام به، ومراعاة متطلباته. فإن الله تعالى يُظهر بُعدا خفيا من أسرار قدرته بجعل ذلك شرطاً عاديا في إعمار الدنيا والعقبى، ووسيلة مرعية وشبيهة بزر سحري لعملية كهربية تضيء العوالم.. فيوجِد بحراً في قطرة، وشمساً في ذرة وعالما من عدم".([18])

إن حكم الأسباب أو أي شيء آخر لا يجري على الله تعالى، ولا يقيِّد إرادته ومشيئته الإلهية. الله يحكم كل شيء. الله هو الحاكم الأحد المطلق. ومراعاة الأسباب وعدّ العلل وسائل صغيرة ليس إلاّ بأمر الله تعالى. فنؤمن بهذا الاعتبار بأن الإنسان سيعاقب إن خالف الشريعة الفطرية المعروفة بسنّة الله عقابا معظمه في الدنيا وقسم منه في الآخرة.

إذن، يؤكد كولن هنا أن آلية الإرادة الإنسانية -التي أنشأها الله- هي الآلية التي تحدد واقع الحياة في الدنيا والآخرة، والتأكيدُ على الأهمية الكبرى للإرادة والفعل الإنسانيين في هذا العالم لا ينتقص بأي حال من الأحوال من مشيئة الله، بل إن الإرادة الإنسانية هي التأكيد والتنفيذ لمشيئة الله في العالم، ولهذا يكون الانحراف عن الحس الإنساني والإيمان والعلم والحق مشكلة كبرى؛ ذلك أن الابتعاد عن تلك الأشياء يعني التنازل عن مكانة الخلافة المسؤولة واستعمال السلطات التي تعطيها هذه المكانة في الشر، مما يؤثر على الحياة إلى أبعد مدى لأن مجال المساءلة عن تلك المكانة يشمل هذا العالم والعالم الذي يلحقه، وباختصار يشمل الواقع بأكمله.

نبدأ هنا في ملاحظة نبرة يتبناها كولن في بقية كتاب (The Statue of Our Souls) [ونحن نقيم صرح الروح]، وهي نبرة العاطفة والإلحاح التي تحفز أناسًا يتمثلون تمامًا مكانة الخلافة هذه ويحملون على عاتقهم عبء المسؤولية المتأصلة في هذه المكانة. ويستفيض كولن في بقية الكتاب في الحديث عن السمات التي تتصف بها شخصية هؤلاء الخلفاء، وقد تناولنا العديد منها بالفعل في الفصلين السابقين؛ لأن أفضل الخلفاء هم "ورثة الأرض" أو "ذوو القلوب الحية" أو "الأفراد المثاليون". غير أننا سنركز هنا على تلك السمات التي ترتبط مباشرةً بالمسؤولية تجاه العالم، ومن هذه السمات الحركة والفعل، أي أن يكون الإنسان إنسان أفعال. يوضح كولن ذلك قائلاً:

"وإن أهم شيء وأشـده ضرورة في حياتنا هو الحركية. فمن الضروري أن نتحمل بعض المسؤوليات بحركية مستمرة وفكر مستمر ونواجه بعض مشاكلنا ونأخذ على أنفسنا القيام بالحركة الدؤوبة حتى ولو أدى ذلك بنا إلى التضحية بأمور كثيرة في سبيل تحقيق ذلك. فإن لم نتحرك وفقا لهويتنا الذاتية الأصيلة، فسندخل في تأثير الدوامات الفكرية والبرنامجية لأمواج هجمات الآخرين وأعمالهم الحركية، ونضطر إلى تمثل فصول حركاتهم... إن السكون الدائم يعني إهمال التدخل فيما يحدث حولنا، وترك المشاركة في التكوينات المحيطة بنا، والاسـتسلام للذوبان الذاتي رغماً عن أنفسنا كقطعة جليد سقطت في الماء".([19])

