مدارس النور وبناء العقول
لا زال تحديث "عقل المسلم" وحفزِه لاستعادة قواه التفكيرية والاستيعابية لمتطلبات البناء الحضاري الجديد واحدًا من التحديات التي تواجه المفكرين وأصحاب الرأي عندنا.
فالمنظّرون لعملية التحديث هذه قد تتشعب بهم الأفكار، وتذهب بهم المذاهب في شتى الاتجاهات والمجتهدات، غير أن القضية ظلَّت تتراوح في حدود "التنظير.. ولم تتجازوه إلى حيز التفعيل والتنفيذ.
ولا أكون مغاليًا إذا قلت: إنّ الأستاذ "فتح الله كولن" هو المنظر الذي اختطَّ لعملية تحديث "عقل المسلم" الوسيلة الأقصر التي يمكن من خلالها تحديث هذا العقل، وذلك بتهيئة الحضانات والبؤر التي تساعده على معرفة ذاته، واستبطان قواه الفكرية، وهذه الحاضنات والبؤر إنما هي المدارس التي كان الأستاذ قد دعا النخبويين من الرأسماليين وأصحاب المال بالإنفاق على إنشائها في مختلف أنحاء العالم، على مستويات عالية، بأبنيتها وكوادرها التعليمية حيث استطاعت أن تكون عامل جذب واستقطاب لأذكى الطلبة وأشدّهم حرصًا على الإفادة والتعلم والتفوّق. ولكي نفهم الخلْفية الفكرية التي دفعَته إلى هذا الفعل الحضاري، علينا أن نعود إلى كتابه القيّم "ونحن نبني حضارتنا". فهذا الكتاب هو واحد من أجل ما وعته الكتابة المعاصرة وانطوت عليه من أسرار الروح والضمير، ومن أنصع الصفحات في تاريخ المعاني العليا التي ترفع صاحبها كواحد من رواد الروح الإنساني الذي لا تقوم الحضارات إلاَّ به.
إنه هرم فكري وروحي يلفت الأنظار إلى أن الانبعاث الحضاري لن يتمّ إلا بفاعلية روحية تتملّك الشعوب، وتحرك ساكنها، وتبتعث راكدها. إنّّ هتافه الطفولي "لبّيك يا رسول الله" ظلّ ساريًا في فكره ومشاعره؛ فكتاباته وأحاديثه وخطبه ومواعظه إنما هي نضوحات عن تلك الهتفة المباركة. ولذلك العهد الذي قطعه على نفسه لرسوله عليه السلام ولنصرة دينه ودعوته وسنته، وقد سعى ويسعى لتوحيد العقول وتثقيفها وبنائها، ثم ربطها برباط الربانية.
فـ "رجل القلب"، هذا المصطلح الذي كثيرًا ما يكرره في كتاباته، هو الذي يريد أنْ يبنيه في هذه المدارس، إلى جانب تلك المفاتيح التي تديرها المدرسة في عقل الطالب وفكره، ليتخرج منها بعد ذلك بروح يشرق عليه جمال القلب، وجلال الفكر، فيكون مبعث دفءٍ فكري وروحي للآخرين.
لقد رأينا من خرّيجي هذه المدارس شبابًا تتأجَّج قواهم العقلية في إطار من وَميض روحي يكاد يخطف الأبصار، ويضيء الدياجي الدكناء.
وكم كنتُ محظوظًا عندما صحبني قريب من أقربائي إلى إحدى هذه المدارس التي افتتحت حديثًا في مدينتي، وأتيحت لي الفرصة لكي أزور صالات المدرسة وصفوفها، وأتعرّف عن كثب على أثاثها التي تكاد تضاهي أجمل الأثاث وأرقاها في أحدث مدارس العالم، فقد وجدت في هذه المدرسة من وسائل التعليم وأساليبه وطرقه ما لم أجده في أي مدرسة أخرى، كما أنّ عدد طلاب أي صف لا يزيد عن عشرين طالبًا أو خمسة وعشرين طالبًا.
أما المعلّمون فحرارة وجدانهم تشعرك بوقدة شعور طاهر تتلمس وجدانك، وتحرك مشاعرك... فكل شيء في هذه المدرسة ينبض بالجمال ويستدعي الجمال.
فمعلّمو هذه المدارس لهم من القدرات التعليمية ما يستطيعون معها أن يجعلوا تلامذتهم يتذوقون رحيق العلم بنشوة المحب العاشق، فإذا بعقولهم تنبض بجمال المعرفة، كما أن نفوسهم تنبض بشعاعات من أرواحهم الصافية... وإنك لتلمس من هؤلاء الطلبة رقة الشعور، ودَمَاثة الخلق، وأدب السلوك، والثقة بالنفس، والتفاؤل، والتطلع إلى المستقبل.. إنهم بصائر نَفَّاذة، وأذهان ثقّابة، وهم مرشّحون ليكونوا في مستقبل الأيام عونًا على تثقيف عقل المسلم وتحديثه والاعتلاء به إلى مصاف أرقى العقول، وأعظم النفوس.
- تم الإنشاء في