منازل التحولات
هنا إسطنبول.. هنا معبر الفاتحين إلى كل أدغال العالَم!.. ما أن دخلتُ بين مآذنها حتى انتشى قلبي أملاً! لكنني لما اقتربت من جِسْرِ البُوسْفُورِ مَسَّنِي فَزَعٌ!.. كانت النوارسُ تضج في الفضاء بشكل مثير على غير عادتها..! فلم أَدْرِ أَعُرْسٌ هو أم محض عويل؟.. ومن يدري؟
أَبَكَتْ تِلْكُمُ الْحَمَامَةُ أَمْ غَ ـنَّتْ عَلَى فَرْعِ غُصْنِهَا الْمَيَّادِ..؟
...............................
هذا مَقَامُ تَغيُّرِ الأبْدَال.. ولِزَمَانِ التحولاتِ وَقْعُ الزلازلِ على المنَازِل!
كانت الأرض تدور بمنـزلة ذات طبيعة أخرى، تتداخل فيها الشعاعات بين غروب وشروق!.. وكانت الريح تقصف ببرد قارس! وأسرابُ الحمام والنوارس تطير هاربة، لتحتمي من صقيعها تحت أضلاع المآذن والقباب!
كنتُ قابعًا بزاوية من زوايا سور القسطنطينية القديم، قريبا من باب المدرسة، أنتظر قدوم المعلم، حتى إذا بلغ العصفُ مداه انتفض بديع الزمان النورسي، وأطل من فوق قباب المدينة، ثم مَدَّ جناحيه العظيمين حول أسوارها حتى أحاط بجميع الأبواب! فظل كذلك زمنًا يكابد وحده، ويجاهد قصف الريح وحده! وكلما أطل من تحت جناحيه ورأى سكون البلابل خلف القباب، دمعت عيناه في قَرِّ الريح! وصاح في تيارها الشديد:
"يا سعيد..! كن صعيدًا حتى لا تُعَكِّرَ صَفْوَ رسائل النور..!"
حتى إذا هدأت العاصفة، قرأ سورة الفتح، ثم فتح الأبواب وانصرف!
ناديتُه بأعلى صوتي:
- يا سيدي المعلم! أمَا لآخِر الفرسان من عودة؟
التفتَ إليَّ بعبسةٍ ترسم ملامح الإنكار على صفحة وجهه المهيب! ورَمَانِي بنورٍ لاَهِبٍ من وهج عينيه! ثم قال:
- ويحك أيها الفتى المغرور! أما علمتَ أنَّ لكل زمان صاحبَه؟
- قلت: ومن يغلق أبواب الريح إذا هاج العصف من جديد؟
- قال لي: هذا مقام الفتح يا ولدي فليس لزمانه من إغلاق!
- قلت: عجبا يا سيدي! وما فَتْحٌ في زمن ليس تطيق عواصفَه الأبوابُ، ولا أسوارُ مدائننا القديمة!؟
- قال: ما أجهلك يا ولدي بزمانك! ارفع رأسك قليلا نحو الأفق الأعلى؛ تَرَ شمس البشرى ترتفع الهوينى من خلف الأحزان، وتَرَ كلمات النور الأولى ترسم بين يديها قوس قزح، وتطرز على موج البحر نبوءَتها.. فإذا كنتَ ممن يحسن لغة الماء فاقرأ: "تُفْتَحُ القسطينيةُ أوَّلاً ثم تُفتح روميةُ"!؟
- قلت: بأبي وأمي أنت يا سيدي! وما روميةُ؟
- قال: روميةُ يا ولدي امرأة ساحرة تسكن بين جوانحنا! هي عاصمة الشيطان الكبرى.. تنغرز قوائمها الأربع في بحر الظلمات! ولها في كل العالم أدخنة وحرائق! في كل يوم تُحَرِّقُ ألفَ عصفور وحمامة! جيش النور الآن تجرد لها بأسلحة من وهج الشمس، وأميرُه يرتل من خلف الغيب سورة النصر، خاتمةً لمحن المستضعفين!.. وقريبا جدا سترى عجبا! جيش النور اليوم في كل العالم يقتبس من مشكاة الليل الأخضر زادًا للسير! فانظر ما حظك من مواجيده يا ولدي!