إن القراء الفطنين سيستشعرون خطوط التشابه بين كولن وسارتر في هذه النقطة تحديدًا، فكولن هنا يعرِّف العمل بأنه المكون الرئيسي للحياة الإنسانية، وبالعمل وحده نصبح ورثة الأرض بالطريقة التي شرحناها في الفصلين السابقين، وبالعمل وحده نصنع أنفسنا والعالم من حولنا. وبدون العمل -أي بدون أن نشغل أنفسنا وأن نتحمل مسؤولية الأشياء وأن نواجه المعاناة التي تتضمنها تلك المسؤولية عادةً- فإننا نترك أنفسنا أسرى لأعمال الآخرين وتصرفاتهم، ونهجر دورنا كبشر وكخلفاء ونختار بدلاً من ذلك حياة محددة سلفًا أو يحددها لنا الآخرون تشبه ما يحدث للجمادات أو الحيوانات التي تعيش بالغريزة وليس بالاختيار والضمير. إن كينونتنا الإنسانية تتلاشى من داخلنا عندما نرفض العمل وتحمُّلَ مسؤوليات العمل. ويَعتبر كولن في فقرة أخرى إن اختيار عدم الفعل (وهو فعل في حد ذاته، وإن كان فعلاً غير مسؤول) يعني أننا نختار الموت، فيقول: "إن أهم جانب في الوجود هو العمل وبذل الجهد، أما الجمود فمعناه التفسخ والتحلل وهو صورة من صور الموت".([20])

ويقول كولن: إن من يتحركون ويعملون يأخذون أدوارًا كثيرة في المجتمع؛ "فأحيانًا يكون أحدهم وطنيًا متحمسًا، أو بطلاً قام بعمل مفيد للآخرين، أو طالب علم مجتهدا، أو فنانًا عبقريًا، أو رجل دولة، وأحيانا يكون كل هذه الأمور مجتمعة".([21]) ويخصص كولن فصلاً كاملاً لتلخيص حياةِ وعملِ رموز معاصرة في التاريخ التركي. وما يميزهم ويجمع بينهم في نظر كولن هو تلك العباءة المدهشة من المسؤولية التي يرتدونها عند القيام بكل شيء، ونداءُ الخلود الذي يسمعونه يتردد داخل ضمائرهم بأنهم مسؤولون عن هذا العالم، وأن كل ذرة في كيانهم وطاقتهم يجب أن توضع في خدمة هذه المهمة. يوضح كولن ذلك قائلاً:

"ويبلغ من مسؤوليتهم أن كل ما يدخل في نطاق فهم الفرد وإرادته الواعية لا يظل أبدًا خارج نطاق شؤونهم: مسؤولية عن الخلق والأحداث، عن الطبيعة والمجتمع، عن الماضي والمستقبل، عن الموتى والأحياء، عن الصغار والكبار، عن المتعلمين وغير المتعلمين، عن الإدارة والأمن... مسؤولية عن كل أحد وكل شيء. وهم بالطبع يشعرون بكل هذه المسؤوليات وآلامها في قلوبهم فتجعل فيها غصة قوية وتبعث شعورًا بالضيق في أرواحهم محاوِلةً استثارة انتباههم... هذا الألم والضيق الذي ينبع من الوعي بالمسؤولية -إذا لم يكن مؤقتًا- هو صلاة ودعاء لا يُردُّ، ومعين ثريٌّ للمزيد من الأعمال البديلة، وهو النغمة الأكثر جاذبية للضمائر التي ما تزال صافية وغير فاسدة".([22])