- قلت: وما سيماء أميره يا سيدي؟
- قال: لا تتعب نفسك يا ولدي في طلب الألقاب! فإنما هو طيفٌ، أو معنى، أو روح! بل هو قلبٌ من نور وهاج! هو جيش من ذَوْبِ الشمس، هو أشجانُ قلبٍ وترانيمُ روح، هو مكابدةُ حُبٍّ لم يزل جرحه ينـزف من خابية مشقوقة! هو آهاتُ أشواقٍ ارتقت ما بين سجود وركوع، فتشكلت في الفضاء غيمةً ربيعيةَ اللون، مكتنـزةً بالخير وبالبركات! لم تزل تهطل بالغيث في كل قارات الأرض! فَارْقُبْ إن شئت حدائقَها أنَّى رحلت؛ تجدْ وردتَها متفتحةَ الأجفان ندية!
- قلت: فما نَسَبُهُ ومكانُه؟ ما مولده وزمانُه؟
- قال: ويحك يا صاح! أما صاحب هذا الزمان فله مولدان اثنان! أولهما هو في المكان، وقد كان الذي كان. وأما الثاني فإنما هو في الزمان! فَارْتَقِبْ إبَّانَ هيجانِ الجرح، يومَ تأتي الرياح بحداء الأنين! فإنه لا ميلاد إلا بألم! واظفر بثاني المولدين تَرِبَتْ يداك! إنك يا ولدي إن تدرك إشراقتَه تكن من الفاتحين!
- قلت: فهل لي أن أكون من طلائعهم؟
- قال: بل دون إدراك منازلهم كلمةُ سِرٍّ مخفية في حوصلة الطير!
- قلت بلهف: أي طير يا سيدي؟
وانقطعت التجليات!
..............................
ثم مكثت عاما كاملا بعد تلك المشاهَدات! أنتظر المزيد ولا من مزيد! ورجعتُ إلى وطني أنتظر الإذن بالرحيل مرة أخرى إلى بلاد النور!
* * *
ما بين طنجة وجبل طارق، يَرْقُدُ بوغاز الأحزان!.. لم تزل نوارسُه كلَّ مساء تحكي بنشيجها الشجي مأساةَ الموريسكيين! لا شيء يحمل البوغازَ على تغيير عادته، فأحلامُه تُرْسِلُ موجةً نحو الشمال، لكنَّ مواجعَه تردها كسيرةً نحو الجنوب! والحِيتَانُ بينهما تغدو خماصا وتروح بطانا من لحم الإنسان! كنت أسير حافي القدمين ما بين طنجة وتطوان؛ لعلي ألتقط صوت حمام زاجل، قيل لي: إنه لم يزل ههنا مُذْ عَبَرَ أميرُ غرناطة الأخير طريدًا من جنته! فرثاه هذا الحمام الغريب بكنوز من أسرار الحكمة! قيل لي: إن له هديلا كلما انطلق شجاه اقشعرت له صخور الشاطئ! وبكت النوارسُ واهتاجت الأمواج!
قلت لفتاي: ويحك يا ولدي! ذلك ما كنا نَبْغ! إنها إذن كلمة السر الخفية! ارجع بنا فلعلي أفوز بإشارتها أو أفك طلاسمها! وعسى أن أقرأ فيها ميلاد أندلسٍ بمنـزلة أخرى، ما زلت أحتفظ بصورتها في قلبي منذ غروب الشمس عن أبراج مدائنها! لكنها صورة ذات تجليات أخرى، لم يزل فارس الزمان الجديد يرسم معالم حدائقها بقلبي وردةً وردةً، ويهيء أشواق الروح بمساجدها دواءً لأوجاع العالم! حتى قيل: إنه لن تسكن أحزان البوغاز إلا على أصداء مآذنها!
وارتددنا على أوجاعنا قَصَصًا.. نبحث بين الصخور والأشجار عن أمَارةِ عُشٍّ أو ريشٍ ولا نجد له أثرًا.. حتى كان ذات صباح..!