هذه فقرة في غاية الروعة، نلاحظ فيها أولاً مجال المسؤولية الذي يشمل "كل أحد وكل شيء"، بما في ذلك الماضي والموتى، فلا شيء يمكن أن يقع ضمن نطاق الفهم أو الوعي يخرج عن مجال هذه المسؤولية، فإذا كان يمكننا التفكير فيه وكان حقيقيًا (لا خياليًا) فإننا نكون مسؤولين عنه. ثانيًا، نلاحظ المعاناة التي تصاحب المسؤولية و"الألم والضيق" الذي يرافق هذا الوعي. ويتحدث كولن في هذه الفقرة وغيرها في نفس الكتاب عن المعاناة الداخلية التي تأتي مع الاضطلاع الجاد بدور الخليفة أو وارث الأرض، وكثيرًا ما يردد في حديثه عن جلال الدين الرومي الشاعر الكبير الذي عاش في القرن الثالث عشر وتَحدَّث في قصائده الرائعة عن الألم والمعاناة اللذين يرافقان الحب والهيام وعن الشوق المبرح للمحبوب الذي يسبب معاناة كبيرة، ومع ذلك لا ينساه المحب تجنبًا لتلك المعاناة؛ لأن حب المحبوب هو السبب في الوجود وهو الحياة نفسها. فالخلفاء الذين يتحدث عنهم كولن هنا هم المحبون للمحبوب، والمحبوب في هذه الحالة هو الله وخلقُ الله وكل الواقع الذي يأتي من الله، هو كل شيء وكل أحد، وحب المحبوب يعني تحمل مسؤوليته. إنه حنين ومعاناة وخفقان قوي في القلب ووعي يزلزل الكيان لا يمكن الهروب منه طالما ظل المرء "غارقًا في الحب". فالمحب قد حُكم عليه بأن يكون محبًا، وهذا الألم ليس عَقَبة أمام الحب بل هو الشرط الأساسي له. وأخيرًا، تُبين الفقرة السابقة أن هذه المسؤولية بمثابة جرس الوصول إلى بر الأمان لكل البشر الصادقين، وأنهم كلما سمعوا هذا الجرس يدوي من خلال المعاناة أقدموا على المزيد من المشاريع والأعمال. ويقول كولن: "إن من يتحملون المسؤولية يحبون تلك المسؤولية بشدة لدرجة أنهم قد يخرجون من الجنة لأجلها".([23])

ويبدو التشابه مع أفكار سارتر واضحًا حتى ونحن نقر بأن كولن وسارتر يستقيان أفكارهما وأعمالهما من أطر فلسفية مختلفة كليًا، لدرجة أنه تبدو لأول وهلة استحالة وجود أي اتفاق بينهما. غير أن الواضح هو أن كلاً منهما -من منظوره الخاص ومنطلقاته شديدة التباين عن الآخر- يطرح رؤى متوازية عن الحياة الإنسانية فيما يتعلق بالمسؤولية الإنسانية عن هذا العالم. ويوجه كلٌّ من كولن وسارتر كل طاقته الفكرية لإبراز الحاجة الملحة في هذه الحياة إلى أن يتحمل الناس مسؤولية العالم، والتأكيد على أن العالم سيظل دائمًا وأبدًا هو ما نصنعه بأيدينا. إذن فقد كان يمكن لأيٍّ من الفيلسوفين -كولن وسارتر- أن يكتب هذا الكلام الذي جاء في كتاب (The Statue of Our Souls) [ونحن نقيم صرح الروح]:

وينبغي على كل واحد أن يقول لنفسه بمسؤولية فردية جادة: "اليوم يوم الفعال. فإن لم أنهض للعمل، فمن المحتمل بقوةٍ أنه لن ينهض غيري أيضا" ‏ثم يَهْمِز فرسه ليندفع إلى مقدمة الصفوف لرفع الراية.

فنحن يجب أن نعتمد على أنفسنا وعلى قدراتنا نحن بغض النظر عما إذا كنا نعتقد أن تلك القدرات قد جاءتنا من الله -كما يؤمن كولن- أو لا -مثل سارتر- وأن نرفض أن ننتظر من أي شيء أو أي أحد غيرنا أن يقوم بعملنا بدلاً منا. فإلقاء مسؤوليتنا على عاتق الآخرين يعني الحياة "بسوء نية" على حد تعبير سارتر، الذي يتشابه -بشكل مثير للدهشة- مع تقويم كولن لمن لديهم إيمان ولكنهم يرفضون المسؤولية، بأنهم يعيشون "بسوء نية".

ونختم بفقرة أخيرة لكولن تلخص رؤيته للحياة والازدهار الإنساني الحقيقي وتُلقي الضوء على ما ينبغي أن يتم بالضبط إذا أردنا أن نحيا في عالم يمتلئ بالخير والحق والحرية لكل شخص والدورِ الذي يلعبه الناس في إيجاد مثل هذا العالم. مرة ثانية، نجد أن روح النص تتشابه مع أحاسيس سارتر وإن اختلف التعبير. يقول كولن:

"والصحيح هو أننا في هذه الجغرافية الكبيرة -بدلا من الأرواح اليتيمة والأفكار الضئيلة التي لا تقيم وزنا للشعور بالمسؤولية والقيم الإنسانية والعلم والأخلاق والفضيلة، ولا تعير اهتماما إلى الفن- بحاجة إلى إرادات فولاذية وأدمغة أصيلة تحتضن الوجود بكل أعماقه، والإنسانَ برحابه الدنيوية والأخروية، وتفسرهما، بل وتتدخل في الأشياء بعنوان خلافة الله في الأرض".([24])

إن الروح العميقة هنا هي الشجاعة، شجاعة المسؤولية. فنحن بالجبن وسوء النية نهرب من تحمل المسؤولية عن حياتنا الخاصة وعن العالم، ونحن بهذه الروح الجبانة الهزيلة نختلق الأعذار لأنفسنا، ونلقي باللائمة لما يحدث في العالم على الآخرين أو على القدر أو على الظروف. كل هذا في حين أن مسؤولية هذا العالم تقع على أكتافنا، سواء اعترفنا بذلك أم لم نعترف، وسواء تحملنا تلك المسؤولية أم لم نتحملها. فالعالم مازال يقع على عاتقنا، حتى عندما نختار الموت والجمود والحياة مثل قطعة طحلب أو كرسي أو حصاة، حياةً أقل بكثير مما أراده لنا الله أو الطبيعة أو الوجود. فالحياة الحقيقية عند الله -أو عند الحياة نفسها- هي حياة المسؤولية، ومن يعيشون تلك الحياة يعانون مما فيها من اليأس والألم ولكنهم أيضًا الكائنات التي تستحق فعلاً أن يطلق عليها وصف "البشر"، لأن لديهم إرادة حديدية وقلوبًا شجاعة تدفعهم إلى الأمام وسط الألم والضيق إلى آفاق أوسع وأكثر رحابة من المسؤولية عن كل أحد وعن كل شيء. وهؤلاء الأفراد هم الأبطال الحقيقيون للإنسانية وعلى عاتقهم يبنى العالم، وكما يؤكد سارتر وكولن فإن المجتمع الإنساني كان وسيظل دائمًا هو ما نصنعه نحن البشر.

الخاتمة

 

أثناء تأليفي لهذا الكتاب، سنحت لي الفرصة الاستثنائية بأن أقابل الأستاذ فتح الله كولن وأن أتناول معه الطعام مرتين في مقر إقامته، وقد كان كريمًا للغاية وقضى معنا وقتًا طويلاً رغم مرضه الشديد، كما أجاب على بعض أسئلتي وتَناقش مع من كانوا حاضرين حول قضايا الساعة واستمعوا بإعجاب إلى أفكاره وتصوراته. وبالطبع فقد "عشت" مع كولن من خلال كتاباته أثناء إعداد هذا الكتاب ومازالت أفكاره تلهمني، ولقد عرفت بعد لقائه لماذا أَلهم هذا الرجل ما يقرب من ثلاثة أجيال في تركيا ومَنَحَهم الدافع رجالاً ونساءً لخلق عالم جديد. إنه رجل بداخله قدر هائل من الروحانية والإخلاص والتعاطف، وهو شيء واضح للغاية في كتاباته وفي شخصيته.

لقد قارنتُ أفكار كولن مع أفكار كلٍّ من كانط وأفلاطون وكونفوشيوس وميل وسارتر لأنني أؤمن بأنهم أهل لأن يتناقشوا مع كولن، وأنه أهل لأن يتناقش معهم. فأنا أعتبرهم جميعًا أفرادًا على قدر عظيم من المعرفة اهتموا بالأسئلة الأكثر إلحاحًا واستمرارية عن الوجود الإنساني، وتعاطوا مع التحديات الصعبة بكل كيانهم وبأمانة من دون أي نوايا متشككة أو خبيثة أو تشاؤمية، وهم نماذج رائعة لأفضل شكل من أشكال المعرفة في العلوم الإنسانية، وهو الشكل الذي يعطي تحليلاً متعمقًا لكي نطبقه على هذا العالم وعلى حياتنا فيه حتى نتعلم ما يكوِّن الحياة الصالحة ونحققه لأنفسنا وللأجيال القادمة. فالمعرفة التي لا تجعل هذا هدفها الأسمى لا تكون معرفة حقيقية.