كانت الريح تهب نسيما ربيعيا، وأشعة الشمس ترتفع الهوينى نحو ضحاها، فترسم على ضباب البحر الخفيف أقواس قزح لا تتناهى!.. وفجأة انطلق الحمام يغرد يا سادتي من مكان ما، مكان لا أستطيع تحديد مواجعه! كانت مقاماته على أوزان الأذان! حاولت مرات تبين جهته فلم أستطع! أما المساجد فقد كانت أندلسية المعمار، وأما البكاء فقد كان تُرْكِيَّ الترسيل.. وكانت الآهاتُ تُرَجِّعُ أصداء مآذن إسطنبول وخلجانها! فتشربها مساجدُ فاس شهقةً شهقةً، وتبكي!
وتلقيت الإشارة، فرأيت عجبا! ثم دخلت بمنـزلة الحيرة!
قال لي: هذا زمان موت الجغرافيا وانبعاث التاريخ!.. كلمة السر يا ولدي هي في نُطْفَةٍ من نور، تخرج من بيت النبوة! وإنها هنالك في شرق الأناضول فارحل!
* * *
هذه إسطنبول مرة أخرى..! ناداني خاطرٌ حزين! قال لي: مقامك حيث أقامك! لا مكان لك اليوم يا صاح إلا بمنـزلة الاستغفار! فصِرتُ أسمع صوتا من أعماق فؤادي، يتكسر موجُه هونًا على شط لساني: رب اغفر لي..! رب اغفر لي..!
ها أنا ذا محمول على سيارة، كنت مريضا جِدًّا! لكني كنت على وعي بما أسمع وأشاهد.. كل شيء أدركه الآن، هذه الطريق الكبرى وسط إسطنبول، وهذه قبابها ومآذنها عن اليمين وعن الشمائل، تلقي بأنوارها في كل اتجاه.. وهذا هو الجسر العظيم، هو جسر نُصِبَ حديثًا، لكنه منصوب على تاريخ الفتوح بين آسيا وأوروبا! فلم يزل بعد ذلك قنطرةً لعبور النور الجديد إلى المستقبل! وهذا... آهٍ! هذا مستشفى "سماء" مرة أخرى!.. وهنا أدركتُ للتو مقامي! وعرفتُ أنني قد أخفقت في الامتحان الأول! فاستأنفت دروسي بفصول المدرسة الأيّوبية من جديد!
سنة كاملة يا سادتي وأنا أجري بين غروب وشروق! سنة كاملة وأنا أظن أني كنت أغسل أدران الروح عن بدني، ولكني اكتشفت الآن أنني لم أبرح مكاني! فعدت مثقلا بكل ذنوبي! لقد أخطأت الطريق إذن! فكان الحكم أن أعيد الدرس من البداية! فالرحمةَ الرحمةَ يا الله!
كان رأس السرير ميمما نحو القبلة، وكانت النوافذ الكبيرة مشرعة الأحضان على بحر مَرْمَرَة، والْجُزُرُ الخَمْسُ وَسَطَهُ كلها تنتصب أمامي كالأعلام.. كانت الشمس على وشك الغروب خلف قَدَمَيَّ، وكانت أشعتها تطرز مَرْمَرَةَ بمرثية الأشجان! وترسل إليَّ أهازيج من أذكار المساء، مُرَتَّلَةً عبر أوراق شجرة الدُّلْب المنتصبة خلف نافذتي! حتى إذا مات النهار شاهدت جنازتي ترتفع أمامي في أفق البحر الغارب، وتذكرت صلاتي! أدَّيْتُ العشاءين جمعًا وقصرًا؛ استباقا للحظة الوصل، ثم بكيت! كان الليل قد أشرقتْ مواجيدُه سُرُجًا تتلألأ في جزر البحر، وكانت مصابيح الساحل تحلم خافقة بشيء ما.. وغمرني الحنين إلى أورادي، فما أن شرعتُ في ترتيل مواجعها، حتى انهمرت على قفاي صفعاتُ الرحمة تترى! هي رحمة نعم لكنها صفعات! وكان الألم يا سادتي شديدًا!
ثم تذكرتُ.. آه! واسترجعتُ الدرسَ: لا ميلاد إلا بألم! فاظفر بثاني المولدين تَرِبَتْ يداك! ثم ناديت في ليل البحر الساجي: الرفقةَ الرفقةَ! يا نِعْمَ الأميرُ أميرُها، ويا نِعْمَ الجيشُ جيشُها!..
ألم يقل لي: هذا زمان نهاية الجغرافيا وميلاد التاريخ!؟
نعم ولكنْ، رِفْقًا بقلبي الضعيف عن الطيران! فإنما شأني أن أحتضن مواجيد المكان منـزلةً منـزلةً؛ عسى أن أبحر من موانئها بَعْدُ في مقامات الزمان! ذلك ما يقتضيه عجزي الحالي، فليس للمريد مثلي إلا أن يجلس متعلما بمقام الأدب!
هذه واردات النور تتدفق جداولُها بين يديك الآن يا صاح!.. فاحمل عصاك على كتفيك، وارحل سائحا نحو شرق الروح؛ بحثا عن منابعه الأولى! فلعلك تدخل زمان الفتح، وتكتشف سر بكاء فتح الله؛ فَتُشْفَى!
* * *
كانت غرفتي تنفتح على غرفة أخرى سكنها مرافقي. لم يكن مرافقا عاديا بل كان صاحب أحوال! قدموه لي على أنه ترجمان لغة، لكنه كان ترجمان روح! كان يتقن لغة الإشارات، ويفك طلاسم السلوك! ما رأيت فتى عميق الغور أَنْكَرَ لنفسه منه! مَنْ أخذه على ظاهره أضاع كنـزًا ولا كأي كنـز..! كان وجها شرقيا، يتكسر الحزن الجميل على ملامحه أبدًا، ولعينيه الراحلتين في بحر الغيب هيبةٌ وجلال! له تجليات يحضر فيها حينا ثم يغيب أحيانا أخرى، فلا يُدْرَى له بعد ذلك مكان! ما بين سواد شعره وعينيه يشرق بياض جبينه الوضاء، فجرًا صادق القسمات، لم يزل يبشر -رغم ما يكابده من أسى- بالخير والبركات!
ولعله سمع بخاطره الحساس صراخَ روحي الصامت؛ إذ طلبتُ رفقةَ أمير الفتح؛ نداءً خفيا من عمق ضميري!.. ومن يدري؟
فتح البابَ عليَّ بأدب مستأذنًا.. كان الليل قد سَجَا جمالُه، وهجع طيفه وخياله.. وكان عند رأسي مصباح خافت صغير، ينبض الهوينى في فضاء الغرفة، وينفث عجائبَ الألوان والأشجان.. قال لي:
- عفوًا.. هل من خدمة؟
طالعتُ ملامح وجهه الحزين، وأبصرتُ أثر الدمع نديا على مقلتيه.. فأدركت أنني قد أخرجته على التو من سبحاته الروحية، وشعرت بالندم! فقدَّمت بين يديه بعضَ عبارات الاعتذار المرتبكة، ثم سألته: ماذا قال الطبيب؟
صمتَ قليلا، ثم تمتم ببضع كلمات لم أتبين لها معنى، ثم سرح بعينيه عبر النافذة، متأملا أنوار جُزُرِ مرمرة.. ربما كان قد مضى من الليل نصفُه أو كاد.. فصار للسكون على العالم سلطان رهيب.. نظرت إلى عينيه الراحلتين بعيدًا، ثم سألته نزلةً أخرى، لكن هذه المرة بنظرة صامتة لم تنـزلق إلى نزق لساني: عفوًا هُوجَمْ!.. ماذا قال الطبيب؟([1])
وانتفضت جوانحه بقوة لكنه لم ينْبسّ ببنت شفة! بيد أنني يا سادتي سمعت الكلام ينطلق متدفقا من بين جوانحه، وكأنما هو صدى لهاتف يتنـزل عليَّ من العالم العلوي!
- قال لي: جسمك مرتبك جدا يا صاح! لكنما هو رَجْعٌ كسيرٌ لصورة الروح في خابيتك الكسيرة! أما الأطباء فلهم مسالكهم إلى طينك المسنون، وأما من يسلك فيك نحو جراحات الروح.. آه! أما مَسْلَكُ الروح إلى مواجعك يا صاح...آه!
ثم سكت!