وقد ألهمني حقًا ما قمت به هنا من مقابلة الأفكار ببعضها، وهذا الإلهام لم يأت لأنني أتفق تمامًا مع أي رؤية من الرؤى التي عرضنا لها، ولكن ما ألهمني هو المحاورة نفسها وما تتيحه تلك المحاورات من إمكانيات عند إجرائها، ليس فقط على صفحات الكتب بل وفي الواقع أيضًا مع أناس حقيقيين. وأنا أعرف أنني قد توسعت في مفاهيمَ وموضوعاتٍ ونصوص بسيطة في الأصل في محاولةٍ لكشف أوجه التشابه بين أفكار المشاركين في المحاورة، كما أعرف أن هذا التشابه في كثير من الحالات لن يصمد طويلاً -إذا صمد أصلاً- قبل أن تبدأ خيوط العلاقة في التفكك نتيجة لضعفها ولكبر حجم الاختلافات التي تشدها من الجانبين. ولكن إذا كانت العلاقة كافية لكي تصمد ولو لفترة بسيطة، فإن الارتباط يكون قد تحقق على الأقل لتلك الثواني المعدودة. فعلى صفحات الكتب ومع أشخاص ماتوا منذ زمن بعيد، لا يكون الارتباط ممكنًا إلا من الناحية النظرية المجردة. أما عندما يكون هناك أشخاص أحياء، من لديهم استعداد منا للمشاركة والتفاعل ومن هم في الحقيقة مسؤولون عن العالم وعن كل أحد وكل شيء، فإن الارتباط الذي نقيمه في لحظات التوسع هذه لا يكون نظريًا أو مجردًا بل يكون ارتباطًا حقيقيًا. وربما يمنعنا هذا الارتباط ساعتها من القدح في بعضنا البعض وقتل بعضنا البعض -سواء مجازًا أو فعليًا- بعد أن ينقطع الخيط الرفيع ونعود إلى مواجهة الاختلافات الجذرية القائمة بيننا.

إن تنمية استراتيجياتِ وإمكانيات التعايش السلمي في ظل الاختلافات الجذرية وتضاؤل الموارد الطبيعية يعتبر التحدي الأكبر في عصرنا هذا، فيجب علينا أن نهب كل ما لدينا للتغلب على هذا التحدي وإلا فإن كل إنجازاتنا الأخرى ستضيع، لأننا بذلك سنكون قد دمرنا العالم بالكراهية والعنف. ربما نجد بداخلنا -كبشر يحملون تكليفًا من الذات المطلقة أيًا كان شكلها- شخصية تجعلنا نسمو بأنفسنا ونخلق عالمًا يملؤه التسامح والاحترام والتراحم.

 

[1]  Gülen, The Statue of Our Souls, 35. (كولن، ونحن نقيم صرح الروح)

 [2]  Sartre, "Existentialism" in Basic Writings of Existentialism, 345.

( سارتر، الوجودية في "كتابات أساسية عن الوجودية")

 [3]لمصدر السابق، ص 346-347.

 [4]المصدر السابق.

 [5] المصدر السابق، ص 358.

 [6]المصدر السابق، ص 348.

 [7]المصدر السابق، ص 347.

 [8]المصدر السابق، ص 348.

 [9]المصدر السابق، ص 349.

 [10]المصدر السابق.

 [11]المصدر السابق، ص 367.

 [12]المصدر السابق، ص 354.

 [13]المصدر السابق، ص 355.

 [14]المصدر السابق، ص 357.

 [15] Gülen, Toward a Global Civilization of Love and Tolerance, 122.

 (كولن، نحو حضارة عالمية من المحبة والتسامح)

 [16]المصدر السابق.

 [17]المصدر السابق، ص 124-125.

 [18] Gülen, The Statue of Our Souls, 15. (كولن، ونحن نقيم صرح الروح)

 [19]لمصدر السابق، ص 59.

 [20] المصدر السابق، ص 99.

 [21]لمصدر السابق، ص 68.

 [22]لمصدر السابق، ص 95.

[23]

 [24]المصدر السابق، ص 105.

Pin It
  • تم الإنشاء في
جميع الحقوق محفوظة موقع فتح الله كولن © 2024.
fgulen.com، هو الموقع الرسمي للأستاذ فتح الله كولن.