وبعد أن أرسل نحو النافذة زفرة عميقة قال: والعلة الأولى يا صاح إنما هي من هناك!؟
وأصابني الفزع يا سادتي! ثم قلت:
- بأبي وأمي أنت أيها الوجه الغريب! قل لي: كيف يكون دوائي إذن وأنَّى أجده؟
ثم رحل في الأفق مرة أخرى، حتى لكأنما قد فارق هذا العالم، وأرسل تنهيدة لاهبة، تدفقت زفراتُها الْحَرَّى على نفَسٍ طويل! ثم قال:
- دواؤك أيها الرفيق العليل هو في العثور على لؤلؤة سِرِّك!
- لؤلؤةُ سِرِّي؟ وما أدراني ما لؤلؤةُ سِرِّي؟
- قال: إنها لآلِئُ في صدفات زمردية، تنبت هناك في أعماق بحيرة الأسرار!
- قلت: حيرني أمرك والله يا فتى!.. وما أدراني ما بحيرة الأسرار؟
- قال: هي بحيرة تجمعت مياهها من دموع الصِّدِّيقين! دون الوصول إلى حِمَاهَا الندي، والإشرافِ على شواطئها الجميلة سبعةُ جبال، على كل جبل منها سبعون قمة!
لم تزل ترفدها منذ قديم الزمان دموع الحواريين، وأشجان الصحابة الكرام، ومكابدات النُّسَّاك المتعبدين، وزفرات أويس القرني، وبكاء الحسن البصري، وشهيق أبي العالية الرياحي، وأسرار الإمام الجنيد، وأنفاس بشر الحافي، ومواجع الحارث بن أسد المحاسبي، ومواعظ الإمام عبد القادر الجيلاني، ومجاهدات الشيخ أحمد زروق الفاسي، ومواجع عبد الواحد بن عاشر الأندلسي، ومشاهدات بديع الزمان النورسي!
ولم يزل في كل عصر يرفدها بنشيج الشوق اللاهب صِدِّيقٌ أو شهيد!
قال لي: هناك في حِمَى بواديها، على جانب شاطئها الأيمن، يقف اليوم فتح الله! ومِنْ خلفه تصطفّ آلاف الجياد الأصيلة، تبيت الليل منسدلة الأعراف، خافضة جباهها الغراء نحو الثرى، في إخبات يخرق معايير الزمن ومنازل الساعات! ومن حين لآخر تراها في سُدُمِ الظلام الصافي تَصْفِنُ بقوائمها الْمُحَجَّلةِ إلى أعلى، وربما غطستها في ماء البحيرة أحيانا، ثم تكرع من ماء الحياة كل فجر، وترسل دموعها الحرى بردًا وسلامًا على العالمين، مصغية بآذانها اللطيفة، في انتظار صيحة الأذان! وثمة حواليها آلاف الأطياف تغوص نحو أعماق البحيرة، بحثا عن الصدفات الزمردية، وآخرون على الشاطئ يفتحون ما مَنَّ الله عليهم به منها، فيلتقطون ما يجدون بها من أسرار..!
فجرد عزيمتك يا صاح لاجتياز جبال الطريق! وإنها لمسالك ذات محالك ومهالك! وإنما أمان العبور نظرٌ في أعطاف جسمك الثقيل؛ تخففا من زوائده، وتقللا من خبائثه. ولا إمكان لذلك كله إلا بمقاطعة قيود الشهوات، والتحرر من أَسْرِ الآفات، والخروج من مضايق العادات؛ توبة نصوحًا، تنتشلك من دركات ما فات، وترفعك إلى درجات ما هو آت؛ عسى أن تكون أهلا للتحليق بجناح المتخففين! فإنه لا عبور لجسم ما تزال شحوم الشهوات تخنق شرايينَه!
نظرتُ إلى رفيقي فقلت مستعطفًا:
- فكيف الاتجاه إذن؟
- قال: وهل ثمة نور يطلع من غير الشرق؟ ثم رفع يده إلى أعلى وأشار..! قال لي: هناك تجد رائدَ الرحلة إلى بحيرة الحياة في هذا العصر، وإمام السائرين إليها في هذا الزمان! وإنما جُعِلَ الإمام ليؤتم به، "وَلاَ يُنْبِئُكَ مِثْلُ خَبِير!" فتجرد من طينك يا صاح ثم ارحل!
- تم الإنشاء في